نقوس المهدي
كاتب
شابٌّ فلسطيني يترجم أدبًًا جديدًًا سيحسم هذا القول أمر صاحبنا:إلي درجة أنني مزقت مخطوط رواية كنت قد بدأت بكتابتها وقلت لنفسي أن تكون مترجمًا مهمًّا أفضل من أن تكون روائياً سيئاً وكان عليه أن ينقل مدن العمران النائية إلي بلاد صارت نائية جدًّا.
ستأتي كمنحة إلهية من السماء إلي محمود درويش المحررً وقتها -في مجلة شؤون فلسطينية نسخةٌمن ترجمته لأشعار رافائيل ألبيرتي، وسيسارع بإعلانه نية المجلة بنشرها، وحين ستنفرد به الترجمات سيسمعه الحاضرون وسط دهشتهم بحالة انتشائه: هذا الرجل ثروة وطنية ينبغي تأميمها.
لماذا أكتب عنه، سببان يدفعانني في الحقيقة، أولهما اختياره الحصيف للترجمة ونذره نفسه لها رغم صعوبات لا حصر لها، ومغريات في (وظائف) أخري.. وثانيهما تفصح عنه هذه الحكاية: فاجأني ذات صباح بعرض سخي مفاده إهداء ترجمته لرواية بلد النساء لـجيوكوندا بيللي عن الإسبانية للقارئ العربي، لأنه علم بعد إنهاء ترجمتها - بشراء هيئة الكتاب المصرية لحقوق ترجمتها، وأخطرني بتنازله عن العائد المالي لهذه الترجمة، وبدوري هاتفت الكاتب طارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب،الذي سارع بالتحرك، ما أثمر عن توفر هذا الترجمة بسعر لا يبلغ خُمس ما كانت ستطرح به الرواية لو طبعت في دار نشر خاصة».
من علماني هذا؟ واحد من عموم الفلسطينيين الذين ولدوا فيما الأمم اللقيطة تسرق وطنهم، فيما تفقد الأشياء بكارتها، فيما ينهار الوطن وتُحتل أرضه، فصار كل فلسطيني وطنًا لا يسرق ولا تفض بكارته ولا ينهار ولا يحتل.
في مدرسة قديمة، في أحد أركانها ربما، في ممر بين فصلين دراسيين ربما، لكن المؤكد أنه قد ولد طفل لأم وأب لاجئين مهجرين غريبين، خرجا من فلسطين إلي حمص السورية، تحديدًا في الثاني من فبراير لعام 1949.
هذا الغريب ابن الغريب تتفتح عيناه علي مناظر الأقارب والجيران وهم يلتفون حول رجل تشع عيناه ببريق جذاب، وتخرج شفاهه كلاما فاتنا، وتبدو تغيرات وجهه وحركات يديه مغناطيسيًّا عملاقًا.. ويكبر الطفل، فيأخذ مكانه من الحلقة ليستمع ويشاهد مشدوهًا هذا الحكاء البارع الذي يحيل الكلمات مدنا مسحورة، وغيلانًا وسعالي تسقط أمام الطيبين الخيرين، سيكبر صالح ويعرف أن هذا الحكاء البارع الذي فتح أفقه وجعله لا يترك كلمة مكتوبة إلا ويقرؤها - أمي لن يستطيع إلا كتابة اسمه حين يبلغ الستين، وكأن إشارة ما تنتقل إلي ابن الحكاء ليكون كذلك, فيأتي بـالترياق من بلاد الواق واق تري هل كان صالح عمر علماني يعرف أنه سيقف في نهايات العقد الثاني من قرن الألفية الأول وفي يديه مائة وعشرون عملاً مترجمًا؟ وهل كان أحد يعرف أن ابن الزيتون المولود في غير أرضه، وفي شتاء قارس، سيصير علمًا في مجاله، حد قراءة العمل لأن علماني ترجمه بغض النظر عن كاتبه؟!
مغادرًا الحجر الأسود حي سكنه في طفولته وصباه،مبانٍ فوضويّة، أُنشئت علي أراض زراعيّة، في امتدادٍ لمخيّم اليرموك، دولة الفلسطيني اللاجئ في سوريا - إلي مدريد لدراسة الطب بعد إنهائه الثانوية العامة، لكن حرب أكتوبر 1973 تشتعل، ومعها ينقطع المال الذي ترسله له أسرته، ويتعين علي علماني في هذا الخريف البعيد أن يقاوم تيار التشتت فقد ترك دراسة الطب إلي دراسة الصحافة التي يجدها أكثر صعوبة مما ترك دراستهِ، فيتجه إلي دراسة الأدب الأسباني، وهو أثناء دراسته يعمل في الميناء ليوفر تكاليف دراسة تخصصه الجديد الأدب الإسباني، وسيعود بشهادة متخصصة في الأدب الإسباني إلي سوريا التي ستتسع لتكون وطنًا، وسيعود وقد تبددت السحب الزائفة عن غيمة هاطلة يعرف ماءها كل راءٍ ومرتشفٍ.
يترك الطب وكتابة الرواية من أجل الترجمة، فعلماني الذي خلع البالطو الأبيض، ورفض نشر رواية ألفها بعد قراءته لأدب أمريكا اللاتينية، ينذر نفسه لترجمة ما يستطيع من رواياتها، ثم يقرر في حكمة أن دوره يحتاج إلي آخرين، ويعلن فرحه بكثرة المترجمين عن الإسبانية، وأسفه عن عدم قدرته علي تقديم أسماء مهمة كثيرة لأنها ليست الاكثر مبيعًا: من المؤسف ألا تصلنا أعمال الأرجنتيني توماس إيلوي أو خوان كارلوس وينتي من الأوروغواي. هذا الروائي هو الأب الشرعي للواقعية السحرية.
كيف يختار كتبه؟ ثمة كُتَّاب تخصص في ترجمتهم أولا ويسعد بأن يترجمه آخرون وهناك جولة في المكتبات، وربما يكون هناك إخطار من الناشرين، ولا بد من متابعة يومية صباحية للمواقع الإلكترونية.
كيف يعمل؟ عشر ساعات يوميًّا، وقد أنجز ترجمة الكتب الستة الأولي، وهو منبطح علي الأرض قبل أن يمتلك آلة كاتبة! وحين جاء الكومبيوتر: أقرأ النص خمس مرات، ثم أترجمه مباشرة علي شاشة الكمبيوتر. وعندما أنجز بضع صفحات، أقرأ النص الذي ترجمته بصوت عال لمعرفة الإيقاع السمعي للجملة، كما كان يفعل فلوبير. يقولها متهكمًا من نفسه.
الترجمة كما يقول الفرنسيون امرأة جميلة وخائنة، أما هو فيري: الأمانة وحدها لا تُبرر تخريب النص الأصلي... هذا لا يعني تغيير أفكار النص. لكل لغة منطقها الخاص، وليس بالضرورة أن يتقاطع المنطقان بلاغيًا.ويري أن عدم الخيانة خيانة: يرتكب بعضهم آثامًا لا تغتفر باسم الترجمة الحرفية. إذ لا يتعلق الأمر بوضع كلمة بدل أخري، بل بتشكيل جغرافية النص جماليًا ومعرفة أسرار اللغتين، اللغة الأم واللغة المترجم عنهاعلي أن الخبرة بالأسلوب الفني للكاتب تكسب الأمر بعدًا جديداً:خوليو بالتزار مثلا يحطم في أعماله القواعد، ويلعب ببنية الجملة مثل بهلوان. في هذه الحال، علي المترجم أن يقوم بالألعاب ذاتها، وبمنطق لغوي مشابه.
يعتز علماني بالعربية جغرافية، ولغة وقارئًا ومترجمًا، فاحتفاء العرب بالمترجم أكثر من أي منطقة أخري، وتمتلك اللغة ذاتها إمكانات هائلة تمكنها من احتواء لهجات الأدب اللاتيني المرهقة، كما أن المترجم العربي يبذل جهدًًا كبيرًًا في ظروف غير مهيأة للحياة، وما يأتي به من أخطاء يقوم بأفظع منها لدي المترجمين غير العرب: حماقة المترجم ليست مرضًا عربيًا، فالترجمة الإسبانية لثلاثية محفوظ حفلت بالأخطاء منذ عنوان رواية السكرية مثلاً لا يشير إلي اسم حارة في القاهرة كما قصده محفوظ، بل دلَّ بالإسبانية علي السكرية التي تقدم مع الشاي. من أين تأتي أخطاء الترجمة إذن يا سيد علماني: »من عدم الفهم الجيد للنص الأصلي، ومن عدم قدرة المترجم علي التعبير بلغته الأصلية وكيف يعالجها؟بالدراسة المستمرة للنص الأصلي ولغته وسياقه، وللغة الترجمة الأم.
قليلة هي مقدمات علماني لترجماته، وهذا يأتي من الإطار المنهجي الذي وضعه علماني لنفسه، فالوظيفية هي الأساس، لذلك ما إن نحتاج إلي مقدمة فهي موجودة، ويمكن متابعة ذلك من خلال قراءة مقدمة »الديكاميرون» فلدينا قراءة منهجية وظيفية للمؤلف وظروف عصره، وملامح المرحلة المفصلية بين عصور الظلام وعصر النهضة الذي ظهر المؤلف في بداياته، وما يسترعي الانتباه هو أن علماني تعامل مع الترجمات السابقة باحترام واحتراف، فبين أوجه القصور التي دفعته لترجمة عمل مترجم سابقًا، وكان جميلاً أن يقدم الشكر لأصحاب هذه الترجمات الذين واجهوا عملاً فنيا مركبًا مكتوبًا بلهجات متعددة.
المطالع لترجمات علماني يجد أنه يترجم ما يستمتع بقراءته فمن يقرأ نصًّاخمس مرات إن لم يكن مستمتعًا؟ - ويكفي أن تستمع له وهو يتحدث عن ترجمته للحب في زمن الكوليرالماركيز: »هذه الرواية عشتها حقًا كأنني لا أزال مع فلورينتينو اريثا ومعشوقته فيرمينا داثا نبحر في رحلة ذهاب وإياب مدي الحياة».
من ناحية الكثرة والمنهجية فعلماني هو سيد الترجمة عن الإسبانية، من خلاله زادت معرفة الناس بماركيز ويوسا والليندي وغيرهم، لكن أثرًا ما تتركه مترجمات علماني فيه، فمئة عام من العزلة تجعله يغادر الطب، وليس لدي الكولونيل من يكاتبه
ثمة نافذة ما ينبغي أن ننظر إليها عند الحديث عن ترجمات علماني، إنها شخصيته الناقدة التي أخفاها بإحكام فهو حين يتحدث عن أعمال من ترجم لهم يقدم رؤية نقدية متكاملة لا تتأثر بشهرة المؤلف: »ماركيز يكتب الرواية وكأنه يكتب الشعر، فيما يكتب يوسا الرواية وكأنه يبني هندسة معمارية، ولذلك إذا أراد أحد تعلم البناء الروائي فعليه أن يقرأ يوسا أكثر من ماركيز».
إذن فقد صار محسودًا علي شهرته في العالم العربي أكثر من شهرة المترجمين غير العرب، ما حدا المستشرقة الألمانية يوليا كلاوس أن تقول له: بأنك تحظي بشهرة كمترجم لا توجد حتي في أوروبا، فنحن في أوروبا نقرأ ماركيز وأدب أمريكا الجنوبية ولكن لا نعرف المترجم وبتواضع يرد بأن هذه سمة عربية، وليست ميزة منه: »نحن العرب نكرم المترجم وقد نلت أخيرًا وسام الثقافة والعلوم والفنون من الرئيس الفلسطيني ونحن في الثقافة العربية ننشر اسم المترجم علي الغلاف وهذا لا يحدث دائما في اللغات الأوروبية ثمة ما أود قوله هنا: »لقد نجحت وظيفية علماني ومنهجيته.. بصورة ما علماني رجل براجماتي، فقد حدد ثغرة لا يسدها غيرها، وتوجه ناحيتها تاركًا عددًا من الخيارات اللامعة والجذابة، وآية نجاح علماني ليست فقط في لمعان اسمه، وإنما في تجاوزه لأسماء المؤلفين الذين ترجم لهم، فلم تكن ترجمات علماني لنصوص »جابو» شجرة حجبت غابة ترجماته المتعددة، ليوسا والليندي، جوزيه ساراماغو، إدواردو ميندوثا، خوسيه ماريا ميرينو، ميجيل أنخل أستورياس، برناردو أتشاغا، أنطونيو سكارميتا،خوان رولفو، ألفارو موتيس، بابلو نيرودا، لوركا.
لقد فعلها علماني، سرق النار المقدسة من كل دولة تحدثت الإسبانية وأنتج كتابها أدبًا رفيعا، ولئن كان المترجم خائنًا، فنحن أمام سيد الخونة الوفي لموجباتها وموجهاتها.. وأظن أن كل كاتب عربي هضم الواقعية السحرية مدين لعلماني الذي قرر أن يعيد للعرب بعض إرثهم الذي تركوه في إسبانيا، متمثلا في آلاف الكلمات المشتركة، وفي جماليات وتقنيات لا حصر لها تركها العرب قبل أن تغرب شمسهم، وحملها بقايا الموريسكيين إلي بلاد أمريكا اللاتينية.. سيد علماني: أن تكون المترجم خيرٌ لك من أن تكون روائيًّا كبيرًا.
عن جريدة أحبار الادب المصرية
ستأتي كمنحة إلهية من السماء إلي محمود درويش المحررً وقتها -في مجلة شؤون فلسطينية نسخةٌمن ترجمته لأشعار رافائيل ألبيرتي، وسيسارع بإعلانه نية المجلة بنشرها، وحين ستنفرد به الترجمات سيسمعه الحاضرون وسط دهشتهم بحالة انتشائه: هذا الرجل ثروة وطنية ينبغي تأميمها.
لماذا أكتب عنه، سببان يدفعانني في الحقيقة، أولهما اختياره الحصيف للترجمة ونذره نفسه لها رغم صعوبات لا حصر لها، ومغريات في (وظائف) أخري.. وثانيهما تفصح عنه هذه الحكاية: فاجأني ذات صباح بعرض سخي مفاده إهداء ترجمته لرواية بلد النساء لـجيوكوندا بيللي عن الإسبانية للقارئ العربي، لأنه علم بعد إنهاء ترجمتها - بشراء هيئة الكتاب المصرية لحقوق ترجمتها، وأخطرني بتنازله عن العائد المالي لهذه الترجمة، وبدوري هاتفت الكاتب طارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب،الذي سارع بالتحرك، ما أثمر عن توفر هذا الترجمة بسعر لا يبلغ خُمس ما كانت ستطرح به الرواية لو طبعت في دار نشر خاصة».
من علماني هذا؟ واحد من عموم الفلسطينيين الذين ولدوا فيما الأمم اللقيطة تسرق وطنهم، فيما تفقد الأشياء بكارتها، فيما ينهار الوطن وتُحتل أرضه، فصار كل فلسطيني وطنًا لا يسرق ولا تفض بكارته ولا ينهار ولا يحتل.
في مدرسة قديمة، في أحد أركانها ربما، في ممر بين فصلين دراسيين ربما، لكن المؤكد أنه قد ولد طفل لأم وأب لاجئين مهجرين غريبين، خرجا من فلسطين إلي حمص السورية، تحديدًا في الثاني من فبراير لعام 1949.
هذا الغريب ابن الغريب تتفتح عيناه علي مناظر الأقارب والجيران وهم يلتفون حول رجل تشع عيناه ببريق جذاب، وتخرج شفاهه كلاما فاتنا، وتبدو تغيرات وجهه وحركات يديه مغناطيسيًّا عملاقًا.. ويكبر الطفل، فيأخذ مكانه من الحلقة ليستمع ويشاهد مشدوهًا هذا الحكاء البارع الذي يحيل الكلمات مدنا مسحورة، وغيلانًا وسعالي تسقط أمام الطيبين الخيرين، سيكبر صالح ويعرف أن هذا الحكاء البارع الذي فتح أفقه وجعله لا يترك كلمة مكتوبة إلا ويقرؤها - أمي لن يستطيع إلا كتابة اسمه حين يبلغ الستين، وكأن إشارة ما تنتقل إلي ابن الحكاء ليكون كذلك, فيأتي بـالترياق من بلاد الواق واق تري هل كان صالح عمر علماني يعرف أنه سيقف في نهايات العقد الثاني من قرن الألفية الأول وفي يديه مائة وعشرون عملاً مترجمًا؟ وهل كان أحد يعرف أن ابن الزيتون المولود في غير أرضه، وفي شتاء قارس، سيصير علمًا في مجاله، حد قراءة العمل لأن علماني ترجمه بغض النظر عن كاتبه؟!
مغادرًا الحجر الأسود حي سكنه في طفولته وصباه،مبانٍ فوضويّة، أُنشئت علي أراض زراعيّة، في امتدادٍ لمخيّم اليرموك، دولة الفلسطيني اللاجئ في سوريا - إلي مدريد لدراسة الطب بعد إنهائه الثانوية العامة، لكن حرب أكتوبر 1973 تشتعل، ومعها ينقطع المال الذي ترسله له أسرته، ويتعين علي علماني في هذا الخريف البعيد أن يقاوم تيار التشتت فقد ترك دراسة الطب إلي دراسة الصحافة التي يجدها أكثر صعوبة مما ترك دراستهِ، فيتجه إلي دراسة الأدب الأسباني، وهو أثناء دراسته يعمل في الميناء ليوفر تكاليف دراسة تخصصه الجديد الأدب الإسباني، وسيعود بشهادة متخصصة في الأدب الإسباني إلي سوريا التي ستتسع لتكون وطنًا، وسيعود وقد تبددت السحب الزائفة عن غيمة هاطلة يعرف ماءها كل راءٍ ومرتشفٍ.
يترك الطب وكتابة الرواية من أجل الترجمة، فعلماني الذي خلع البالطو الأبيض، ورفض نشر رواية ألفها بعد قراءته لأدب أمريكا اللاتينية، ينذر نفسه لترجمة ما يستطيع من رواياتها، ثم يقرر في حكمة أن دوره يحتاج إلي آخرين، ويعلن فرحه بكثرة المترجمين عن الإسبانية، وأسفه عن عدم قدرته علي تقديم أسماء مهمة كثيرة لأنها ليست الاكثر مبيعًا: من المؤسف ألا تصلنا أعمال الأرجنتيني توماس إيلوي أو خوان كارلوس وينتي من الأوروغواي. هذا الروائي هو الأب الشرعي للواقعية السحرية.
كيف يختار كتبه؟ ثمة كُتَّاب تخصص في ترجمتهم أولا ويسعد بأن يترجمه آخرون وهناك جولة في المكتبات، وربما يكون هناك إخطار من الناشرين، ولا بد من متابعة يومية صباحية للمواقع الإلكترونية.
كيف يعمل؟ عشر ساعات يوميًّا، وقد أنجز ترجمة الكتب الستة الأولي، وهو منبطح علي الأرض قبل أن يمتلك آلة كاتبة! وحين جاء الكومبيوتر: أقرأ النص خمس مرات، ثم أترجمه مباشرة علي شاشة الكمبيوتر. وعندما أنجز بضع صفحات، أقرأ النص الذي ترجمته بصوت عال لمعرفة الإيقاع السمعي للجملة، كما كان يفعل فلوبير. يقولها متهكمًا من نفسه.
الترجمة كما يقول الفرنسيون امرأة جميلة وخائنة، أما هو فيري: الأمانة وحدها لا تُبرر تخريب النص الأصلي... هذا لا يعني تغيير أفكار النص. لكل لغة منطقها الخاص، وليس بالضرورة أن يتقاطع المنطقان بلاغيًا.ويري أن عدم الخيانة خيانة: يرتكب بعضهم آثامًا لا تغتفر باسم الترجمة الحرفية. إذ لا يتعلق الأمر بوضع كلمة بدل أخري، بل بتشكيل جغرافية النص جماليًا ومعرفة أسرار اللغتين، اللغة الأم واللغة المترجم عنهاعلي أن الخبرة بالأسلوب الفني للكاتب تكسب الأمر بعدًا جديداً:خوليو بالتزار مثلا يحطم في أعماله القواعد، ويلعب ببنية الجملة مثل بهلوان. في هذه الحال، علي المترجم أن يقوم بالألعاب ذاتها، وبمنطق لغوي مشابه.
يعتز علماني بالعربية جغرافية، ولغة وقارئًا ومترجمًا، فاحتفاء العرب بالمترجم أكثر من أي منطقة أخري، وتمتلك اللغة ذاتها إمكانات هائلة تمكنها من احتواء لهجات الأدب اللاتيني المرهقة، كما أن المترجم العربي يبذل جهدًًا كبيرًًا في ظروف غير مهيأة للحياة، وما يأتي به من أخطاء يقوم بأفظع منها لدي المترجمين غير العرب: حماقة المترجم ليست مرضًا عربيًا، فالترجمة الإسبانية لثلاثية محفوظ حفلت بالأخطاء منذ عنوان رواية السكرية مثلاً لا يشير إلي اسم حارة في القاهرة كما قصده محفوظ، بل دلَّ بالإسبانية علي السكرية التي تقدم مع الشاي. من أين تأتي أخطاء الترجمة إذن يا سيد علماني: »من عدم الفهم الجيد للنص الأصلي، ومن عدم قدرة المترجم علي التعبير بلغته الأصلية وكيف يعالجها؟بالدراسة المستمرة للنص الأصلي ولغته وسياقه، وللغة الترجمة الأم.
قليلة هي مقدمات علماني لترجماته، وهذا يأتي من الإطار المنهجي الذي وضعه علماني لنفسه، فالوظيفية هي الأساس، لذلك ما إن نحتاج إلي مقدمة فهي موجودة، ويمكن متابعة ذلك من خلال قراءة مقدمة »الديكاميرون» فلدينا قراءة منهجية وظيفية للمؤلف وظروف عصره، وملامح المرحلة المفصلية بين عصور الظلام وعصر النهضة الذي ظهر المؤلف في بداياته، وما يسترعي الانتباه هو أن علماني تعامل مع الترجمات السابقة باحترام واحتراف، فبين أوجه القصور التي دفعته لترجمة عمل مترجم سابقًا، وكان جميلاً أن يقدم الشكر لأصحاب هذه الترجمات الذين واجهوا عملاً فنيا مركبًا مكتوبًا بلهجات متعددة.
المطالع لترجمات علماني يجد أنه يترجم ما يستمتع بقراءته فمن يقرأ نصًّاخمس مرات إن لم يكن مستمتعًا؟ - ويكفي أن تستمع له وهو يتحدث عن ترجمته للحب في زمن الكوليرالماركيز: »هذه الرواية عشتها حقًا كأنني لا أزال مع فلورينتينو اريثا ومعشوقته فيرمينا داثا نبحر في رحلة ذهاب وإياب مدي الحياة».
من ناحية الكثرة والمنهجية فعلماني هو سيد الترجمة عن الإسبانية، من خلاله زادت معرفة الناس بماركيز ويوسا والليندي وغيرهم، لكن أثرًا ما تتركه مترجمات علماني فيه، فمئة عام من العزلة تجعله يغادر الطب، وليس لدي الكولونيل من يكاتبه
ثمة نافذة ما ينبغي أن ننظر إليها عند الحديث عن ترجمات علماني، إنها شخصيته الناقدة التي أخفاها بإحكام فهو حين يتحدث عن أعمال من ترجم لهم يقدم رؤية نقدية متكاملة لا تتأثر بشهرة المؤلف: »ماركيز يكتب الرواية وكأنه يكتب الشعر، فيما يكتب يوسا الرواية وكأنه يبني هندسة معمارية، ولذلك إذا أراد أحد تعلم البناء الروائي فعليه أن يقرأ يوسا أكثر من ماركيز».
إذن فقد صار محسودًا علي شهرته في العالم العربي أكثر من شهرة المترجمين غير العرب، ما حدا المستشرقة الألمانية يوليا كلاوس أن تقول له: بأنك تحظي بشهرة كمترجم لا توجد حتي في أوروبا، فنحن في أوروبا نقرأ ماركيز وأدب أمريكا الجنوبية ولكن لا نعرف المترجم وبتواضع يرد بأن هذه سمة عربية، وليست ميزة منه: »نحن العرب نكرم المترجم وقد نلت أخيرًا وسام الثقافة والعلوم والفنون من الرئيس الفلسطيني ونحن في الثقافة العربية ننشر اسم المترجم علي الغلاف وهذا لا يحدث دائما في اللغات الأوروبية ثمة ما أود قوله هنا: »لقد نجحت وظيفية علماني ومنهجيته.. بصورة ما علماني رجل براجماتي، فقد حدد ثغرة لا يسدها غيرها، وتوجه ناحيتها تاركًا عددًا من الخيارات اللامعة والجذابة، وآية نجاح علماني ليست فقط في لمعان اسمه، وإنما في تجاوزه لأسماء المؤلفين الذين ترجم لهم، فلم تكن ترجمات علماني لنصوص »جابو» شجرة حجبت غابة ترجماته المتعددة، ليوسا والليندي، جوزيه ساراماغو، إدواردو ميندوثا، خوسيه ماريا ميرينو، ميجيل أنخل أستورياس، برناردو أتشاغا، أنطونيو سكارميتا،خوان رولفو، ألفارو موتيس، بابلو نيرودا، لوركا.
لقد فعلها علماني، سرق النار المقدسة من كل دولة تحدثت الإسبانية وأنتج كتابها أدبًا رفيعا، ولئن كان المترجم خائنًا، فنحن أمام سيد الخونة الوفي لموجباتها وموجهاتها.. وأظن أن كل كاتب عربي هضم الواقعية السحرية مدين لعلماني الذي قرر أن يعيد للعرب بعض إرثهم الذي تركوه في إسبانيا، متمثلا في آلاف الكلمات المشتركة، وفي جماليات وتقنيات لا حصر لها تركها العرب قبل أن تغرب شمسهم، وحملها بقايا الموريسكيين إلي بلاد أمريكا اللاتينية.. سيد علماني: أن تكون المترجم خيرٌ لك من أن تكون روائيًّا كبيرًا.
عن جريدة أحبار الادب المصرية