نقوس المهدي
كاتب
لن يكون بودي أن أستعرض كل العلامات التي ميزت البيت الوزاني على المستوى الفني، وتعيينا توقيعاته ديوان في الفن المغربي الأصيل، علامات وتوقيعات لها الغنى والثراء والتعدد والتنوع، ميزات وخصائص. لكن لها أيضا سمة الإقلال في القول، والبياض في التوثيق، والخصاص في الكشف والفحص والبحث. ولعل عمل الصديق والباحث د.عبد الإله الغزاوي في أطروحته - الموسوعية عن "الممارسة الثقافية بالزاوية الوزانية" من الفلتات النفيسة التي انشغلت توثيقا وتأريخا ودراسة, بهذا الجانب الإبداعي من جوانب الثقافة الوزانية، زاوية وبيتا. وهو عمل، على نفاسته وغناه وفرادته ، يفتح من أبواب البحث ويحفز الراغبين في الاستزادة من معرفة هذا البعد، أكثر مما يجيب بالقطع أويغني وارده عن سواه؛ وهذا هو شأن الأعمال الكبرى دائما.
ومن ثم هذه فقط إضاءات ولمع لا تزعم الإحاطة الكافية الشافية ولا فصل المقال في موضوع يحتاج أغزر وأكثر من مقال وهو ما لا يستوعبه المقام .
لهذا نقول ,ومن باب الإجمال، أن دار وزان وآل البيت الوزاني ائتلف في رحابهم الشرف والعلم والصلاح، وازدان ذلك بولعهم بالطرب. ولم يكن هذا الطرب إلا وجها من الأوجه الجمالية الروحية التي طبعت مسارات ومذاقات أهل هذا البيت؛ بحيث ساهم إقبالهم على الشعر الرفيع والنغم البديع في المحافظة على رفعة الذوق، وسلامة الحس، ونبالة المعنى؛ بل صار هذا الوجه بابا من أبواب الدعوة إلى الله ونشر قيم الألفة والوسع والتحاب وتوسيع دوائر الذكر والصلاة على الحبيب المصطفى ,مما هو ركن من أركان الطريقة وثابت من ثوابت المسار التاريخي والروحي للمشرب الصوفي الشاذلي الجزولي.
هكذا، ومن إجراء قراءة إجمالية لحضور التوقيع الوزاني في ديوان الطرب الأصيل بالمغرب، نسجل بداية ارتباط آل وزان بيتا وزاوية بالموسيقى الصوفية يوجه عام؛ أي بمختلف أنماط الطرب التي حضرت في الزاوية أو تولدت فيها أو تفرعت عن نسقها خدمة للمقاصد التأهيلية والتطهيرية والتربوية الروحية المطلوبة من الفن والمسندة للطرب في الفضاء الروحي الزاوياتي. من هذا المنظور نستطيع وضع اليد مع ثلاثة فنون متواشحة ومتآثرة ومتفاعلة وإن كانت متمايزة ومتغايرة هوية ومكونات وأسلوبا:
1) موسيقى الطوائف الصوفية؛
2}موسيقى السماع؛
3) الموسيقى الأندلسية المغربية أو طرب الآلة.
على أن هذا الترتيب إجرائي لا تراتبي، ويتصل بمنهج الطرح والمقاربة لا بتفاضل في القيمة أو صرامة كرونولوجية في الترتيب.
1) موسيقى الطوائف الصوفية:
لعل ما أسهمت به الزاوية الوزانية على هذا الصعيد، هو ظهور طوائف موسيقية ارتبط اسمها ورسمها ومادة إنشادها بالزاوية الوزانية، واقترن فيها الغناء والإنشاد بشيوخ الزاوية، وفضاءات الإنشاد والتغني بمراكزها؛ بحيث ظهرت أساسا عهد الشيخ الثالث للطريقة الوزانية، مولاي التهامي بن مولاي محمد بن مولاي عبد الله الشريف (تولى المشيخة ما بين 1709 م – 1718 م)، طائفة "تهامة" التي اختص ديوان إنشادها ببعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمجيد ذكرالحق بمدح آل وزان، وإبراز فضائل ومناقب الشيخ مولاي التهامي. وقد ساعد على ظهورها انتشار الطريقة في عهد هذا الشيخ داخل المغرب وخارجه، وعنايته بقرض الأزجال والمربعات على نسق الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب، ومن أشهر مربعات مولاي التهامي مثلا، قوله:
من جا لحضرتنا يبـــرا = يمـشي بقـلبو مستامن
يجي نحاس يمشي نقــرا = سيـدنا محمد هو الضامن
ومن كلامه في الحكم:
إلي يحقق يدقق ما = يصيب مع من يترافق
وقد اختصت طائفة "تهامة" المشتق اسمها من الانتساب للشيخ مولاي التهامي، بالأذكار والمرددات والمربعات والأهازيج المتعلقة بإبراز كرامات ومناقب وفضائل وسر المشرب الوزاني؛ وخصوصا الفيوضات الروحية التهامية مستعملة في ذلك آلة "الطويسة"، و"الضرب على الكف" مع مشاركة رئيسة ومتميزة للذكارات إلى جانب الذكارين، في إيقاعات وأساليب يمتزج فيها البدوي بالحضري، والعربي بالإفريقي، مما يقتضي الكشف والفحص.
وما زال "تهامة" وامتدادهم في منطقة توات الصحراوية، بما يعرفوا بطائفة "أهل التوات"، يمارسون هذا الطرب المتميز والرفيع، وإن كانت تصاريف الزمن، وكذا الإهمال والنسيان وغياب توثيق النصوص والألحان يتهدد هذا التراث الوزاني الرفيع بالإتلاف والاندثار على كل غرار تراث شفاهي لم يعرف طريقة إلى العناية العالمة.
2) موسيقى السماع:
ونعني بها أساسا إنشاد الأشعار المديحية والصوفية وفق أساليب طرب الآلة وكذا وفق استعمالات الزوايا المغربية الشاذلية لميزان الطبوع الأندلسية في المديح والذكر؛ خصوصا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وتنظيم حلقات الذكر داخل الزوايا، ويقوم السماع غالبا على الإنشاد مجردا عن المعازف والآلات.
وهنا، وكما سلفت الإشارة، مازلنا في حاجة أيضا إلى دراسات في فاحصة تبرز حضور فن السماع في الزاوية الوزانية منذ عهد مؤسسها الشيخ الصالح والقطب الفالح مولاي عبد الله الشريف، وفي "التحفة القادرية" لسيدي عبد السلام القادري من الإشارات في هذا الباب ما يستحق التجميع والدراسة والفحص.
لكن نستطيع أن نلتقط إشارات واضحة لاستواء حضور فن السماع بيت آل وزان وضمن الزاوية أساسا مع الشيخ السادس للزاوية، سيدي علي بن أحمد بن مولاي الطيب بن مولاي محمد بن القطب مولاي عبد الله شريف (امتدت مشيخته منذ 1781 – 1811م). ولا مراء في أن فترة هذا الشيخ المبارك كانت فترة ازدهار علمي وفني بارز وساطع، سواء في السماع أو في طرب الآلة كما سنرى لاحقا.
وما يمكن أن نشير إليه هنا على سبيل الاقتضاب لا التفصيل، أنه أصبح للزاوية ميراث وتقاليد فنية في السماع، لعل أبرزها إنشاد بردة الإمام البوصيري من لدن منشدين اختصوا بهذا المتن المديحي عرفوا به بـ "فقراء البردة". كما أن الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف صار محفلا ممتازا للإنشاد والسماع فرحا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، لم يقتصر خلاله الأمر على الرجال؛ بل إن الولية الصالحة الباتول بنت الشيخ مولاي علي بن أحمد، كانت تحيي ليلة عظيمة تسرد فيها البردة والهمزية البوصيريتين وغيرهما من قصيد المديح، وتنفق في ذلك الإنفاق الكريم، كما يصف ذلك صاحب "الكوكب الأسعد في مناقب مولانا علي بن أحمد". ولعل عناية الشيخ بهذا البعد الفني والجمالي التربوي، إلى جانب النهضة العامة التي عرفتها الزاوية في عهده اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعلميا، هو ما يفسر تحول ضريحه إلى مركز للمديح والسماع، يقام فيه احتفال سماعي أسبوعي عشية كل جمعة، مما جعله يصبح، وإلى يومنا هذا، مدرسة تلقن الأجيال أصول هذا الفن، وتربى الصغار والكبار على التشبع بحب ومدح المصطفى صلى الله عليه وسلم. والمتحدث إليكم واحد من خريجي هذه المدرسة المباركة التي مازال أخي وأستاذي سيدي أحمد الحراق يشرف على استمرارها وامتدادها بارك الله فيه وفي سائر خدام الجناب النبوي الشريف.
ومن مظاهر انتعاش السماع في البيت الوزاني -والذي تحافظ عليه هذه المدرسة- أن أنتج لنا أعمالا ألبست أي تلاحين لمتن البردة، تحاكي "العمل الفاسي" ( الطريقة الفاسية في ترتيل البردة وإنشادها) وتغايره في آن. متن فني يقسم البردة إلى أقسام ومراكز ويخص كل واحد منها بطبع أو طبوع، إلى أن يستوفي المتن البوصيري كاملا، مع خصيصات فنية تميزه عن غيره تقوم أساسا على الانتقال من طبع لآخر عن طريق الإنشاد لا عن طريق التنسيق النغمي داخل متن البردة مع شاكلة "العمل الفاسي". وقد أحدث وقف خاص لتلاوة هذا العمل صبيحة كل جمعة بضريح مولاي عبد الله الشريف.
كما تم تلحين متن البردة نفسه بأسلوب آخر سردي يتلى في نسق نغمي آخر يمتاز بالسرعة في الأداء والحزن في الألحان، وتعتبر تلاوته في الجنائز المحلية فرض عين بعد تلاوة أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب الإمام الجزولي "دلائل الخيرات"، لهذا تعرف هذه التلاوة للبردة بـ"البردة الجنائزية"، وهي من أبدع وأرفع ما يسمع. هذا ناهيك على مظهر آخر من حضور السماع في هذه الزاوية، وهو ظهور كنانيش مديحية بوازن وبين آل البيت الوزاني، ذات نصوص ومولديات وموشحات مشتركة التداول وخاصة. فبالإضافة إلى البردة والهمزية والوتريات البغدادية ونصوص كبار رجال القوم، نجد قدودا مديحية وآلية ذات مضمون مناقبي وزاني.
3) طرب الآلة:
لعل في تأخير الحديث عن طرب الآلة، دلالة على رفقة خاصة، إذ التأخر في الذكر هنا إشارة إلى سبق في الحضور وسمو في العناية. وما إرجاء القول فيها إلا لغزارة ما يذكر فيها و لخصوصية رعاية البيت الوزاني لهذا الطرب وامتداده حتى كاد الوزانيون أن يشتهروا به دون سواه. واسألوا المكرم عن ذاك؛ ففي وجدانه وذاكرته من يثبت ذلك ويزكيه.
ولعلني سأكون مجحفا إن زعمت أنني سأوفي هذا الفن حقه من توقيعات آل وزان وعنايتهم به؛ حفظا ومحافظة ونشرا وتداولا مما لازلنا نجد آثاره وظلاله ماثلة إزاء آذاننا وأبصارنا إلى اليوم والآن. ومع ذلك، يمكن أن نستحضر في هذا الباب، على سبيل الإلماعات التمثيلية، ما كان يعرفه عهد الشيخ سيدي علي بن أحمد من وافر عناية و زاخر احتفاء بطرب الآلة وأهله، وما شهده هذا العصر من نهضة موسيقية، حيث يسجل لنا الضعيف الرباطي في تاريخه مثلا: "وفي آخر شعبان حين كنا بوازن ورد علينا الشريف سيدي عبد الله بن محمد بن عبد القادر الذي كان بالدار البيضاء، أخذنا أياما من الزهور والسرور بالقشريين مع الشرفاء أولاد سيدي محمد بن العربي جاد علينا الدهر بالزمان والمكان والإخوان، بعثنا لفاس وراء الشاب عبد السلام الجابري1 فأتى إلينا بعوده، وكان معنا الشريف سيدي هاشم التطواني الزياني، وكان المعلم موسى بن أبي جمعة ورفيقه الشاب السيد علال بن مولود الفاسي، والشاب أبو العباس التطواني صاحب القرط، وسهرنا بالآلة ليالي رمضان وشوال، فسبحان مبدل الأوقات ومحيي العظام الرفاة، والأمر لله من قبل ومن بعد..."2
إن هذا النص الذي يشير إلى ما كانت تعرفه دار وزان في حدود 1206هـ، من نشاط فني وموسيقي يكتسي قيمة خاصة لكونه يؤشر على أسماء فنية وازنة وبشهادة مؤرخ عدل، ويكشف عن حيوية فنية وانتعاش موسيقي تعضده علامات أخر؛ منها ظهور أعلام في دار وزان، كان لهم عظيم الإسهام والحضور في مجال طرب الآلة، منهم سيدي محمد بن أحمد الشاهد الملقب بزرياب المغرب والذي عمر طويلا (عاش 135 سنة)، وكان أحد أقطاب فن الموسيقى على المستوى الوطني يتوافد عليه الولوعون والباحثون في المجال الموسيقي من كل أنحاء المغرب للاستفادة من محفوظة والنهل من معارفه الموسيقية، وكان يحتضنهم ويستضيفهم ويكرمهم ولا يغادرونه حتى يظفروا بحاجاتهم.
ومنهم أيضا الأستاذ العالم عبد العزيز الوزكاني الذي اختص بتعليم الناشئة على استعمال آلة العود، وله تأليف فيها يبين كيفية التوقيع عليه، واستخراج الأنغام من أوتاره سماه: "تحفة الودود لطالب صناعة العود".
وربما كان أبهر برهان على الحضور الموسيقي في عهد الشيخ مولاي علي بن أحمد هذا النص الرفيع الذي وثقه لنا سيدي عبد الله بن الطيب الوزاني في كتابه "الروض المنيف في التعريف بأولاد مولانا عبد الله الشريف"، حيث نقرأ فيه وهو يتحدث عن الشيخ أثناء احتضاره في مرضه الأخير، يكتب: "أمر فقراء البردة – كما يروي واحد ممن حضر الحدث – بقراءتها من أولها إلى ختمها، وقرؤوا من الهمزية شيئا من آخرها حتى ختموها، وأمرهم بقراءة بعض القصائد المولدية فيه مدح خير البرية، ووجبت صلاة العصر فأمر بالوضوء من لم يكن على وضوء فتوضؤوا وصلينا الظهر، وأذن لأصحاب الموسيقى فدخلوا فأمرهم أن يعملوا عراق العجم فعملوا منه ما شاء الله، وشيئا من طبع الحسين، وأمرهم أيضا أن يعملوا التوشيح المعلوم لأبي حيان وهو "إن جن ليل داج"، وهذا بواسطة ابن البركة وخليفته من بعده ووارث سره مولانا التهامي "3 .
قيمة هذا النص جليلة إذ يفيد إفادات رفيعة ونفيسة منها حضور الطرب في الاحتضار، وهو إشارة إلى إقبال أهل الله على الله بفرح، لأنهم يفرحون بلقاء الله، ومن فرح بلقاء الله فرح الله بلقائه. كما يكشف عن معرفة عميقة ودقيقة للشيخ بنصوص السماع وكذا بطبوع ونصوص مدونة الآلة حيث يعين للمطربين الصنائع والطبوع، وهو لعمري برهان ساطع على رونق الذوق، وروح الأناقة الروحية والفنية لشيوخ آل البيت الوزاني. الأمر الذي امتد في الأبناء والأحفاد، ولمع خصوصا مع الحاج سيدي عبد السلام بن مولاي العربي . (مشيخته ما بين 1850 – 1892م) والذي عرف بهوايته وعشقه للموسيقى. ومعه ومع أبنائه ستتحول طنجة التي انتقل إليها إلى قبلة فنية وأكاديمية موسيقية تشبع وتكون فيها و بها عدة أعلام وموسيقيين مغاربة بارزين.
ومن أبرز أبناء مولاي عبد السلام الذين كان لهم شأن في هذا الفن (أبناء مولاي عبد السلام من زوجته الانجليزية إيميلي كين)، ابنه الثاني من زوجته ايميلي مولاي أحمد المولود مع توأم له أنثى لم يكتب لها البقاء، عام 1876 م، وقد نشأ مولاي أحمد إلى جانب أخيه مولاي علي في بيت جمع بين العلم والولاعة بالطرب والموسيقى، وخصوصا طرب الآلة، وكان مولاي أحمد إلى جانب ولعه بالطرب ذا ثقافة واسعة فضلا عن دراسته للغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وقد عين في الثلاثينيات من القرن العشرين باشا على مدينة وزان، لكن ورعه وحسه المرهف منعاه من ممارسة دور رجل السلطة ليرجع لمدينة طنجة ويستقر بدار الضمانة بحومة دار البارود، وهناك اشتغل بالمطالعة والتأليف في الموسيقى الأندلسية، وحاول لأول مرة تدوين هذه الموسيقى بالنوطة، وهو ما يعرف بالكتابة الموسيقية أو التنويط، و يعتبر في طرب الآلة قطبا لا يضاهى وعلما لا يشق له غبار.
كان بيته قبلة للولوعين والباحثين في الموسيقى الأندلسية وهواتها القادمين من جميع أنحاء المغرب، وكانت تقام في بيته مساء كل جمعة حفلة موسيقية أندلسية، تنطلق بعد صلاة العصر ولا تنتهي إلى في ساعات متأخرة من الليل، ولا يستراح فيها من الطرب إلا للصلاة أو تناول الطعام.
هكذا شكل هذا البيت مدرسة لكثير من أعلام الطرب والفن الأصيل الأندلسي بالمغرب.
توفي مولاي أحمد الوزاني 1965 م عن سن يناهز 90 سنة، مخلفا حكمه (ذكر وأنثى)، وكلهم مولعون بطرب الآلة غير أن أسطعهم وأبرزهم: مولاي العربي وأخوه سيدي إبراهيم. ونم كبار الفنانين الذين ترددوا على هذا البيت:
الفنان محمد بن العربي التمسماني.
محمد بن الصادق عازف العود.
محمد الفيلالي عازف الرباب.
الحاج بن العربي عازف الكمان.
العازف علي الطار المختار بن علي.
تم التحق بالمجموعة مولاي أحمد الوكيلي إثر قدومه من فاس عام 1940 م.
وقد شكل هذا البيت بفضل مجالس مولاي أحمد الوزاني الطربية: "منتدى لتلاحم أسلوب المدرسة التطوانية مع بعض معطيات المدرسة الفاسية لتخلف اتجاها متفردا ما تزال كثير من مقوماته التعبيرية بارزة في نمط الأداء الذي يميز جوق الوطني للموسيقى بطنجة برئاسة الأستاذ أحمد الزيتوني الصحراوي "4
وكما أشرنا سالفا فإن مولاي العربي الوزاني ابن الفنان مولاي أحمد قد فاق أقرانه وأترابه في العناية بطرب الآلة تنظيرا وإبداعا، وقد نهل كما هو واضح من مدرسة والده، واستمد قوة الولاعة ووسع العطاء من مجالس والده التي كان يحضرها منذ نعومة أظافره، مما جعله موسوعة في استيعاب الصنائع والميازين السائر منها والنادر كما كان عازفا على آلات عديدة مثل البيانو والكلاريتا فضلا عن كونه أسهم في تطوير وتوسيع مدونة طرب الآلة، وكان أبرز إسهام له في هذا الباب تلحينه لميزان قائم ونص أنهاوند.
أما على المستوى النظري فقد كان ذا قلم سيال ونظر علمي موسيقي ثاقب، تجعله أساسا في غزارة المقالات التي ضمنها نظرياته في طرب الآلة سواء على مستوى ترتيب الطبوع الذي اقترح له منهاجا ترتيبيا جديدا، أو على مستوى تحليل أساليب أخرى أو على مستوى خصائص البيتاين والمواويل المغربي، وعلى مستوى إبراز الخلفيات تجديد في طرب الآلة وتعيين خلفيات إبداعه لقائم ونصف النهاوند، هذا الجمع بين النظر والممارسة بين التحليل والتعاطي العملي الفني، أهله للمشاركة في المؤتمر الثاني للموسيقى العربية بفاس عام 1969. و إن من شكل التعرف على عناوين بعض أبحاثه ومقالاته اكتشاف مستوى معرفة وانشغالات الرجل العلمية والفنية بطرب الآلة. من هذه الأعمال والأبحاث:
- "الموسيقى الشرقية" أم الموسيقى الأندلسية المغربية" (04/-09-1975)؛
- "أضواء كشافة عن عظمة الموسيقى الأندلسية المغربية وفضل فن الارتجال عليها" (12-01-1976)؛
- "بيان كما يطلق عليه المشرقي الصغير" (29- 04-1976)؛
- "حول القائم ونص النهاوند والغاية التي يسعى إليها" (02-07-1979)؛
- أسلوب العازفية الحفاظ وغير الحفاظ؛
- "سلالم ومقامات الموسيقى الأندلسية المغربية ودراسة طبوعها"
- "الموسيقى الأندلسية المغربية بين المد والجزر"؛
- "التحليل النظري للطبوع المركبة"؛
- "حول إعادة طبع ديوان الأشعار الغنائية في الموسيقى الأندلسية المغربية" ... إلخ.
تصميم مزخرف لشجرة الطبوع سماه "شمس الفن الأندلسي المغربي- أصوله وفروعه والمركب منه وسلالمه"5
ومن خلال هذه النماذج، وانطلاقا من تأمل أولي للعناوين فقط، ستتبين الرؤية الشمولية التي كانت تميز نظرة الرجل لطرب الآلة، على صعود الطبوع والأداء والعزف، فضلا عن رؤيته للمكون الأدبي ووعيه التاريخي لمسار طلب الآلة ماضيا ثم واقعة في زمانه وعصره.
وفي هذا السياق لا يفوتني أن أدعو إلى ضرورة جمع هذه الأعمال في كتاب للأعمال الكاملة لراوي العربي الوزاني، وتدوينها وتوثيقها مع تصديرها بمقدمة تعرف بقيمة هذا العلم المتميز وباستثنائية اسهامه تنظيرا وممارسة في تاريخ هذه الموسيقى وهذا أقل عنوان على الوفاء فقد توفي مولاي العربي رحمه الله 1983 بطنجة.
- وإلى جانب مولاي العربي نجد أخاه سيدي ابراهيم الذي كان ولوعا أيضا بطرب الآلة متقنا بالعزف والغناء، عازفا على أكثر من آلة، كان ميله للبيانو أبرز وأظهر. وقد اتخذ أيضا من بيته تحفلا ومجمعا للهواة والمولوعين، وأخذ على عاتقه تعليم الملجأ الخيري الموسيقى فخصص لهم كل صباح أحد حصة تعليمية.
كان أيضا متعدد المواهب مثل مولاي العربي رحمه الله، اشتركا معا في إنجاز بعض الأعمال السينمائية وتعاطي لتدريس الموسيقى في المعهد إلى أن وافته المنية 1981 ليدفن بمقبرة الشرفاء الوزانين بمرشان.
وإجـمـالا هذه علامات دالة مازالت بعض آثارها تلمع في أبناء وأنجال وأحفاد هؤلاء الشرفاء؛ تظهر في وله ذكرانهم و إناثهم بفنون السماع وطرب الآلة وميلهم للموسيقى الصوفية، وهو ما يجعل من هذا البيت قلعة من قلاع حماية الفن الأصيل، وركنا يأوي إليه أرباب الذوق السامي، والطرب الراقي؛ أكان سماعا أم موسيقى طرائف أم طرب آلة.
==============
1 - ولعله من أقرباء الفنان الماهر في العزف على الكمان، عبد الحق الجابري الحسناوي الذي كان يؤنس الشيخ العارف سيدي أحمد التيجاني، والذي قال في حقه سيدي حمدون بلحاج اسماعيل:
إن السماع لمقلة إنساناها في الجابري
جبر القلوب بقوسه فاعجب لقوس جابري
(راجع : "موسيقى المواجيد، مقاربات في فن السماع المغربي، محمد التهامي الحراق، منشورات الزمن، الرباط 2010. )
2 - تاريخ الضعيف الرباطي، تحقيق وتعليق وتقديم أحمد العماري: ص 258.
3 - الروض المنيف..: و 119/أ.
4 - مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية: ص 278
5 - أنظر نسخة منه كتاب "شرفاء وزان" : الهادي بجيجو: ص 139.
ومن ثم هذه فقط إضاءات ولمع لا تزعم الإحاطة الكافية الشافية ولا فصل المقال في موضوع يحتاج أغزر وأكثر من مقال وهو ما لا يستوعبه المقام .
لهذا نقول ,ومن باب الإجمال، أن دار وزان وآل البيت الوزاني ائتلف في رحابهم الشرف والعلم والصلاح، وازدان ذلك بولعهم بالطرب. ولم يكن هذا الطرب إلا وجها من الأوجه الجمالية الروحية التي طبعت مسارات ومذاقات أهل هذا البيت؛ بحيث ساهم إقبالهم على الشعر الرفيع والنغم البديع في المحافظة على رفعة الذوق، وسلامة الحس، ونبالة المعنى؛ بل صار هذا الوجه بابا من أبواب الدعوة إلى الله ونشر قيم الألفة والوسع والتحاب وتوسيع دوائر الذكر والصلاة على الحبيب المصطفى ,مما هو ركن من أركان الطريقة وثابت من ثوابت المسار التاريخي والروحي للمشرب الصوفي الشاذلي الجزولي.
هكذا، ومن إجراء قراءة إجمالية لحضور التوقيع الوزاني في ديوان الطرب الأصيل بالمغرب، نسجل بداية ارتباط آل وزان بيتا وزاوية بالموسيقى الصوفية يوجه عام؛ أي بمختلف أنماط الطرب التي حضرت في الزاوية أو تولدت فيها أو تفرعت عن نسقها خدمة للمقاصد التأهيلية والتطهيرية والتربوية الروحية المطلوبة من الفن والمسندة للطرب في الفضاء الروحي الزاوياتي. من هذا المنظور نستطيع وضع اليد مع ثلاثة فنون متواشحة ومتآثرة ومتفاعلة وإن كانت متمايزة ومتغايرة هوية ومكونات وأسلوبا:
1) موسيقى الطوائف الصوفية؛
2}موسيقى السماع؛
3) الموسيقى الأندلسية المغربية أو طرب الآلة.
على أن هذا الترتيب إجرائي لا تراتبي، ويتصل بمنهج الطرح والمقاربة لا بتفاضل في القيمة أو صرامة كرونولوجية في الترتيب.
1) موسيقى الطوائف الصوفية:
لعل ما أسهمت به الزاوية الوزانية على هذا الصعيد، هو ظهور طوائف موسيقية ارتبط اسمها ورسمها ومادة إنشادها بالزاوية الوزانية، واقترن فيها الغناء والإنشاد بشيوخ الزاوية، وفضاءات الإنشاد والتغني بمراكزها؛ بحيث ظهرت أساسا عهد الشيخ الثالث للطريقة الوزانية، مولاي التهامي بن مولاي محمد بن مولاي عبد الله الشريف (تولى المشيخة ما بين 1709 م – 1718 م)، طائفة "تهامة" التي اختص ديوان إنشادها ببعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمجيد ذكرالحق بمدح آل وزان، وإبراز فضائل ومناقب الشيخ مولاي التهامي. وقد ساعد على ظهورها انتشار الطريقة في عهد هذا الشيخ داخل المغرب وخارجه، وعنايته بقرض الأزجال والمربعات على نسق الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب، ومن أشهر مربعات مولاي التهامي مثلا، قوله:
من جا لحضرتنا يبـــرا = يمـشي بقـلبو مستامن
يجي نحاس يمشي نقــرا = سيـدنا محمد هو الضامن
ومن كلامه في الحكم:
إلي يحقق يدقق ما = يصيب مع من يترافق
وقد اختصت طائفة "تهامة" المشتق اسمها من الانتساب للشيخ مولاي التهامي، بالأذكار والمرددات والمربعات والأهازيج المتعلقة بإبراز كرامات ومناقب وفضائل وسر المشرب الوزاني؛ وخصوصا الفيوضات الروحية التهامية مستعملة في ذلك آلة "الطويسة"، و"الضرب على الكف" مع مشاركة رئيسة ومتميزة للذكارات إلى جانب الذكارين، في إيقاعات وأساليب يمتزج فيها البدوي بالحضري، والعربي بالإفريقي، مما يقتضي الكشف والفحص.
وما زال "تهامة" وامتدادهم في منطقة توات الصحراوية، بما يعرفوا بطائفة "أهل التوات"، يمارسون هذا الطرب المتميز والرفيع، وإن كانت تصاريف الزمن، وكذا الإهمال والنسيان وغياب توثيق النصوص والألحان يتهدد هذا التراث الوزاني الرفيع بالإتلاف والاندثار على كل غرار تراث شفاهي لم يعرف طريقة إلى العناية العالمة.
2) موسيقى السماع:
ونعني بها أساسا إنشاد الأشعار المديحية والصوفية وفق أساليب طرب الآلة وكذا وفق استعمالات الزوايا المغربية الشاذلية لميزان الطبوع الأندلسية في المديح والذكر؛ خصوصا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وتنظيم حلقات الذكر داخل الزوايا، ويقوم السماع غالبا على الإنشاد مجردا عن المعازف والآلات.
وهنا، وكما سلفت الإشارة، مازلنا في حاجة أيضا إلى دراسات في فاحصة تبرز حضور فن السماع في الزاوية الوزانية منذ عهد مؤسسها الشيخ الصالح والقطب الفالح مولاي عبد الله الشريف، وفي "التحفة القادرية" لسيدي عبد السلام القادري من الإشارات في هذا الباب ما يستحق التجميع والدراسة والفحص.
لكن نستطيع أن نلتقط إشارات واضحة لاستواء حضور فن السماع بيت آل وزان وضمن الزاوية أساسا مع الشيخ السادس للزاوية، سيدي علي بن أحمد بن مولاي الطيب بن مولاي محمد بن القطب مولاي عبد الله شريف (امتدت مشيخته منذ 1781 – 1811م). ولا مراء في أن فترة هذا الشيخ المبارك كانت فترة ازدهار علمي وفني بارز وساطع، سواء في السماع أو في طرب الآلة كما سنرى لاحقا.
وما يمكن أن نشير إليه هنا على سبيل الاقتضاب لا التفصيل، أنه أصبح للزاوية ميراث وتقاليد فنية في السماع، لعل أبرزها إنشاد بردة الإمام البوصيري من لدن منشدين اختصوا بهذا المتن المديحي عرفوا به بـ "فقراء البردة". كما أن الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف صار محفلا ممتازا للإنشاد والسماع فرحا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، لم يقتصر خلاله الأمر على الرجال؛ بل إن الولية الصالحة الباتول بنت الشيخ مولاي علي بن أحمد، كانت تحيي ليلة عظيمة تسرد فيها البردة والهمزية البوصيريتين وغيرهما من قصيد المديح، وتنفق في ذلك الإنفاق الكريم، كما يصف ذلك صاحب "الكوكب الأسعد في مناقب مولانا علي بن أحمد". ولعل عناية الشيخ بهذا البعد الفني والجمالي التربوي، إلى جانب النهضة العامة التي عرفتها الزاوية في عهده اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعلميا، هو ما يفسر تحول ضريحه إلى مركز للمديح والسماع، يقام فيه احتفال سماعي أسبوعي عشية كل جمعة، مما جعله يصبح، وإلى يومنا هذا، مدرسة تلقن الأجيال أصول هذا الفن، وتربى الصغار والكبار على التشبع بحب ومدح المصطفى صلى الله عليه وسلم. والمتحدث إليكم واحد من خريجي هذه المدرسة المباركة التي مازال أخي وأستاذي سيدي أحمد الحراق يشرف على استمرارها وامتدادها بارك الله فيه وفي سائر خدام الجناب النبوي الشريف.
ومن مظاهر انتعاش السماع في البيت الوزاني -والذي تحافظ عليه هذه المدرسة- أن أنتج لنا أعمالا ألبست أي تلاحين لمتن البردة، تحاكي "العمل الفاسي" ( الطريقة الفاسية في ترتيل البردة وإنشادها) وتغايره في آن. متن فني يقسم البردة إلى أقسام ومراكز ويخص كل واحد منها بطبع أو طبوع، إلى أن يستوفي المتن البوصيري كاملا، مع خصيصات فنية تميزه عن غيره تقوم أساسا على الانتقال من طبع لآخر عن طريق الإنشاد لا عن طريق التنسيق النغمي داخل متن البردة مع شاكلة "العمل الفاسي". وقد أحدث وقف خاص لتلاوة هذا العمل صبيحة كل جمعة بضريح مولاي عبد الله الشريف.
كما تم تلحين متن البردة نفسه بأسلوب آخر سردي يتلى في نسق نغمي آخر يمتاز بالسرعة في الأداء والحزن في الألحان، وتعتبر تلاوته في الجنائز المحلية فرض عين بعد تلاوة أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب الإمام الجزولي "دلائل الخيرات"، لهذا تعرف هذه التلاوة للبردة بـ"البردة الجنائزية"، وهي من أبدع وأرفع ما يسمع. هذا ناهيك على مظهر آخر من حضور السماع في هذه الزاوية، وهو ظهور كنانيش مديحية بوازن وبين آل البيت الوزاني، ذات نصوص ومولديات وموشحات مشتركة التداول وخاصة. فبالإضافة إلى البردة والهمزية والوتريات البغدادية ونصوص كبار رجال القوم، نجد قدودا مديحية وآلية ذات مضمون مناقبي وزاني.
3) طرب الآلة:
لعل في تأخير الحديث عن طرب الآلة، دلالة على رفقة خاصة، إذ التأخر في الذكر هنا إشارة إلى سبق في الحضور وسمو في العناية. وما إرجاء القول فيها إلا لغزارة ما يذكر فيها و لخصوصية رعاية البيت الوزاني لهذا الطرب وامتداده حتى كاد الوزانيون أن يشتهروا به دون سواه. واسألوا المكرم عن ذاك؛ ففي وجدانه وذاكرته من يثبت ذلك ويزكيه.
ولعلني سأكون مجحفا إن زعمت أنني سأوفي هذا الفن حقه من توقيعات آل وزان وعنايتهم به؛ حفظا ومحافظة ونشرا وتداولا مما لازلنا نجد آثاره وظلاله ماثلة إزاء آذاننا وأبصارنا إلى اليوم والآن. ومع ذلك، يمكن أن نستحضر في هذا الباب، على سبيل الإلماعات التمثيلية، ما كان يعرفه عهد الشيخ سيدي علي بن أحمد من وافر عناية و زاخر احتفاء بطرب الآلة وأهله، وما شهده هذا العصر من نهضة موسيقية، حيث يسجل لنا الضعيف الرباطي في تاريخه مثلا: "وفي آخر شعبان حين كنا بوازن ورد علينا الشريف سيدي عبد الله بن محمد بن عبد القادر الذي كان بالدار البيضاء، أخذنا أياما من الزهور والسرور بالقشريين مع الشرفاء أولاد سيدي محمد بن العربي جاد علينا الدهر بالزمان والمكان والإخوان، بعثنا لفاس وراء الشاب عبد السلام الجابري1 فأتى إلينا بعوده، وكان معنا الشريف سيدي هاشم التطواني الزياني، وكان المعلم موسى بن أبي جمعة ورفيقه الشاب السيد علال بن مولود الفاسي، والشاب أبو العباس التطواني صاحب القرط، وسهرنا بالآلة ليالي رمضان وشوال، فسبحان مبدل الأوقات ومحيي العظام الرفاة، والأمر لله من قبل ومن بعد..."2
إن هذا النص الذي يشير إلى ما كانت تعرفه دار وزان في حدود 1206هـ، من نشاط فني وموسيقي يكتسي قيمة خاصة لكونه يؤشر على أسماء فنية وازنة وبشهادة مؤرخ عدل، ويكشف عن حيوية فنية وانتعاش موسيقي تعضده علامات أخر؛ منها ظهور أعلام في دار وزان، كان لهم عظيم الإسهام والحضور في مجال طرب الآلة، منهم سيدي محمد بن أحمد الشاهد الملقب بزرياب المغرب والذي عمر طويلا (عاش 135 سنة)، وكان أحد أقطاب فن الموسيقى على المستوى الوطني يتوافد عليه الولوعون والباحثون في المجال الموسيقي من كل أنحاء المغرب للاستفادة من محفوظة والنهل من معارفه الموسيقية، وكان يحتضنهم ويستضيفهم ويكرمهم ولا يغادرونه حتى يظفروا بحاجاتهم.
ومنهم أيضا الأستاذ العالم عبد العزيز الوزكاني الذي اختص بتعليم الناشئة على استعمال آلة العود، وله تأليف فيها يبين كيفية التوقيع عليه، واستخراج الأنغام من أوتاره سماه: "تحفة الودود لطالب صناعة العود".
وربما كان أبهر برهان على الحضور الموسيقي في عهد الشيخ مولاي علي بن أحمد هذا النص الرفيع الذي وثقه لنا سيدي عبد الله بن الطيب الوزاني في كتابه "الروض المنيف في التعريف بأولاد مولانا عبد الله الشريف"، حيث نقرأ فيه وهو يتحدث عن الشيخ أثناء احتضاره في مرضه الأخير، يكتب: "أمر فقراء البردة – كما يروي واحد ممن حضر الحدث – بقراءتها من أولها إلى ختمها، وقرؤوا من الهمزية شيئا من آخرها حتى ختموها، وأمرهم بقراءة بعض القصائد المولدية فيه مدح خير البرية، ووجبت صلاة العصر فأمر بالوضوء من لم يكن على وضوء فتوضؤوا وصلينا الظهر، وأذن لأصحاب الموسيقى فدخلوا فأمرهم أن يعملوا عراق العجم فعملوا منه ما شاء الله، وشيئا من طبع الحسين، وأمرهم أيضا أن يعملوا التوشيح المعلوم لأبي حيان وهو "إن جن ليل داج"، وهذا بواسطة ابن البركة وخليفته من بعده ووارث سره مولانا التهامي "3 .
قيمة هذا النص جليلة إذ يفيد إفادات رفيعة ونفيسة منها حضور الطرب في الاحتضار، وهو إشارة إلى إقبال أهل الله على الله بفرح، لأنهم يفرحون بلقاء الله، ومن فرح بلقاء الله فرح الله بلقائه. كما يكشف عن معرفة عميقة ودقيقة للشيخ بنصوص السماع وكذا بطبوع ونصوص مدونة الآلة حيث يعين للمطربين الصنائع والطبوع، وهو لعمري برهان ساطع على رونق الذوق، وروح الأناقة الروحية والفنية لشيوخ آل البيت الوزاني. الأمر الذي امتد في الأبناء والأحفاد، ولمع خصوصا مع الحاج سيدي عبد السلام بن مولاي العربي . (مشيخته ما بين 1850 – 1892م) والذي عرف بهوايته وعشقه للموسيقى. ومعه ومع أبنائه ستتحول طنجة التي انتقل إليها إلى قبلة فنية وأكاديمية موسيقية تشبع وتكون فيها و بها عدة أعلام وموسيقيين مغاربة بارزين.
ومن أبرز أبناء مولاي عبد السلام الذين كان لهم شأن في هذا الفن (أبناء مولاي عبد السلام من زوجته الانجليزية إيميلي كين)، ابنه الثاني من زوجته ايميلي مولاي أحمد المولود مع توأم له أنثى لم يكتب لها البقاء، عام 1876 م، وقد نشأ مولاي أحمد إلى جانب أخيه مولاي علي في بيت جمع بين العلم والولاعة بالطرب والموسيقى، وخصوصا طرب الآلة، وكان مولاي أحمد إلى جانب ولعه بالطرب ذا ثقافة واسعة فضلا عن دراسته للغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وقد عين في الثلاثينيات من القرن العشرين باشا على مدينة وزان، لكن ورعه وحسه المرهف منعاه من ممارسة دور رجل السلطة ليرجع لمدينة طنجة ويستقر بدار الضمانة بحومة دار البارود، وهناك اشتغل بالمطالعة والتأليف في الموسيقى الأندلسية، وحاول لأول مرة تدوين هذه الموسيقى بالنوطة، وهو ما يعرف بالكتابة الموسيقية أو التنويط، و يعتبر في طرب الآلة قطبا لا يضاهى وعلما لا يشق له غبار.
كان بيته قبلة للولوعين والباحثين في الموسيقى الأندلسية وهواتها القادمين من جميع أنحاء المغرب، وكانت تقام في بيته مساء كل جمعة حفلة موسيقية أندلسية، تنطلق بعد صلاة العصر ولا تنتهي إلى في ساعات متأخرة من الليل، ولا يستراح فيها من الطرب إلا للصلاة أو تناول الطعام.
هكذا شكل هذا البيت مدرسة لكثير من أعلام الطرب والفن الأصيل الأندلسي بالمغرب.
توفي مولاي أحمد الوزاني 1965 م عن سن يناهز 90 سنة، مخلفا حكمه (ذكر وأنثى)، وكلهم مولعون بطرب الآلة غير أن أسطعهم وأبرزهم: مولاي العربي وأخوه سيدي إبراهيم. ونم كبار الفنانين الذين ترددوا على هذا البيت:
الفنان محمد بن العربي التمسماني.
محمد بن الصادق عازف العود.
محمد الفيلالي عازف الرباب.
الحاج بن العربي عازف الكمان.
العازف علي الطار المختار بن علي.
تم التحق بالمجموعة مولاي أحمد الوكيلي إثر قدومه من فاس عام 1940 م.
وقد شكل هذا البيت بفضل مجالس مولاي أحمد الوزاني الطربية: "منتدى لتلاحم أسلوب المدرسة التطوانية مع بعض معطيات المدرسة الفاسية لتخلف اتجاها متفردا ما تزال كثير من مقوماته التعبيرية بارزة في نمط الأداء الذي يميز جوق الوطني للموسيقى بطنجة برئاسة الأستاذ أحمد الزيتوني الصحراوي "4
وكما أشرنا سالفا فإن مولاي العربي الوزاني ابن الفنان مولاي أحمد قد فاق أقرانه وأترابه في العناية بطرب الآلة تنظيرا وإبداعا، وقد نهل كما هو واضح من مدرسة والده، واستمد قوة الولاعة ووسع العطاء من مجالس والده التي كان يحضرها منذ نعومة أظافره، مما جعله موسوعة في استيعاب الصنائع والميازين السائر منها والنادر كما كان عازفا على آلات عديدة مثل البيانو والكلاريتا فضلا عن كونه أسهم في تطوير وتوسيع مدونة طرب الآلة، وكان أبرز إسهام له في هذا الباب تلحينه لميزان قائم ونص أنهاوند.
أما على المستوى النظري فقد كان ذا قلم سيال ونظر علمي موسيقي ثاقب، تجعله أساسا في غزارة المقالات التي ضمنها نظرياته في طرب الآلة سواء على مستوى ترتيب الطبوع الذي اقترح له منهاجا ترتيبيا جديدا، أو على مستوى تحليل أساليب أخرى أو على مستوى خصائص البيتاين والمواويل المغربي، وعلى مستوى إبراز الخلفيات تجديد في طرب الآلة وتعيين خلفيات إبداعه لقائم ونصف النهاوند، هذا الجمع بين النظر والممارسة بين التحليل والتعاطي العملي الفني، أهله للمشاركة في المؤتمر الثاني للموسيقى العربية بفاس عام 1969. و إن من شكل التعرف على عناوين بعض أبحاثه ومقالاته اكتشاف مستوى معرفة وانشغالات الرجل العلمية والفنية بطرب الآلة. من هذه الأعمال والأبحاث:
- "الموسيقى الشرقية" أم الموسيقى الأندلسية المغربية" (04/-09-1975)؛
- "أضواء كشافة عن عظمة الموسيقى الأندلسية المغربية وفضل فن الارتجال عليها" (12-01-1976)؛
- "بيان كما يطلق عليه المشرقي الصغير" (29- 04-1976)؛
- "حول القائم ونص النهاوند والغاية التي يسعى إليها" (02-07-1979)؛
- أسلوب العازفية الحفاظ وغير الحفاظ؛
- "سلالم ومقامات الموسيقى الأندلسية المغربية ودراسة طبوعها"
- "الموسيقى الأندلسية المغربية بين المد والجزر"؛
- "التحليل النظري للطبوع المركبة"؛
- "حول إعادة طبع ديوان الأشعار الغنائية في الموسيقى الأندلسية المغربية" ... إلخ.
تصميم مزخرف لشجرة الطبوع سماه "شمس الفن الأندلسي المغربي- أصوله وفروعه والمركب منه وسلالمه"5
ومن خلال هذه النماذج، وانطلاقا من تأمل أولي للعناوين فقط، ستتبين الرؤية الشمولية التي كانت تميز نظرة الرجل لطرب الآلة، على صعود الطبوع والأداء والعزف، فضلا عن رؤيته للمكون الأدبي ووعيه التاريخي لمسار طلب الآلة ماضيا ثم واقعة في زمانه وعصره.
وفي هذا السياق لا يفوتني أن أدعو إلى ضرورة جمع هذه الأعمال في كتاب للأعمال الكاملة لراوي العربي الوزاني، وتدوينها وتوثيقها مع تصديرها بمقدمة تعرف بقيمة هذا العلم المتميز وباستثنائية اسهامه تنظيرا وممارسة في تاريخ هذه الموسيقى وهذا أقل عنوان على الوفاء فقد توفي مولاي العربي رحمه الله 1983 بطنجة.
- وإلى جانب مولاي العربي نجد أخاه سيدي ابراهيم الذي كان ولوعا أيضا بطرب الآلة متقنا بالعزف والغناء، عازفا على أكثر من آلة، كان ميله للبيانو أبرز وأظهر. وقد اتخذ أيضا من بيته تحفلا ومجمعا للهواة والمولوعين، وأخذ على عاتقه تعليم الملجأ الخيري الموسيقى فخصص لهم كل صباح أحد حصة تعليمية.
كان أيضا متعدد المواهب مثل مولاي العربي رحمه الله، اشتركا معا في إنجاز بعض الأعمال السينمائية وتعاطي لتدريس الموسيقى في المعهد إلى أن وافته المنية 1981 ليدفن بمقبرة الشرفاء الوزانين بمرشان.
وإجـمـالا هذه علامات دالة مازالت بعض آثارها تلمع في أبناء وأنجال وأحفاد هؤلاء الشرفاء؛ تظهر في وله ذكرانهم و إناثهم بفنون السماع وطرب الآلة وميلهم للموسيقى الصوفية، وهو ما يجعل من هذا البيت قلعة من قلاع حماية الفن الأصيل، وركنا يأوي إليه أرباب الذوق السامي، والطرب الراقي؛ أكان سماعا أم موسيقى طرائف أم طرب آلة.
==============
1 - ولعله من أقرباء الفنان الماهر في العزف على الكمان، عبد الحق الجابري الحسناوي الذي كان يؤنس الشيخ العارف سيدي أحمد التيجاني، والذي قال في حقه سيدي حمدون بلحاج اسماعيل:
إن السماع لمقلة إنساناها في الجابري
جبر القلوب بقوسه فاعجب لقوس جابري
(راجع : "موسيقى المواجيد، مقاربات في فن السماع المغربي، محمد التهامي الحراق، منشورات الزمن، الرباط 2010. )
2 - تاريخ الضعيف الرباطي، تحقيق وتعليق وتقديم أحمد العماري: ص 258.
3 - الروض المنيف..: و 119/أ.
4 - مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية: ص 278
5 - أنظر نسخة منه كتاب "شرفاء وزان" : الهادي بجيجو: ص 139.