نقوس المهدي
كاتب
يقف قارئ الكتاب بسهولة على عنصر الزمن (البيئة) في أثناء المعالجة، وهو العنصر الأوسع من عناصر المنهج التاريخي في هذا الكتاب، فقد قدّم لنا الباحث صورة تفصيلية متكاملة عن الحياة السياسية والاجتماعية في حياة السيوطي، وعن الظروف التاريخية التي كانت سبباً في كتابة المقامة.
كما تجلّت الإيماءات التاريخية في المقامة نفسها، وهي إيماءات دالّة على طبيعة العصر السياسي، خصوصاً في مجال الحكم، وذلك على غرار المفردات والتراكيب والصيغ التي يبدأ بها نوع الورد ردّه على الآخر (منابر، أكابر، عساكر، عقد مجلس حافل لاختيار من هو بالملك أحق، ملك الرياحين، نديم الخلفاء والسلاطين، المظفر والمنصور، صاحب الدولة، حماني أمير المؤمنين المتوكل، لي بينهم ابن يخلفني في الحكم، أيها البنفسج بأي شيء تدعي الإمارة، يا ريحان أتريد أن تسود وأنت مشبه بهامات العبيد السود).كما أراني أوافق الدروبي على أن الراوي في المقامة هو شخصية السيوطي بصفاته العلمية والأخلاقية المعروفة.
ونجد في المقامة إشارات مؤكدة في أن المتنازعين على الحكم من هؤلاء الأمراء وأصحاب المناصب، هم من الأقليات، أي من ذوي الأجناس غير العربية، لوناً وأصلاً وعرقاً، وهذا جانب من جوانب المنهج التاريخي في التحليل النقدي.
أما رمزية الرياحين، فهي في اعتقادي رمزية صحيحة ومقبولة بناء على معطيات المرايا السياسية والاجتماعية التي قدّمها الباحث، يضاف إلى ذلك كله أننا أمام نص أدبي مقنّع تلعب فيه الكتابة دور الرمز في الإيماء إلى المعنى المتوارب والدلالة البعيدة. وذلك أسلوب يستطيعه السيوطي باقتدار، فهو أديب ذو ملكة وموهبة في فنون الأدب. وقد لجأ إلى هذا الأسلوب لسببين: أولهما حرصه على تجنب الأذى وسوء العاقبة، فقد كان يشعر بالمكائد التي تحاك ضده، وثانيهما: تقليده هذا النمط من استنطاق الرياحين على نحو ما عرفناه عند ابن برْد الأصغر في نص له من نوع المناظرة بين الأزهار وكيف كان الورد يفضّل نفسه، وكان كل من النرجس الأصفر والبنفسج يتزاهى بنفسه ليتفقوا جميعاً على تفضيل الورد.
وتبع ابنَ برْد ابنُ حَسَداي الذي رمز بالبنفسج إلى النديم المخلص، أما ابن برد فهو مشغول الخاطر بالحال السياسية في بلاط مجاهد العامري (انظر تاريخ الأدب الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين، إحسان عباس، دار الشروق، عمان، 1997، ص 232-235، والنص في الذخيرة القسم الثاني، ونهاية الأدب 196:11 بحسب توثيق عباس). وقد خمّن عباس بقضية الرمز في مناظرات الورود، إلا أن الدروبي أخلص في إيراد البراهين والأدلّة على رمزية الحوار بين الرياحين بالاستناد إلى المنهج التاريخي فأكسب دراسته سمة التفرّد والأسبقية.
فالسيوطي في هذه المقامة يعاني غربة تشبه غربة المتنبي، فإذا كان المتنبي يفخر بأدبه وبشخصه تكنيةً وإيماءً في أغلب قصائده التي مدح بها سيف الدولة أو كافوراً، فإن السيوطي وهو يتوارى خلف رمز `الفاغية` إنما يؤكد زهوه بذاته وأحقيته بالتفوق على جميع رموز الرياحين.
أما إسهاب السيوطي في ذكر منافع الرياحين ومضارّها فما هو إلا تضليلٌ للقارئ وإبعادٌ له عن المعنى الحقيقي المقصود. وهذا ليس بغريب على رجل كالسيوطي، خبير بالثقافة الصحية الوقائية والعلاجية كما عرفناه في كتابه `الرحمة في الطب والحكمة` وغيره من الكتب المنسوبة إليه. فهو والحالة هذه قد استعرض في المقامة جزءاً من خبرته وتميزه العلمي حتى بأسرار الورود على الحقيقة. ترى ماذا لو قام فريق من الصيادلة المختصين بالتحقق من معلومات السيوطي عن فوائد الرياحين ومضارها؟ أليس في ذلك إنجاز طبي مهم؟!
أجل!في هذه المقامة مكرٌ فني لا يقدر عليه إلا واحد كالسيوطي، يعدّ موسوعة أدبية وعلمية ولغوية عظيمة.
فمهما قلّبنا الأمر، فإن المقامة تقدّم نصّاً أدبياً قديماً يحتوي على سيماءات وقيم جمالية وفنية جديدة كشف عنها الدروبي بأسلوب ذكي وصبور ومثابر، فالسيوطي في هذه المقامة متألم جراء الوضع السياسي الرديء في زمنه، ومتألم لإحساسه بالغربة عن مجتمعه حين تطفو الطحالب على سطح الماء وتختفي الأسماك العظيمة في القاع. إنه بهذه المقامة يدافع عن حقّه مع نفسه في إنصافها وتقديرها، وهو حين يفعل ذلك إنما يسخر أيضاً من زمنه سخرية فنية لاذعة سخرية النمر من مجد الثعلب.
تأسيساً على ذلك، فإن هذا الكتاب يعدّ بوابة علمية مهمة يدخل منها الدارسون الجدد إلى فن المقامة، ويعيدون تأمله واستفراء جمالياته، فلا أظن أن المقامة أحادية المضمون كما توهم بعضهم، ولا محدودة القيم الجمالية أيضاً، لذلك فإن كشف المرجعيات التاريخية لزمن المقامة سيرينا انفتاحاً آخر على التأويل وعلى بلوغ ملامح فنية سها عنها الدارسون. وأجزم أن الدروبي سيواصل هذا الجهد المتميز الذي يعدّ إضافة نوعية لحركة النقد الجديد في قراءة الأدب القديم، وأتمنى عليه كذلك أن يولي المقامات الأندلسية عناية أخرى، فلعله يكتشف كم تحمله تلك المقامات من رموز وتكنيات وتوريات تنبض بعصرها السياسي المضطرب الذي يشبه إلى حد ما العصر السياسي في زمن كتابة مقامة الرياحين.
د. سمير الدروبي
كما تجلّت الإيماءات التاريخية في المقامة نفسها، وهي إيماءات دالّة على طبيعة العصر السياسي، خصوصاً في مجال الحكم، وذلك على غرار المفردات والتراكيب والصيغ التي يبدأ بها نوع الورد ردّه على الآخر (منابر، أكابر، عساكر، عقد مجلس حافل لاختيار من هو بالملك أحق، ملك الرياحين، نديم الخلفاء والسلاطين، المظفر والمنصور، صاحب الدولة، حماني أمير المؤمنين المتوكل، لي بينهم ابن يخلفني في الحكم، أيها البنفسج بأي شيء تدعي الإمارة، يا ريحان أتريد أن تسود وأنت مشبه بهامات العبيد السود).كما أراني أوافق الدروبي على أن الراوي في المقامة هو شخصية السيوطي بصفاته العلمية والأخلاقية المعروفة.
ونجد في المقامة إشارات مؤكدة في أن المتنازعين على الحكم من هؤلاء الأمراء وأصحاب المناصب، هم من الأقليات، أي من ذوي الأجناس غير العربية، لوناً وأصلاً وعرقاً، وهذا جانب من جوانب المنهج التاريخي في التحليل النقدي.
أما رمزية الرياحين، فهي في اعتقادي رمزية صحيحة ومقبولة بناء على معطيات المرايا السياسية والاجتماعية التي قدّمها الباحث، يضاف إلى ذلك كله أننا أمام نص أدبي مقنّع تلعب فيه الكتابة دور الرمز في الإيماء إلى المعنى المتوارب والدلالة البعيدة. وذلك أسلوب يستطيعه السيوطي باقتدار، فهو أديب ذو ملكة وموهبة في فنون الأدب. وقد لجأ إلى هذا الأسلوب لسببين: أولهما حرصه على تجنب الأذى وسوء العاقبة، فقد كان يشعر بالمكائد التي تحاك ضده، وثانيهما: تقليده هذا النمط من استنطاق الرياحين على نحو ما عرفناه عند ابن برْد الأصغر في نص له من نوع المناظرة بين الأزهار وكيف كان الورد يفضّل نفسه، وكان كل من النرجس الأصفر والبنفسج يتزاهى بنفسه ليتفقوا جميعاً على تفضيل الورد.
وتبع ابنَ برْد ابنُ حَسَداي الذي رمز بالبنفسج إلى النديم المخلص، أما ابن برد فهو مشغول الخاطر بالحال السياسية في بلاط مجاهد العامري (انظر تاريخ الأدب الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين، إحسان عباس، دار الشروق، عمان، 1997، ص 232-235، والنص في الذخيرة القسم الثاني، ونهاية الأدب 196:11 بحسب توثيق عباس). وقد خمّن عباس بقضية الرمز في مناظرات الورود، إلا أن الدروبي أخلص في إيراد البراهين والأدلّة على رمزية الحوار بين الرياحين بالاستناد إلى المنهج التاريخي فأكسب دراسته سمة التفرّد والأسبقية.
فالسيوطي في هذه المقامة يعاني غربة تشبه غربة المتنبي، فإذا كان المتنبي يفخر بأدبه وبشخصه تكنيةً وإيماءً في أغلب قصائده التي مدح بها سيف الدولة أو كافوراً، فإن السيوطي وهو يتوارى خلف رمز `الفاغية` إنما يؤكد زهوه بذاته وأحقيته بالتفوق على جميع رموز الرياحين.
أما إسهاب السيوطي في ذكر منافع الرياحين ومضارّها فما هو إلا تضليلٌ للقارئ وإبعادٌ له عن المعنى الحقيقي المقصود. وهذا ليس بغريب على رجل كالسيوطي، خبير بالثقافة الصحية الوقائية والعلاجية كما عرفناه في كتابه `الرحمة في الطب والحكمة` وغيره من الكتب المنسوبة إليه. فهو والحالة هذه قد استعرض في المقامة جزءاً من خبرته وتميزه العلمي حتى بأسرار الورود على الحقيقة. ترى ماذا لو قام فريق من الصيادلة المختصين بالتحقق من معلومات السيوطي عن فوائد الرياحين ومضارها؟ أليس في ذلك إنجاز طبي مهم؟!
أجل!في هذه المقامة مكرٌ فني لا يقدر عليه إلا واحد كالسيوطي، يعدّ موسوعة أدبية وعلمية ولغوية عظيمة.
فمهما قلّبنا الأمر، فإن المقامة تقدّم نصّاً أدبياً قديماً يحتوي على سيماءات وقيم جمالية وفنية جديدة كشف عنها الدروبي بأسلوب ذكي وصبور ومثابر، فالسيوطي في هذه المقامة متألم جراء الوضع السياسي الرديء في زمنه، ومتألم لإحساسه بالغربة عن مجتمعه حين تطفو الطحالب على سطح الماء وتختفي الأسماك العظيمة في القاع. إنه بهذه المقامة يدافع عن حقّه مع نفسه في إنصافها وتقديرها، وهو حين يفعل ذلك إنما يسخر أيضاً من زمنه سخرية فنية لاذعة سخرية النمر من مجد الثعلب.
تأسيساً على ذلك، فإن هذا الكتاب يعدّ بوابة علمية مهمة يدخل منها الدارسون الجدد إلى فن المقامة، ويعيدون تأمله واستفراء جمالياته، فلا أظن أن المقامة أحادية المضمون كما توهم بعضهم، ولا محدودة القيم الجمالية أيضاً، لذلك فإن كشف المرجعيات التاريخية لزمن المقامة سيرينا انفتاحاً آخر على التأويل وعلى بلوغ ملامح فنية سها عنها الدارسون. وأجزم أن الدروبي سيواصل هذا الجهد المتميز الذي يعدّ إضافة نوعية لحركة النقد الجديد في قراءة الأدب القديم، وأتمنى عليه كذلك أن يولي المقامات الأندلسية عناية أخرى، فلعله يكتشف كم تحمله تلك المقامات من رموز وتكنيات وتوريات تنبض بعصرها السياسي المضطرب الذي يشبه إلى حد ما العصر السياسي في زمن كتابة مقامة الرياحين.
د. سمير الدروبي