اعتدنا التّهاون مع الكتاب الأوّل، لمجرّد أنّه صادر عن شابّ ليس لديه من التجربة إلا هذا العمل. موقف متأتٍّ من أبوّة مضاعفة، فمن جهة يمارس "القديم" سلطته على "الجديد"، ويقدّم تبريكاته ورضاه، فلا يبقى من الجديد إلا حداثة تاريخه. ومن جهة أخرى، حين تكتسي الكتابة بحلّة النجومية، يُضاف الكاتب، أوتوماتيكياً، إلى نادي الأصنام.
ولأنه توجّه عام، وليس مجرّد رأي، نحتاج إلى موقف مضاد. فما يحدث ـ عند اعتبار العمل الأول تمريناً لأدب قادم على الطريق ـ أنّ النقد يؤجّل نفسه إلى العمل الثاني وصاعداً. وبهذا يغيب الأدب والنقد معاً، في انتظار ذلك الموعد الذي ربما لن يأتي.
وفي الواقع، النقد غائب كلياً عن الأعمال الأولى والتالية على حد سواء. وهذا الغياب يتحمّل مسؤولية كبيرة في تكريس الكثير من الزيف، وله اليد الطولى في فيضان أسماء لها العديد من الإصدارات التي لا تمنحنا مجتمعةً المستوى المتوخّى من كتاب أول. حدث هذا مع جيل الحداثة الأولى، ورُسّخت به أسماء ريادية بالطريقة ذاتها، باتت فيما بعد تتمتع بحصانة الـ"CV" العملاق، من دون النظر إلى بؤس المحتوى.
المعيار ذاته لا يزال مسحوباً على زمننا، البعيد أكثر من نصف قرن عن ذلك التاريخ. وإنه من العجب العُجاب أن يستمر الإهمال ذاته كل هذا الوقت، من دون مساءلة أو انتباه. فكيف تكفّل الزمن بتغيير النظرة إلى فن جديد ووافد كقصيدة النثر مثلاً، ولم يتغير بخصوص الجودة والإتقان؟ الأدب هو الأدب، لا تراخ مع عمل أول أو عاشر، وما يصح على هذا يصح على ذاك، وما يقال عن هذا يقال عن ذاك. القيم الفنية والفكرية هي الأساس.
تتوافر اليوم كميات هائلة من "الكتب الأولى"، ومن خلالها تتحصّن الرداءة بالبراءة؛ وهي عملياً كتب مبذورة على عجل في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المدونات، وقد جاءت إلى الحقل الأدبي من باب الظهور الاجتماعي، لا من باب الهمّ والسؤال والبحث.
سيقول المزوّرون إنها حركة ثقافية، وإن عودة المطابع إلى العمل بهذه الغزارة دلالة عافية. لكن لا.. فكثرة الإصدارات لا تصنع بالضرورة حراكاً أدبياً، ولا تطلق تيارات ثقافية. ما يفعل ذلك هو المعنى محمولاً على المهارة وذكاء الأساليب.