نقوس المهدي
كاتب
في صهيل الجواد الابيض, يصف زكريا تامر بطله الذي يتكرر في هذه المجموعة من القصص. يصفه بأنه مخلوق ما, ضائع في زحام مدينة كبيرة قديمة ويجعله يقول: لست دون جوان. لا أملك سيارة ولا بناية شامخة في شارع لايسكنه الفقراء. لست بطل ملاكمة أو مصارعة. صورتي لايعرفها قراء الصحف والمجلات. اشتغل في اليوم ثماني ساعات. اتعب.
ابتلع الطعام بسرعة عجيبة. أتعب اشترك بحماسة في مناقشات عقيمة. اقامر بمبالغ ضئيلة. اضحك ببلاهة. أغازل فتيات: أروي بحزن حكاية حبي ذات الختام الحزين. أسمع سيمفونيات سيبيليوس. أقرأ كتابا. أتسكع في طرقات لولبية. أتجرع بنهم خمورا رديئة, الليل بدونها كآبه فاجعة.
يدخل البطل احدي الخانات. يري رجلا بائس المظهر, يجلس الي طاولة قريبة. يدير معه حوارا متخيلا. الرجل البائس يزعم أنه بائع أقمشة في النهار وبحار مغامر في الليل. يدعو الرجل البائس البطل الي أن يرحل معه. الي أن يركب البحر ليري عالما جديدا مدهشا. سيقف علي ظهر السفينة مرفوع الرأس. سيضحك بسرور وحشي فكل الاحزان قد خلفها وراءه. سيقابل اناسا غرباء. وسيصغي الي موسيقي مدهشة تخلقه من جديد.
وستعود له طفولته المسلوبة. وربما رقص مع فتاة عيناها كبيرتان, تطل في أغوارهما شهوة مجنونة. آه ما أروع الاشياء الجديدة المجهولة! ولكن البطل يرفض هذا الاغراء الجميل. يقول: انني أعشق مدينتي بجنون. رد محاوره المزعوم: البلهاء وحدهم يفضلون الهدوء. ويرد البطل. أحيانا أحلم بزوجة وأطفال ومنزل. وأتمني لو يتحقق هذا الحلم. يعلق محاوره: أنت مجنون. ستتحول ببطء الي دوده ضجرة لاتقدر علي الهرب من قفصها الفولاذي. يترك البطل الحانه ويسمع صفيرا مرحا من فم شاب يسير أمامه بخطي ثابتة مفعمة بحيوبة مدهشة. يقدر ان الشاب سعيد.
ويعود بذاكرته الي سنوات مضت كانت له فيها فتاة هي مدينة أفراح ولذة. شفتاها الارجوانيتان تفتحان لصحرائه الجائعة أبواب كنوز كانت نائمة في دمه. أما الآن فهو وحيد مثل كلب الاسواق الاجرب ويعيش أيضا مثل كلب الاسواق الاجرب. تعود الي ذاكرته رائحة لحم العامل المحترق الذي تساقط عليه الحديد المصهور. ويقول هذه الرائحة هي رائحة العالم!
ويروح يسأل نفسه: ماذا يفعل لو كان يملك مدنا من ذهب؟ ويرد علي نفسه. أظن انني سأحدق الي لمعة حذائي الجديد وأقول بضجر:
أوه. كل الاشياء تافهة وغبية! ويواصل: سأموت. خطوة واحدة الي الامام, أهرب بعدها من تعب المعمل والصياح والوجوه القاسية التي تسرق حتي الغبطة الوديعة المختبئة في عيني. ويأخذ يبتلع الحبوب الملساء وهو يبتسم ابتسامة متشفية. الحبوب وحدها هي التي ستنقذه من تعاسته. تمدد علي الفراش دون أن يخلع ملابسه.
العالم ينأي عنه بصراخه القبيح. تتمزق النقطة السوداء المختبئة في داخله. تمزق اقنعتها وتظل تنمو حتي تتحول الي عنكبوت لايقاومه البطل بل يسقط بسهولة بين اذرعته اللزجة التي تلف حوله وتمنعه من الحركة.
يفتح الباب قليلا ويطل منه الجواد الابيض. صهيلة يدعوه الي الانطلاق.
ولكنه لايستطيع تلبية النداء. هو الآن جثة طافية علي وجه مياه نهر بطيء. كم يشتهي ان يمتطي صهوة جواده الأبيض ويترك له العنان ليعدو به بعيدا عبر براري لا أفق لها. يغضب الجواد حتي لا يستجيب البطل, ويرحل ويسمع حوافره تطرق الأرض بايقاع غاضب بصحبة صهيل حزين ما يلبث ان يتلاشي. قال البطل: سأنتظر. انه سيعود مرة أخري. سيمل التشرد وتمضه الوحدة فيعود. وسمع البطل صوت امرأه تهتف: لاتحزن لحمي الساخن سينسيك العالم كله. سألها من تكون: فضحكت وقالت: انا صديقة طفولتك. كان يسعدك ان تلتصق بي بشدة وتقبلني بخجل. قال البطل: لاتخدعيني. انت عاهرة عجوز فحدقت المرأة فيه وهي مذهولة. ثم اخذت تبكي بحرقة. فقال لها باضطراب: اغفري لي. أنا أحبك. قالت ألا تشعر وأنت تردد هذه العبارة بأن انسانا رائعا سيولد في نفسك؟. قال: لا شيء داخلي سوي بعض العناكب والقبور المهجورة. قالت المرأة بضراوة:
أنا أمقت القبور وامقتك وأمقت العالم كله.
اغمض البطل عينيه وهو يحس بتعب غريب. وفي لحظات تضاءل العالم وتحول الي حجر ضخم هوي في فراغ لا أرض له. ووجد نفسه وجها لوجه مع رجل قبيح أقبل نحوه وهو يلوح بسيف متألق النصل. قال له الرجل سأقتلك. هذا السيف قديم وله ضحية في كل ليلة. أجاب البطل انه كمدينتي. قال الرجل القبيح: سيقتل ويقتل حتي تنقرض الضحايا ولا يبقي سواي وعندئذ سأكون الضحية لكي يظل السيف محتفظا بفتوته وتألقه. سأقتلك. ستتمتع بطعم لذة جديدة بينما ينزلق النصل الصلب في لحمك اللين. يشعر البطل بخوف بلا قناع.
يعود طفلا يعدو في الازقة الضيقة. يضحك بعذوبة ويحتضن كل الاشياء يقول: آه. ليتني لم أكبر. هزمت قبل ولادتي. ورثت سيف جلاد. أحرقت أكواخ أمسي. بعت غدي. تموت حديقة الياسمين في قلبي. سأهرم. آه يانجمي المنطفيء علي رخام فخدي امرأة. آه حتي يهرم الموت. الأنهار القرمزية تنتحب بصمت في حقولي الجرداء. بلبل جريح ليغرد علي غصن شجرة ليمون. خيول متعبة نائمة علي اسفلت لامع. الفجر يبدو كمشنقة. النساء يأكلن التفاح بأناة ويتمطين علي وسائد من حرير. رجال من اعقاب سجائر. شفتاك يا حبيبتي المسكينة حانة شاحبة الضوء يأوي اليها العائدون من المواني. اله مدينتي خبز. حبيبتي جميلة كالخبز. ذليلة كبكاء رجل. اطفيء شموع النوافذ. الباب موصد. لا تنتظري عودتي يا أمي. لن استطيع الفرار. الباب موصد. يا خفاش المدينة, يا أخي, لحمي لحريق مديتك: ربما استطعت أن أحلم بالفرار.
سمع صهيل الجواد الابيض. رجع بسرعة لم يتوقعها. سيكون الحصان صديقه الابدي. وهتف بحرارة رجل كهل مجعد البشرة كقشرة شجرة ليمون هرمة. قال: البشر طيبون. البشر طيبون. البشر طيبون.
ود البطل لو يضحك كمجنون. غير ان البراري الخضراء كانت تناديه بشوق تنادي الرجل المتعب وجواده. وفي مكان في العالم سطع قمر, نوره ازرق بارد. فكانت الابواق النحاسية ترسل صراخا وحشيا يحاول ان يتسلق اعلي قمة. لكن الصمت يهزمه ولايبقي سوي كمان صغير ناعم يتأوه وحده مرتجفا بينما كان الرجل المتعب يبتعد خلسة عن المدينة ممتطيا جواده الابيض.
يتحرك عبر هذه المجموعة بطل واحد هو اشبه بالمهرج, وان كان خلافا للمهرج ـ لايضحك ابدا, من خصائص المهرج جوع لاينتهي للنساء والطعام. ومن خصائصه ايضا التشرد المستمر. والعزوف عن العمل ما امكن. وحنينه الدائم الي الترحال في المكان وفي الزمان. في قصة التثاؤب يتمني البطل لو يقطع صلته الوطيدة بالمدينة ويصل الي مدينة من نوع جديد وغريب. مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر. مدينة لاتاريخ لها وأيامها تمر بلا اسماء والسماء والقمر والربيع والليل والخريف والشتاء والنهار والصيف. كل هذه العناصر طليقة حرة غير مرتبطة بزمان معين او بلون ثابت. وناس هذه المدينة يشتغلون جميعا في اليوم الواحد بضع ساعات فقط ويقضون بقية اوقاتهم في الاسترخاء والانتشاء بمسرات غامضة. عندما يصل البطل الي المدينة سيقول له المشرفون عليها: لابد ان تنجح في الاجابة عن اسئلتنا. ما اسمك؟ فيرد أنا بلا اسم. متي ولدت؟ لم اولد بعد هل تحب العمل؟ لا. احب كل الاشياء الا العمل. ما هو الشئ الذي يرفع المخلوق البشري الي مرتبة انسان؟ الكسل. ماهي احسن الفضائل؟ الكسل. ما هواياتك؟ التثاؤب. وهنا سوف يصافحه المسئولون ويقولون ادخل مدينتنا فأنت مواطن مثالي. اعمل ليومك فقط. وعش كما تشتهي. استسلم لنزواتك, افعل كل الحماقات بحماسة. ويكون في هذه المدينة امرأة فائقة الجمال تقول له: يجب ان تحارب.
فيسألها من سأحارب؟ تقول: يجب ان تعمل: فيقول أي عمل؟ تقول يجب ان تمتطي جوادا. يقول: انا لا املك سيفا. تقول يجب ان تكون بلبلا. يرد: صوتي خشن مبحوح. تقول كن نسرا, يرد ولدت بلا اجنحة. تقول كن كلمة مرتجفة في اغنية حب. يقول أنا غضب سجين. تقول: ستموت يوم يسقط الثلج. وعندئذ سيقول بكآبة سأموت يوم يسقط الثلج. وسأحب هذه المرأة حتي موتي. وفي ساعات وحدتي سأبحث عن كلمات جديدة غريبة ذات ايقاع فظ, وسأغنيها لنفسي بصوت ثمل. آه ما أجمل الحياة في تلك المدينة.
سأرحل في يوم لابد من مقدمة. سأترك خلفي مدينتي المكتظة بالجيف المتحركة وسأنقذ نفسي من اسي مرير يتعقبني باستمرار يقطع ابوه حلمه هذا بفظاظة حين يأتي ليطالبه بنقود.
ولكن ثيابه خالية. فتشها الاب فلم يجد شيئا ـ هنالك يلجأ البطل الي حيلة المهرج الدائمة التي تنقذه من الورطة. يكذب علي ابيه الطيب القلب ويقول اعطيت كل نقودي لصديق متعطل منذ مدة طويلة وهو مسئول عن عائلة كبيرة. وقد قبل هذه المنحة بعد الحاح وتوسل من البطل ويصدقه ابوه, فيتنهد بارتياح, يغمض عينيه ويعود بحلم بالرحيل الي مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر.
وكان المهرج البطل قد بات ليلته في حضن احدي بائعات الهوي. ونظر اليها فوجد حياتها غاصة بالمتاعب. قال لنفسه: هذه المرأة طيبة, وتستحق بيتا وزوجا صالحا. ودفعته شفقة جارفة الي أن يدس في يدها عشرين ليرة, وحين ودعته الي الباب قال لنفسه: لست نادما علي عملي هذا لكن كيف سأواجه أبي هذا الصباح؟ ويجعله توقع غضب ابيه يشعر بالتعاسة لانه يعيش في مدينة بخيلة, حياته فيها مجرد بكاء طويل. وقد ولد فيها في يوم ما علي ارصفتها وسيظل حتي الموت مغلولا اليها. كل مناه الآن ان تكون له علاقة صداقة مع فتاة تستمع اليه. سيحدثها عن كآبته التي تغله الي شوارع لولبية لانهاية لها. سيحدثها عن الله والناس والخبز والليل الوحشي الغريب. وتمر امامه بائعة اوراق يانصيب جميلة وفي العاشرة فيقول لها لن اشتري. لكن سأعطيك خمس ليرات إذا ذهبت معي الي البيت. حدجته الفتاة بنظرة فيها اسف وازدراء وحزن, ثم ابتعدت. فقال البطل يالي من حقير. واخذ يشعر بالغربة البلهاء. وتذكر قول ابيه انت ولد لاتنفع, وقول امه: حياتي ضائعة بين ارجلكم وشماتة الاهل الذين يبشرونه بمستقبل اسود. ويمر سرب من الفتيات تمنحه احداهن ابتسامة فيقول: سأكون انسانا طيبا لو كانت مدينتي مثلك.
في هذه المجموعة الفذة يجتمع الواقع والفنتازيا في مزاج متماسك ـ تختلط الاماني بالاحلام, ويقوم الشئ ونقيضه في صدر البطل. يود الهرب الي المدينة التي شنقت الجوع والكآبة والضجر, ولكنه مربوط الي ارصفة المدينة التي ولد عليها. يقول لمحاوره البحار المزعوم: انني أعشق مدينتي بجنون, يضيف انه يحلم احيانا بزوجة واطفال ومنزل هو اذن ثابت في ارض المدينة, واذ لم يكف عن الحلم بالانطلاق( الجواد الابيض ـ الرحيل الي المدينة) هو راغب في ان تتغير مدينته شريطة ان يجد فيها من يعطف عليه عطفا حقيقيا. وحين تمنحه فتاة كانت تمشي مع سرب من الفتيات ابتسامة عذبة يقول ان مدينته لو اظهرت العطف علي ابنائها المشردين الفاقدي الحب والمسكن وسكينة النفس فسوف يصبح هو انسانا طيبا. هذه مجموعة بالغة الطرافة. شديدة العطف علي الانسان المحاصر تلتفت التفاته خاصة لضحايا المجتمع مثل بائعات الهوي. ليس في قصصها ذلك الغضب الجارح الذي تبديه قصص اخري, تضيف الي الغضب الهجاء الوحشي الذي عرفته اعمال زكريا تامر فيما بعد.
د. علي الراعي
*الأهرام ـ في 4/10/1998م.
ابتلع الطعام بسرعة عجيبة. أتعب اشترك بحماسة في مناقشات عقيمة. اقامر بمبالغ ضئيلة. اضحك ببلاهة. أغازل فتيات: أروي بحزن حكاية حبي ذات الختام الحزين. أسمع سيمفونيات سيبيليوس. أقرأ كتابا. أتسكع في طرقات لولبية. أتجرع بنهم خمورا رديئة, الليل بدونها كآبه فاجعة.
يدخل البطل احدي الخانات. يري رجلا بائس المظهر, يجلس الي طاولة قريبة. يدير معه حوارا متخيلا. الرجل البائس يزعم أنه بائع أقمشة في النهار وبحار مغامر في الليل. يدعو الرجل البائس البطل الي أن يرحل معه. الي أن يركب البحر ليري عالما جديدا مدهشا. سيقف علي ظهر السفينة مرفوع الرأس. سيضحك بسرور وحشي فكل الاحزان قد خلفها وراءه. سيقابل اناسا غرباء. وسيصغي الي موسيقي مدهشة تخلقه من جديد.
وستعود له طفولته المسلوبة. وربما رقص مع فتاة عيناها كبيرتان, تطل في أغوارهما شهوة مجنونة. آه ما أروع الاشياء الجديدة المجهولة! ولكن البطل يرفض هذا الاغراء الجميل. يقول: انني أعشق مدينتي بجنون. رد محاوره المزعوم: البلهاء وحدهم يفضلون الهدوء. ويرد البطل. أحيانا أحلم بزوجة وأطفال ومنزل. وأتمني لو يتحقق هذا الحلم. يعلق محاوره: أنت مجنون. ستتحول ببطء الي دوده ضجرة لاتقدر علي الهرب من قفصها الفولاذي. يترك البطل الحانه ويسمع صفيرا مرحا من فم شاب يسير أمامه بخطي ثابتة مفعمة بحيوبة مدهشة. يقدر ان الشاب سعيد.
ويعود بذاكرته الي سنوات مضت كانت له فيها فتاة هي مدينة أفراح ولذة. شفتاها الارجوانيتان تفتحان لصحرائه الجائعة أبواب كنوز كانت نائمة في دمه. أما الآن فهو وحيد مثل كلب الاسواق الاجرب ويعيش أيضا مثل كلب الاسواق الاجرب. تعود الي ذاكرته رائحة لحم العامل المحترق الذي تساقط عليه الحديد المصهور. ويقول هذه الرائحة هي رائحة العالم!
ويروح يسأل نفسه: ماذا يفعل لو كان يملك مدنا من ذهب؟ ويرد علي نفسه. أظن انني سأحدق الي لمعة حذائي الجديد وأقول بضجر:
أوه. كل الاشياء تافهة وغبية! ويواصل: سأموت. خطوة واحدة الي الامام, أهرب بعدها من تعب المعمل والصياح والوجوه القاسية التي تسرق حتي الغبطة الوديعة المختبئة في عيني. ويأخذ يبتلع الحبوب الملساء وهو يبتسم ابتسامة متشفية. الحبوب وحدها هي التي ستنقذه من تعاسته. تمدد علي الفراش دون أن يخلع ملابسه.
العالم ينأي عنه بصراخه القبيح. تتمزق النقطة السوداء المختبئة في داخله. تمزق اقنعتها وتظل تنمو حتي تتحول الي عنكبوت لايقاومه البطل بل يسقط بسهولة بين اذرعته اللزجة التي تلف حوله وتمنعه من الحركة.
يفتح الباب قليلا ويطل منه الجواد الابيض. صهيلة يدعوه الي الانطلاق.
ولكنه لايستطيع تلبية النداء. هو الآن جثة طافية علي وجه مياه نهر بطيء. كم يشتهي ان يمتطي صهوة جواده الأبيض ويترك له العنان ليعدو به بعيدا عبر براري لا أفق لها. يغضب الجواد حتي لا يستجيب البطل, ويرحل ويسمع حوافره تطرق الأرض بايقاع غاضب بصحبة صهيل حزين ما يلبث ان يتلاشي. قال البطل: سأنتظر. انه سيعود مرة أخري. سيمل التشرد وتمضه الوحدة فيعود. وسمع البطل صوت امرأه تهتف: لاتحزن لحمي الساخن سينسيك العالم كله. سألها من تكون: فضحكت وقالت: انا صديقة طفولتك. كان يسعدك ان تلتصق بي بشدة وتقبلني بخجل. قال البطل: لاتخدعيني. انت عاهرة عجوز فحدقت المرأة فيه وهي مذهولة. ثم اخذت تبكي بحرقة. فقال لها باضطراب: اغفري لي. أنا أحبك. قالت ألا تشعر وأنت تردد هذه العبارة بأن انسانا رائعا سيولد في نفسك؟. قال: لا شيء داخلي سوي بعض العناكب والقبور المهجورة. قالت المرأة بضراوة:
أنا أمقت القبور وامقتك وأمقت العالم كله.
اغمض البطل عينيه وهو يحس بتعب غريب. وفي لحظات تضاءل العالم وتحول الي حجر ضخم هوي في فراغ لا أرض له. ووجد نفسه وجها لوجه مع رجل قبيح أقبل نحوه وهو يلوح بسيف متألق النصل. قال له الرجل سأقتلك. هذا السيف قديم وله ضحية في كل ليلة. أجاب البطل انه كمدينتي. قال الرجل القبيح: سيقتل ويقتل حتي تنقرض الضحايا ولا يبقي سواي وعندئذ سأكون الضحية لكي يظل السيف محتفظا بفتوته وتألقه. سأقتلك. ستتمتع بطعم لذة جديدة بينما ينزلق النصل الصلب في لحمك اللين. يشعر البطل بخوف بلا قناع.
يعود طفلا يعدو في الازقة الضيقة. يضحك بعذوبة ويحتضن كل الاشياء يقول: آه. ليتني لم أكبر. هزمت قبل ولادتي. ورثت سيف جلاد. أحرقت أكواخ أمسي. بعت غدي. تموت حديقة الياسمين في قلبي. سأهرم. آه يانجمي المنطفيء علي رخام فخدي امرأة. آه حتي يهرم الموت. الأنهار القرمزية تنتحب بصمت في حقولي الجرداء. بلبل جريح ليغرد علي غصن شجرة ليمون. خيول متعبة نائمة علي اسفلت لامع. الفجر يبدو كمشنقة. النساء يأكلن التفاح بأناة ويتمطين علي وسائد من حرير. رجال من اعقاب سجائر. شفتاك يا حبيبتي المسكينة حانة شاحبة الضوء يأوي اليها العائدون من المواني. اله مدينتي خبز. حبيبتي جميلة كالخبز. ذليلة كبكاء رجل. اطفيء شموع النوافذ. الباب موصد. لا تنتظري عودتي يا أمي. لن استطيع الفرار. الباب موصد. يا خفاش المدينة, يا أخي, لحمي لحريق مديتك: ربما استطعت أن أحلم بالفرار.
سمع صهيل الجواد الابيض. رجع بسرعة لم يتوقعها. سيكون الحصان صديقه الابدي. وهتف بحرارة رجل كهل مجعد البشرة كقشرة شجرة ليمون هرمة. قال: البشر طيبون. البشر طيبون. البشر طيبون.
ود البطل لو يضحك كمجنون. غير ان البراري الخضراء كانت تناديه بشوق تنادي الرجل المتعب وجواده. وفي مكان في العالم سطع قمر, نوره ازرق بارد. فكانت الابواق النحاسية ترسل صراخا وحشيا يحاول ان يتسلق اعلي قمة. لكن الصمت يهزمه ولايبقي سوي كمان صغير ناعم يتأوه وحده مرتجفا بينما كان الرجل المتعب يبتعد خلسة عن المدينة ممتطيا جواده الابيض.
يتحرك عبر هذه المجموعة بطل واحد هو اشبه بالمهرج, وان كان خلافا للمهرج ـ لايضحك ابدا, من خصائص المهرج جوع لاينتهي للنساء والطعام. ومن خصائصه ايضا التشرد المستمر. والعزوف عن العمل ما امكن. وحنينه الدائم الي الترحال في المكان وفي الزمان. في قصة التثاؤب يتمني البطل لو يقطع صلته الوطيدة بالمدينة ويصل الي مدينة من نوع جديد وغريب. مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر. مدينة لاتاريخ لها وأيامها تمر بلا اسماء والسماء والقمر والربيع والليل والخريف والشتاء والنهار والصيف. كل هذه العناصر طليقة حرة غير مرتبطة بزمان معين او بلون ثابت. وناس هذه المدينة يشتغلون جميعا في اليوم الواحد بضع ساعات فقط ويقضون بقية اوقاتهم في الاسترخاء والانتشاء بمسرات غامضة. عندما يصل البطل الي المدينة سيقول له المشرفون عليها: لابد ان تنجح في الاجابة عن اسئلتنا. ما اسمك؟ فيرد أنا بلا اسم. متي ولدت؟ لم اولد بعد هل تحب العمل؟ لا. احب كل الاشياء الا العمل. ما هو الشئ الذي يرفع المخلوق البشري الي مرتبة انسان؟ الكسل. ماهي احسن الفضائل؟ الكسل. ما هواياتك؟ التثاؤب. وهنا سوف يصافحه المسئولون ويقولون ادخل مدينتنا فأنت مواطن مثالي. اعمل ليومك فقط. وعش كما تشتهي. استسلم لنزواتك, افعل كل الحماقات بحماسة. ويكون في هذه المدينة امرأة فائقة الجمال تقول له: يجب ان تحارب.
فيسألها من سأحارب؟ تقول: يجب ان تعمل: فيقول أي عمل؟ تقول يجب ان تمتطي جوادا. يقول: انا لا املك سيفا. تقول يجب ان تكون بلبلا. يرد: صوتي خشن مبحوح. تقول كن نسرا, يرد ولدت بلا اجنحة. تقول كن كلمة مرتجفة في اغنية حب. يقول أنا غضب سجين. تقول: ستموت يوم يسقط الثلج. وعندئذ سيقول بكآبة سأموت يوم يسقط الثلج. وسأحب هذه المرأة حتي موتي. وفي ساعات وحدتي سأبحث عن كلمات جديدة غريبة ذات ايقاع فظ, وسأغنيها لنفسي بصوت ثمل. آه ما أجمل الحياة في تلك المدينة.
سأرحل في يوم لابد من مقدمة. سأترك خلفي مدينتي المكتظة بالجيف المتحركة وسأنقذ نفسي من اسي مرير يتعقبني باستمرار يقطع ابوه حلمه هذا بفظاظة حين يأتي ليطالبه بنقود.
ولكن ثيابه خالية. فتشها الاب فلم يجد شيئا ـ هنالك يلجأ البطل الي حيلة المهرج الدائمة التي تنقذه من الورطة. يكذب علي ابيه الطيب القلب ويقول اعطيت كل نقودي لصديق متعطل منذ مدة طويلة وهو مسئول عن عائلة كبيرة. وقد قبل هذه المنحة بعد الحاح وتوسل من البطل ويصدقه ابوه, فيتنهد بارتياح, يغمض عينيه ويعود بحلم بالرحيل الي مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر.
وكان المهرج البطل قد بات ليلته في حضن احدي بائعات الهوي. ونظر اليها فوجد حياتها غاصة بالمتاعب. قال لنفسه: هذه المرأة طيبة, وتستحق بيتا وزوجا صالحا. ودفعته شفقة جارفة الي أن يدس في يدها عشرين ليرة, وحين ودعته الي الباب قال لنفسه: لست نادما علي عملي هذا لكن كيف سأواجه أبي هذا الصباح؟ ويجعله توقع غضب ابيه يشعر بالتعاسة لانه يعيش في مدينة بخيلة, حياته فيها مجرد بكاء طويل. وقد ولد فيها في يوم ما علي ارصفتها وسيظل حتي الموت مغلولا اليها. كل مناه الآن ان تكون له علاقة صداقة مع فتاة تستمع اليه. سيحدثها عن كآبته التي تغله الي شوارع لولبية لانهاية لها. سيحدثها عن الله والناس والخبز والليل الوحشي الغريب. وتمر امامه بائعة اوراق يانصيب جميلة وفي العاشرة فيقول لها لن اشتري. لكن سأعطيك خمس ليرات إذا ذهبت معي الي البيت. حدجته الفتاة بنظرة فيها اسف وازدراء وحزن, ثم ابتعدت. فقال البطل يالي من حقير. واخذ يشعر بالغربة البلهاء. وتذكر قول ابيه انت ولد لاتنفع, وقول امه: حياتي ضائعة بين ارجلكم وشماتة الاهل الذين يبشرونه بمستقبل اسود. ويمر سرب من الفتيات تمنحه احداهن ابتسامة فيقول: سأكون انسانا طيبا لو كانت مدينتي مثلك.
في هذه المجموعة الفذة يجتمع الواقع والفنتازيا في مزاج متماسك ـ تختلط الاماني بالاحلام, ويقوم الشئ ونقيضه في صدر البطل. يود الهرب الي المدينة التي شنقت الجوع والكآبة والضجر, ولكنه مربوط الي ارصفة المدينة التي ولد عليها. يقول لمحاوره البحار المزعوم: انني أعشق مدينتي بجنون, يضيف انه يحلم احيانا بزوجة واطفال ومنزل هو اذن ثابت في ارض المدينة, واذ لم يكف عن الحلم بالانطلاق( الجواد الابيض ـ الرحيل الي المدينة) هو راغب في ان تتغير مدينته شريطة ان يجد فيها من يعطف عليه عطفا حقيقيا. وحين تمنحه فتاة كانت تمشي مع سرب من الفتيات ابتسامة عذبة يقول ان مدينته لو اظهرت العطف علي ابنائها المشردين الفاقدي الحب والمسكن وسكينة النفس فسوف يصبح هو انسانا طيبا. هذه مجموعة بالغة الطرافة. شديدة العطف علي الانسان المحاصر تلتفت التفاته خاصة لضحايا المجتمع مثل بائعات الهوي. ليس في قصصها ذلك الغضب الجارح الذي تبديه قصص اخري, تضيف الي الغضب الهجاء الوحشي الذي عرفته اعمال زكريا تامر فيما بعد.
د. علي الراعي
*الأهرام ـ في 4/10/1998م.