ابن الصيقل الجزري
المقامات الزينية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله الذي أيدنا بمنائح اللالاء، وأوردنا موارد الآلاء، ودرأ بعز عزه كتائب الضراء، وفقاً بوطف لطفه عيون مقانب الضراء، وحسم بحسام معدلته شواهق الشقاء، وجزم بجسام مقدرته شقاشق للشقاوة والشقاء وقمع بمقامع المقانع نواصي الأعداء، وقدع مطالع المطامع مع رداء الاعتداء، حمداً يعلو على نشر نشر الكباء، ويجلو صدأ مرآة زعزع التزعزع والنكباء، وصلى الله على سيدنا محمد الراقي إلى السماء، الواقي غوائل الغماء، المخصوص بليلة الاسراء، الموصوف بإنقاذ الأسراء، الذي فتحت به بصائر الأغبياء، ورفعت رفعته إلى الذروة العلياء، وتقلقلت لاقدامه قلل أعناق المراء، وتسلسلت بسلاسل اسلامه أعناق أعناق الاجتراء، وعلى أهله أهل العباء لا الأعباء، وعلى آله آل الابتلاء لا البلاء، وعلى صحبه أولى الصفاء في الوفاء، ورهطه ذوي الانكفاء إلى الرفاء، وله المنة بما فاض وغاض من بحور العطاء، ودرور الخطاء، وبه نعوذ من إرخاء السفه المرخاء وارخاء خيل المرح في لا حب الرخاء، وبه نعتصم من مصاحبة الجهلاء، ومجانبة الحلاحل الفضلاء، وإليه أفزع من معاقرة العناء، وحمى حمى حمة هذه الأعناء، ونجعله عدةً لرسوب الأعضاء في الغبراء، وجنةً لوثوب الحوباء في الخضراء، ونستجير به من أخلاف العماء واتلاف المحنة الصماء، ونستعين به لدحض معاتب اللقاء، ورحض معايب الارتقاء، مستشفين بشافع الأشقياء ورافع حجج أنبياء الأنبياء، والأربعة الخلفاء، والستة الحلفاء، إنه مبيد الادعاء، والقادر على اجابة الدعاء، وبعد: فإنني دخلت ذات يوم خيسى، وأويت وآويت أنيسى فوجدت بيد شبلي الألمعي، المبرأ من لبس لباس الدنس والعي، ذي الدراية والتدقيق، والحذاقة والتحقيق، المشبه بصنوى الشفيق، المميز بين عقيان البراعة والعقيق، الذي به أباهي بهاء الدول أبي الفتح نصر الله كتاب المقامات التي أنشأها أوحد زمانه، وأرشد أوانه، التي بزغ ببزوغها شموس الأدب، ونبغ ببلوغها غروس الأرب، وأمليت عن لسان أبي زيد السروجي، وأسندت روايتها إلى الحارث بن همام البصري فقال لي: هل لك في أن تنشئ لي من زبد عباب تيارك، ولبد سحاب مدرارك، مقامات تكون مدداً لجيوش اشتغالي، وعدداً لردع ربائث أشغالي، وعداءً لميدان آمالي وغذاءً لنفوس أشبالي، فإن ذلك أشبى لي كي لا أروم غير انتجاع تهتان آدابك، ولا أعوم بغير آذي فواضل انتدابك قلت له: أعلم أسعدك الله بقبض عروض علمك، ونزه عن القبض عروض بيت حسك وفهمك، أن ذو أشرت إليه وعولت في سؤالك عليه، مقام يخيم عنه الألسن الأريب ومقام يهيم فيه الأفطن اللبيب، ورحي حرب تمحق أفهام الباهرين، وسمي وسمي يسرب تغرق به أذهان الماهرين، فلست ممن يطمع في ولوج هذي المغاني وصلادم السدم تصادم صدور المعاني، أو يؤمل بلوغ هذه الأمال، ويرجى ما يورث بني الأحمال، حرارة الاحتمال، مع علمك بما أكابد من سخافة المال، وكثافة الإرمال، وتتابع الأعمال، وتتايع الإعمال، فإن ذلك يفتقر إلى رفاهية الخواطر، وطواعية الضمائر، افتقار الأبدان إلى النفس ولحوذان، إلى الشمس، ومع تيقنك أن الحريري ممن خلب ندي النباهة، بسنان لسانه، وحلب ثدي البداهة ببنان تبيانه، وجذب غرر البلاغة بنواصيها، وجدب غرر مفاصل الفصاحة ومقاصيها، فأنى يطير مع الجدل الجراد، أم كيف يجلي المصلي وقد بزه المجلي الجواد، فما أنا ممن ينازل شجعان أسجاعه، ويطاول ما زان أوزان اختراعه، ويعتلي بكاره ويقاوم، ويجتلى إبكاره وينادم: الطويل.
كما أنني لو طرت في العلم إثره... بألف جناحٍ كلّهنّ قوادم لما نلت من إنشاي إلا صبابةً ... أُصادم فيها خيبتي وتصادمفحين ما أقلع عن مقاله، ولا أطلع طليعة الفكر لسد مسائل سؤاله، بادرت إلى ما أحب، ونحا عنق إرب أربه واشراب وأطلقت عنان الاجتهاد، لا عنان الجياد، واستمطرت عنان الرشاد، لا عنان العهاد، وانتجعت من لب محشو بسحوح المحن، وقلب مقلو من قروح الإحن، وهمم قصيرات من الهم، وحكم بكيات من الغم، خمسين مقامةً وسمتها باسمه، وأنشأتها برسمه، طلباً لتجويد ذكره، وأرباً في تخليد ذكره، واستخرجت سحائبها العينية وسميتها المقامات الزينية، فحين اعشوشب براحها، واغلولب إفصاحها، جاءت بعون الله معذوذبة اللعاب، مصعوعبة الشعاب، غير منثولة الجعاب، نصفين بصعاب الصعاب، ظاهرة التمكين، باهرة التكوين، ناطقةً بلسان التنوين، غير مضطرة إلى التسكين، تشتمل على كل رجب من الجد الطريف، وكل ضرب من الهزل الظريف، وكل مرصع من النثر المنيف، وكل مصرع من الشعر اللطيف، وكل زهو من المحض المليح المليح، وكل حلو من الحمض الصريح الفصيح وأودعتها من لطائف الأجناس، ونفائس الجوهر المنزه عن ثقب الماس، والجمان الناشر رمام الأرماس، والمرجان المطهر عن طمث مجاورة الأمراس ما يفوق غوارب البحور، ويروق درر نحور الحور، وضمنتها من الآيات المحكمات، والأخبار المسندات، وعرائس المذاكرات، وغرائس المناظرات، ومن العظات ما يسيل الدموع، ومن الزاجرات ما يحيل الهجوع، ومن المضحكات ما يضحك الموتور ومن الملهيات ما يهتك المستور، ومن المفاكهات ما يشرح الصدور، ومن المنافثات ما يبرئ المصدور، ومن الرسائل ما يستهل السول، ومن المسائل ما يفحم المسؤول، ومن البدائع ما يسلب العقول ومن الغرائب ما يطرب العقول، ومن الخطب اللطيفة، والنخب الوريفة، ومن محاسن الأمثال، ومعادن السحر الحلال الجلي المنثال، الخلي عن المثال والتمثال، ومن العبارات الحسنة، والحكايات المستحسنة، والمقاصد البالغة الرضية، والقواعد السائغة الفرضية، والأفانين الصادحة الأدبية، والقوانين الواضحة الطبية، ومن النكت الفقهية، والأصول المتداولة النحوية، وحليتها باللؤلؤ المنثور، وأخليتها من شطر المعمى للحديث المأثور، ونسبت مجموع ذلك إلى أبي نصر المصري، وعزوت روايته إلى القاسم بن جريال الدمشقي، ولم أرصع بها شعراً من غير نظم بديهتي، ولا نثراً من غير رقم قريحتي، سوى مصراع لامرئ القيس، وأبيات للصمة أخي الكيس في الكيس، وما خلاه فأنا فتاح مدن جله وقله وسفاح مزن وبله وطله، فقلت حين طاء طوفانها وطمى، وناء نوء تهتانها وهمىً، وانهم يم يمنها ونمى، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
وأنا راج منه حصول ثمرة هذه الأمنية قبل المنية، وقبول هته الجنية، بحسن محامد النية، وأسأله الدراية لرفع الوجل والهداية لدفع خجل العجل، وترادف النصر والصبر في المجال والأوجال، وتضاعف الصدق والصدق في المقال والاقبال، وأن يجعلني ممن قلت هفواته، واقيلت عثراته، لأن عثرات الأعوجيات معدودات، ونبوات المشرفيات محصورات، اللهم قد بسطت إلى كرمك يد الانابة، فلا تردها صفراً من الاجابة، واجعلني فيما شحنتها به من المتشرفين لا من المستشرفين، ومن المستهدفين لا من المستقذفين واستر بحلمك ما وشيت ضمنها من الزلل، وأفشيت خلالها من الخلل، لعلمك أن سلامة المسهب نادرة، وندامة منادمة الطمع في ما لا تسمح به القرائح بادرة، فما نفحتها برند الفصاحة والشيح، إلا على سبيل الترشيح، وما نقحتها للفطن العليم، إلا على مهيع التعليم، ومع ذلك فلست أخلو من مسود لا يعانيها، أو حسود يستر وجوه معانيها، فيكرع عذب عهاد صافيها، ويقع في شائع شهاد شافيها، ولم يدر لقصر قوادم قريحته وخوافيها، أنه لا يضر اللجج وقوع الجيف فيه، فالله أسأل أن يبيح جلوتها لمعترف نابه، وإلا يتيح خلوتها لمغترف تائه، يتناول يانع ثمارها، ويحاول جحد بدائع استثمارها، ويظنها موضونة بضروب الاضطراب، ولم يشعر بأنها مشحونة بانصباب الصواب، وما أخاله يزيل عارض اعتراضه، لعراض أغراضه وإغراضه، ولا ينزل عن صهوة إعصافه، ولا يستنزل صيب صفوة انصافه، ولو صيرته نديمي، وألبسته أديمي، وجعلته قسيمي: الوافر:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم