نقوس المهدي
كاتب
يعتبر ( يحيى بن محمود الواسطي) من أبرز أعلام مدرسة التصوير العربي في بغداد، بل من أشهر المصورين العرب في القرن الثالث عشر الميلادي، وبالرغم من ندرة أخباره يتضح لنا أنه من مواليد (واسط) بالقرب من مدينة الكوفة بالعراق، وقد أمضى معظم حياته في بغداد، ناسخا للكتب، ومصورا بارعا للمخطوطات الأدبية، ويعتبر مخطوط «مقامات الحريري» الذي أنجزه سنة 1237م من أشهر أعماله التصويرية التي تؤكد مهارته في فن التصوير، وحذقه في التخطيط والتذهيب، وتنم عن خبرة واسعة في هذه الفنون، وامتلاك لأدواتها وأصالة في انتمائها العربي الذي يفاضل بينها وبين سواها من الفنون الشرقية المعاصرة له، والتي تتضح فيها التأثيرات البيزنطية أو المغولية أو الصينية، كتلك المخطوطات التي صورها مسيحيو الكنيسة الشرقية، أو تلك التي صورت في بلاد فارس.
المقامات جنس أدبي خاص، أقرب ما يكون إلى القصة القصيرة، ظهر في القرون الوسطى على يد عدد من الأدباء الذين كتبوا بالعربية ومن أشهرهم بديع الزمان الهمذاني، وأبو محمد القاسم بن علي الحريري الذي ولد في البصرة سنة 1054 م وتوفي سنة 1121 م.
كان الحرير صاحبا للشرطة في البصرة، فاطلع على كثير من القضايا الاجتماعية، وحيل الشطار والعيارين، وأصحاب النوادر، وعمل في الكتابة والتأليف، وقد كتب ما يزيد على خمسين مقامة نسخها في أكثر من 500 نسخة.
وقد أثارت مقامات الحريري اهتمام الناس في عصره، لما امتازت به من تصوير دقيق للحياة الاجتماعية بما فيها من مفارقات ونوادر وطرائف، ووجد فيها الفنانون مادة موحية للتعبير عن قضايا عصرهم، فراحوا يتسابقون إلى نسخها وتصويرها، وقد عثر علي عشر مخطوطات منها مزدانة برسوم متنوعة، متفاوتة في قيمتها الفنية، بيد أن النسخة التي صورها الواسطي كانت أكثرها إتقانا وإبداعا لما امتازت به من براعة في التصوير ومهارة في الأداء ودقة في الملامح ذات السمات العربية الأصيلة.
وقد أشاد الناقد (ريتشارد اتنغهاوزن) بالقيمة الفنية لهذه الرسوم، ورأى أن فن التصوير العربي بلغ ذروته في رسوم المقامات التي أنجزت في بغداد (بالجهد الكبير والمتنوع الذي بذل فيها، وقد تم ذلك على الرغم من أن كتاب الحريري بحد ذاته لا يقدم للمزوّق سوى الشيء القليل).
وتحتفظ المكتبة الوطنية في باريس بأهم مخطوط لمقامات الحريري التي صورها الواسطي ويطلق عليها اسم «حريري ـ شيفر» نسبة إلى مالكها الأصلي الذي أهداها إلى المكتبة الوطنية في باريس، ووضعت تحت رقم (5847) عربي. وهي تضم (94) صورة ملونة في (99) صفحة، قياس (73 سم *28سم)، بعضها مصور على صفحتين، وتتألف من (165) ورقة، دون في كل منها (15) سطرا، كتبها الواسطي بحبر أسود مائل للحمرة، بالخط النسخي المزوق.
وذكر أنه كتبها وصورها، في آخر صفحة من المخطوط بالعبارة الآتية:
«فرغ من نسخها العبد الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه وعفوه، يحيى بن محمود بن يحيى بن أبي الحسن كوريها الواسطي، بخطه وصوره آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة، حامدا الله تعالى... إلخ» أي سنة 1237 للميلاد.
ولم يصور الواسطي جميع المقامات بل خص بعضها بصورة واحدة أو صورتين أو ثلاث صور، وترك بعضها دون صور.
موضوعات المقامات
تعرض مقامات الحريري جملة من القصص والنواد التي تروي قصة أبي زيد السروجي المعروف بفصاحة لسانة، وسعة خياله، وسرعة البديهة برغم ما فيه من فقر وعوز، وهو يتنقل بين الأمصار والأقطار من مغامرة إلى أخرى في خضم الحياة باحثا في جموع الناس عن وسيلة للعيش، متخذا لنفسه دور الواعظ أو الخطيب، لينشر في الناس عظاته، ويظهر تقاه وورعه ليكسب مودتهم تارة، ويستجدي عطفهم تارة أخرى، مستترا بأشكال مختلفة ليبعد عنه أنظار معارفه وخصومه، ويحقق مآربه في كشف طبائع الناس وعيوبهم.
وقد أبدى الواسطي عناية واضحة في تصوير الاحتفالات الدينية كاستقبال العيد وشهر رمضان واستعداد الحجيج لقضاء فريضة الحج، ومجالس الوعظ والقضاء والولاة، كما اهتم بتصوير مجالس اللهو والطرب والشراب، مفصلا في أشكال الحانات وما تحويه من معاصر للخمور، ومن كؤوس ودنان وسقاة وعازفين ومطربين، ولم يغفل ملامح الحياة العامة في المدن والقرى، مبرزا ما فيها من معالم عمرانية، تتجلى في القصور المنيفة والبيوت البسيطة، والمآذن والقباب، والأسواق، مستعرضا أشكالها، موضحا خصائصها الشرقية التي تميزها عن المعالم العمرانية المغربية.
السمات الفنية في تصوير الواسطي
تتجلى في تصوير الواسطي مجموعة من السمات الفنية التي تظهر بجلاء خصائص التصوير العربي في القرون الوسطى، وهي سمات تشكل حلقة وصل بين الصيغ التصويرية البيزنطية والفارسية التي سبقت عصر الواسطي والصيغ التي ازدهر فيها فن المنمنمات المغولية والهندية والتركية.
ولعل أبرز هذه السمات ما يأتي:
1 ـ قدرة الواسطي على استيعاب المادة الأدبية التي زخرت بها المقامات واختيار ما يناسبها من أشكال يعكس مضامينها الفكرية والاجتماعية وتجاوز ذلك إلى ما يضفي عليها من آفاق معرفية وجمالية مبتكرة لم يستطع النص رصدها بلغة الكتابة.
2 ـ خروج الواسطي عن محتويات بعض المقامات ورصد بعد الجوانب الهامة فيها فقد كان قادرا على تقديم لغة متطورة لتطوير لغة أدبية بسيطة، تختلف عن أصلها لما تتضمنه من مشاهد لا نراها في النص، محاولا بذلك الخروج عن الأطر التسجيلية التي تعيق مخيلة الفنان.
3 ـ تحوير الواسطي لبعض الأشكال الواقعية للتعبير عن المضمون الاجتماعي أو الإنساني إضافة إلى التحوير الذي يلجأ إليه من أجل إيجاد صيغة فنية مبتكرة تخدم القيم الجمالية الصرفة، مضحيا ببعض المفاهيم التقليدية في التصوير وقد تجلى ذلك في استخدامه للمنظور الشاقولي، وفي إظهار بعض الأشكال الآدمية من خلف الجدران أو الحواجز المادية.
4 ـ اعتماد الواسطي على التشكيلات الغنية بالعناصر المتنوعة، وتنظيمها في تكوينات مترابطة تجعلها تبدو في كتلة واحدة متواشجة الأجزاء، تشدها قوى جاذبة إلى وسط التكوين، برغم الحركة الدائبة في أطرافها.
5 ـ مهارة الواسطي في صياغة أشكاله بخطوط رشيقة لينة، تظهر أدق التفاصيل بجلاء، وتمنح الشكل حيوية ظاهرة.
6 ـ ابتعاد الواسطي عن التجسيم، مكتفيا بتباين الألوان من أجل إقامة نسق إيقاعي متحرك بين الكتل المترابطة.
7 ـ استخدام الواسطي لفصائل لونية محدودة مستمدة من البيئة العربية التي تغلب عليها الألوان الصحراوية الخافتة والكتيمة.
8 ـ توزيع الواسطي للون الذهبي في بضعة مواضيع تبرز قيمته التزيينية ودلالاته المعنوية.
سنحاول فيما يلي استعراض بعض الرسوم التي صورها الواسطي في مقامات الحريري «النسخة المودعة في المكتبة الوطنية بباريس ـ قسم العرب رقم 3465» المعروفة باسم (مخطوط شيفر).
1 ـ المقامة الحادية والثلاثون «قافلة الحجاج».
تصور هذه اللوحة قافلة من الحجيج يتوجهون إلى مكة لقضاء فريضة الحج، وهي تتكون من مجموعة من الرجال على ظهور الجمال، ويرتدون ملابسهم الشرقية العربية، ويعتمرون القلنسوات المزركشة، ينفخ بعضهم في الأبواق، ويحمل بعضهم البيارق والأعلام، ويقرع بعضهم الطبول.
وهنا في المؤخرة جمل يحمل هودجا أو محمل الحج، ويرافق القافلة أحد الرجال على ظهر دابة مسرجة، بالإضافة إلى رجلين أحدهما في مقدمة الموكب والآخر في مؤخرته، وفي أسفل الشكل تبرز بعض الأعشاب والنباتات الصحراوية بصيغ تزيينية عفوية، بينما تتوزع في الأعلى وعلى يسار اللوحة كتابات عربية، هي بعض ما ورد في المقامات، ويبدو أن الفنان اكتفى بتصوير مقدمة القافلة، لأنها تمثل الشكل الأبهج فيها.
ولعل أبرز ما يميز هذه اللوحة، ذاك التكوين الحيوي الذي صيغت فيه الأشكال على نحو تبدو فيه أعناق الجمال والرجال مشرئبة نحو الهدف الذي تسعى إليه في غاية الشوق، وقد تحركت جميعها في إيقاع متناسق، ترتصف فيه الأشكال متصاعدة من الأسفل إلى الأعلى، بحيث تسمح لجميع الأشكال في الظهور، وتعطي شعورا بالحركة المتوالية التي اعتمد عليها (المستقبليون) في أعمالهم الفنية.
لقد صاغ الفنان أشكاله بخطوط بنية اللون، شديدة الرهافة في انسيابها وتكويناتها للملامح الدقيقة للوجوه العربية ذات اللحى السوداء، والتي ظهرت بوضعيات جانبية وأخرى شبه أمامية، كما أبرز عناية واضحة في تزيين الأبواق والبيارق والهودج وبعض الأزياء بنقوش وزخارف هندسية ونباتية هي من خصائص التصوير العربي في معظم مراحله.
2ـ المقامة السابعة «الاحتفال بشهر رمضان»
تصور هذه اللوحة احتفال مجموعة من المسلمين بشهر رمضان، وفيه تظهر كوكبة من الرجال والفرسان يمتطون خيولهم، ويحملون البيارق والرايات الإسلامية، وفي مقدمة الموكب يظهر رجلان ينفخان ببوقين طويلين، بينما يمعن رجل ثالث في قرع طبل ثنائي، وهي عادة احتفالية كانت تجري في المجتمع الإسلامي.
إن أبرز ما يميز هذه اللوحة، هو التكوين المغلق الذي اشتمل على كل عناصر اللوحة على شكل كتلة أفقية، تحملها قوائم الخيول، تعلوها كتلة شاقولية مربعة تشمل رؤوس العازفين، وأشكال البيارق المتطاولة، وقد يبدو هذا التكوين ساكنا من خلال ثبات قوائم الخيول بحركات مخالفة.
أما الكتلة العلوية، فإنها تحركت بتنوع أشكال البيارق واتجاه بعضها نحو يمين اللوحة، بينما يمتد البوقان بحركة أمامية نحو يسار اللوحة، وهي حركة تتوافق مع عازف الطبل الذي انبرى في مقدمة الموكب فوق دابة قوية، وبذلك تنوع الإيقاع برغم ما يوحي به الموكب من بطء الحركة، وكدأبه في هذه المقامات، صاغ الواسطي أشكاله بخطوط انسيابية رشيقة، جسدت ملامح الأشكال والوجوه، بينما اكتست الأشكال ألوانا محدودة، تراوحت بين الأحمر والأصفر والأسود والرمادي، وقد تناوبت الألوان في بضع كتل بين الغامق والكاشف، وتداخلت في كسوتها بعض الزخارف المحدودة التي لم تظهر بوضوح، بينما ظهرت ملامح الكتابة الكوفية في البيارق.
لقد كان الواسطي يعالج موضوعاته برسوم تحمل طابع الفن التشكيلي أكثر من كونها رسوما للمنمنمات، وما كان يمسح لنفسه أن تغامر في اتجاه يقوده إلى متاهات المخيلة الخصبة، بل كان يحافظ بشكل جلي على قواعد التشكيل الفني، ومن خلال معالجته للخطوط والألوان والتكوينات الرصينة، تبدو ملامح الحس التزييني الإسلامي واضحة عنده، لذلك كان الواسطي من أبرز مصوري عصره لأنه كان يمثل الذروة التي وصل إليها فن التصوير لدى العرب.
المقامات جنس أدبي خاص، أقرب ما يكون إلى القصة القصيرة، ظهر في القرون الوسطى على يد عدد من الأدباء الذين كتبوا بالعربية ومن أشهرهم بديع الزمان الهمذاني، وأبو محمد القاسم بن علي الحريري الذي ولد في البصرة سنة 1054 م وتوفي سنة 1121 م.
كان الحرير صاحبا للشرطة في البصرة، فاطلع على كثير من القضايا الاجتماعية، وحيل الشطار والعيارين، وأصحاب النوادر، وعمل في الكتابة والتأليف، وقد كتب ما يزيد على خمسين مقامة نسخها في أكثر من 500 نسخة.
وقد أثارت مقامات الحريري اهتمام الناس في عصره، لما امتازت به من تصوير دقيق للحياة الاجتماعية بما فيها من مفارقات ونوادر وطرائف، ووجد فيها الفنانون مادة موحية للتعبير عن قضايا عصرهم، فراحوا يتسابقون إلى نسخها وتصويرها، وقد عثر علي عشر مخطوطات منها مزدانة برسوم متنوعة، متفاوتة في قيمتها الفنية، بيد أن النسخة التي صورها الواسطي كانت أكثرها إتقانا وإبداعا لما امتازت به من براعة في التصوير ومهارة في الأداء ودقة في الملامح ذات السمات العربية الأصيلة.
وقد أشاد الناقد (ريتشارد اتنغهاوزن) بالقيمة الفنية لهذه الرسوم، ورأى أن فن التصوير العربي بلغ ذروته في رسوم المقامات التي أنجزت في بغداد (بالجهد الكبير والمتنوع الذي بذل فيها، وقد تم ذلك على الرغم من أن كتاب الحريري بحد ذاته لا يقدم للمزوّق سوى الشيء القليل).
وتحتفظ المكتبة الوطنية في باريس بأهم مخطوط لمقامات الحريري التي صورها الواسطي ويطلق عليها اسم «حريري ـ شيفر» نسبة إلى مالكها الأصلي الذي أهداها إلى المكتبة الوطنية في باريس، ووضعت تحت رقم (5847) عربي. وهي تضم (94) صورة ملونة في (99) صفحة، قياس (73 سم *28سم)، بعضها مصور على صفحتين، وتتألف من (165) ورقة، دون في كل منها (15) سطرا، كتبها الواسطي بحبر أسود مائل للحمرة، بالخط النسخي المزوق.
وذكر أنه كتبها وصورها، في آخر صفحة من المخطوط بالعبارة الآتية:
«فرغ من نسخها العبد الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه وعفوه، يحيى بن محمود بن يحيى بن أبي الحسن كوريها الواسطي، بخطه وصوره آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة، حامدا الله تعالى... إلخ» أي سنة 1237 للميلاد.
ولم يصور الواسطي جميع المقامات بل خص بعضها بصورة واحدة أو صورتين أو ثلاث صور، وترك بعضها دون صور.
موضوعات المقامات
تعرض مقامات الحريري جملة من القصص والنواد التي تروي قصة أبي زيد السروجي المعروف بفصاحة لسانة، وسعة خياله، وسرعة البديهة برغم ما فيه من فقر وعوز، وهو يتنقل بين الأمصار والأقطار من مغامرة إلى أخرى في خضم الحياة باحثا في جموع الناس عن وسيلة للعيش، متخذا لنفسه دور الواعظ أو الخطيب، لينشر في الناس عظاته، ويظهر تقاه وورعه ليكسب مودتهم تارة، ويستجدي عطفهم تارة أخرى، مستترا بأشكال مختلفة ليبعد عنه أنظار معارفه وخصومه، ويحقق مآربه في كشف طبائع الناس وعيوبهم.
وقد أبدى الواسطي عناية واضحة في تصوير الاحتفالات الدينية كاستقبال العيد وشهر رمضان واستعداد الحجيج لقضاء فريضة الحج، ومجالس الوعظ والقضاء والولاة، كما اهتم بتصوير مجالس اللهو والطرب والشراب، مفصلا في أشكال الحانات وما تحويه من معاصر للخمور، ومن كؤوس ودنان وسقاة وعازفين ومطربين، ولم يغفل ملامح الحياة العامة في المدن والقرى، مبرزا ما فيها من معالم عمرانية، تتجلى في القصور المنيفة والبيوت البسيطة، والمآذن والقباب، والأسواق، مستعرضا أشكالها، موضحا خصائصها الشرقية التي تميزها عن المعالم العمرانية المغربية.
السمات الفنية في تصوير الواسطي
تتجلى في تصوير الواسطي مجموعة من السمات الفنية التي تظهر بجلاء خصائص التصوير العربي في القرون الوسطى، وهي سمات تشكل حلقة وصل بين الصيغ التصويرية البيزنطية والفارسية التي سبقت عصر الواسطي والصيغ التي ازدهر فيها فن المنمنمات المغولية والهندية والتركية.
ولعل أبرز هذه السمات ما يأتي:
1 ـ قدرة الواسطي على استيعاب المادة الأدبية التي زخرت بها المقامات واختيار ما يناسبها من أشكال يعكس مضامينها الفكرية والاجتماعية وتجاوز ذلك إلى ما يضفي عليها من آفاق معرفية وجمالية مبتكرة لم يستطع النص رصدها بلغة الكتابة.
2 ـ خروج الواسطي عن محتويات بعض المقامات ورصد بعد الجوانب الهامة فيها فقد كان قادرا على تقديم لغة متطورة لتطوير لغة أدبية بسيطة، تختلف عن أصلها لما تتضمنه من مشاهد لا نراها في النص، محاولا بذلك الخروج عن الأطر التسجيلية التي تعيق مخيلة الفنان.
3 ـ تحوير الواسطي لبعض الأشكال الواقعية للتعبير عن المضمون الاجتماعي أو الإنساني إضافة إلى التحوير الذي يلجأ إليه من أجل إيجاد صيغة فنية مبتكرة تخدم القيم الجمالية الصرفة، مضحيا ببعض المفاهيم التقليدية في التصوير وقد تجلى ذلك في استخدامه للمنظور الشاقولي، وفي إظهار بعض الأشكال الآدمية من خلف الجدران أو الحواجز المادية.
4 ـ اعتماد الواسطي على التشكيلات الغنية بالعناصر المتنوعة، وتنظيمها في تكوينات مترابطة تجعلها تبدو في كتلة واحدة متواشجة الأجزاء، تشدها قوى جاذبة إلى وسط التكوين، برغم الحركة الدائبة في أطرافها.
5 ـ مهارة الواسطي في صياغة أشكاله بخطوط رشيقة لينة، تظهر أدق التفاصيل بجلاء، وتمنح الشكل حيوية ظاهرة.
6 ـ ابتعاد الواسطي عن التجسيم، مكتفيا بتباين الألوان من أجل إقامة نسق إيقاعي متحرك بين الكتل المترابطة.
7 ـ استخدام الواسطي لفصائل لونية محدودة مستمدة من البيئة العربية التي تغلب عليها الألوان الصحراوية الخافتة والكتيمة.
8 ـ توزيع الواسطي للون الذهبي في بضعة مواضيع تبرز قيمته التزيينية ودلالاته المعنوية.
سنحاول فيما يلي استعراض بعض الرسوم التي صورها الواسطي في مقامات الحريري «النسخة المودعة في المكتبة الوطنية بباريس ـ قسم العرب رقم 3465» المعروفة باسم (مخطوط شيفر).
1 ـ المقامة الحادية والثلاثون «قافلة الحجاج».
تصور هذه اللوحة قافلة من الحجيج يتوجهون إلى مكة لقضاء فريضة الحج، وهي تتكون من مجموعة من الرجال على ظهور الجمال، ويرتدون ملابسهم الشرقية العربية، ويعتمرون القلنسوات المزركشة، ينفخ بعضهم في الأبواق، ويحمل بعضهم البيارق والأعلام، ويقرع بعضهم الطبول.
وهنا في المؤخرة جمل يحمل هودجا أو محمل الحج، ويرافق القافلة أحد الرجال على ظهر دابة مسرجة، بالإضافة إلى رجلين أحدهما في مقدمة الموكب والآخر في مؤخرته، وفي أسفل الشكل تبرز بعض الأعشاب والنباتات الصحراوية بصيغ تزيينية عفوية، بينما تتوزع في الأعلى وعلى يسار اللوحة كتابات عربية، هي بعض ما ورد في المقامات، ويبدو أن الفنان اكتفى بتصوير مقدمة القافلة، لأنها تمثل الشكل الأبهج فيها.
ولعل أبرز ما يميز هذه اللوحة، ذاك التكوين الحيوي الذي صيغت فيه الأشكال على نحو تبدو فيه أعناق الجمال والرجال مشرئبة نحو الهدف الذي تسعى إليه في غاية الشوق، وقد تحركت جميعها في إيقاع متناسق، ترتصف فيه الأشكال متصاعدة من الأسفل إلى الأعلى، بحيث تسمح لجميع الأشكال في الظهور، وتعطي شعورا بالحركة المتوالية التي اعتمد عليها (المستقبليون) في أعمالهم الفنية.
لقد صاغ الفنان أشكاله بخطوط بنية اللون، شديدة الرهافة في انسيابها وتكويناتها للملامح الدقيقة للوجوه العربية ذات اللحى السوداء، والتي ظهرت بوضعيات جانبية وأخرى شبه أمامية، كما أبرز عناية واضحة في تزيين الأبواق والبيارق والهودج وبعض الأزياء بنقوش وزخارف هندسية ونباتية هي من خصائص التصوير العربي في معظم مراحله.
2ـ المقامة السابعة «الاحتفال بشهر رمضان»
تصور هذه اللوحة احتفال مجموعة من المسلمين بشهر رمضان، وفيه تظهر كوكبة من الرجال والفرسان يمتطون خيولهم، ويحملون البيارق والرايات الإسلامية، وفي مقدمة الموكب يظهر رجلان ينفخان ببوقين طويلين، بينما يمعن رجل ثالث في قرع طبل ثنائي، وهي عادة احتفالية كانت تجري في المجتمع الإسلامي.
إن أبرز ما يميز هذه اللوحة، هو التكوين المغلق الذي اشتمل على كل عناصر اللوحة على شكل كتلة أفقية، تحملها قوائم الخيول، تعلوها كتلة شاقولية مربعة تشمل رؤوس العازفين، وأشكال البيارق المتطاولة، وقد يبدو هذا التكوين ساكنا من خلال ثبات قوائم الخيول بحركات مخالفة.
أما الكتلة العلوية، فإنها تحركت بتنوع أشكال البيارق واتجاه بعضها نحو يمين اللوحة، بينما يمتد البوقان بحركة أمامية نحو يسار اللوحة، وهي حركة تتوافق مع عازف الطبل الذي انبرى في مقدمة الموكب فوق دابة قوية، وبذلك تنوع الإيقاع برغم ما يوحي به الموكب من بطء الحركة، وكدأبه في هذه المقامات، صاغ الواسطي أشكاله بخطوط انسيابية رشيقة، جسدت ملامح الأشكال والوجوه، بينما اكتست الأشكال ألوانا محدودة، تراوحت بين الأحمر والأصفر والأسود والرمادي، وقد تناوبت الألوان في بضع كتل بين الغامق والكاشف، وتداخلت في كسوتها بعض الزخارف المحدودة التي لم تظهر بوضوح، بينما ظهرت ملامح الكتابة الكوفية في البيارق.
لقد كان الواسطي يعالج موضوعاته برسوم تحمل طابع الفن التشكيلي أكثر من كونها رسوما للمنمنمات، وما كان يمسح لنفسه أن تغامر في اتجاه يقوده إلى متاهات المخيلة الخصبة، بل كان يحافظ بشكل جلي على قواعد التشكيل الفني، ومن خلال معالجته للخطوط والألوان والتكوينات الرصينة، تبدو ملامح الحس التزييني الإسلامي واضحة عنده، لذلك كان الواسطي من أبرز مصوري عصره لأنه كان يمثل الذروة التي وصل إليها فن التصوير لدى العرب.