ابن شرف القيرواني
مسائل الانتقاد
الله الرحمن الرحيم
رب أعن برحمتك
قال أبو عبد الله محمدُ بنُ شَرَف القيرواني: هذه أحاديثُ صنعتُها مختلفة الأنواع، مُؤتلفة في الأسماع؛ عربيّات المَواشِم، غَريبات التراجم، واختلفتُ فيها أخباراً فصَيحاتُ الكلام، بديعاتُ النظام؛ لها مَقاصدُ ظِراف، وأسانيد طِرَاف؛ يَروق الصغيرَ معناها، والكبيرَ مَغْزاها. وعزوْتُها إلى أبي الرِّيان الصَّلْت بن السّكْن، من سَلامات، وكان شيخاً هِمّا في اللسان، وبدراً تِمّاً في البَيان؛ قد بقي أحقابا، ولقي أعقابا؛ ثم ألقتْه إلينا من باديته الأزمات، وأوردته علينا المعجزات، فمَتَحْنا من علمه بحراً جارياً، وقدحنا من فَهمه زَنْداً واريا؛ وأدرنا مِن برّه طَرَفا، واجتنينا من ثمره طُرَفا؛ ونحن إذ ذاك والشباب مُقْتَبل، وغفلةُ الزمان تَهْتبل؛ واحتذيتُ فيما ذهبتُ إليه، ووقع تعرِيضي عليه؛ مِن بث هذه الأحاديث ما رأيتُ الأوائل قد وضعتْهن في كتاب كليلة ودمنة، فأضافوا حِكَمه إلى الطير الحوائم، ونَطقوا به على ألسنة الوَحش والبهائم، لتتعلق به شهواتُ الأحداث، وتُستعذب بسَمره ألفاظُ الحدّاث. وقد نحا بذا النحو سهل بن هارون الكاتب في تأليفه كتاب " النمر والثعلب". وهو مشهور الحكايات، بديع المراسلات، مليح المكاتبات. وزوّرَ أيضاً بديعُ الزمان الحافظ الهمذاني، وهو الأستاذ أبو الفضل أحمد بن الحُسين مقاماتٌ كان يُنشئها بديهاً في أواخر مجالسه ويَنسبُها إلى رواية رواها له يُسميه عيسى بن هشام، وزعم أنه حدّثه بها عن بليغِ يُسميه أبا الفتح الإسكندري، وعددها، فيما يزعم رُواتها، عشرون مقامة. إلا أنها لم تصل ه0ذه العدّة إلينا، وهي مُتضمنة معانيَ مختلفة، ومَبنيّة على معاني شتى غير مؤتلفة؛ لينتفعَ بها من الكُتاب المحاضرين مَن صرفها من هَزل إلى جدّ، ومن ندّ إلى ضد.
فأقمت من هذا النحو عشرين حَديثاً، أرجو أن يتبيّن فضْلها، ولا تُقَصِّرُ عما قبلها. ولعمري ما أشكرُ من نفسي، ولا أُثني على شيءٍ من حسِّي، إلا ظَفَري بالأقل مما حاولتُه، على ما أضرمته نيرانُ الغربة من قلب، وثلمته صَعقات الفتنة من لُبِّي؛ وقطعتْ أهوال البر والبحر من خَواطري، وأضعفت الوحشةُ من غَرائزي وبصائري. لكنَّ نية القاصد وسَعة المقصود، أعانا ذا الودّ على إتحاف المَودود. والله أسأل توفيقاً، ينهج لنا إلى الرّشد طريقاً. فمنها: قال محمد: وجاريتُ أبا الريان في الشعر والشعراء ومنازلهم في جاهليتهم وإسلامهم، واستكشفته عن مَذهبه فيهم، ومَذاهب ءبقته في قديمهم وحديثهم. فقال: الشعراء أكثرُ من الإحصاء، وأشعارهم أبعد من شقة الاستقصاء. فقلت: لا أعنتك بأكثر من المشهورين، ولا أذاكرك إلا في المذكورين؛ مثل الضليل، والقتيل؛ ولبيد، وعبيد، والنوابغ والعشي، والأسود بن يعفر وصخر الغي؛ وابن الصمة دريد، والراعي عبيد، وزيد الخيل، وعامر بن الطُّفيل، والفرزدق وجرير، وجميل بن معمر وكثير، وابن جندل وابن مقبل، وجرول والأخطل؛ وحسان في هجائه ومَدحه، وغيلان في ميته وصيدحه؛ والهذلي بن ذُؤيب، وسحيم ونصيب؛ وابن حِلّزة الوائلي، وابن الرقاع العاملي، وعنترة العبسي، وزهير المري، وشعراء فزارة، ومفلقي بن زُرارة، وشعراء تغلب، ويثرب. وأمثال هذا النمط الأوسء كالرم÷اح، والطِرماح؛ والطثري والدميني، والكُميت الأسدي؛ وحميد الهلالي، وبشار العُقيلي؛ وابن ابي حفصة الأموي، ووالبة الأسديّ، وابن جَبلة الحلمي، وأبي نُواس الحكمي؛ وصريع الأنصاري، ودِعبل الخُزاعي؛ وابن جهم القُرشي، وحبيب الطائي، والوليد البحتري، وابن المُعتزّ العباسي؛ وعليّ بن العبّاس الرومي، وابن رغبان الحمصي، ومن الطبقة المتأخرة في الزمان، المتقدمة في الإحسان، كأبي فراس بن حمدان، والمتنبي بن عبدان؛ وابن جدار المصري، وابن الأحنف الحنفي، وكُشاجَم الفارسي، والصنوبريّ الحلي؛ ونصر الخبزرزّي، وابن عبد ربه القُرطبي؛ وابن هانيء الأندلسي، وعلي بن العباس الإيادي التُونسي، والقَسْطلي.
قال أبو الريَّان: لقد سَمّيتَ مشاهير، وأبقيت الكثير قلت: بلى، ولكن ما عندك فيمن ذكرت؟ قال: أما الضِلّيل مؤسّسُ الأساس، وبنيانه عليه الناس؛ كانوا يقولون )أسيلة الخد(، حتى قال )أسيلةَ مجرى الدمع(، وكانوا يقولون )تامة القامة( و)طويلة القامة( و " جَيْدآء " و " تامّة العنق " وأشباه هذا حتى قال: " بعيدة مهوى القرْط " . وكانوا يقولون في الفرس السابق: " يلحق الغزال والظليم " وشبهه، حتى قال: " قَيْد الأوابد " . ومثل هذا له كثير. ولم يكن قبله من فطن لهذه الإشارات والاستعارات غيره. فامتثلوه بعده. وكانت الأشعار قبل سواذج، فبقيت هذه جدداً وتلك نواهج؛ وكل شعر بعد، ما خلاها فغير رائق النسج، وإن كان النهج.
وأما طرفة فلو طال عمره، لطال شعره، وعلا ذكره. ولقد خُصّ بأوفر نصيب من الشعر، على أيسر نصيب من العمر؛ فملأ أرجاء ذلك النصيب بصنوفٍ من الحكمة، وأوصاف من علو الهمة والطبع، معلم حاذق، وجواد سابق.
وأما الشيخ أبو عقيل فشعره ينطق بلسان الجزالة، عن جنان الأصالة، فلا تسمع له إلا كلاماً فصيحاً، ومعنى مبيناً صريحاً؛ وإن كان شيخ الوقار، والشرف والفخار؛ لبادئات في شعره وهي دلائله، قبل أن يعلم قائله.
وأما العبسي فمُجيدٌ في أشعاره، ولا كمعلقته فقد انفرد بها انفرادَ سهيل، وغبر في وجوه الخيل؛ وجمع فيها بين الحلاوة والجزالة، ورقة الغزل وغلظة البسالة؛ وأطال وأستطال، وأمن السآمة والكلام.
وأما زهير فأي زهير، بين لهوات زهير؛ حكم فارس، ومقامات الفوارس؛ ومواعظ الزهاد، ومعتبرات العباد؛ ومدح يكسب الفخار، ويبقى بقاء الأعصار؛ ومعاتبات مرة تحسن، ومرة تخش؛ وتارة تكون هجواً، وطوراً تكاد تعود شكراً.
وأما ابن حِلّزة فسهل الحزون، قام خطيباً بالموزون؛ والعادة أن يسهل شرح الشعر بالنثر، وهذا أسهل بالوعر؛ وذلك مثل قوله:
أبْرَموا أمرَهم عِشاءً فلمّا
أصبحوا أصبحتْ لهم ضَوْضاء
مِن مُنادٍ ومن مُجيبٍ ومن تَصْ
هالِ خَيْلٍ خلالَ ذاك رُغاء
فلو أجتمع كلُّ خطيب ناثر، من أول وآخر؛ يصفون سفراً نهضوا بالأسحار، وعسكراً تنادى بالنهوض إلى طلب الثار: ما زادوا على هذا إن لم ينقصوا منه، ولم يقصروا عنه. وسائر قصيدته في هذا السلك شكاية وطلاب نصفة، وعتاب في عزة وأنفة؛ وهو من شعراء وائل، وأحد أسنة هاتيك القبائل.
وأما ابن كلثوم فصاحب واحدةٍ بلا زيادة؛ أنطقه بها عزُّ الظفر، وهزه فيها جن الأشر؛ فقعقعت رعوده في أرجائها، وجَعجعت رحاهُ في أثنائها؛ وجعلتها تغلبُ قبلتها التي تُصلّي إليها، وملتها التي تعتمد عليها؛ فلم يتركوا إعادتها، ولا خلعوا عبادتها؛ إلا بعد قول القائل:
ألهي بنى تَغْلبٍ عن كُلِّ مَكْرمُةٍ
قصيدةٌ قالها عمرُو بنُ كلثوم
على أنها من القصائد المحققات، وإحدى المعلقات.
أما النابغة زياد، فأشعاره الجياد، لم تخرج عن نار جوانحه حتى تناهى نضجها، ولا قطعت من منوال خواطره حتى تكاثف نسجها، لم تهلهلها ميعة الشباب، ولا وهاء الأسباب، ولا لؤم الاكتساب فشعره وسائط سلوك، وتيجان ملوك.
وأما النابغة الجعدي، فنقي الكلام، شاعر الجاهلية والإسلام؛ واستحسن شعره أفصح الناطقين، ودعا له أصدق الصادقين؛ وكان شاعراً في الافتخار والثناء، قصير الباع لشرفه عن تناول الهجاء؛ وكان مغلوباً فيه في الجاهلية، وطريد ليلى الأخيلية.
وأما العُشى بأجمعهم فكلهم شاعر، ولا كميمون بن قيس شاعر المدح والهجاء، واليأس والرخاء؛ والتصرف في الفنون، والسعي في السهول والحزون؛ نفق مدحه بنات المحلق وكان في فقر ابن المذلق وأبكى هجوه علقمة، كما تبكي الأمة.
وأما الأسود بن يَعفُر فأشعرُ الناس إذا ندب دولةً زالت، أو بكى حالة حالت؛ أو وصف ربعاً خلا بعد عمران، أو داراً درست بعد سكان؛ فإذا سلك هذا السبيل، فهو من حشو هذا القبيل؛ كعمرو وزيد، وسعد وسعيد.
وأما حسان، فقد أجتث بواكر غسان؛ ثم جاء الإسلام. وانكشف الإظلام؛ فحاجج عن الدين، وناضل عن خاتم النبيين؛ فشعر وزاد، وحسن وأجاد؛ إلا أن الفضل في ذلك لرب العالمين، وتسديد الروح الأمين.
وأما دريد بن الصمة، فصمة صمم، وشاعر جشم، وغزل عرم؛ وأول من تغزل في رثاء، وهزل في حزن وبكاء؛ فقال في معبد أخيه، قصيدته المشهورة يرثيه: أرث جديد الخل من أمّ مَعْبد
وهي من شاجيات النوائح، وباقيات المدائح.
وأما الراعي عُبيد فجبل على وصف الإبل فصار بالرعي يُعرف، ونسي ماله من الشرف.
وأما زَيْدُ الخيل فخطيب سجاعة، وفارس شجاعة؛ مشغول بذلك، عما سواه من المسالك.
وأما عامر بن الطفيل فشاعرهم في الفخار، وفي حماية الجار؛ وأوصفهم لكريمة، وأبعثهم لحميد شيمة.
وأما ابن مقبل فقديمٌ شعره، وصليبٌ نجره؛ ومغلي مدحه، ومعلي قدحه.
وأما جرول فخبيث هجاؤه، شريفٌ ثناؤه؛ رفع شعره من الثرى، وحط من الثريا، واعاد بلطافة فكره، ومتانة شعره؛ قبيح الألقاب، فخراً يبقى على الأحقاب، ويتوارث في الأعقاب.
وأما أبو ذؤيبٌ فشديد، أمير الشعر حكيمهُ، شغله فيه التجريبُ حديثه وقديمه؛ وله المرثية النقية السبك، المتينة الحبك؛ بكى فيها بنيه السبعة، ووصف الحمار فطوَّل، وهي التي أولها: أمِنَ المَنونِ وَرَيْبها تتوجّع وأما الأخطلُ فسَعدٌ من سعود بني مروان، صفت لهم مرآة فكره، وظفروا بالبديع من شعره؛ وكان باقعةَ من حاجاه، وصاعقةَ من هاجاه.
وأما الدرامي همام فجوهر كلامه، وأغراض سهامه، إذا افتخر بملك ابن حنظلة، وبدارم في شرف المنزلة. وأطول ما يكون مدى إذا تطاول اختيار جرير عليه بقليله على كثيره، وبصغيره على كبيره؛ فإنه يصادمه حينئذ ببحر ماد، ويقاومه بسيفٍ حاد.
وأما ابن الخطفى فزهدٌ في غزل، وحجر في جدل؛ يسبح أولاً في ماء عذب، ويطمح آخراً في صخر صلب؛ كلب منابحةٍ، وكبش مناطحة؛ لا تفل غرب لسانه مطاولة الكفاح، ولا تُدمى هامته مداومة النطاح؛ جارى السوابق بمطية، وفاخر غالب بعطية؛ وبلغته بلاغته إلى المساواة، وحملته جرأته على المجاراة، والناس فيهما فريقان، وبينهما عند قوم فرقان.
وأما القيسان وطبقتهما فطبقة عشقةٍ وتوقة، استحوذت الصبابة على أفكارهم، واستفرغت دواعي الحب معاني أشعاره؛ فكلهم مشغول بهواه، لا يتعداه إلى سواه.
وأما كُثَيِّر، فحسن النسيب فصيحه، نظيف العتاب مليحه، شجي الأغتراب قريحه؛ جامع إلى ذلك رقائق الظفراء، وجزالة مدح الخلفاء.
وأما الكميت والرماح، ونصيب والطرماح، فشعراء معاصرة، ومناقضات ومفاخرة؛ فنصيب أمدح القوم، والطرماح أهجاهم؛ والرماح أنسبهم نسيباً، والكميت أشبهم تشبيهاً.
وأما بشار بن برد، فأول المحدثين، وآخر المخضرمين؛ وممن لحق الدولتين. عاشق سمع، وشاعر جمع؛ وشعره ينفق عند ربات الحجال، وعند فحول الرجال؛ فهو يلين حتى يستطعف، ويقوى حتى يستنكف؛ وقد طال عمره، وكثر شعره، وطما بحره، ونقب في البلاد ذكره.
وأما ابن ابي حفصة فمن شعراء الدولتين، وممن حظي بالنعمتين، ووصل إلى الغنى بالصلتين، وكان درب المغول، ذرب المقول؛ والد شعراء ومنجب فصحاء.
وأما أبو نواس، فأول الناس في خرم القياس، وذلك أنه ترك السيرة الأولى، ونكب عن الطريقة المثلى؛ وجعل الجد هزلا، والصعب سهلا؛ فهلهل المسرد، وبلبل المنضد، وخلخل المنجد؛ وترك الدعائم، وبنى على الطامي والعائم؛ وصادف الأفهام قد نكلت. وأسباب العربية قد تخلخلت وانحلت؛ والفصاحات الصحيحة قد سئمت وملت؛ فمال الناس إلى ما عرفوه، وعلقت نفوسهم بما ألفوه. فتهادوا شعره، وأغلوا سعره؛ وشغفوا بأسخفه، وكلفوا بأضعفه. وكان ساعده أقوى، وسراجه أضوى، لكنه عرض الأنفق، وأهدى الأوفق؛ وخالف فشهر وعرف، وأغرب فذكر واستظرف. والعوام تختار هذه الأعلاق، وأسواقهم أوسع الأسواق؛ فشعر أبي نواس، نافق عند هذه الأجناس، كاسد عند أنقد الناس. وقد فطن إلى استضعافه، وخاف من استخفافه؛ فاستدر بفصيح طروده، طرفا حد اللسان وحدوده. وهو محدود في كثرة التظاهر، على من غض منه بالحق الظاهر، ليس إلا لخفة روح المجون، وسهولة الكلام الضعيف الملحون؛ على جمهور العوام، لا على خواص الأنام.
وأما صريع فكلامه مرصع، ونظامه مصنع، وجملة شعره صحيحة الأصول، مصنعة الفصول، قليلة الفضول.
وأما العباس بن الأحنف فمعتزلٌ بهواه، وبمعزلٍ عما سهواه؛ دفع نفسه عن المدح والهجاء، ووضعها بين يدي هواه من النسا؛ قد رقق الشغف كلامه، وثقفت قوة الطبع نظامه؛ فله رقة العشاق، وجودة الحذاق.
وأما دعبل، فمدّ يد مقبل؛ اليوم مدح، وغداً قدح؛ يجيد في الطريقتين، ويسيء في الخليقتين؛ وله أشعار في العصبية. وكان شاعر علماء، وعالم شعراء.
وأما علي بن الجهم، فرشيق الفهم، راشق السهم: استوصل بشعره الشرفاء، ونادم الخلفا؛ وله في الغزل الرصافية، وفي العتاب الدالية؛ ولو لم يكن له سواهما، لكان أشعر الناس بهما.
وأما الطائبي حبيب، فمتكلف إلا أنه يصيب، ومتعب، لكن له من الراحة نصيب، وشغله المطابقة والتجنيس، وحبذا ذلك أو بيس؛ جزل المعاني، مرصوص المغاني؛ ومدحه ورثاؤه، لا غزله وهجاؤه؛ طرفا نقيض، وخطب سماءٍ وحضيض؛ وفي شعره علم جم من النسب، وجملة وافرة من أيام العرب؛ وطارت له أمثال، وحفظت له أقوال؛ وديوانه مقروء، وشعره متلو.
قال ابن بسام: أما صفته هذه لأبي تمام فنصفة لم يثن عطفها حمية، ولا تعلقت بذيلها عصبية، حتى لو سمعها حبيب لاتخذها قبلة واعتمدها ملة؛ فما لام من أدب وإن أوجع، ولا سب من صدق وإن أقذع.
وأما البحتري فلفظه ماءٌ ثجاج، ودر رجراج، ومعناه سراج وهاج، على أهدى منهاج؛ يسبقه شعره، إلى ما يجيش به صدره؛ يسر مراد، ولين قياد؛ إن شربته أرواك، وإن قدحته أوراك؛ طبع لا تكلف يعييه، ولا العناد يثنيه؛ لا يمل كثيره ولا يستكلف غزيره، ولم يهف أيام الحلم، ولم يصف زمن الهرم.
وأما ابن المعتز فملك النظام، كما ملك الأنام؛ له التشبيهات المثلية، والاستعارات الشكلية؛ والإشارات السحرية، والعبارات المجرية؛ والتصاريف الصوفية، والطرائق الفنونية؛ والافتخارات الملوكية، والهمات العلوية، والغزل الرائق، والعتاب الشائق؛ والوصف الحسن الفائق:
وخيرُ الشّعر أكرمُه رجالاً
وشرُّ الشعر ما قال العَبيدُ
وأما ابن الرومي فشجرةُ الإختراع، وثمرة الإبتداع؛ وله في الهجاء، ما ليس له في الإطراء؛ فتح فيه أبواباً، ووصل منه أسباباً، وخلع منه أثواباً، وطوق فيه رقاباً، يبقين أعماراً وأحقاباً؛ يطول عليها حسابه، ويمحق بها ثوابه؛ ولقد كان واسع العطن، لطيف الفطن، إلا أن الغالب عليه ضعف المريرة، وقوة المرة.
وأما كشاجم فحكيمٌ شاعر، وكاتبٌ ماهر؛ له في التشبيهات غرائب، وفي التأليفات عجائب، يجيد الوصف ويحققه، ويسبك المعنى فيرققه ويروقه.
وأما الصنوبري ففصيح الكلام غريبه، مليح التشبيه عجيبه؛ مستعمل لشواذ القوافي، يغسل كدرتها بمياه فهمه الصوافي؛ فتجلو وتدق، وتعذب وترق؛ وهو وحيد جنسه في صفة الأزهار، وأنواع الأنوار. وكان في بعض أشعاره يتخالع، وفي بعضها يتشاجع؛ وقد مدح وهجا، ونثر وشجا؛ وأعجب شعره وأطرب، وشرق وغرب؛ ومدح من أهل إفريقية أمير الزاب، جعفر بن علي منفق سوق الآداب؛ فوصله بألف دينار، بعثها إليه مع ثقات التجار.
وأما الخبزرزي فخليع الشعر ماجنه، رائق اللفظ بائنه؛ كثيرةٌ محاسنه، صحيحة أصوله ومعادنه؛ رائقة البزة، مائلة إلى العزة؛ تسليه عن الحب الخيانة، ويروقه الوفاء والصيانة؛ وله على خشونة خلقه، وصعوبة خلقه؛ اختراعاتٌ لطيفة، وابتداعات ظريفة؛ في ألفاظ كثيفة. وفصول قليلة الفضول نظيفة؛ حتى إن بعض كبراء الشعراء اهتدم أشياء من مبانيه، واهتضم طرفا من معانيه؛ وهو من معاصريه، فقل من فطن لمراميه.
وأما أبو فراس بن حمدان، ففارس هذا الميدان؛ إن شئت ضرباً وطعناً، أو لفظاً ومعنى؛ ملك زماناً، وملك أواناً. وكان أشعر الناس في المملكة، وأشعرهم في ذل الملكة. وله الفخريات التي لا تعارض، والأسريات التي تناقض.
وأما المتنبي فقد شغلت به الألسن، وسهرت في أشعاره العيون الأعين؛ وكثر الناسخ لشعره، والآخذ لذكره، والغائص في بحره؛ والمفتش في قعره، عن جمانه ودره؛ وقد طال في الخلف، وكثر عنه الكشف. وله شيعة تغلو في مدحة، وعليه خوارج تتعايا في جرحه. والذي أقول: إن له حسنات وسيئات، وحسناته أكثر عدداً، وأقوى مدداً؛ وغرائبه طائرة، وأمثاله سائرة؛ وعلمه فسيح، وميزه صحيح؛ يروم فيقدر، ويدري ما يورد ويصدر.
قال أبو الريان: هذا ما عندي من شعراء المشرق، وقد سميت لي من متأخري شعراء المغرب من لعمري لا يبعد عن معاصرهم، ولا يقصر عن سابقهم.
فأما ابن عبد ربه القرطبي، وإن بعدت عنك دياره، فقد صاقبتنا أشعاره. وقفنا على أشعار صبوته الأنيقة، وتكفيرات توبته الصدوقة؛ ومدائحه المروانية، ومطاعنه في العباسية. وهو في كل ذلك فارس ممارس، وطاعن مداعس؛ واطلعنا في شعره على علم واسع، ومادة فهم مضيء ناصع؛ ومن تلك الجواهر نظم عقده، وتركه لمن يتجمل به بعده.
وأما ابن هانيء محمد الأندلسي ولادةً، القيرواني وفادةً وإفادة؛ فرعدي الكلام، سردي النظام؛ متين المباني، غير مكين المثاني؛ تجفو بعطنها عن الأوهام، حتى تكون كنقطة النظام؛ إلا أنه إذا ظهرت معانيه، في جزالة مبانيه؛ رمى عن منجنيق؛ إلا أنه إذا ظهرت معانيه، في جزالة مبانيه؛ رمى عن منجنيق، يؤثر في النيق؛ وله غزلٌ قفري، لا عذري؛ لا يقنع فيه بالطيف، ولا يشفع فيه بغير السيف؛ وقد نوه به ملك الزاب، وعظم شأنه بأجزل الثواب؛ وكان سيف دولته في إعلاء منزلته؛ من رجل يستعين على صلاح دنياه، بفساد أخراه، لرداءة عقله، ورقة دينه، وضعف يقينه. ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر، حتى يستعين عليها بالكفر.
وأما القسطلي فشاعرٌ ماهر؛ عالمٌ بما يقول، تشهد له العقول، بأنه المؤخر بالعصر، المقدم في الشعر؛ حاذق بوضع الكلام في مواضعه؛ لا سيما إذا ذكر ما أصابه في الفتنة، وشكا ما داهاه في أيام المحنة. وبالجملة فهو أشعر أهل مغربه، في أبعد الزمان وأقربه.
وأما علي التونسي فشعره المورد العذب، ولفظه اللؤلؤ الرطب، وهو بحتري الغرب؛ يصف الحمام، فيروق الأنام، ويشبب، فيعشق ويحبب؛ ويمدح، فيمنح أكثر ما يمنح.
هذا ما عندي في المتقدمين والمتأخرين، على احتقار المعاصر، واستصغار المجارر، فحاش الله من الأوصاف، بقلة الإنصاف؛ للبعيد والقريب، والعدو والحبيب.
قلت: يا أبا الريان، أكثر الله مثلك في الإخوان، ووقاك محذور الزمان، ومرور الحدثان؛ فلقد سبكت فهما، وحشيت علما.
قال محمد: قلت لأبي الريان في مجلس، عقيب هذا المجلس: يا أبا الريان، لقد رأيت لك نقداً مصيباً، ومرمى عجيباً، ولقد أرغب في أن أنال منه نصيباً.
قال: النقد هبة الموالد وفيه زيادة طارف إلى تالد؛ ولقد رايت علماء بالشعر ورواة له ليس لهم نفاذ في نقده، ولا جودة فهم في ردية وجيدة؛ وكثير ممن لا علم له يفطن إلى غوامضه، وإلى مستقيمه ومتناقضه.
قلت: أنا شديد الرغبة إلى فضلك، في أن تفهمني من ميزك وعقلك؛ ما أستهدي بسراجه، على مستقيم منهاجه؛ فأقف من سرائره على بعض ما وقفت، وأعرف من مفاخره ومعانيه جزءً مما عرفت.
قال: نعم: أول ما عليه تعتمد؛ وإياه تعتقد، أن لبا تستعجل باستحسان ولا باستقباح، ولا باستيراد ولا باستملاح، حتى تنعم النظر، وتستخدم الفكر. وأعلم أن العجلة في كل شيء موطيء زلوق، ومركب زهوق؛ فإن من الشعر ما يملأ لفظه المسامع، ويرد على السامع منه فقاقع؛ فلا يرعك شماخة مبناه، وانظر إلى ما في سكناه من معناه؛ فإن كان في البيت ساكن، فتلك المحاسن؛ وإن كان خالياً، فأعدده جسماً بالياً. وكذلك إذا سمعت ألفاظاً مستعملة، وكلمات مبتذلة، فلا تعجل باستضعافها، حتى ترى ما في أضعافها؛ فكم من معنى عجيب، في لفظ غريب، والمعاني هي الأرواح، والألفاظ هي الأشباح؛ فإن حسنا فذلك الحظ الممدوح، وإن قبح أحدهما فلا يكن الروح.
قال: وتحفظ عن شيئين: أحدهما أن يحملك إجلال القديم المذكور على العجلة باستحسان ما تستمع له؛ والثاني أن يحملك إصغارك المعاصِر المشهود على التهاون بما أنشدت له؛ فإن ذلك جورٌ في الأحكام، وظلم مع الحكام؛ حتى تمحص قولهما، فحينئذ تحكم لهما أو عليهما. وهذا باب في اغتلافه استصعاب، وفي صرف العامة وبعض الخاصة عنه إتعاب. وقد وصف تعالى في كتابه الصادق تشبث القلوب بسيرة القديم، ونفارها من المحدث الجديد، فقال حاكياً لقولهم: )إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ(. وقال: )لن نعبد إلا ما وجدنا عليه آباءنا(. وقد قلت أنت:
أُغْرِي الناسُ بامتداح القديمِ
وبذمِّ الجديدِ غَير ذَميمِ
ليس إلا لأنهم حَسَدوا الحيّ ورَقْوا على العِظام الرَّميم وقلتَ في هذا المعنى:
قُل لمن لا يَرى المُعاصر شَيئاً
ويرى للأوائل التقديما
إنَّ ذاك القديمَ كان جديداً
وسَيغدو هذا الجديدُ قديمَا
فلا يرعك أن تجرى على منهاج الحق، في جميع الخَلق؛ فيه قامت السمواتُ والأرض، وبه أُحكم الإبرام والنقض، وسأمثل لك في ذلك مثالاً، وأملأ أسماعك مقالاً، وفهمك عدلاً واعتدالا:
هذا أمرؤ القيس، أقدم الشعراء عصراً، ومقدمهم شعراً وذكراً؛ وقد اتسعت الأقوال في فضله، اتساعاً لم يفز غيره؛ حتى إن العامة تظن بل توقن أن جواد شعره لا يكبو، وحسام نظمه لا ينبو؛ وهيهات من البشر الكمال، ومن الآدميين الاستواء والاستدلال؛ يقول في قصيدته المقدمة، ومعلقته المفخمة:
ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْر عُنيزةٍ
فقالت لك الويلاتُ إنك مُرْجِلي
فما كان أغناه عن الإقرار بهذا، وما أشك غفلته عما أدركه من الوصمة به وذلك أن فيه أعداداً كثيرة النقص والبخس؛ منها دخوله متطفلاً على من كره دخوله عليه، ومنها قول عنيزة له )لك الويلات(؛ وهي قولة لا تقال إلا لخسيس، ولا يقابل بها رئيس. فإن احتاج محتاج بأنها كانت أرأس منه. قيل له: لم يكن ذلك، لأن الرئيسة لا تركب بعيراً يدرج أو )يموت( إذا ازداد عليه ركوب راكب، بل هو بعير فقير حقير. فإن احتج له بأنه صبر على القول من أجل أنها معشوقة، قيل له وكيف يكون عاشقاً لها من يقول لها:
فمثلك حُبلى قد طَرقتُ ومُرْضِعاً
فألهيتُها عن ذي تمائم مُحْول
وإنما المعروف للعاشق الانفراد بمعشوقته واطراح سواها، كالقيسين في ليلى ولبنى، وغيلان بمية، وجميل بثينة، وسواهم كثير. فلم يكن لها عاشقاً، بل كان فاسقاً. ثم أهجن هجنة عليه، وأسخن سخنةٍ لعينيه، إقراره بإتيان الحبلى والمرضع؛ فأما الحبلى فقد جبل الله النفوس على الزهد في إتيانها، والإعراض عن شأنها؛ منها أن الحبل علّة وأشبه العلل بالاستسقاء، ومع الحبل كمود اللون، وسوء الغذاء، وفساد النكهة، وسوء الخلق، وغير ذلك. ولا يميل إلى هذا من له نفس سوقي، دع نفس ملوكي. وأعجب من هذا أن البهائم كلها لا تنظر إلى ذوات الحمل من أجناسها، ولا تقرب منها حتى تضع أحمالها، أو تفارق فصلانها. ثم لم يكفه أن يذكر الحبلى حتى افتخر بالمرضع، وفيها من التلويث بأوضار رضيعها، ومن اهتزالها واشتغالها عن أحكام اغتسالها. وقد أخبر أن ذا التمائم المحول متعلقٌ بها بقوله )فألهيتها عن ذي تمائم محول(، وأخبر أنها ظئر ولدها، لا ظئر له ولا مرضع سواها، فدل بذلك على أنها حقيرة وقيرة، ومثل هذه لا يصبو إليها من له همة. وهذه الصفات كلها تستقذرها نفس الصعلوك والمملوك.
وقد قال أيضاً في موضع آخر من هذا الباب من قصيدة أخرى:
سموتُ إليها بعد ما نام أهلُها
سُمُوّ حَباب الماءِ حالاً على حال
فقالتْ لَحَاك اللهُ إنّك فاضِحي
ألستَ تَرَى السُّمارَ والناسَ أحوالي
حَلَفْتُ لها بالله حِلْفةَ فاجرِ
لَنامُوا فما إن من حديث ولا صالي
فأخبر هاهنا أنه هين القدر عند النساء وعند نفسه برضاه قولها )لحاك الله(. فحصل على )لحاك الله( من هذه و)لك الويلات( من تلك. فشهد على نفسه أنه مكروه ومطرود، غير مرغوب في مواصلته، ولا محروص على معاشرته، ولا مرضي بمشاكلته. ثم أخبر عن نفسه أنه رضي بالحنث والفجور، وهذه أخلاق لا خلاق لها. ثم أقر في مكان آخر من شعره بما يكتمه الأحرار، ولا ينم بفتح إلا الأوضاع الأشرار، فقال:
ولما دنوتُ تَسَدّيتُها
فثَوْباً نسيتُ وثوباً أجُرّ
وأي فخر في الإقرار بالفضيحة على نفسه وعلى حبه وأين هذا من قول أبي يعقوب الخزيمي:
ولا أسألُ الولدانَ عن وَجْهِ جارتي
بعيداً ولا أرْعاه وهو قريبُ
وإنما سهل عليه كل هذا حرصه على ما كان ممنوعاً منه، وذلك أنه كان مبغضاً إلى النساء جداً، مفروكاً ممن ملك عصبتها لأسباب كثيرة ذكرت. وكل من حرص على نيل شيء فمنع منه فعلاً، ادعاه قولاً. وله أشباه فيما أتاه، يدعون ما ادعاه؛ إفكاً وزوراً، وكذباً وفجوراً. منهم الفرزدق، وهو القائل:
هما دلَّياني من ثمانين قامةً
كما انقضَّ بازٍ أقتمُ الريش كاسرُه
فهذا أول كذبة، ولو قال: )من ثلاثين قامة( لكان كاذباً، لتقاصر الأرشية عن ذلك. وقد قرعه جرير هذا في قوله:
تدلَّيتَ تَزْني من ثمانين قامةً
وقَصّرْتَ عن باعِ العُلى والمَكارم
وكان مغرماً بالزنا مدعياً فيه، وقد بلي بموانع تصدفه عنه، منها ما شهر به من النميمة بمن ساعده، والادعاء على من باعده؛ ومنها دمامته، ومنها اشتهاره، والمشهور يصل إلى شهوة يتبعها ريبة، فكان يكثر في شعره من ادعاء الزنا، واستدعاء النساء؛ وهن أغلظ عليه من كبد بعير، وأبغض فيه وأهجى له من جرير. وخذ أطرف هؤلاء الأجناس، وهو سحيم عبد بني الحسحاس؛ أسيود في شملة، دنسة قملة؛ لا يواكله الغرثان، ولا يصاليه الصرد العريان، وهو مع ذلك يقول:
وأقبلن مِنْ أقصى البُيوت يَعِدْنني
نواهدَ لا يَعْرِفن خلقاً سوائياً
يَعِدْن مريضاً هنَّ هَيَّجن ما به
ألا إنما بعضُ العوائد دائياً
تُوَسِّدني كفّاً وتحنو بمِعْصَم
عليَّ وتَرْمي رجلَها مِن ورائياً
فأنت تسمع هذا الأسود الشن وادعاءه، وتعلم أن الله لو أخلى الأرض، فلم يُبق رجلاً في الطول ولا في العرض؛ لم يكن هذا الزنمة الزلمة عند أدراك السودان إلا كبعرة بعير، في مغر عير؛ والممنوع من الشيء حريص عليه، مدعٍ فيه؛ والمعتد بما يهواه، كاتم له مستغن ببلوغ مناه؛ ودليل على ذلك أن المرقش الأكبر كان من أجمل الرجال، وكانت للنساء فيه رغبة، وشدة محبة؛ وكان كثير الاجتماع بهن، والوصول إليهن؛ وله في ذلك أخبارٌ مروية، ولم يكن في أشعاره صفة شيء من ذلك. فحسبك بذلك صحة على ما قلناه.
فإن قال قائل: إنما وصفت عن امرئ القيس عيوباً من خلقه لا في شعره، قلنا: هل أراد بما وصف في شعره إلا الفخر؟ فإن قال: لم يرد ذلك وإنما أراد إظهار عيبه. قلنا: فأحمق الناس إذاً هو، ولم يكن كذلك. وإن قال: نعم، الفخر. قلنا: فقد نطق شعره بقدر ما أراد، وترجم عنه قريضه بأقبح الأوصاف. فأي خلل من خلال الشعر أشد من الانعكاس والتناقض. وكل ما يخزي من الشعر فهو أشد عيوبه.
قال: ومن كلام امريء القيس المخلخل الأركان الضعيف الاستكمان، المتزلزل البنيان، قوله:
أَمَرْخٌ خيامُهُمُ أم عُشَرْ
أم القلبُ في إثْرِهم مُنْحَدِرْ
وشاقذ بين الخليط الشُطُرْ
وممن أقام من الحيّ هِرّ
وهرٌّ تَصِيد قلوبُ الرجالِ
وأفلَتَ منها ابنُ عمرو حُجُرْ
فأنت تسمع هذا الكلام الذي لا يتناسب، ولا يتواصل ولا يتقارب، ولا يحصل منه معنى ولا فائدة، سوى أن السامع يدري أنه يذكر فرقة من أحباب، لكن ذلك عن ترجمة معجمة، مضطربة منقلبة. سأل عن الخيام: أمرخٌ هي أم عشر؟ وليست الخيام مرخاً ولا عشراً، وإنما هما عودان. فإن أراد في مكان هذين الخيام، فقد نقض عمدة الكلام، لأن مرخه وعشره أتي بها نكرتين فأشكل بذلك. وإنما يجوز لو جعلهما معرفة بالألف واللام، والوزن لا يساعده على ذلك، ثم قال: أم القلب في إثرهم مُنحدر وليس هذا السؤال من السؤال الأول في شيء إلا من بعد بعيد، واحتيال شديد. وقال بعد هذا:
وشاقذ بين الخليط الشطر
وممن أقام من الحي هِرّ
فأتى بكثير كلام لا يفيد إلا قليل معنى. وذلك القليل لا غريب ولا عجيب، وهو كله ذكر فراق. ثم رجع إلى أن )هِرّ( فقيمةٌ تصيد قلبه وقلب غيره، فأبطل بإقامتها كل ما قال من أخبار الفراق ونقضه، وجعل بكاءه المتقدم لغير شيء. ثم قال: وأفلت منها ابن عمرو حجر فحسن عنده أن يخبر أن الناس قد صادت هر قلوب جميعهم إلا قلب حجر أبيه. وهذا من الأحاديث الركيكة، والأخبار التي ما بأحد حاجة إليها. ومع هذا فقد أورد أصحاب الأخبار أن )هر( هذه كانت زوجة أبيه حجر، فانظر ما في جملة هذه الأبيات من الركاكات، وقلة الإفادات؛ فإنها لا تفيد قلامة، ولا تهز ثمامة. ولسنا ننكر بهذه العيوب ونزارتها، ما أقررنا له به من الفضائل وندارتها؛ وستجد من لا يصدق معاصرا، ولا يصدق على متقادم متأخرا؛ يبنى على ضعف أسه، ويفديه من الجهل والعيب بنفسه. فإذا اعترضك من هذا النمط متعرض، فأعرض عنه ودعه على أخلاقه، مستمتعاً بخلاقه، واتبع المسلك الذي أوضحته لك.
قال أبو الريان: وفضلاء الشعراء كثير ولكلٍ سقطات، وسأقفك على بعضها لعظيم المؤونة في الإحاطة بها ليس إلا، لأوضح بذكرها منهجاً من مناهج النقد، لا حرصاً على بعض الفصحاء، ولا قصداً إلى تهجين الصرحاء، وأية رغبة لنا في ذلك وهم جرثومة فروعنا، وبهم أفتخار جميعنا......