عبد النبي اصطيف - الأدب الشعبي

الأدب الشعبي folk literature، أو التراث الشعبي، فرع مهم من فروع المعرفة الإنسانية ولد في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ليعنى بمظاهر الحضارة لشعب من الشعوب. وبسبب تعدد المعايير التي يُنطلق منها في النظر إلى طبيعته ووظيفته ومجالاته، فإن تعريفاته التي يقع عليها المرء يلفها نوع من الغموض والاضطراب. وإلى جانب المعايير الثقافية cultural criteria التي تؤكد أن الفولكلور هو التراث الشفوي oral tradition ليس غير؛ ثمة معايير اجتماعية sociological criteria تُدخل ضمن هذا الحقل المعرفي كل ما ينتمي إلى حياة الطبقات الريفية وثقافتها؛ ومعايير نفسية - اجتماعية psycho - sociological criteria تنطلق في تعريف مصطلح «شعبي» من معطيات نفسية - اجتماعية، فالحياة الشعبية والثقافة الشعبية، تبعاً لهذه المعايير، توجد دائماً حيث يخضع الإنسان، بوصفه حاملاً للثقافة، في تفكيره أو شعوره أو تصرفاته لسلطة المجتمع والتراث؛ والمعايير الإثنولوجية ethnological criteria التي ترى أن الفولكلور هو المعرفة التي تنتقل اجتماعياً من الأب إلى الابن، ومن الجار إلى جاره، وتستبعد المعرفة المكتسبة عقلياً، سواء أكانت محصَّلَة بالمجهود الفردي، أم بالمعرفة المنظمة والموثقة والتي تكتسب داخل المؤسسات الرسمية كالمدارس، والمعاهد، والجامعات، والأكاديميات وما إليها.

وميادين دراسة الفولكلور عديدة أهمها العادات والمعتقدات والمعارف والفنون الشعبية فضلاً عن الثقافة المادية والأدب الشعبي الذي يقع في مكان القلب من هذه الدراسة. فالأدب الشعبي ليس واحداً من أبرز موضوعات الفولكلور، وأكثرها عراقة وحسب، وليس الأكثر حظاً في استقطابه للبحوث والدراسات من غيره من الميادين فقط، بل إن علم الفولكلور كان في مرحلة من مراحل تطوره يقوم أولاً وأخيراً على دراسة الأدب الشعبي كذلك، وكثيراً ما يستخدم مصطلح «فولكلور» للإشارة إليه، ويستعمل مرادفاً له. ذلك أن كلمة «lore» تعني المعرفة والمعتقدات التقليدية، والأدب الشعبي بهذا المعنى هو المعرفة والمعتقدات التقليدية للحضارات التي ليس لها لغة مدونة، والتي تتناقل من جيل إلى جيل بالطريقة الشفوية. وهذه المعرفة، مثلها مثل الأدب المدون، تتألف من أنواع السرد النثري والشعري، والقصائد، والأغاني، والأساطير، والمسرحيات، والطقوس، والألغاز وغيرها. وقد عرفتها الشعوب كلها تقريباً، وهذا أمر طبيعي إذا ما تذكر المرء أن الآداب جميعها كانت شفوية حتى الألف الرابع قبل الميلاد تقريباً، عندما طُوّرت الكتابة في حضارتي مصر وسومر واستخدمت لتسجيل الآداب والمسائل العملية المتصلة بالقانون والتجارة وغيرهما. ومع ذلك فقد وجد إلى جانب هذا السجل المدوّن، نشاط واسع ومهم، قام به أناس غير متعلمين، أو لم يألفوا كثيراً القراءة والكتابة، كانت حصيلته مادة غنية واسعة تُنوقلت شفاهاً، واستجابت لحاجات إنسانية مختلفة تباينت بتباين العصور والشعوب، هي ما يسمى اليوم بالأدب الشعبي.

أصول الأدب الشعبي وتطوره

قد يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الحديث حديثاً متماسكاً عن أصول الأدب الشعبي، أو تطوره، لأن كل مجموعة بشرية، سواء أكانت كبيرة أو صغيرة، تناولت أدبها الشعبي بطريقتها الخاصة. والأدب الشعبي عامة يمثل تاريخاً من التغير الدائم لأنه يقوم على الرواية الشفوية، وبالتالي فإن درجة براعة الراوية، فضلاً عن المؤثرات المادية والاجتماعية، تمارس دوراً مهماً في تطور هذا التقليد الشفوي. وهناك بعد ذلك المتلقي لهذا التقليد الشفوي الذي تكون له عادة اهتماماته وحاجاته وظروفه التي تحفز بوجه أو بآخر عملية إنتاج الأدب الشعبي في أي مجتمع من المجتمعات.

وإضافة إلى تأثير الراوية والمتلقي والظروف الاجتماعية والمادية في الأدب الشعبي، هناك التفاعل المستمر بين الأدبين الشفوي والمدون. فمؤلفو الأدب المدون غالباً ما كانوا يستعيرون منذ العصور الكلاسيكية حكايات وموتيفات motifs وموضوعات themes وتقنيات من الأدب الشعبي الذي تنامى تأثيره في الأدب المدون بدءاً من عصر النهضة، وبلغ الذروة في الحقبة الرومنسية. ولكن الأدب المدوّن للطبقة العليا أثر بدوره في الأدب الشفوي، بل إن بعضه قد دُمج في التراث الشعبي كما هو الشأن في الرواية الفروسية وقصائد التروبادور الغنائية. وفضلاً عما تقدم فإن البلادات Ballads الشعبية، وقصص الحوريات، والأساطير، ذات أصل متأخر ومستمدة في الغالب من أدب الطبقة العليا، على الرغم من أن رأياً كهذا ربما لا يروق الرومنسيين المؤمنين بعراقة الأدب الشعبي على حد تعبير رينيه ويليك.

ومع أن أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، فضلاً عن الكتاب، قد حلّت محل الأدب الشعبي في تلبيتها كثيراً من الحاجات الاجتماعية والثقافية والنفسية والتربوية التي كان يلبيها، فإن من المؤكد أن السينما والتلفزيون في العصر الحديث قد أسهما في تقديم الأدب الشعبي لمختلف طبقات المجتمع وفي نشره بينها. ولكن ليس بوسع المرء أن يُغفل في هذا السياق ما يمكن أن يكون قد خضع له الأدب الشعبي من الأعراف والقوانين والمقاييس والمعايير السائدة في الأدب المدون. ومع ذلك فما زال للأدب الشعبي مكانته لدى المسنين في مختلف المجتمعات، ولدى المهاجرين، وأفراد الأقليات التي تستخدمه للحفاظ على هويتها الثقافية المميزة، ينقله الأجداد والآباء للأبناء الذين يقومون بنقله وحفظه كما يفعل القصاصون تماماً. وسيبقى الأدب الشعبي، فيما يبدو، وسيلة التعبير الأدبية الأكثر أُلفةً وقرباً من النفس لغير المتعلمين في مختلف الأماكن والعصور.

خصائص الأدب الشعبي

ربما كان من أهم خصائص الأدب الشعبي أنه أدب شفوي، فهو معني بالحديث والغناء والسماع، ويعتمد على ثقافة حية تعنى به وتقوم بحمله ونقله من جيل إلى جيل، وعندما يضيع من الذاكرة يفقد تماماً، على نقيض الأدب المدون الذي يسهل حفظه ونقله وتذوق كل جوانبه فيما بعد على اختلاف العصور والأمكنة.

والمتحدث أو المغني أو الراوي شخص يحمل تراثاً تعلّمه من آخرين، وينقله إلى جمهور حي ربما سمعه من غيره أكثر من مرة، ولذلك فإنه مقيد بهذا الجمهور، وملتزم توقعاته إلى حد بعيد، وهو لذلك يكرر مادته ما دامت تروق الجمهور على الرغم من اختلاف الزمان والمكان. ومع أن أي شخص يمكن أن يقوم بهذا الدور، فإن بعض المجتمعات تسنده إلى فئة خاصة منها تنقله بمهارة عالية وتُجزى على نقلها هذا بصور شتى. لربما يفخر بعض أفراد هذه الفئة من النَقَلة أو رواة الأدب الشعبي بدقتهم الشديدة في النقل، ولربما يملك بعضهم ذاكرة قوية حقاً، كما أن هناك من يتعامل مع مادته تعامل المحترف، ولكن تقليد الأدب الشعبي يبقى تقليداً يعتمد على الذاكرة، وهذه نقطة ضعف بيّنة فيه بسبب النسيان أو الإضافات أو الاستبدالات المقصودة وغير المقصودة التي يتعرض لها، مما يجعل مادته دائماً في طور التشكل الذي لا يكاد ينتهي، فهي لا تستقر على شكل محدد، ولاسيما أن الرواة أنفسهم ربما يفكرون في إدخال ما يعتقدون أنه تحسينات على المادة المنقولة. وما دامت هذه التحسينات تظفر باستحسان المتلقي فليس ثمة ما يمنع من قبولها وانتشارها ومن ثمَّ نقلها إلى الأجيال الأخرى في أشكالها المعدَّلة. ولكن المرء من ناحية أخرى ينبغي أن يشير إلى أن بعض المغنين، أو الشعراء الجوالين، قد يطورون تقنيات خاصة في أدائهم لمادتهم الملحمية أو حكاياتهم البطولية، وربما يصاحبها عزف خاص على آلات معينة، مما يساعد على خلق أشكال فنية تُقَدِّم حوافز فعالةً على حفظها ونقلها من جيل إلى آخر بأمانة ودقة تسموان نحو الكمال باستمرار. وثمة كذلك تقاليد شفوية تؤدى على نحو شعائري بدقة فائقة يحرص عليها الراوي أو الناقل والمتلقي لاعتقادهما بأن تأثيرها منوط بهذه الدقة، وإيمانهما بها إيماناً غيبياً.

ولكن شفوية الأدب الشعبي التي تميزه من الأدب المدون لا تعني انقطاعه التام عن غيره من النشاطات الإنسانية الأخرى بما فيها الأدب المدون نفسه الذي يشترك معه في كثير من الأجناس والتقنيات والأشكال الإنشائية فضلاً عن الموضوعات. ومع ذلك فإن صلته الأقوى هي صلته بالتراث الشعبي، فهو جزء لا يتجزأ من هذا التراث الذي يشمل فيما يشمله العادات والمعتقدات ومظاهر السلوك الشعائري، وأنواع الرقص والموسيقى الشعبية[ر]، ومظاهر أخرى من الثقافة الشفوية. وهذه جميعاً تدرس ضمن حقل معرفي محدد بات يشار إليه اليوم بالإثنولوجية ethnology (علم دراسة الإنسان بوصفه كائناً ثقافياً، أو الدراسة المقارنة للثقافة، أو ذلك القسم من الأنثربولوجية المختص بتحليل المادة الثقافية وتفسيرها تفسيراً منهجياً) ولكنها تظل من شأن دارس التراث الشعبي أو المتخصص بالفولكلور folklorist.

وفضلاً عن صلة الأدب الشعبي بالتراث الشعبي هناك علاقته بالأساطير، وهو أمر تؤكده دلائل وفيرة في مختلف الثقافات القديمة كاليونانية والهندية، وثقافة وادي الرافدين ووادي النيل، والثقافة الهندية - الأمريكية، والإيرلندية. وأكثر من هذا فإن الأساطير غالباً ما ينظر إليها على أنها جزء من الأدب الشعبي. ولاشك أن نَقَلَة هذا الأدب يمارسون تأثيراً مهماً في التحولات التي تطرأ عليها من خلال عملية النقل والرواية ذاتها.

تقنيات الأدب الشعبي

الأدب الشعبي أدب شفوي يعتمد بقاؤه على استمراره حياً في أذهان الناس، وهو لذلك معنيّ دائماً بمساعدة الذاكرة الإنسانية على حفظه بتقنيات مختلفة من أهمها ما يلي:

التكرار: وهو لا يقتصر على الأغنية الشعبية، بل يشمل الخرافة والحكاية اللتين كثيراً ما يتكرر المشهد فيهما من دون تغيير، أو ربما مع تغيير طفيف. فعلى سبيل المثال كثيراً ما توصف مواجهات البطل المتتابعة لأعدائه وخصومه على نحو متشابه يتنامى إلى ذروة تُحل في تغلب البطل عليهم وانتصار ما يمثله عند شعبه من قيم ومثل ومبادئ. وغالباً ما تساعد هذه المقاطع منشد الخرافة أو الراوي أو المغني على التوسع في عرضه وفق ما يرغب.

استخدام الصيغ التعبيرية الجاهزة: من أمثال «كان يا ما كان» أو «عاشوا في سبات ونبات وخلفوا الصبيان والبنات» وغيرهما، لأنها تشكل مرتكزات للتواصل ما بين الراوي والمتلقي.

الارتجال مع الاحتفاظ بالبنى العامة للمادة المنقولة: إذ يجتمع، على سبيل المثال، نمط سردي أساسي وحرية للمادة المسرودة ضمن حدود التقاليد المرعية. وربما كان هذا وراء التشابه في البنية العامة لكثير من الحكايات الشعبية في عدد كبير من التقاليد الشفوية.

استخدام التفاصيل الواقعية المستمدة من البيئة الخاصة بالراوي أو المتلقي: مما يساعد خيال هذا الأخير على استيعاب عالم الخرافة أو الحكاية الشعبية، ويضفي على هذا العالم مصداقية مرغوباً فيها. وربما يسهم في تعليق الحدث أو السمو به على الرغم من كونه عادياً. ولكن ذلك لا يلغي بالطبع حقيقة أن جلّ الأدب الشعبي تخييل fiction وأن معظم ما يضمه من حوادث غير واقعي.

الحفز: والحفز motivation هو ربط الحوادث المسرودة بعُقد محكمة البناء تسوغ تتابعها على نحو معين، وهو شرط مهم لشعور التوحد مع شخصيات الحكاية الشعبية أو الخرافة الذي يراد له أن يغرس في نفس المتلقي، إلا أنه أحياناً يُتَجاوز من دون كبير تأثير في بعض الأشكال التعبيرية كالخرافة في بعض التقاليد الشفوية.

تجليات إقليمية وعرقية

الأدب الشعبي أدب لصيق بالمجموعة البشرية التي تتخذه سجلاً شفوياً لها، وهو لذلك متنوع تنوعاً هائلاً في السمات التي تتصل بشكله ومادته لاختلاف اهتمامات الناس بين ثقافة وأخرى. ففي حين تفضل بعض الشعوب الأغاني الشعبية تروق لبعضها الآخر الحكايات الشعبية والخرافات. وهذا الاختلاف مَرَدُّه إلى الاختلاف الجغرافي الذي يترك بصماته واضحة على المجموعة البشرية ولاسيما عندما ترتبط بمكان ما لحقبة طويلة من الزمن. ولاشك أن للظروف الطبيعية المحيطة التي تعيش فيها هذه المجموعة (سواء أكانت جزيرة، أم غابة، أم سهلاً، أم جبلاً، أم صحراء، أم أرضاً خصبة)، وللمفاهيم الدينية، ولرؤية العالم الخاصة بها، ولاستقرارها وانتقالها، تأثيرات مهمة تتجلى بوجه خاص في أدبها الشعبي مشيرة إلى أبعاد إقليمية وعرقية في حياتها، وتكون سبباً في تنوّع غني خلاّق ومثير في شكل هذا الأدب ومضمونه وتقنياته وموضوعاته.

أشكال الأدب الشعبي الرئيسية

الأغنية الشعبية folk song: وهي شكل تعبيري شائع في معظم الثقافات، يستخدم الكلمة والموسيقى في آن معاً، على الرغم من أن أهمية الكلمة قد تكون محدودة في بعض المناطق، وعندها تستخدم لدعم الموسيقى فقط. ولربما كانت في بعض الأحيان مجرد مقاطع أحادية لا معنى لها ترافق الصوت أو الآلة الموسيقية، وتعاد مراراً.

ويستخدم الطبل غالباً، أو التصفيق، أو الضرب بالقدم، أو القيثارة، لتوفير الإيقاع اللازم لها، في حين يستخدم الناي أو آلات النفخ الأخرى لتوفير اللحن.

وتوظف الأغنية الشعبية عادة للإثارة في الحرب، أو الحب، أو الشعائر الدينية أو المواسم الدنيوية، لأنها تعبر عن العواطف المشتركة للجماعة، أو تعمل على تخفيف عبء العمل الجماعي. وقد تستخدم لأغراض تتصل بالسحر، أو ذات طابع سحري، أو طلب العون من قوى فوق طبيعية، كذلك فإنها تستخدم للمتعة غناءً أو سماعاً ولكنها مع ذلك تبقى للتعبير عن عواطف وأفكار مشتركة.

وثمة نوع خاص منها سردي يقتصر وجوده على بعض الثقافات في أوربة الغربية وآسيا، وهو يشمل أغنيات الحرب والمغامرة والحياة اليومية.

البلادا ballad: وهو شكل تعبيري نشأ في أوربة في العصور الوسطى واستمر حتى العصر الراهن، ويكاد يكون مقصوراً على الأوربيين الذين حملوه حيثما رحلوا. ولهذا التقليد الخاص بالحكايات التي تروى غناءً أشكال عروضية، وأنماط موسيقية خاصة. أما موضوعاته فتدور حول الصراعات الحربية، والكوارث، والجريمة والعقاب، والأبطال والخارجين عن القانون، والفكاهة أحياناً.

المسرحية الشعبية folk drama: وهي شكل تعبيري يتصل بالأدب الشعبي من بعيد. ذلك أن المسرحية الشعبية غالباً ما تقوم على رقصات، بعضها بدائي بسيط، وبعضها الآخر متطور جداً، وتُرتدى فيها الأقنعة التي تمثل حيوانات معينة، أو شخصيات بشرية، وتتضمن أحاديث أو أغنيات. وعلى الرغم من أن العمل والمحاكاة الدرامية من أبرز عناصر المسرحية الشعبية، فإنها قد تشتمل على قراءات أو غناء لنصوص مقدسة، وربما تكون جزءاً من شعائر دينية أو تقاليد دنيوية.

الحكاية الرمزية fable: وهي شكل تعبيري ذو أصل أدبي وله تأثير واسع في الأدب الشعبي. وتتخذ الحكاية الرمزية عادة شكل حكاية خيالية ترمي إلى إبراز مغزى خلقي في الغالب. يوضع على ألسنة الحيوانات التي تتصرف فيها على طبيعتها الحقيقية (حكايات إيسوب Aesop) أو على شاكلة الناس (حكايات كليلة ودمنة). وعلى الرغم من أنها تُتَناقل في بعض الأماكن شفوياً في معظم الأحيان، فإن أصلها الأدبي يجعل من الصعب تمييزها من أشكال الأدب المدون الأخرى.

الحكاية الشعبية folktale: وهي شكل تعبيري شائع شيوعاً واسعاً في كل الأزمنة والأمكنة، يكون بعضها بسيطاً، وبعضها الآخر معقداً جداً، إلا أن ثمة نسقاً واحداً مشتركاً فيما بينها يتمثل في وجود الراوي والجمهور دائماً.

وعلى خلاف الخرافة legend، تمنح الحكاية الشعبية راويها حرية مطلقة تقريباً فيما يتصل بمصداقيتها مادام يتحرك ضمن حدود المحرمات الخاصة بجمهوره ويمتعه في آن معاً. وتنتقل عادة بيسر وسهولة من راو إِلى آخر، لأنها لا تتميز بشكلها اللفظي بمقدار ما تتميز بنسقها الأساسي ومُتخلِّلاتها السردية، ولذلك فإنها تتخطى في كثير من الأحيان الحدود اللغوية والثقافية ولاسيما عندما تسهل الحركة ويتيسر التنقل أمام رواتها وجمهورهم كما في العصر الراهن.

وربما كان من أهم ما يميز موضوعات الحكاية الشعبية، التي لا تختلف كثيراً عن الأساطير myths في المجتمعات التي لا تعرف القراءة والكتابة، أنها تفترض خلفية معينة من المعتقدات والأفكار المتصلة بالأصول القبلية وصلات الناس بالآلهة. وتوضع غالباً على ألسنة الحيوانات وتدور عادة حول المغامرات والعجائب والرحلات إلى العالم الآخر، وعلاقات الزواج والصلات الجنسية بالحيوانات أحياناً.

والحكاية الشعبية مجهولة المؤلف الذي نُسي منذ زمن بعيد، ولها روايات كثيرة كلها صالحة ومقبولة لدى الجمهور، أي إنها في حالة تغير مستمر. ومع ذلك فإن لها بنية أساسية للعقدة يمكن تمييزها بسهولة، ويمكن دراستها وتتبع رواياتها المختلفة، ورحلاتها في الزمان والمكان.

الخرافة: وهي شكل تعبيري يختلف عن سابقه التخييلي البحت بأنه قابل التصديق ومقبول اعتقاداً من دون كبير تفكير فيه. وهو يتناول عادة مخلوقات شبه إلهية تظهر على شكل حيوانات أو طيور، مثلما تتخذ مظهر البشر. وعلى الرغم من كونها عجيبة في مظهرها وسلوكها إلا أن ثمة اعتقاداً واسعاً بوجودها، ولربما وجدت بعض الروايات التي تتحدث عن الالتقاء بها، وعما يتعرض له من يلتقيها من مغامرات سعيدة أو عصبية. وغالباً ما تصور هذه المخلوقات شبه الإلهية على أنها تحرس كنوزاً هائلة، يتم استخلاصها بعد التغلب عليها.

وإلى جانب هذه المخلوقات، هناك مخلوقات فوق طبيعية كالخيول الطائرة، والحيوانات الناطقة والحوريات والساحرات اللواتي يتخذن مظاهر مختلفة، ويتفاوتن في سلوكهن بين إسداء العون لمن يلتقي بهن، وإلحاق الأذى به، والمخلوقات الأخرى التي يصعب تصنيفها أو تعريفها، مثلما يصعب تصور هيئاتها.

وتدور بعض الخرافات حول الأشباح والمبعوثين من قبورهم، وذلك استناداً إلى الاعتقاد الشعبي بعودة الأموات الذي ربما تعززه بعض الأفكار الدينية. وقد يكون من المفارقة حقاً أن هذا الاعتقاد ظل حياً أكثر من غيره بين الأوساط الشعبية. كما يدور بعضها الآخر حول الشخصيات التاريخية كالملك آرثر، أو عنترة.

الأمثال، والألغاز، وعبارات السحر: وهي أشكال تعبيرية تتميز بالقصر قياساً إلى الأشكال السابقة، وبعضها مدون منذ عهد بعيد. فأما الأمثال فهي عبارات محكمة تختصر قصة يكون المثل قفلاً تختتم به القصة أحياناً. وتتناول طبيعة الحياة الإنسانية، ومظاهر السلوك الإنساني الإيجابية والسلبية. وتستخدم في المجتمعات القديمة في الغالب مقاييس للحكم على كثير من مواقف الحياة.

وأما الألغاز فهي أوصاف تُقَدّم ويُطلب تحديد ما تشير إليه كما هو الشأن في لغز أبي الهول وسواه. وللأطفال دور مهم في إحيائها. وأما عبارات السحر فهي شائعة في معظم الآداب الشعبية وغالباً ما تستهدف الحصول على تأثيرات سحرية مرغوب فيها، أو التأثير في المستقبل سلباً أو إيجاباً.

دراسة الأدب الشعبي، وجمعه، وحفظه

الأدب الشعبي أدب شفوي، وهو لذلك عرضة لعوامل التغيير المختلفة، البشرية والطبيعية والمادية. ولأنه يُختزن في الذاكرة فهو مهدد بالضياع دوماً. ومادة مثل مادته التي تظل في حالة تغير مستمر لا يمكن أن تدرس من دون أن يحيط بها سجل مدون يكون ملاذ الدارسين في تفحصها وتحليلها ومناقشتها والوصول إلى نتائج متماسكة حول طبيعتها ووظيفتها وتطورها وصلاتها بغيرها من ألوان الإنتاج الثقافي الإنساني.

والواقع أنه على الرغم من قدم الأدب الشعبي، فإنه لم يُبدأ بجمعه وتدوينه إلا منذ ما يقرب من ثلاثة قرون. وقد تطور هذا الجمع شكلاً ومضموناً ليبلغ ذروته في الحقبة الرومنسية التي ظفر فيها كل ما اتسم بصفة الشعبي باهتمام كبير سواء أكان موسيقى أم أدباً أم فناً أم غير ذلك. كما استطاعت التقنيات الحديثة المطورة في العقود الأخيرة من القرن العشرين أن تقدم خدمات جُلى في مجالات جمعه وتدوينه وتسجيله وتصنيفه وتحليله وتطبيق أحدث المناهج المتداخلة interdisciplinary في دراسته، فضلاً عن الدراسة البنيوية structural والسيميائية semiotic له. وكذلك فإن سجلات الأنثربولوجيين والإثنولوجيين قدمت خدمات جليلة في هذا المجال وساعدت كثيراً على فهم الكثير مما يتصل بالأدب الشعبي من أطر ومسائل وقضايا. وكان للدراسات المتصلة بأسفار العهدين القديم والجديد، والملاحم القديمة، دور مهم في تقديم المشابهات والظروف والأطر العامة - الاجتماعية والثقافية والدينية وسواها - لدراسة هذا الأدب الذي كان حتى عهد قريب، خير مؤنس في رحلات البحر الطويلة، وفي معسكرات الجنود، وفي العمل الجماعي، وفي ليالي الشتاء الطويلة، وأثناء المسيرات الجماعية. وهو اليوم معين لا ينضب لأدب الأطفال والناشئين، ومصدر إلهام للكتاب والفنانين الذين تضيق أرواحهم ونفوسهم بمادية الحضارة المعاصرة وتقنياتها الدقيقة، وواحةٌ يفيء إليها الإنسان المعاصر يتلمس فيها خطى أجداده التي قادته إلى حيث هو اليوم، ومنحته هويته التي يهددها عالم اليوم الذي غدا قرية كونية.

عبد النبي اصطيف

الموضوعات ذات الصلة

ـ الأسطورة وعلم الأساطير - الفن الشعبي - الموسيقى الشعبية.

مراجع للاستزادة


ـ نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، ط2 مزيدة ومنقحة (دار نهضة مصر، القاهرة 1974).

ـ محمد الجوهري، علم الفولكلور، الجزء الثاني - دراسة المعتقدات الشعبية (دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية 1988).

ـ نبيل جورج سلامة، التراث الشفوي في الشرق الأدنى ومنهجية حمايته (وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1986).

ـ أحمد رشدي صالح، فنون الأدب الشعبي، جزآن (دار الفكر، القاهرة 1956).



منقول
 
التعديل الأخير:
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...