نقوس المهدي
كاتب
هل كان الواسطي سيبدع أثره التشكيلي المستوحى من مقامات الحريري لولا وجود ذلك النص الأدبي؟لا أعتقد إلا أنني سأجيب بالنفي .لأن كلا العملين على اختلاف أسلوبيها ، أصبح كل منهما يحيل على الآخر ، وحدث نوع من التماهي بينهما . إلى درجة يصعب فيها تحديد أيهما المرجع الأكثر دلالة وإضاءة للآخر. رغم أن المقامات كنص أدبي أسبق زمنيا ، ولم يقم الواسطي سوى بترجمته ترجمة تشكيلية تعتمد على عناصر بصرية ، زادته إمتاعا وجمالية.
إنني أنطلق من هذا التساؤل محاولا أن أتلمس حكاية هذه المقامات وهي تتحول إلى تشكيل بالخط واللون على يد الواسطي ،وهو يؤسس لعلاقة جديدة بين النص في صورته اللغوية وبين التشكيل العربي الذي كان يخطو خطواته الأولى طارقا آفاق تعبيرية لا عهد له بها . وسأحاول أن أعرج على بعض القضايا الصميمية التي لها صلة من بعيد أو قريب بموضوع هذه الورقة ، بما هي محاولة كشف لتاريخ هذا التماس الجمالي بين الشكلين التعبيرين ، ولنقاط التقاطع والاختلاف بين ما كتبه الحريري ، وما أبدعه الواسطي .
يتبين من تتبع مدلول لفظ المقامة لدى النقاد والمؤرخين ، أن المقامة تدل على اسم المكان ، وليست مصدرا ، وربما هذا نفسه ما يفسر احتفاء المقامات بأسماء المدن والأمكنة من نحو المقامة الصنعانية ، الحلوانية ، الواسطية ..
يقول القلقشندي صاحب صبح الأعشى : ” المقامة بفتح الميم ، اسم للمجلس والجماعة من الناس ، وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة . كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها “.
قبل ظهور المقامة كلون أدبي معروف الخصائص ، في القرن الرابع الهجري ، لم يكد لفظ مقامة يخرج عن دائرة المجلس أو الجماعة من الناس ، أو الموقف للفصل في خصومة أو حث على الخير، وذلك ما تدعمه الشواهد الشعرية أو النثرية على السواء .والذي لم يكن ما كان يقصده الهمذاني حين كتب المقامة، فقد عنى لفظ المقامة عند الجاحظ المكانة في معرض حديثه عن مقامات الشعراء في الجاهلية والإسلام، كما أورده ابن قتيبة بلفظ “المقام” قاصدا به الخطب وأحاديث الوعظ ، وهو ما ذهب إليه ابن عبد ربه ، وكذلك الحال عند أبي علي القالي.
ولقد تطور مدلول المقامة حتى صار مصطلحا خاصا يدل على حكاية ، وأحيانا أقصوصة لها أبطال معينون ، وخصائص أدبية معروفة. واستقر مدلوله منذ ظهور مقامات بديع الزمان الهمذاني ، بدلالة تلك الأقاصيص والحكايات أو النوادر المصاغة في ألفاظ أنيقة ، وأسلوب مسجوع ،يحفل بألوان المحسنات البديعية من جناس وطباق ، وما إلى ذلك من البلاغات العربية المصطنعة ، والزخرفة اللفظية التي عرفها أدب عصر ما يسمى بالانحطاط الأدبي .
يقول د. عبد المالك مرتاض :” إلى أن جاء زعيم فن المقامات بديع الزمان ، فألبس المقامة حلة لم تلبسها من قبل ، وإذا المقامات فن أدبي قائم بذاته ، لا يعني الجلوس ولا الجالسين، وإنما يعني أقصوصة طريفة ، أو حكاية أدبية مشوقة ، أو نادرة من النوادر العربية يظطرب فيها أبطال ظرفاء يتهادون الأدب ، ويتبادلون النكت ، في ابتسام ثغر و طلاقة وجه “.
هذا من ناحية تطور مدلول مصطلح المقامة ، أما من ناحية أصولها وجذورها ، فيبدو أنها ذات صلة بفن الكُدْيَة وأحاديث الشحاذة والتسول.
وما أكثر حكايات الكدية والتسول لدى الأعراب الذين كانوا يصطنعون في تسولهم الكلام المنمق واللفظ المزوق ، كلون من الاحتيال في الحصول على مال الخواص والعوام .فالفكرة الأساسية للمقامات – يقول د. عبد المالك مرتاض – مستوحاة من أحاديث المتسولين ، وليس معنى ذلك أن هذه الأحاديث تشكل النوع الوحيد الذي استقى منه فن المقامات .وإنما معناه أن هذه الأحاديث ينبغي أن تشكل أحد الروافد الفنية لهذا الفن الجميل”
والواضح أن هذه الأحاديث تلتقي في خصائصها مع الخصائص الفنية للمقامات ، من حيث استعمال ضروب المكر وفنون الاحتيال ، وأساليب الدهاء في التأثير واستلاب المال من صاحبه.
وبالجملة فإن فن المقامات ، حتى وإن ظهرت إرهاصاته الأولى في أحاديث ابن دريد الذي ينسب إليه البعض الفضل في نشوء هذا الفن ، إلا أنه لم ينهض كفن قائم بذاته ، إلا مع بديع الزمان الهمذاني ، على الرغم من التشابه الكبير بين أحاديث ابن دريد ومقامات الهمذاني، وما بينهما من اتصال وتقاطع ..
وهما يكن من اختلاف الآراء في أول من كتب المقامة هل هو إبن دريد أو الهمذاني ، فإن ظهورها الحق كان على يد الهمذاني ، وهو بلا مراء الأب الحقيقي لهذا الفن.
تشير المقدمة التي كتبها الحريري لمقاماته ، على عكس الهمذاني ، الذي لم يشر أدنى إشارة إلى مسعاه بأي تقديم نظري ، إلى جملة من الإشارات المهمة التي تبطنها هذه المقدمة النظرية ،منها أن كتابته للمقامات جاءت بإيحاء من أحد الوزراء، وهو الذي أشار إليه الحريري بالقول : ” فأشار من إشارته حكم ، وطاعته غنم إلى أن أنشىء مقامات ، أتلو فيها تلو البديع ، وإن لم يدرك الظالع شأو الظليع ” .
وكان سبب وضعه لهذه المقامات ، ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال : ” كان أبي جالسا في مسجد بني حرام ، فدخل شيخ ذو طمرين ، عليه أهبة السفر، رث الحال فصيح الكلام ، حسن العبارة .فسألته الجماعة : من أين الشيخ ؟ فقال : من سروج . فاستخبروه عن كنيته .فقال : أبو زيد. فعمل أبي المقامة الثامنة والأربعين المعروفة بالحرامية وعزاها إلى أبي زيد المذكور . واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنو شر وان ابن خالد بن محمد القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله . فلما وقف عليها أعجبته. فأشار على والدي أن يضم إليها غيرها ، فأتمها خمسين مقامة “.
وثاني هذه الإشارات ، هو اعتراف الحريري بتواضع جم ، بأسبقية بديع الزمان أستاذ المقاميين ، وذلك حين يقول : ” ..هذا مع اعترافي بان البديع رحمه الله ، سبّاق غايات ،وصاحب آيات ، وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة ، ولو أوتي بلاغة قدامة ، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته..” . معتبرا إياه أنموذجا يحتذى لمن جاء بعده ، مقرا بأنه كتب مقاماته مهتديا بهداه ، مقتفيا أثر خطاه .في الأسلوب وعدد المقامات على السواء.
في المقدمة نفسها ، يضعنا الحريري في صورة هذا اللون الأدبي ، كأنه يريد أن يعطينا تعريفا شافيا للمقامة في مبناها ومعناها ، وشكلها ومحتواها على السواء. يقول الحريري : ” وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة ، وفطنة خامدة ، ورويّة ناضبة ، وهموم ناصبة ،خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله ، ورقيق اللفظ وجزله ، وغرر البيان ودرره ، وملح الأدب ونوادره . إلى ما وشّحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية والأحاجي النحوية ، والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة ، والخطب المحبّرة ، والمواعظ المبكية ، والأضاحيك الملهية ، مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي ، وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصري..”
تمثل شخصية بطلها أبي زيد ، أنموذج ( المُكْدي ) الذي ينتهز المواقف ويتحين الفرص للظفر بما يريد من متع الحياة ، مخترقا المآ دب والحفلات العامة بطريقة لا تخلو من الاحتيال الذكي. من خلال وقائع ومواقف تنتقل بنا في أماكن ومشاهد مختلفة .
يذكر صاحب كتاب ” الرواة على أنباء النحاة “. أن أبا زيد السروجي ، واسمه المطهّر بن سلار ، وهو شخصية حقيقية احترفت الكدية ، وكان لغويا ونحويا صحب الحريري وتتلمذ عليه، وروى عنه . أما تسمية الراوي للمقامات بالحارث بن همام ، فإنما يحيل على الحريري نفسه . حسبما ورد في بعض شروح المقامات . وهو مأخوذ من حديث الرسول : ” كلكم حارث وكلكم همّام ” والحارث هو المتكسب والهمام الماجد المهتم بأموره ، ويبدو في المقامات في صورة الثري العربي الجواد .
على الرغم من أن الحريري (1054- 1122) ترك كتبا وتآليف كثيرة منها ” درة الغواص في أوهام الخواص ” ومنها منظومة في النحو” ملحة الإعراب ” .كما له ديوان رسائل شعر كثير ، غير ذلك الذي أثبته في المقامات ، إلا أنه لم يعرف بغير المقامات ولم يشتهر بسواها.
من الذين ترجموا للحريري ، ابن خلّكان ، صاحب ” وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان “. وقد خصه بحديث مطول جاء فيه : ” هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي . كان أحد أئمة عصره ورزق الحظوة التامة في عمله المقامات. وقد اشتملت على كثير من بلاغات العرب في لغاتها ، وأمثالها ورموز أسرار كمالها ، ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة إطلاعه وغزارة مادته..”
ويروي التاريخ أنه كان يزعم أنه من ربيعة الفرس ، كما كان مولعا بنتف لحيته أثناء التفكير، وكان يسكن ( مشان ) ناحية البصرة ، وكان عمل لفترة من الزمن صاحب الخبر بالبصرة .أي المسوؤل عن البريد . وكن يحظى بالتقدير والحظوة لدى معاصريه لما تميز به من ذكاء وفطنة وجلال قدر.
من التزويق إلى المنمنمات
اتسم الفن الإسلامي في معظم منجزاته بالابتعاد عن التجسيد والتجسيم ، لذلك يمكن القول انه فن تجريدي بامتياز، بمعنى أن الواقع ليس مرجعه بأي حال من الأحوال ، و لعل ذلك يرجع إلى نفور المسلمين من محاكاة الخالق و تمثيل الطبيعة و الكائنات . و قد اقتصر اهتمام الفن الإسلامي على فنون الزخرفة ، التي شكلت المجـال الخصب للإبداع ، و فيها تتجلى عبقريته الاستثنائية .
قلما نجد لدى الفنانين المسلمين اهتماما بالرسوم الآدمية و الحيوانية ، و دأبا على العناية بالنسب و قوة التعبير في الملامح و الوجوه الدالة عن المشاعر المختلفة . بل إن المنمنمات الإسلامية الفارسية تبدو مملة في تشابهها و عدم اهتمامها بقيم الظل و الضوء ، و رسم الأشخاص في أوضاع معينة يفقد أكثرها شيئا من الروح و الحركة و دقة التعبير.
إن هذه المآخذ لا تلغي جماليات التصوير الإسلامي ، الذي يؤسس على مفاهيم خاصة ، كالرسم ” بعين الطائر” التي يشرحها نوري الراوي في دراسته ” ملامح مدرسة بغداد لتصوير الكتاب ” بقوله : “إن هذه النظرة التي يطلق عليها العلماء نظرة عين الطائر هي إحدى التقاليد في المدارس الإسلامية التي جاوزت حدا أصبحت معه لا تقنع بتسجيل زاوية النظر وحسب ،بل تطمح إلى إراءة حيز المكان بشكل جامع ، وهي في حالة تلتقي برسوم الأطفال وترتبط بها حسب المقاييس الفنية بأكثر من وشيجة .” ومبدأ ” السقوف المخلوعة ” ، واعتماد الفنان المسلم على الحقيقة الظنية للأشياء ، متجاوزا الحقيقية العينية والبصرية الماثلة أمامه ، إلى ما لا يراه الرائي ، فهو حين يرسم النهر مثلا ، يتجاوز ذلك إلى رسم أنواع الأسماك الموجودة فيه.
ومما يعد ” من إضافات الواسطي – يقول بلند الحيدري- ما يسميه الإختصاصيون اسم “اجتماع الديدان “، ذلك أنه رسم أمواج المياه على شكل مجموعة ديدان تتحرك في ذبذبات متجانسة مما يعطيها تجسيدا إيقاعيا رائعا”.
ومن جانب آخر يتوسل الفن الإسلامي مبررات روحية تستند إلى العقيدة الدينية و المعطيات الحضارية ، و في ذلك يقـــول بلند الحيدري ” عبر كل ما أعطى الفن الإسلامي ، ثمة سمة له ستظل تمد بتاريخه و بتأثيره و استمرار استلهام معطياته ، و ذلك أنه فن استطاع أن يجمع بين المتعة و المنفعة ، و بين القيم الروحية و القيم المادية ضمن رؤية جمالية و فلسفية ذات أبعاد شمولية مستعدة لكل جديد يضاف لها ، و تتشاكل معها في مرمى إبداعي يناسب العصر “
على العكس من التصوير المسيحي ، الذي استغل استغلالا كبيرا في خدمة العقيدة الدينية ، و له حضوره القوي في الكنائس المزينة بتصاوير و أيقونات عن حياة المسيح و القديسين ، لم تكن للتصوير الإسلامي صلة بالدين الإسلامي إذ تخلو المساجد من الصور ، بل إن الفقهاء لا يثمنون عمل المصورين ولا يقدرون مواهبهم الفنية .
و قد كان نتيجة لذلك أن حظي الخطاطون و المذهبون بالمكانة و الحظوة لاحتفائهم بنسخ القران الكريم ، حيث عرف الفن الإسلامي نفائس المخطوطات الموقعة بأسماء خطاطين مرموقين مثل : ابن مقلة و ابن البواب و ياقوت المستعصمي ….
عندما نعرض لموضوع الفن الإسلامي ، يجب أن نفرق بين المنمنمات الإسلامية كما عرفت عند الإيرانيين خاصة و بين التصوير العربي متمثلا في ( مدرسة بغداد ) التي يمكن اعتبارها النواة الأولى للتشكيل العربي ، دون إغفال للسمات المشتركة التي تجمع الاثنين ، كونهما يصدران عن المفهوم الإسلامي للحياة و العالم ، بما يعكسان من رؤية جمالية تأملية مزجت بين الممارسة الفنية و الروحية …
لقد بدأ التصوير العربي فعليا ، مع ازدهار حركة التأليف و الترجمة ، حين اتجه أغلب المصورين إلى تزيين الكتب بالرسوم التعبيرية ، و بذلك تظافر التصوير و الخط العربي في إنجاز روائع المخطوطات العربية ، بداية من حكم السلاجقة لبغداد عام 1055 م ، و بدأت التأثيرات الخارجية تعرف طريقها إلى الفن العربي ، كما يمكن ملاحظة ذلك في مخطوط كتاب ( الترياق ) المؤرخ عام 1099 م ، و المحفوظ في المكتبة الأهلية بباريس ، إذ يضم رسوما تصغيرية في غاية الأناقة التشكيلية ، تحمل رمزية سحرية دخيلة على التصوير العربي ، كما شهدت هذه الفترة ظهور الرسم التشبيهي بفعل التأثير المغولي .
أما المنمنمات الإسلامية ، فهي فن فارسي خالص ، و يمكن اعتبارها التصوير الإسلامي الأكثر نضجا من الناحية الجمالية ، و قد كان أوج ازدهارها في ظل الحكم المغولي لبلاد فارس ( 1256 ) ، إذ يبدو تأثير التصوير الصيني فيها واضحا ، في جمعها بين الكتابة و الرسم ، و في احتفائها برسم المناظر و الأشخاص وسط أجواء شعرية .
عبر مراحل تطورها المتعاقبة ، عرفت المنمنمات الإسلامية أساليب متمايزة منها الأسلوب المغولي ( 1256 _ 1336 م) و الأسلوب التيموري ( 1387 _ 1502 م ) الذي يعد أبهى عصورها ، ففي بلاط السلطان ” بيقرا ” ظهر الأستاذ ( بهزاد ) ، الذي يعد الرائد الأول للمنمنمات الإسلامية ، و قد تعدت شهرته الآفاق ، بعدما درس أصول التصويــر و النقش على يد كل من ( سيد أحمد التبريزي و على ميرك النقاش ) و قد ترك ( بهزاد ) الكثير من الآثار الفنية ، منها مخطوط يوجد بدار الكتاب بالقاهرة ، مؤرخ ب 1488 م ، هو ( بستان سعدي ) قام هذا الفنان بتزيينه و تصويره، و يمتاز بهزاد بقدرة فائقة على التصوير و مزج الألوان . أما الأسلوب الصفوي ، الذي أسس له ( بهزاد ) ، فقد كان العصر الذهبي لفن المنمنمات ، بفضل الملك والمصور(شاه تامشاه1524-1576م) الذي رعى الفن وجمع الفنانين في قصره ، حيث يقومون بالرسم وتحضير أصباغهم ، وقد اشتهر من بينهم ( رضا عباسي والشيخ محمد و سياه قلم).
في العهد الصفوي نفسه بدأت مرحلة أفول المنمنمات ، إذ انحرفت عن مسارها ، لتقع في أسر التقليد للفن الأوربي . والملاحظ هو أن المنمنمات تتقاطع مع التصوير العربي في كونهما ينتميان إلى فن الكتاب ، وفي كونهما ينزعان إلى التعبير عن تجربة روحية في مجملها ، تستدعي قراءة تأملية مثالية بعيدا عن أسر الواقع وأشيائه ، لا قراءة بصرية تقف عند السطح دون التغلغل في الجوهر.
أسئلة الفن العربي
يبدو المشهد التشكيلي اليوم ملتبسا بشيء من الاستلاب والإنخطاف أمام الجماليات الغربية الدخيلة على إنيتنا الحضارية ، نتيجة عدم وعي صانعيه بإرثهم الحضاري وتجلياته التشكيلية خاصة ، ولذلك فإن التنقيب عن الجذور العميقة للتشكيل العربي وإرهاصاته الأولى يبدو مطلبا ملحا لكي لا يظل حاضرنا الفني مؤسسا على فراغ ، يعاني من أزمة الانتماء والهوية .
ولكن ثمة سؤال هو هل من الجائز أن نتكلم عن تصوير عربي بمعزل عن فضائه الإسلامي العام ، دون أن نقع في فخ النظرة الإثنية الضيقة ؟! بالنظر إلى ما بينهما من تداخل وتقاطع كبير بين المشارب الفنية الإسلامية المختلفة في تنوعها .
إن مسعانا في الاشتغال على موضوع الفن العربي ، يبدو أمر مشروعا تمليه الروح الموضوعية و النظرة المنهجيـة الإجرائية ، إذ تدل القرائن المتوفرة لدينا ، على وجود فن عربي أسس لقطيعة واضحة مع الأنماط السائدة آنذاك يجب النظر إليه ، في أسوأ الأحوال ، بوصفه الرافد الأقوى للفن الإسلامي ، الذي أنبنى على جدلية التأثر والتأثيـر. إن الشواهد الفنية العربية التي تنتمي إلى الفن التجريدي خاصة ، خير رد على القائلين بأن الإنسان العربي شفوي بطبعه ، تعوزه المخيلة الخصبة و الحس البصري ، مقارنة بسحر اللغة الذي ملك عليه كل كيانه و حواسه و شغله عن كل ملكة سواها ، و هو حكم غير مؤسس يشوبه الكثير من التعميم و المغالطة ، إذ كيف يعقل أن يكون الأمر على هذا النحو ، و قد وصل الفن العربي إلى التجريد الذي هو أقصى ما تستطيعه المخيلة البشرية .
لم تكن لدى عرب ما قبل الإسلام تقاليد فنية ناضجة ، حتى أن أصنامهم و آلهتهم كانوا يجلبونها من خارج البلاد العربية ، و لم يعرف الفن العربي بعد الإسلام زخمه الحقيقي ، إلا بعد اتصال العرب الفاتحين بشعوب آسيا الوسطى كالفرس و الهنود ، لكن الأكيد أنه نشأ في الوسط العربي ، فرغم هذا ، ورغم أن الصورة لم تكن شكلا من أشكـال التعبير لدى العربّي لان الرّغبة في التعبير عنده كانت تعبر عن نفسها باللغة ، بنسقها الصوتي الرائع ، و طرائق تعبيرها اللاّ محدودة ، إلا أنه يمكننا القول بأن الإنسان العربي هو إنسان التّأمل بامتياز، وذلك ما تشهد عليه العيّنات التاريخيـة.
وهنا تقفز إلى العين شواهد مشكلة من الأرابسك و الخط العربي و التصوير تدل على حساسية تشكيلية راقية، تعزز ما نذهب إليه.
مدرسة بغداد والواسطي
يمكن اعتبار مدرسة بغداد للتصوير الإسلامي أقدم المدارس الإسلامية وأكثرها دلالة ، وقد تجلى أسلوبها في تزيين قصص كليلة ودمنة ، وكتب الطب والنبات والطبيعة ، والمؤلفات الموسوعية، كعجائب المخلوقات للقزويني ، وأقدمها مخطوطات القاهرة الخاصة بالبيطرة (1209) رسمها علي بن حسن هبة الله وعبد الله بن الفضل الذي ورد اسمه في مخطوطة تعود إلى 1222م . غير أن أهم إنجازات هذه المدرسة يبقى مقامات الحريري للواسطي عام 1237م .
لا يكاد يتوفر شيء ذو بال من المعلومات ، عن ملابسات إنجاز الواسطي لهذه المخطوطة ،ولا الظروف المحيطة بذلك . كما لا يتوفر شيء كثير يضيء حياة الواسطي وسيرته ، اللهم إلا تلك المعلومات الشحيحة المتداولة والمكررة المتناثرة ، هنا وهناك. منها ذلك التعريف القديم الذي أورده المؤرخ ميخائيل عواد في دراسته ” يحي الواسطي شيخ المصورين في العراق ” وقد جاء فيها : ” ويعد يحي بن محمود بن يحي بن الحسن الواسطي في طليعة المصورين في العراق في هاتيك الأيام . بل هو شيخهم وأستاذهم وإمامهم في هذا الفن الجميل.. نشأ هذا الفنان الواسطي في المائة السابعة للهجرة في واسط من المدن الشهيرة في العراق ، وموقعها بين البصرة والكوفة ، وفي تلك المدينة العامرة تعلم التصوير ، وتمهر في فنونه..”
ويرجع بلند الحيدري هذا التجاهل للمصورين ، وعدم التأريخ لحياتهم إلى النظرة المتوارثة عند المسلمين عن استهجان الرسم والنحت ، والقول بتحريمهما ، بل والتقليل من شأن مبدعي التصوير أو المزوقين ، كما يسمون ، في حين يعلي من شأن الكتاب والشعراء الذين لم يترك كتاب التراجم والسير والفهارس شاردة ولا واردة بخصوصهم.
ويبدو الواسطي أكثر جرأة من سواه ، وأكثر إحساسا بأهمية الأثر التشكيلي الذي أنجزه عام 1237م ، ممثلا في مقامات الحريري .الذي كتب حين فرغ منه ” فرغ من نسخها العبد الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه وعفوه يحي بن محمود بن أبي الحسن بن كرويها الواسطي بخطه وصوره .آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة”.
بهذه الكلمات ختم الواسطي مخطوطته النفيسة مقامات الحريري ، التي أصبحت من أنفس المخطوطات العربية ، كونها شكلت فتحا جديدا في تاريخ الفنون التشكيلية العربية ، نظرا لاعتبارات كثيرة منها أن الواسطي أثبت اسمه على أثره ، على عكس كثير من الصور و التزاويق التي ظل أصحابها مجهولين ، ويعود السبب إلى تلك النظرة المتحفظة للدين الإسلامي تجاه التصوير والقائلة بكراهة تصوير الكائنات الحية ، وبذلك يكون الواسطي قد أسس لفن تشخيصي رغم وجود التحريمات الفقهية متجاوزا إياها بجرأة.
ولد الواسطي في مدينة واسط أوائل القرن الثالث عشر الميلادي ،ومن الواضح أن نشأته في العراق ، الذي تعاقبت عليه الحضارات، وكان ملتقى تيارات فكرية وأدبية ، وكانت بغداد عاصمة وحاضرة تعج بالحراك الثقافي والفني ، قد أغنت تجربته وفجرت مواهبه التشكيلية ، حتى أصبح صاحب مدرسة بغداد للتزويق ، كما كان يطلق على الفنون التشكيلية . ويبدو أنه كان مثقفا واسع الإطلاع ، متشبعا بالتقاليد الفنية السابقة لعصره ، وما عرفته الحضارات السابقة من فنون التزويق ، كما أنه عاصر عددا من مفكري العهد العباسي من أمثال المؤرخ ابن الأثير، والعالم ابن الرزاز ، والجغرافي الحموي..
عمل مصورا أو مزوقا لدى الخليفة المستنصر بالله العباسي بين عامي : 1242و1258م ، ويبدو أنه قام بتزويق عدد من المخطوطات ، قد يكون أقدمها كتاب ” الترياق ” لجالينوس ، على ما يذكر بعض مؤرخي الفن ، كما يكون قد زوق أكثر من نسخة من مقامات الحريري ، الذي يعد أهم أثر تشكيلي خلفه العرب ، كما يعد أقدم الآثار التصويرية التي تصلنا موقعة باسم مبدعها على غير العادة ، وبذلك يصبح الواسطي استثناء في الإمضاء على لوحاته داخل مدرسة بغداد. كما كانت أعماله معروضة بمكتبة الجامعة المستنصرية ببغداد ، واقتنيت له أعمال فنية في الأندلس والمغرب خصوصا لدى ملوك دولة الموحدين.
استمدت مدرسة بغداد اسمها من بغداد عاصمة الخلافة العباسية ، بالنظر لما كان لهذه المدينة من ريادة في الإشعاع الحضاري والفكري الذي بلغ مداه مناطق كثيرة من العالم الإسلامي ، في المرحلة الممتدة بين القرنين السادس والثامن للهجرة (1200- 1400م ) . وهناك من المؤرخين من يطلق على مدرسة بغداد تسمية ” مدرسة مابين النهرين ” أو ” المدرسة العباسية “. ولكل واحد تبريراته التي يستند إليها في هذه التسمية.
يقول د.زكي محمد حسن في كتابه ” مدرسة بغداد في التصوير الإسلامي ” : ” إن تزويق المخطوطات بالتصاوير وتزيينها بالألوان البراقة فن حملت بغداد لواءه في القرنين السادس والسابع للهجرة ، ولكنه ازدهر في مراكز أخرى من ديار الإسلام ، فعرفته الموصل والكوفة وواسط وغيرها من بلاد الرافدين ، كما امتد إلى إيران ومصر والشام بل امتد تأثيره إلى الرسوم الحائطية الإسلامية في البرطل بقصر الحمراء في غرناطة ،وإلى بعض المخطوطات في الأندلس “.
من أبرز السمات الفنية لمدرسة بغداد عدم اهتمامها بالطبيعة ، وعدم عنايتها بالجانب التشريحي ، والنسب ومنظور الأشياء وأبعادها ، وقد استمر تأثير هذه المدرسة حتى بعد سقوط بغداد عام 1258م ، وبدأت مرحلة أفولها خلال العهد التركي .
مقامات الواسطي
على الرغم من أن الشواهد والقرائن على قلتها تدل على أن المسلمين عرفوا الرسم على الورق منذ القرن الثاني للهجرة ، فإن ما عرف من تلك الرسوم يعود إلى أواخر العهد الأموي ، وأوائل العباسي ، ويبدو أن المقريزي قد ألف كتابا ، مفقودا عنوانه : ” ضوء النبراس وأنيس الجلاّس في أخبار المزوقين من الناس “. وقد صور مصورو تلك الحقبة مواضيع ذات صلة بدنياهم وواقعهم ،وأخرى ذات صلة بالدين كالمعراج وقصص الأنبياء والصحابة والأولياء. ولكنها ظلت محدودة ودون تأثير.
من المعلوم تاريخيا أن الفن الإسلامي عامة ، قد ارتبط بحركة صناعة الكتاب نسخا وتذهيبا .فعرفت أسماء كثيرة من مزوقي الكتب كعلي بن هلال المشهور بابن البواب ، وياقوت المستعصمي . الذين عملوا على نسخ نفائس المخطوطات ، بتزيين متونها وتوريق حواشيها وزخرفتها وتذهيبها ، وهي أعمال ذات وظيفة تزينية زخرفية لا أكثر ، تمنح نوعا من المتعة البصرية التي تفتح شهية القراءة ، وهي محايدة تجاه النص، ولذلك يمكن أن تكون تلك التزويقات والحواشي مصاحبة لأي نص كان .
أما الواسطي فقد تجاوز مفهوم التزويق بتأكيده في توقيعه الختامي لعمله التشكيلي مقامات الحريري ، الذي أنجزه بعد مضي ما يقارب القرن على نصوص الحريري ، على أن عمله ينتمي إلى فن الصورة مضافا إليها الخط .
ويكون من خلال تجربته مع المقامات قد أسس لما يسمى بالصورة الحكائية ، على اعتبار أن اللوحات التسجيلية ، التي أنجزها ذات علاقة عضوية بالنصوص ، وليست مقحمة أو طارئة ، كما هي الحال مع سائر الحواشي والتزويقات التي عرفت في تاريخ المخطوطات .
لقد اقترح الواسطي معادلا تشكيليا لتلك الحكايات ، بالاعتماد على تأويل شخصي ورؤية ظنية ، لملْ تلك الفراغات التي عجز النص الأدبي عن التعبير عنها . وكانت رسومه تفسيرا موازيا لسرد الحريري ، وبالتالي كانت ذات مسعى وصفي توضيحي ، حتى وإن تجاوزته في أحايين كثيرة لاقتراح جماليتها التي يجب النظر إليها في سياقاتها التأسيسية ، وعتباتها الأولى.
يبدو أن الشعبية الكبيرة لمقامات الحريري في تلك الفترة والتأثير الكبير الذي مارسته على قرائها ، لما لها من محمول اجتماعي وسياسي ، ورمزية كبيرة وجدت قبولا لدى الطبقة البسيطة ، فهي تروي في قالب كوميدي مرح ، لا يخلو من الصدق ودقة الملاحظة مغامرات أبي زيد السروجي ، وكما هو معروف ، فالمقامات نصوص سردية كتبت في القرن الحادي عشر الميلادي ، وعرفت انتشارا كبيرا، لأنها تروي مغامرات عابثة وساخرة لبطلها أبي زيد السروجي ، في مجتمع العراق المليء بالمتناقضات الاجتماعية ، لا سيما في الأوساط الشعبية الدنيا ، في حاضرة بلغت أوج ازدهارها وانفتاحها .
فضلا عن ذلك فإن انتشار الحكايات الشعبية والسير ، وظهور مسرح العرائس وخيال الظل ، كل ذلك أوعز للواسطي بإنتاج خطاب بصري ذي رؤية شعبية ، وعناصر رمزية بسيطة قريبة من وجدان الطبقات الدنيا .
إن مخطوطة الواسطي هي وثيقة بصرية مهمة ، حية ونادرة ، تعطينا توصيفا دقيقا للحالة الاجتماعية للعراق والعالم الإسلامي كله في القرن السابع الهجري ، كما تعطينا فكرة واضحة عن أنماط الحياة المختلفة في تلك الحقبة من لباس وأزياء وعمارة وأسلحة ورايات ،وعادات وتقاليد سادت في الزواج والجنائز والقضاء والتجارة والنقل والأندية والمواسم المختلفة. وقد أبرز كل ذلك بحس تصويري دقيق تجاوز نصوص المقامات ، وما تقدمه من صور وصفية تعوزها الدقة وتخلو من التفصيل إلا فيما ندر ، ربما بسبب محدودية الصورة اللغوية ، وليس أدل على ذلك من عدد لوحات الواسطي الذي تجاوز عدد مقامات الحريري بالضعف ، أي واحدا وتسعين لوحة مختلفة الحجم ، وبعضها يشغل الصفحتين من الكتاب. يقول د . محمد مكية في دراسة له عن ” تراث الرسم البغدادي ” : ” بأن رسوم الواسطي التي أوضحت تلك المشاهد الأدبية بالصور كانت أدق تعبير وأوسع دراسة مباشرة للمجتمع الإسلامي وطبقاته المختلفة آنذاك ، وهي بالتالي خير وثيقة مادية ساعدتنا على التعرف بتلك المجتمعات بطريقة لم نتمكن من تحقيقها عن طريق النصوص الأدبية والتاريخية الواردة في تآليفهما الغزيرة “.
لقد توجت هذه المخطوطة اسم الواسطي كرائد لمدرسة بغداد ، لأنه استطاع أن يفلت من التأثيرات الإيرانية والمسيحية ليبتكر أسلوبه الخاص به ، فقد تعامل مع رسوما ته الواقعية بروح رسام اللوحات الحقيقي لا بروح رسام منمنمات أو مزوق .
إلى اليوم ، مازالت مخطوطة الواسطي تحظى بالاهتمام وتلقى الاحتفاء والدراسة والتحليل ، فقد تم عرضها منفصلة عام 1938م في باريس . وفي العام 2005م ، أشرف الفنان العراقي ضياء العزاوي على طباعة ألفي نسخة مرقمة ، مطابقة للنسخة الأصلية من مقامات الحريري. في عدد الصفحات ( 334صفحة) ، والقياس ( 37×28) والتجليد بالجلد والحرير، وكذا عدد صفحات رسوم المنمنمات، وهي مئة وواحدة ، والطبعة صادرة عن دار النشر ” توش أرت ” . أضيف إليها نص تاريخي تحليلي للمختص أولغ غرابار، وتم توزيعها من طرف “غاليري لوموند “.
جماليات التصوير العربي عند الواسطي :
نشأ التصوير العربي في أول عهده متأثرا بفنون الحضارات السابقة له ، فقد بدا تأثير الفن الهيليني البيزنطي واضحا في الشام ، أما في العراق فقد كان تأثير الفن الساساني جليا . و يمكننا الإشارة إلى أن بعض المصورين قد رسموا صورا لبعض الحوادث في السيرة كميلاد النبّي و مقابلته للراهب بحيرا في الشام و وضع الحجر الأسود في الكعبة بيد النبّي ، و الهجرة و الإسراء و المعراج و تكسير النبّي للأصنام و لكن هذه الصور نادرة وليست بذات قيمة فنية أو دينية .
كما وصلت إلينا بعض الصور و التزاويق من العصر العباسي ، وجدت على بعض الجدران في أطلال مدينة (سامرا) و أكثر هذه الصور أهمية رسم لراقصتين يشهد بما كان للأساليب الفنية الفارسية من تأثير على التصوير العربي الذي عرف أبعادا أخرى ، وطرق آفاقا جديدة بعد توسع الفتوحات الإسلامية ، نتيجة تلاقحه و تمازجه بالثقافات الإسلامية المختلفة التي لم تكن عربية الأصل ، و التي كانت تمتلك تراثا و تقاليد فنية لم تكن لدى العرب المسلمين ، وقد كان لها دورها في إثرائه بأساليب و عناصر جديدة .و كان نتيجة لذلك ظهور المدرسة العربية ، التي انطبعت بأسلوبها المميّز لها عمّا سواها من مدارس الفن الإسلامي، كالمدرسة الإيرانية ، المغولية ، و الهندية .تعتبر المدرسة العربية أقدم مدارس الفن الإسلامي على الإطلاق ، وقد كان انتشارها منحصرا في البلاد العربية وازدهرت مراكزها خاصة في بغداد و الشام و مصر و الأندلس . يذكر التاريخ من مصوري المدرسة العربية في بغداد عبد الله بن الفضل الذي كتـب و أنجز تزيينا بالرسوم لكتاب ” خواص العقاقير ” ضم ثلاثين صورة موزعة بين متاحف العالم .كما اشتهر من مصوريها يحي بن محمود الواسطي ’ الذي زيّن عام ( 1237 م – 634 هـ ) ’ كتاب ” مقامات الحريري” المحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس . ويبدو أن الواسطي أنجز تزيينا لكتاب ” كليلة ودمنة ” الحكايــات المعروفة ’ كما ينسب إليه تزيين كتابين آخرين هما :” الترياق” و ” الأغاني “.
لقد كانت تجربة الواسطي التصويرية مثار اهتمام الكثير من والمهتمين والمشتغلين بتاريخ الفن والنقد التشكيلي ، وبؤرة تحليل للكثير من العرب والأجانب على السواء ، فقد قال عنها المستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسنيون ” بأنها من أروع الأعمال الفنية الموجودة اليوم “. أما المستشرق بلوشيه. فقد قال بأن الواسطي ” إستطاع أن يأتي بأروع ما أنتجته المدرسة البغدادية ، وهذا يعطي الانطباع أن هذا الإنتاج الفني هو أحسن ما يمكن أن يشار إليه بالنسبة لذلك العصر”.
كما تعرض الروائي والناقد جبرا إبراهيم جبرا لنفس التجربة. مؤكدا على أهميتها وأصالتها. و يشير الروائي رشيد بوجدرة في روايته ” الإنبهار ” إلى منمنمة ثمينة جدا رسمها الواسطي عام 334للهجرة ، وتمثل القائد طارق بن زياد مع مجموعة من الجنود أمام صخرة مضيق جبل طارق . الذي إستولى عليه عام 711ه. ولا نحسب ذلك إلا حقيقة موضوعية قائمة.
والواقع أن تجربة الواسطي مع التصوير تجربة تأسيسية رائدة و مبكّرة في مسار التشكيل العربي خاصة و الإسلامي عامة ، و قد تنبّه جواد سليم بوصفه أحد أهم التشكيليين إلى أهمية الواسطي من خلال التنويه بقيمتها ، ومن خلال استعادتها وتمثلها تشكيليا ، في تجربة “جماعة بغداد التي كان أحد مؤسسيها والفاعلين فيها ، قائلا عن صورته ( الجارية و الجمال العشرة ) في إحدى رسائله في أوائل الأربعينيات:
” إنها صورة مجموعة من الجمال، و جمال العراق تعرفها جيدا ، لا يتعدى لونها لون التراب ، ولقد صورها هذا العبقري العظيم كل جمل بلون يتناسب مع اللون الذي بجانبه ، فكان الانطباعي الأول “.
كما استعادت جماعة البعد الواحد في العراق ، وعلى رأسها شاكر حسن السعيد ، الذي خصه بدراسة مهمة تناولت ” الخصائص الفنية والاجتماعية لرسوم الواسطي ” تناول فيها مفهوم البعد الثالث في لوحات الواسطي بالقول : ” .. أجل سبق لمحاولات من هذا القبيل أن أنجزت إلا أن الأمر يختلف لدى الواسطي هنا في كونه – البعد الثالث – يسقط من حسابه عامل البروز في النحت التسطيحي كبعد (عمق) مستبدلا إياه بعاملي اللون والإضاءة ، وهما وسيلتان من وسائل التسطيح التصويري. بمعنى آخر إن اللون والضوء والعتمة ستتولى في السطح المرسوم الدور الذي يتولاه البعد الثالث وهو العمق في فن التسطيح من إبراز في المنظور والتجسيد في نفس الوقت مع انصياعهما للعالم الذي يتجسدان فيه”. ومن شهاداته علي أهمية منجز الواسطي قوله : “إن أهمية الواسطي الفنية هي أنه استطاع بطريقة تعبيره إقناعنا بأن ثمة عالما ممكنا باستطاعته أن يستند على عالم عياني في استشفاف الحقيقة ودون أن ينقله “.
من جهة أخرى يعتبر بلند الحيدري أحد النقاد الذين قدموا رؤية نقدية ملفتة عن تجربة الواسطي ، قائلا عنه : ” لقد كان الواسطي فنانا كبيرا ، وكان إنسانا كبيرا وبهما استطاع أن يؤكد أصالته الرائعة ” . مؤكد في دراسته ” الواسطي رسم مقامات الحريري فاختصر الفنون الإسلامية ” على جملة من الخصائص الفنية في رسومات الواسطي منها:
- قدرته على الاستلاف من كل المعطيات الفنية التي سبقته من فنون فارسية وبيزنطية ومسيحية وساسانية بل حتى الآشورية .
- مدى فهمه لجزئيات صوره.
- قدرته العجيبة على رصد الحياة الاجتماعية ، والتعبير عن تفاصيل الحياة حينذاك ، في رسم الأشخاص بملابسهم وحركاتهم وطريقة جلوسهم . بطريقة تجاوزت مقامات الحريري في التعبير عن جوانب المجتمع .
- اعتماده على نفسه في تحضير أصباغة التي كان يحضرها بنفسه ، مستخلصا إياها من المداد الأسود وبقايا حرق ألياف الكافور ومزجها بزيت الخردل.
- كان له قدرة أخاذة في استخدام القيم اللونية الزاهية بدقة ورفع مستوياتها التعبيرية ، عبر ما يقيم من علاقات بينها وبين خطوطه المنسابة.
هذه الخصائص وغيرها أهلته لكي يتبؤ مكانة عالية في تاريخ الفن العالمي، و يكون الممثل الرئيسي للفن الإسلامي الذي يمكننا أن نختصر به أهم مميزات هذا الفن عبر جانبيه التشكيلي والإحتماعي.
كما أن الفنان الجزائري المرموق محمد خدّة المعروف بتجريديته الغنائية التي تستثمر الحرف العربي كعنصر تشكيلي قد أفرد بعض مباحثه الفنية النظرية لهذا المصور ، ولا أشك في أن الكثير من لوحات خدّة ومنها لوحة ” تكريم الواسطي ” كانت تجسيدا لهذا المسعى .
ففي إحدى دراساته المنشورة بمجلة ” أوربا ” عام 1975 م يقترح علينا محمد خدة مقاربة للواسطي ’ عرض فيها بنظرة تحليلية ثاقبة لأهم سماتها و علاماتها . حاول فيها كسر جدار التعتيم المبيّت على هذا الفنان المعدود ، ولفت أنظار المهتمين إلى تجربته الجريئة المؤسسة من خلال مقارنتها بالمقولات الجمالية الحديثة.
نعرض فيما سيلي ’ لأهم ما جاء فيها و ليس لنا إلا جهد الترجمة و التصرف .
” إ ن فن الواسطي’ يقول محمد خدة ، فن فريد كل التفرد لأكثر من سبب فهو يشير إلى ظهور أسلوب عربي متميز ، أحدث قطيعة مع الكلاسيكية البيزنطية و الإيرانية ، كما أحدث قطيعة مع التقاليد القديمة حين كشف عن اسمه ، ولذلك فإن الواسطي في حدود معلوماتنا هو أقدم فنان تصلنا آثاره التصويرية.
إن لوحاته التي تزين ” مقامات الحريري ” شواهد نفيسة بإحالتها الدقيقة على المناظر الأزياء و المعمار السائد في تلك الفترة ، وتكشف عن ملكة و حس فني و ملاحظة دقيقة تتجلى في شغف الواسطي بإبراز الأوضاع و التعابير و حركات الشخوص و في هذا الصدد يقول خدة ، ..يجيء فن ” مصور بغداد ” في أوانه لكي يدحض ما يروج له بعض مؤرخي الغرب القائلين بعدم وجود تجسيد للوجه الإنساني في الفن الإسلامي لأن ذلك محرم ’ لكن التاريخ يشهد على وجود الفن التشبيهي قبل الإسلام. وبعد أن هدم الرسول صلى الله عليه وسلم الأصنام المحيطة بالكعبة ’ تعبيرا عن التوحيد المطلق ….
هناك سمة أخرى ملفتة للنظر في فن الواسطي – يضيف خدة – وهي أنه فنان مولع بإبراز المظاهر الشعبية، والحياة العادية و الانشغالات اليومية لمعاصريه ، وهو الموضوع ذاته الذي تعرض له الحريري في مقاماته من خلال بطلها أبي زيد السروجي . لكن صور الواسطي تتجاوز الحدود الضيّقة للكتاب ، و تمنحها فضاءات أخرى للتعبير المغاير..
ثم يوضح ذلك الخلط الذي وقع فيه الكثير من المؤرخين ’بين مدرسة بغداد و مصوّرها الأساسي ، إذ وصفت أعماله بالواقعية بل بالتشبيهية و ذلك – في نظر خدة – خطأ كبير إذ لا يكمن حصـره في هذه الميزة البسيطة، رغم أنه سارد ذكي يبدع في رسم حركات معاصريه ، لأن لوحاته فضاءات مفتوحة تحتمل أكثر من قراءة…
إن يحي الواسطي – و الكلام لمحمّد خدة – مصور بكل ما للكلمة من معنى ، فهو مبتكر، انشغل دوما بإعادة تنظيم فضاء ظل يعاني من الاختناق و الانحسار ، انه يمنح الهواء ، يوزع الفراغات ، مما يعطي لتركيباته تبويبا جيدا ، وتوازنات رائعة .
ولقد قاده بحثه – أي الواسطي – من أجل فضاء تصويري جديد إلى إعادة النظر في قوانين المنمنمات وكسر إطارها العام ، لكننا لحد الآن لم نول الأهمية اللائقة إلى هذه الثورة التي شكلت قطيعة حقيقية مع جمود ظل سبعة قرون يحكم فن المنمنمات …
بخلخلة الفضاء ، كان الواسطي يهدف إلى معالجة مسألة الثبات و الجمود الذي وسم معظم الأعمال الخطية لعصره ، و نعطي هنا مثالا عن المقامة الثانية و الثلاثين و هي قطيع الجمال على مشارف المدينة التي تبرز بوضوح انشغال المصوّر بالحركة و الخط ، فنحن بصدد موجة رائعة من الجمال المتحركة، تزيد من حركتها وضعية سائقها بيديه التي تحدوها ، و كأنه قائد اوركسترا الجمال …
إن هذه اللوحة ، بغضّ النظر عما تمثله ، تبدو مثل الجملة المكتوبة التي تملأ كل الصفحة ، مما يدل على إفادة الواسطي من أسلوب الخط العربي ، إذ لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أنه كان واحدا من أمهر الخطاطين في وقته .
هذه الحركة المتآلفة والإيقاع الكامل تؤدي بنا إلى الافتراض بأن الواسطي في مساره الفني بدأ بالفن التشبيهي مرورا بالبحث في الإيقاع و الحيّز و الخط ليفضي إلى التنميط ثم التجريد ، هذا التسلسل الذي يختزله الواسطي في رسمه لوضعية الجمل على شكل زهرة مذهبّة مكوّنـة من ستة بتلات ، وفي هذا ما يختصر قرونا من مسيرة الفن التشكيلي العربي .
هوامـش:
*- المقامات – شرح مقامات الحريري : شرح وتحقيق يوسف البقاعي _ دار الكتاب اللبناني بيروت – دون تاريخ.
فن المقامات في الأدب العربي –د .عبد المالك مرتاض – ش.و.ن .ت .الجزائر-1980.
*- الفن الإسلامي . تيتوس بوركا ردت .بالفرنسية.
*- أوراق متناثرة( محمد خدّة بالفرنسية )
*- مجلة العربـي( مقال بلنـد الحيدري)
* مجلة نزوى ( مقال بلند الحيدري)
———————————————————————
* أحمد عبد الكريم (شاعر وكاتب من الجزائر)
إنني أنطلق من هذا التساؤل محاولا أن أتلمس حكاية هذه المقامات وهي تتحول إلى تشكيل بالخط واللون على يد الواسطي ،وهو يؤسس لعلاقة جديدة بين النص في صورته اللغوية وبين التشكيل العربي الذي كان يخطو خطواته الأولى طارقا آفاق تعبيرية لا عهد له بها . وسأحاول أن أعرج على بعض القضايا الصميمية التي لها صلة من بعيد أو قريب بموضوع هذه الورقة ، بما هي محاولة كشف لتاريخ هذا التماس الجمالي بين الشكلين التعبيرين ، ولنقاط التقاطع والاختلاف بين ما كتبه الحريري ، وما أبدعه الواسطي .
يتبين من تتبع مدلول لفظ المقامة لدى النقاد والمؤرخين ، أن المقامة تدل على اسم المكان ، وليست مصدرا ، وربما هذا نفسه ما يفسر احتفاء المقامات بأسماء المدن والأمكنة من نحو المقامة الصنعانية ، الحلوانية ، الواسطية ..
يقول القلقشندي صاحب صبح الأعشى : ” المقامة بفتح الميم ، اسم للمجلس والجماعة من الناس ، وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة . كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها “.
قبل ظهور المقامة كلون أدبي معروف الخصائص ، في القرن الرابع الهجري ، لم يكد لفظ مقامة يخرج عن دائرة المجلس أو الجماعة من الناس ، أو الموقف للفصل في خصومة أو حث على الخير، وذلك ما تدعمه الشواهد الشعرية أو النثرية على السواء .والذي لم يكن ما كان يقصده الهمذاني حين كتب المقامة، فقد عنى لفظ المقامة عند الجاحظ المكانة في معرض حديثه عن مقامات الشعراء في الجاهلية والإسلام، كما أورده ابن قتيبة بلفظ “المقام” قاصدا به الخطب وأحاديث الوعظ ، وهو ما ذهب إليه ابن عبد ربه ، وكذلك الحال عند أبي علي القالي.
ولقد تطور مدلول المقامة حتى صار مصطلحا خاصا يدل على حكاية ، وأحيانا أقصوصة لها أبطال معينون ، وخصائص أدبية معروفة. واستقر مدلوله منذ ظهور مقامات بديع الزمان الهمذاني ، بدلالة تلك الأقاصيص والحكايات أو النوادر المصاغة في ألفاظ أنيقة ، وأسلوب مسجوع ،يحفل بألوان المحسنات البديعية من جناس وطباق ، وما إلى ذلك من البلاغات العربية المصطنعة ، والزخرفة اللفظية التي عرفها أدب عصر ما يسمى بالانحطاط الأدبي .
يقول د. عبد المالك مرتاض :” إلى أن جاء زعيم فن المقامات بديع الزمان ، فألبس المقامة حلة لم تلبسها من قبل ، وإذا المقامات فن أدبي قائم بذاته ، لا يعني الجلوس ولا الجالسين، وإنما يعني أقصوصة طريفة ، أو حكاية أدبية مشوقة ، أو نادرة من النوادر العربية يظطرب فيها أبطال ظرفاء يتهادون الأدب ، ويتبادلون النكت ، في ابتسام ثغر و طلاقة وجه “.
هذا من ناحية تطور مدلول مصطلح المقامة ، أما من ناحية أصولها وجذورها ، فيبدو أنها ذات صلة بفن الكُدْيَة وأحاديث الشحاذة والتسول.
وما أكثر حكايات الكدية والتسول لدى الأعراب الذين كانوا يصطنعون في تسولهم الكلام المنمق واللفظ المزوق ، كلون من الاحتيال في الحصول على مال الخواص والعوام .فالفكرة الأساسية للمقامات – يقول د. عبد المالك مرتاض – مستوحاة من أحاديث المتسولين ، وليس معنى ذلك أن هذه الأحاديث تشكل النوع الوحيد الذي استقى منه فن المقامات .وإنما معناه أن هذه الأحاديث ينبغي أن تشكل أحد الروافد الفنية لهذا الفن الجميل”
والواضح أن هذه الأحاديث تلتقي في خصائصها مع الخصائص الفنية للمقامات ، من حيث استعمال ضروب المكر وفنون الاحتيال ، وأساليب الدهاء في التأثير واستلاب المال من صاحبه.
وبالجملة فإن فن المقامات ، حتى وإن ظهرت إرهاصاته الأولى في أحاديث ابن دريد الذي ينسب إليه البعض الفضل في نشوء هذا الفن ، إلا أنه لم ينهض كفن قائم بذاته ، إلا مع بديع الزمان الهمذاني ، على الرغم من التشابه الكبير بين أحاديث ابن دريد ومقامات الهمذاني، وما بينهما من اتصال وتقاطع ..
وهما يكن من اختلاف الآراء في أول من كتب المقامة هل هو إبن دريد أو الهمذاني ، فإن ظهورها الحق كان على يد الهمذاني ، وهو بلا مراء الأب الحقيقي لهذا الفن.
تشير المقدمة التي كتبها الحريري لمقاماته ، على عكس الهمذاني ، الذي لم يشر أدنى إشارة إلى مسعاه بأي تقديم نظري ، إلى جملة من الإشارات المهمة التي تبطنها هذه المقدمة النظرية ،منها أن كتابته للمقامات جاءت بإيحاء من أحد الوزراء، وهو الذي أشار إليه الحريري بالقول : ” فأشار من إشارته حكم ، وطاعته غنم إلى أن أنشىء مقامات ، أتلو فيها تلو البديع ، وإن لم يدرك الظالع شأو الظليع ” .
وكان سبب وضعه لهذه المقامات ، ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال : ” كان أبي جالسا في مسجد بني حرام ، فدخل شيخ ذو طمرين ، عليه أهبة السفر، رث الحال فصيح الكلام ، حسن العبارة .فسألته الجماعة : من أين الشيخ ؟ فقال : من سروج . فاستخبروه عن كنيته .فقال : أبو زيد. فعمل أبي المقامة الثامنة والأربعين المعروفة بالحرامية وعزاها إلى أبي زيد المذكور . واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنو شر وان ابن خالد بن محمد القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله . فلما وقف عليها أعجبته. فأشار على والدي أن يضم إليها غيرها ، فأتمها خمسين مقامة “.
وثاني هذه الإشارات ، هو اعتراف الحريري بتواضع جم ، بأسبقية بديع الزمان أستاذ المقاميين ، وذلك حين يقول : ” ..هذا مع اعترافي بان البديع رحمه الله ، سبّاق غايات ،وصاحب آيات ، وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة ، ولو أوتي بلاغة قدامة ، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته..” . معتبرا إياه أنموذجا يحتذى لمن جاء بعده ، مقرا بأنه كتب مقاماته مهتديا بهداه ، مقتفيا أثر خطاه .في الأسلوب وعدد المقامات على السواء.
في المقدمة نفسها ، يضعنا الحريري في صورة هذا اللون الأدبي ، كأنه يريد أن يعطينا تعريفا شافيا للمقامة في مبناها ومعناها ، وشكلها ومحتواها على السواء. يقول الحريري : ” وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة ، وفطنة خامدة ، ورويّة ناضبة ، وهموم ناصبة ،خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله ، ورقيق اللفظ وجزله ، وغرر البيان ودرره ، وملح الأدب ونوادره . إلى ما وشّحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية والأحاجي النحوية ، والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة ، والخطب المحبّرة ، والمواعظ المبكية ، والأضاحيك الملهية ، مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي ، وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصري..”
تمثل شخصية بطلها أبي زيد ، أنموذج ( المُكْدي ) الذي ينتهز المواقف ويتحين الفرص للظفر بما يريد من متع الحياة ، مخترقا المآ دب والحفلات العامة بطريقة لا تخلو من الاحتيال الذكي. من خلال وقائع ومواقف تنتقل بنا في أماكن ومشاهد مختلفة .
يذكر صاحب كتاب ” الرواة على أنباء النحاة “. أن أبا زيد السروجي ، واسمه المطهّر بن سلار ، وهو شخصية حقيقية احترفت الكدية ، وكان لغويا ونحويا صحب الحريري وتتلمذ عليه، وروى عنه . أما تسمية الراوي للمقامات بالحارث بن همام ، فإنما يحيل على الحريري نفسه . حسبما ورد في بعض شروح المقامات . وهو مأخوذ من حديث الرسول : ” كلكم حارث وكلكم همّام ” والحارث هو المتكسب والهمام الماجد المهتم بأموره ، ويبدو في المقامات في صورة الثري العربي الجواد .
على الرغم من أن الحريري (1054- 1122) ترك كتبا وتآليف كثيرة منها ” درة الغواص في أوهام الخواص ” ومنها منظومة في النحو” ملحة الإعراب ” .كما له ديوان رسائل شعر كثير ، غير ذلك الذي أثبته في المقامات ، إلا أنه لم يعرف بغير المقامات ولم يشتهر بسواها.
من الذين ترجموا للحريري ، ابن خلّكان ، صاحب ” وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان “. وقد خصه بحديث مطول جاء فيه : ” هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي . كان أحد أئمة عصره ورزق الحظوة التامة في عمله المقامات. وقد اشتملت على كثير من بلاغات العرب في لغاتها ، وأمثالها ورموز أسرار كمالها ، ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة إطلاعه وغزارة مادته..”
ويروي التاريخ أنه كان يزعم أنه من ربيعة الفرس ، كما كان مولعا بنتف لحيته أثناء التفكير، وكان يسكن ( مشان ) ناحية البصرة ، وكان عمل لفترة من الزمن صاحب الخبر بالبصرة .أي المسوؤل عن البريد . وكن يحظى بالتقدير والحظوة لدى معاصريه لما تميز به من ذكاء وفطنة وجلال قدر.
من التزويق إلى المنمنمات
اتسم الفن الإسلامي في معظم منجزاته بالابتعاد عن التجسيد والتجسيم ، لذلك يمكن القول انه فن تجريدي بامتياز، بمعنى أن الواقع ليس مرجعه بأي حال من الأحوال ، و لعل ذلك يرجع إلى نفور المسلمين من محاكاة الخالق و تمثيل الطبيعة و الكائنات . و قد اقتصر اهتمام الفن الإسلامي على فنون الزخرفة ، التي شكلت المجـال الخصب للإبداع ، و فيها تتجلى عبقريته الاستثنائية .
قلما نجد لدى الفنانين المسلمين اهتماما بالرسوم الآدمية و الحيوانية ، و دأبا على العناية بالنسب و قوة التعبير في الملامح و الوجوه الدالة عن المشاعر المختلفة . بل إن المنمنمات الإسلامية الفارسية تبدو مملة في تشابهها و عدم اهتمامها بقيم الظل و الضوء ، و رسم الأشخاص في أوضاع معينة يفقد أكثرها شيئا من الروح و الحركة و دقة التعبير.
إن هذه المآخذ لا تلغي جماليات التصوير الإسلامي ، الذي يؤسس على مفاهيم خاصة ، كالرسم ” بعين الطائر” التي يشرحها نوري الراوي في دراسته ” ملامح مدرسة بغداد لتصوير الكتاب ” بقوله : “إن هذه النظرة التي يطلق عليها العلماء نظرة عين الطائر هي إحدى التقاليد في المدارس الإسلامية التي جاوزت حدا أصبحت معه لا تقنع بتسجيل زاوية النظر وحسب ،بل تطمح إلى إراءة حيز المكان بشكل جامع ، وهي في حالة تلتقي برسوم الأطفال وترتبط بها حسب المقاييس الفنية بأكثر من وشيجة .” ومبدأ ” السقوف المخلوعة ” ، واعتماد الفنان المسلم على الحقيقة الظنية للأشياء ، متجاوزا الحقيقية العينية والبصرية الماثلة أمامه ، إلى ما لا يراه الرائي ، فهو حين يرسم النهر مثلا ، يتجاوز ذلك إلى رسم أنواع الأسماك الموجودة فيه.
ومما يعد ” من إضافات الواسطي – يقول بلند الحيدري- ما يسميه الإختصاصيون اسم “اجتماع الديدان “، ذلك أنه رسم أمواج المياه على شكل مجموعة ديدان تتحرك في ذبذبات متجانسة مما يعطيها تجسيدا إيقاعيا رائعا”.
ومن جانب آخر يتوسل الفن الإسلامي مبررات روحية تستند إلى العقيدة الدينية و المعطيات الحضارية ، و في ذلك يقـــول بلند الحيدري ” عبر كل ما أعطى الفن الإسلامي ، ثمة سمة له ستظل تمد بتاريخه و بتأثيره و استمرار استلهام معطياته ، و ذلك أنه فن استطاع أن يجمع بين المتعة و المنفعة ، و بين القيم الروحية و القيم المادية ضمن رؤية جمالية و فلسفية ذات أبعاد شمولية مستعدة لكل جديد يضاف لها ، و تتشاكل معها في مرمى إبداعي يناسب العصر “
على العكس من التصوير المسيحي ، الذي استغل استغلالا كبيرا في خدمة العقيدة الدينية ، و له حضوره القوي في الكنائس المزينة بتصاوير و أيقونات عن حياة المسيح و القديسين ، لم تكن للتصوير الإسلامي صلة بالدين الإسلامي إذ تخلو المساجد من الصور ، بل إن الفقهاء لا يثمنون عمل المصورين ولا يقدرون مواهبهم الفنية .
و قد كان نتيجة لذلك أن حظي الخطاطون و المذهبون بالمكانة و الحظوة لاحتفائهم بنسخ القران الكريم ، حيث عرف الفن الإسلامي نفائس المخطوطات الموقعة بأسماء خطاطين مرموقين مثل : ابن مقلة و ابن البواب و ياقوت المستعصمي ….
عندما نعرض لموضوع الفن الإسلامي ، يجب أن نفرق بين المنمنمات الإسلامية كما عرفت عند الإيرانيين خاصة و بين التصوير العربي متمثلا في ( مدرسة بغداد ) التي يمكن اعتبارها النواة الأولى للتشكيل العربي ، دون إغفال للسمات المشتركة التي تجمع الاثنين ، كونهما يصدران عن المفهوم الإسلامي للحياة و العالم ، بما يعكسان من رؤية جمالية تأملية مزجت بين الممارسة الفنية و الروحية …
لقد بدأ التصوير العربي فعليا ، مع ازدهار حركة التأليف و الترجمة ، حين اتجه أغلب المصورين إلى تزيين الكتب بالرسوم التعبيرية ، و بذلك تظافر التصوير و الخط العربي في إنجاز روائع المخطوطات العربية ، بداية من حكم السلاجقة لبغداد عام 1055 م ، و بدأت التأثيرات الخارجية تعرف طريقها إلى الفن العربي ، كما يمكن ملاحظة ذلك في مخطوط كتاب ( الترياق ) المؤرخ عام 1099 م ، و المحفوظ في المكتبة الأهلية بباريس ، إذ يضم رسوما تصغيرية في غاية الأناقة التشكيلية ، تحمل رمزية سحرية دخيلة على التصوير العربي ، كما شهدت هذه الفترة ظهور الرسم التشبيهي بفعل التأثير المغولي .
أما المنمنمات الإسلامية ، فهي فن فارسي خالص ، و يمكن اعتبارها التصوير الإسلامي الأكثر نضجا من الناحية الجمالية ، و قد كان أوج ازدهارها في ظل الحكم المغولي لبلاد فارس ( 1256 ) ، إذ يبدو تأثير التصوير الصيني فيها واضحا ، في جمعها بين الكتابة و الرسم ، و في احتفائها برسم المناظر و الأشخاص وسط أجواء شعرية .
عبر مراحل تطورها المتعاقبة ، عرفت المنمنمات الإسلامية أساليب متمايزة منها الأسلوب المغولي ( 1256 _ 1336 م) و الأسلوب التيموري ( 1387 _ 1502 م ) الذي يعد أبهى عصورها ، ففي بلاط السلطان ” بيقرا ” ظهر الأستاذ ( بهزاد ) ، الذي يعد الرائد الأول للمنمنمات الإسلامية ، و قد تعدت شهرته الآفاق ، بعدما درس أصول التصويــر و النقش على يد كل من ( سيد أحمد التبريزي و على ميرك النقاش ) و قد ترك ( بهزاد ) الكثير من الآثار الفنية ، منها مخطوط يوجد بدار الكتاب بالقاهرة ، مؤرخ ب 1488 م ، هو ( بستان سعدي ) قام هذا الفنان بتزيينه و تصويره، و يمتاز بهزاد بقدرة فائقة على التصوير و مزج الألوان . أما الأسلوب الصفوي ، الذي أسس له ( بهزاد ) ، فقد كان العصر الذهبي لفن المنمنمات ، بفضل الملك والمصور(شاه تامشاه1524-1576م) الذي رعى الفن وجمع الفنانين في قصره ، حيث يقومون بالرسم وتحضير أصباغهم ، وقد اشتهر من بينهم ( رضا عباسي والشيخ محمد و سياه قلم).
في العهد الصفوي نفسه بدأت مرحلة أفول المنمنمات ، إذ انحرفت عن مسارها ، لتقع في أسر التقليد للفن الأوربي . والملاحظ هو أن المنمنمات تتقاطع مع التصوير العربي في كونهما ينتميان إلى فن الكتاب ، وفي كونهما ينزعان إلى التعبير عن تجربة روحية في مجملها ، تستدعي قراءة تأملية مثالية بعيدا عن أسر الواقع وأشيائه ، لا قراءة بصرية تقف عند السطح دون التغلغل في الجوهر.
أسئلة الفن العربي
يبدو المشهد التشكيلي اليوم ملتبسا بشيء من الاستلاب والإنخطاف أمام الجماليات الغربية الدخيلة على إنيتنا الحضارية ، نتيجة عدم وعي صانعيه بإرثهم الحضاري وتجلياته التشكيلية خاصة ، ولذلك فإن التنقيب عن الجذور العميقة للتشكيل العربي وإرهاصاته الأولى يبدو مطلبا ملحا لكي لا يظل حاضرنا الفني مؤسسا على فراغ ، يعاني من أزمة الانتماء والهوية .
ولكن ثمة سؤال هو هل من الجائز أن نتكلم عن تصوير عربي بمعزل عن فضائه الإسلامي العام ، دون أن نقع في فخ النظرة الإثنية الضيقة ؟! بالنظر إلى ما بينهما من تداخل وتقاطع كبير بين المشارب الفنية الإسلامية المختلفة في تنوعها .
إن مسعانا في الاشتغال على موضوع الفن العربي ، يبدو أمر مشروعا تمليه الروح الموضوعية و النظرة المنهجيـة الإجرائية ، إذ تدل القرائن المتوفرة لدينا ، على وجود فن عربي أسس لقطيعة واضحة مع الأنماط السائدة آنذاك يجب النظر إليه ، في أسوأ الأحوال ، بوصفه الرافد الأقوى للفن الإسلامي ، الذي أنبنى على جدلية التأثر والتأثيـر. إن الشواهد الفنية العربية التي تنتمي إلى الفن التجريدي خاصة ، خير رد على القائلين بأن الإنسان العربي شفوي بطبعه ، تعوزه المخيلة الخصبة و الحس البصري ، مقارنة بسحر اللغة الذي ملك عليه كل كيانه و حواسه و شغله عن كل ملكة سواها ، و هو حكم غير مؤسس يشوبه الكثير من التعميم و المغالطة ، إذ كيف يعقل أن يكون الأمر على هذا النحو ، و قد وصل الفن العربي إلى التجريد الذي هو أقصى ما تستطيعه المخيلة البشرية .
لم تكن لدى عرب ما قبل الإسلام تقاليد فنية ناضجة ، حتى أن أصنامهم و آلهتهم كانوا يجلبونها من خارج البلاد العربية ، و لم يعرف الفن العربي بعد الإسلام زخمه الحقيقي ، إلا بعد اتصال العرب الفاتحين بشعوب آسيا الوسطى كالفرس و الهنود ، لكن الأكيد أنه نشأ في الوسط العربي ، فرغم هذا ، ورغم أن الصورة لم تكن شكلا من أشكـال التعبير لدى العربّي لان الرّغبة في التعبير عنده كانت تعبر عن نفسها باللغة ، بنسقها الصوتي الرائع ، و طرائق تعبيرها اللاّ محدودة ، إلا أنه يمكننا القول بأن الإنسان العربي هو إنسان التّأمل بامتياز، وذلك ما تشهد عليه العيّنات التاريخيـة.
وهنا تقفز إلى العين شواهد مشكلة من الأرابسك و الخط العربي و التصوير تدل على حساسية تشكيلية راقية، تعزز ما نذهب إليه.
مدرسة بغداد والواسطي
يمكن اعتبار مدرسة بغداد للتصوير الإسلامي أقدم المدارس الإسلامية وأكثرها دلالة ، وقد تجلى أسلوبها في تزيين قصص كليلة ودمنة ، وكتب الطب والنبات والطبيعة ، والمؤلفات الموسوعية، كعجائب المخلوقات للقزويني ، وأقدمها مخطوطات القاهرة الخاصة بالبيطرة (1209) رسمها علي بن حسن هبة الله وعبد الله بن الفضل الذي ورد اسمه في مخطوطة تعود إلى 1222م . غير أن أهم إنجازات هذه المدرسة يبقى مقامات الحريري للواسطي عام 1237م .
لا يكاد يتوفر شيء ذو بال من المعلومات ، عن ملابسات إنجاز الواسطي لهذه المخطوطة ،ولا الظروف المحيطة بذلك . كما لا يتوفر شيء كثير يضيء حياة الواسطي وسيرته ، اللهم إلا تلك المعلومات الشحيحة المتداولة والمكررة المتناثرة ، هنا وهناك. منها ذلك التعريف القديم الذي أورده المؤرخ ميخائيل عواد في دراسته ” يحي الواسطي شيخ المصورين في العراق ” وقد جاء فيها : ” ويعد يحي بن محمود بن يحي بن الحسن الواسطي في طليعة المصورين في العراق في هاتيك الأيام . بل هو شيخهم وأستاذهم وإمامهم في هذا الفن الجميل.. نشأ هذا الفنان الواسطي في المائة السابعة للهجرة في واسط من المدن الشهيرة في العراق ، وموقعها بين البصرة والكوفة ، وفي تلك المدينة العامرة تعلم التصوير ، وتمهر في فنونه..”
ويرجع بلند الحيدري هذا التجاهل للمصورين ، وعدم التأريخ لحياتهم إلى النظرة المتوارثة عند المسلمين عن استهجان الرسم والنحت ، والقول بتحريمهما ، بل والتقليل من شأن مبدعي التصوير أو المزوقين ، كما يسمون ، في حين يعلي من شأن الكتاب والشعراء الذين لم يترك كتاب التراجم والسير والفهارس شاردة ولا واردة بخصوصهم.
ويبدو الواسطي أكثر جرأة من سواه ، وأكثر إحساسا بأهمية الأثر التشكيلي الذي أنجزه عام 1237م ، ممثلا في مقامات الحريري .الذي كتب حين فرغ منه ” فرغ من نسخها العبد الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه وعفوه يحي بن محمود بن أبي الحسن بن كرويها الواسطي بخطه وصوره .آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة”.
بهذه الكلمات ختم الواسطي مخطوطته النفيسة مقامات الحريري ، التي أصبحت من أنفس المخطوطات العربية ، كونها شكلت فتحا جديدا في تاريخ الفنون التشكيلية العربية ، نظرا لاعتبارات كثيرة منها أن الواسطي أثبت اسمه على أثره ، على عكس كثير من الصور و التزاويق التي ظل أصحابها مجهولين ، ويعود السبب إلى تلك النظرة المتحفظة للدين الإسلامي تجاه التصوير والقائلة بكراهة تصوير الكائنات الحية ، وبذلك يكون الواسطي قد أسس لفن تشخيصي رغم وجود التحريمات الفقهية متجاوزا إياها بجرأة.
ولد الواسطي في مدينة واسط أوائل القرن الثالث عشر الميلادي ،ومن الواضح أن نشأته في العراق ، الذي تعاقبت عليه الحضارات، وكان ملتقى تيارات فكرية وأدبية ، وكانت بغداد عاصمة وحاضرة تعج بالحراك الثقافي والفني ، قد أغنت تجربته وفجرت مواهبه التشكيلية ، حتى أصبح صاحب مدرسة بغداد للتزويق ، كما كان يطلق على الفنون التشكيلية . ويبدو أنه كان مثقفا واسع الإطلاع ، متشبعا بالتقاليد الفنية السابقة لعصره ، وما عرفته الحضارات السابقة من فنون التزويق ، كما أنه عاصر عددا من مفكري العهد العباسي من أمثال المؤرخ ابن الأثير، والعالم ابن الرزاز ، والجغرافي الحموي..
عمل مصورا أو مزوقا لدى الخليفة المستنصر بالله العباسي بين عامي : 1242و1258م ، ويبدو أنه قام بتزويق عدد من المخطوطات ، قد يكون أقدمها كتاب ” الترياق ” لجالينوس ، على ما يذكر بعض مؤرخي الفن ، كما يكون قد زوق أكثر من نسخة من مقامات الحريري ، الذي يعد أهم أثر تشكيلي خلفه العرب ، كما يعد أقدم الآثار التصويرية التي تصلنا موقعة باسم مبدعها على غير العادة ، وبذلك يصبح الواسطي استثناء في الإمضاء على لوحاته داخل مدرسة بغداد. كما كانت أعماله معروضة بمكتبة الجامعة المستنصرية ببغداد ، واقتنيت له أعمال فنية في الأندلس والمغرب خصوصا لدى ملوك دولة الموحدين.
استمدت مدرسة بغداد اسمها من بغداد عاصمة الخلافة العباسية ، بالنظر لما كان لهذه المدينة من ريادة في الإشعاع الحضاري والفكري الذي بلغ مداه مناطق كثيرة من العالم الإسلامي ، في المرحلة الممتدة بين القرنين السادس والثامن للهجرة (1200- 1400م ) . وهناك من المؤرخين من يطلق على مدرسة بغداد تسمية ” مدرسة مابين النهرين ” أو ” المدرسة العباسية “. ولكل واحد تبريراته التي يستند إليها في هذه التسمية.
يقول د.زكي محمد حسن في كتابه ” مدرسة بغداد في التصوير الإسلامي ” : ” إن تزويق المخطوطات بالتصاوير وتزيينها بالألوان البراقة فن حملت بغداد لواءه في القرنين السادس والسابع للهجرة ، ولكنه ازدهر في مراكز أخرى من ديار الإسلام ، فعرفته الموصل والكوفة وواسط وغيرها من بلاد الرافدين ، كما امتد إلى إيران ومصر والشام بل امتد تأثيره إلى الرسوم الحائطية الإسلامية في البرطل بقصر الحمراء في غرناطة ،وإلى بعض المخطوطات في الأندلس “.
من أبرز السمات الفنية لمدرسة بغداد عدم اهتمامها بالطبيعة ، وعدم عنايتها بالجانب التشريحي ، والنسب ومنظور الأشياء وأبعادها ، وقد استمر تأثير هذه المدرسة حتى بعد سقوط بغداد عام 1258م ، وبدأت مرحلة أفولها خلال العهد التركي .
مقامات الواسطي
على الرغم من أن الشواهد والقرائن على قلتها تدل على أن المسلمين عرفوا الرسم على الورق منذ القرن الثاني للهجرة ، فإن ما عرف من تلك الرسوم يعود إلى أواخر العهد الأموي ، وأوائل العباسي ، ويبدو أن المقريزي قد ألف كتابا ، مفقودا عنوانه : ” ضوء النبراس وأنيس الجلاّس في أخبار المزوقين من الناس “. وقد صور مصورو تلك الحقبة مواضيع ذات صلة بدنياهم وواقعهم ،وأخرى ذات صلة بالدين كالمعراج وقصص الأنبياء والصحابة والأولياء. ولكنها ظلت محدودة ودون تأثير.
من المعلوم تاريخيا أن الفن الإسلامي عامة ، قد ارتبط بحركة صناعة الكتاب نسخا وتذهيبا .فعرفت أسماء كثيرة من مزوقي الكتب كعلي بن هلال المشهور بابن البواب ، وياقوت المستعصمي . الذين عملوا على نسخ نفائس المخطوطات ، بتزيين متونها وتوريق حواشيها وزخرفتها وتذهيبها ، وهي أعمال ذات وظيفة تزينية زخرفية لا أكثر ، تمنح نوعا من المتعة البصرية التي تفتح شهية القراءة ، وهي محايدة تجاه النص، ولذلك يمكن أن تكون تلك التزويقات والحواشي مصاحبة لأي نص كان .
أما الواسطي فقد تجاوز مفهوم التزويق بتأكيده في توقيعه الختامي لعمله التشكيلي مقامات الحريري ، الذي أنجزه بعد مضي ما يقارب القرن على نصوص الحريري ، على أن عمله ينتمي إلى فن الصورة مضافا إليها الخط .
ويكون من خلال تجربته مع المقامات قد أسس لما يسمى بالصورة الحكائية ، على اعتبار أن اللوحات التسجيلية ، التي أنجزها ذات علاقة عضوية بالنصوص ، وليست مقحمة أو طارئة ، كما هي الحال مع سائر الحواشي والتزويقات التي عرفت في تاريخ المخطوطات .
لقد اقترح الواسطي معادلا تشكيليا لتلك الحكايات ، بالاعتماد على تأويل شخصي ورؤية ظنية ، لملْ تلك الفراغات التي عجز النص الأدبي عن التعبير عنها . وكانت رسومه تفسيرا موازيا لسرد الحريري ، وبالتالي كانت ذات مسعى وصفي توضيحي ، حتى وإن تجاوزته في أحايين كثيرة لاقتراح جماليتها التي يجب النظر إليها في سياقاتها التأسيسية ، وعتباتها الأولى.
يبدو أن الشعبية الكبيرة لمقامات الحريري في تلك الفترة والتأثير الكبير الذي مارسته على قرائها ، لما لها من محمول اجتماعي وسياسي ، ورمزية كبيرة وجدت قبولا لدى الطبقة البسيطة ، فهي تروي في قالب كوميدي مرح ، لا يخلو من الصدق ودقة الملاحظة مغامرات أبي زيد السروجي ، وكما هو معروف ، فالمقامات نصوص سردية كتبت في القرن الحادي عشر الميلادي ، وعرفت انتشارا كبيرا، لأنها تروي مغامرات عابثة وساخرة لبطلها أبي زيد السروجي ، في مجتمع العراق المليء بالمتناقضات الاجتماعية ، لا سيما في الأوساط الشعبية الدنيا ، في حاضرة بلغت أوج ازدهارها وانفتاحها .
فضلا عن ذلك فإن انتشار الحكايات الشعبية والسير ، وظهور مسرح العرائس وخيال الظل ، كل ذلك أوعز للواسطي بإنتاج خطاب بصري ذي رؤية شعبية ، وعناصر رمزية بسيطة قريبة من وجدان الطبقات الدنيا .
إن مخطوطة الواسطي هي وثيقة بصرية مهمة ، حية ونادرة ، تعطينا توصيفا دقيقا للحالة الاجتماعية للعراق والعالم الإسلامي كله في القرن السابع الهجري ، كما تعطينا فكرة واضحة عن أنماط الحياة المختلفة في تلك الحقبة من لباس وأزياء وعمارة وأسلحة ورايات ،وعادات وتقاليد سادت في الزواج والجنائز والقضاء والتجارة والنقل والأندية والمواسم المختلفة. وقد أبرز كل ذلك بحس تصويري دقيق تجاوز نصوص المقامات ، وما تقدمه من صور وصفية تعوزها الدقة وتخلو من التفصيل إلا فيما ندر ، ربما بسبب محدودية الصورة اللغوية ، وليس أدل على ذلك من عدد لوحات الواسطي الذي تجاوز عدد مقامات الحريري بالضعف ، أي واحدا وتسعين لوحة مختلفة الحجم ، وبعضها يشغل الصفحتين من الكتاب. يقول د . محمد مكية في دراسة له عن ” تراث الرسم البغدادي ” : ” بأن رسوم الواسطي التي أوضحت تلك المشاهد الأدبية بالصور كانت أدق تعبير وأوسع دراسة مباشرة للمجتمع الإسلامي وطبقاته المختلفة آنذاك ، وهي بالتالي خير وثيقة مادية ساعدتنا على التعرف بتلك المجتمعات بطريقة لم نتمكن من تحقيقها عن طريق النصوص الأدبية والتاريخية الواردة في تآليفهما الغزيرة “.
لقد توجت هذه المخطوطة اسم الواسطي كرائد لمدرسة بغداد ، لأنه استطاع أن يفلت من التأثيرات الإيرانية والمسيحية ليبتكر أسلوبه الخاص به ، فقد تعامل مع رسوما ته الواقعية بروح رسام اللوحات الحقيقي لا بروح رسام منمنمات أو مزوق .
إلى اليوم ، مازالت مخطوطة الواسطي تحظى بالاهتمام وتلقى الاحتفاء والدراسة والتحليل ، فقد تم عرضها منفصلة عام 1938م في باريس . وفي العام 2005م ، أشرف الفنان العراقي ضياء العزاوي على طباعة ألفي نسخة مرقمة ، مطابقة للنسخة الأصلية من مقامات الحريري. في عدد الصفحات ( 334صفحة) ، والقياس ( 37×28) والتجليد بالجلد والحرير، وكذا عدد صفحات رسوم المنمنمات، وهي مئة وواحدة ، والطبعة صادرة عن دار النشر ” توش أرت ” . أضيف إليها نص تاريخي تحليلي للمختص أولغ غرابار، وتم توزيعها من طرف “غاليري لوموند “.
جماليات التصوير العربي عند الواسطي :
نشأ التصوير العربي في أول عهده متأثرا بفنون الحضارات السابقة له ، فقد بدا تأثير الفن الهيليني البيزنطي واضحا في الشام ، أما في العراق فقد كان تأثير الفن الساساني جليا . و يمكننا الإشارة إلى أن بعض المصورين قد رسموا صورا لبعض الحوادث في السيرة كميلاد النبّي و مقابلته للراهب بحيرا في الشام و وضع الحجر الأسود في الكعبة بيد النبّي ، و الهجرة و الإسراء و المعراج و تكسير النبّي للأصنام و لكن هذه الصور نادرة وليست بذات قيمة فنية أو دينية .
كما وصلت إلينا بعض الصور و التزاويق من العصر العباسي ، وجدت على بعض الجدران في أطلال مدينة (سامرا) و أكثر هذه الصور أهمية رسم لراقصتين يشهد بما كان للأساليب الفنية الفارسية من تأثير على التصوير العربي الذي عرف أبعادا أخرى ، وطرق آفاقا جديدة بعد توسع الفتوحات الإسلامية ، نتيجة تلاقحه و تمازجه بالثقافات الإسلامية المختلفة التي لم تكن عربية الأصل ، و التي كانت تمتلك تراثا و تقاليد فنية لم تكن لدى العرب المسلمين ، وقد كان لها دورها في إثرائه بأساليب و عناصر جديدة .و كان نتيجة لذلك ظهور المدرسة العربية ، التي انطبعت بأسلوبها المميّز لها عمّا سواها من مدارس الفن الإسلامي، كالمدرسة الإيرانية ، المغولية ، و الهندية .تعتبر المدرسة العربية أقدم مدارس الفن الإسلامي على الإطلاق ، وقد كان انتشارها منحصرا في البلاد العربية وازدهرت مراكزها خاصة في بغداد و الشام و مصر و الأندلس . يذكر التاريخ من مصوري المدرسة العربية في بغداد عبد الله بن الفضل الذي كتـب و أنجز تزيينا بالرسوم لكتاب ” خواص العقاقير ” ضم ثلاثين صورة موزعة بين متاحف العالم .كما اشتهر من مصوريها يحي بن محمود الواسطي ’ الذي زيّن عام ( 1237 م – 634 هـ ) ’ كتاب ” مقامات الحريري” المحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس . ويبدو أن الواسطي أنجز تزيينا لكتاب ” كليلة ودمنة ” الحكايــات المعروفة ’ كما ينسب إليه تزيين كتابين آخرين هما :” الترياق” و ” الأغاني “.
لقد كانت تجربة الواسطي التصويرية مثار اهتمام الكثير من والمهتمين والمشتغلين بتاريخ الفن والنقد التشكيلي ، وبؤرة تحليل للكثير من العرب والأجانب على السواء ، فقد قال عنها المستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسنيون ” بأنها من أروع الأعمال الفنية الموجودة اليوم “. أما المستشرق بلوشيه. فقد قال بأن الواسطي ” إستطاع أن يأتي بأروع ما أنتجته المدرسة البغدادية ، وهذا يعطي الانطباع أن هذا الإنتاج الفني هو أحسن ما يمكن أن يشار إليه بالنسبة لذلك العصر”.
كما تعرض الروائي والناقد جبرا إبراهيم جبرا لنفس التجربة. مؤكدا على أهميتها وأصالتها. و يشير الروائي رشيد بوجدرة في روايته ” الإنبهار ” إلى منمنمة ثمينة جدا رسمها الواسطي عام 334للهجرة ، وتمثل القائد طارق بن زياد مع مجموعة من الجنود أمام صخرة مضيق جبل طارق . الذي إستولى عليه عام 711ه. ولا نحسب ذلك إلا حقيقة موضوعية قائمة.
والواقع أن تجربة الواسطي مع التصوير تجربة تأسيسية رائدة و مبكّرة في مسار التشكيل العربي خاصة و الإسلامي عامة ، و قد تنبّه جواد سليم بوصفه أحد أهم التشكيليين إلى أهمية الواسطي من خلال التنويه بقيمتها ، ومن خلال استعادتها وتمثلها تشكيليا ، في تجربة “جماعة بغداد التي كان أحد مؤسسيها والفاعلين فيها ، قائلا عن صورته ( الجارية و الجمال العشرة ) في إحدى رسائله في أوائل الأربعينيات:
” إنها صورة مجموعة من الجمال، و جمال العراق تعرفها جيدا ، لا يتعدى لونها لون التراب ، ولقد صورها هذا العبقري العظيم كل جمل بلون يتناسب مع اللون الذي بجانبه ، فكان الانطباعي الأول “.
كما استعادت جماعة البعد الواحد في العراق ، وعلى رأسها شاكر حسن السعيد ، الذي خصه بدراسة مهمة تناولت ” الخصائص الفنية والاجتماعية لرسوم الواسطي ” تناول فيها مفهوم البعد الثالث في لوحات الواسطي بالقول : ” .. أجل سبق لمحاولات من هذا القبيل أن أنجزت إلا أن الأمر يختلف لدى الواسطي هنا في كونه – البعد الثالث – يسقط من حسابه عامل البروز في النحت التسطيحي كبعد (عمق) مستبدلا إياه بعاملي اللون والإضاءة ، وهما وسيلتان من وسائل التسطيح التصويري. بمعنى آخر إن اللون والضوء والعتمة ستتولى في السطح المرسوم الدور الذي يتولاه البعد الثالث وهو العمق في فن التسطيح من إبراز في المنظور والتجسيد في نفس الوقت مع انصياعهما للعالم الذي يتجسدان فيه”. ومن شهاداته علي أهمية منجز الواسطي قوله : “إن أهمية الواسطي الفنية هي أنه استطاع بطريقة تعبيره إقناعنا بأن ثمة عالما ممكنا باستطاعته أن يستند على عالم عياني في استشفاف الحقيقة ودون أن ينقله “.
من جهة أخرى يعتبر بلند الحيدري أحد النقاد الذين قدموا رؤية نقدية ملفتة عن تجربة الواسطي ، قائلا عنه : ” لقد كان الواسطي فنانا كبيرا ، وكان إنسانا كبيرا وبهما استطاع أن يؤكد أصالته الرائعة ” . مؤكد في دراسته ” الواسطي رسم مقامات الحريري فاختصر الفنون الإسلامية ” على جملة من الخصائص الفنية في رسومات الواسطي منها:
- قدرته على الاستلاف من كل المعطيات الفنية التي سبقته من فنون فارسية وبيزنطية ومسيحية وساسانية بل حتى الآشورية .
- مدى فهمه لجزئيات صوره.
- قدرته العجيبة على رصد الحياة الاجتماعية ، والتعبير عن تفاصيل الحياة حينذاك ، في رسم الأشخاص بملابسهم وحركاتهم وطريقة جلوسهم . بطريقة تجاوزت مقامات الحريري في التعبير عن جوانب المجتمع .
- اعتماده على نفسه في تحضير أصباغة التي كان يحضرها بنفسه ، مستخلصا إياها من المداد الأسود وبقايا حرق ألياف الكافور ومزجها بزيت الخردل.
- كان له قدرة أخاذة في استخدام القيم اللونية الزاهية بدقة ورفع مستوياتها التعبيرية ، عبر ما يقيم من علاقات بينها وبين خطوطه المنسابة.
هذه الخصائص وغيرها أهلته لكي يتبؤ مكانة عالية في تاريخ الفن العالمي، و يكون الممثل الرئيسي للفن الإسلامي الذي يمكننا أن نختصر به أهم مميزات هذا الفن عبر جانبيه التشكيلي والإحتماعي.
كما أن الفنان الجزائري المرموق محمد خدّة المعروف بتجريديته الغنائية التي تستثمر الحرف العربي كعنصر تشكيلي قد أفرد بعض مباحثه الفنية النظرية لهذا المصور ، ولا أشك في أن الكثير من لوحات خدّة ومنها لوحة ” تكريم الواسطي ” كانت تجسيدا لهذا المسعى .
ففي إحدى دراساته المنشورة بمجلة ” أوربا ” عام 1975 م يقترح علينا محمد خدة مقاربة للواسطي ’ عرض فيها بنظرة تحليلية ثاقبة لأهم سماتها و علاماتها . حاول فيها كسر جدار التعتيم المبيّت على هذا الفنان المعدود ، ولفت أنظار المهتمين إلى تجربته الجريئة المؤسسة من خلال مقارنتها بالمقولات الجمالية الحديثة.
نعرض فيما سيلي ’ لأهم ما جاء فيها و ليس لنا إلا جهد الترجمة و التصرف .
” إ ن فن الواسطي’ يقول محمد خدة ، فن فريد كل التفرد لأكثر من سبب فهو يشير إلى ظهور أسلوب عربي متميز ، أحدث قطيعة مع الكلاسيكية البيزنطية و الإيرانية ، كما أحدث قطيعة مع التقاليد القديمة حين كشف عن اسمه ، ولذلك فإن الواسطي في حدود معلوماتنا هو أقدم فنان تصلنا آثاره التصويرية.
إن لوحاته التي تزين ” مقامات الحريري ” شواهد نفيسة بإحالتها الدقيقة على المناظر الأزياء و المعمار السائد في تلك الفترة ، وتكشف عن ملكة و حس فني و ملاحظة دقيقة تتجلى في شغف الواسطي بإبراز الأوضاع و التعابير و حركات الشخوص و في هذا الصدد يقول خدة ، ..يجيء فن ” مصور بغداد ” في أوانه لكي يدحض ما يروج له بعض مؤرخي الغرب القائلين بعدم وجود تجسيد للوجه الإنساني في الفن الإسلامي لأن ذلك محرم ’ لكن التاريخ يشهد على وجود الفن التشبيهي قبل الإسلام. وبعد أن هدم الرسول صلى الله عليه وسلم الأصنام المحيطة بالكعبة ’ تعبيرا عن التوحيد المطلق ….
هناك سمة أخرى ملفتة للنظر في فن الواسطي – يضيف خدة – وهي أنه فنان مولع بإبراز المظاهر الشعبية، والحياة العادية و الانشغالات اليومية لمعاصريه ، وهو الموضوع ذاته الذي تعرض له الحريري في مقاماته من خلال بطلها أبي زيد السروجي . لكن صور الواسطي تتجاوز الحدود الضيّقة للكتاب ، و تمنحها فضاءات أخرى للتعبير المغاير..
ثم يوضح ذلك الخلط الذي وقع فيه الكثير من المؤرخين ’بين مدرسة بغداد و مصوّرها الأساسي ، إذ وصفت أعماله بالواقعية بل بالتشبيهية و ذلك – في نظر خدة – خطأ كبير إذ لا يكمن حصـره في هذه الميزة البسيطة، رغم أنه سارد ذكي يبدع في رسم حركات معاصريه ، لأن لوحاته فضاءات مفتوحة تحتمل أكثر من قراءة…
إن يحي الواسطي – و الكلام لمحمّد خدة – مصور بكل ما للكلمة من معنى ، فهو مبتكر، انشغل دوما بإعادة تنظيم فضاء ظل يعاني من الاختناق و الانحسار ، انه يمنح الهواء ، يوزع الفراغات ، مما يعطي لتركيباته تبويبا جيدا ، وتوازنات رائعة .
ولقد قاده بحثه – أي الواسطي – من أجل فضاء تصويري جديد إلى إعادة النظر في قوانين المنمنمات وكسر إطارها العام ، لكننا لحد الآن لم نول الأهمية اللائقة إلى هذه الثورة التي شكلت قطيعة حقيقية مع جمود ظل سبعة قرون يحكم فن المنمنمات …
بخلخلة الفضاء ، كان الواسطي يهدف إلى معالجة مسألة الثبات و الجمود الذي وسم معظم الأعمال الخطية لعصره ، و نعطي هنا مثالا عن المقامة الثانية و الثلاثين و هي قطيع الجمال على مشارف المدينة التي تبرز بوضوح انشغال المصوّر بالحركة و الخط ، فنحن بصدد موجة رائعة من الجمال المتحركة، تزيد من حركتها وضعية سائقها بيديه التي تحدوها ، و كأنه قائد اوركسترا الجمال …
إن هذه اللوحة ، بغضّ النظر عما تمثله ، تبدو مثل الجملة المكتوبة التي تملأ كل الصفحة ، مما يدل على إفادة الواسطي من أسلوب الخط العربي ، إذ لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أنه كان واحدا من أمهر الخطاطين في وقته .
هذه الحركة المتآلفة والإيقاع الكامل تؤدي بنا إلى الافتراض بأن الواسطي في مساره الفني بدأ بالفن التشبيهي مرورا بالبحث في الإيقاع و الحيّز و الخط ليفضي إلى التنميط ثم التجريد ، هذا التسلسل الذي يختزله الواسطي في رسمه لوضعية الجمل على شكل زهرة مذهبّة مكوّنـة من ستة بتلات ، وفي هذا ما يختصر قرونا من مسيرة الفن التشكيلي العربي .
هوامـش:
*- المقامات – شرح مقامات الحريري : شرح وتحقيق يوسف البقاعي _ دار الكتاب اللبناني بيروت – دون تاريخ.
فن المقامات في الأدب العربي –د .عبد المالك مرتاض – ش.و.ن .ت .الجزائر-1980.
*- الفن الإسلامي . تيتوس بوركا ردت .بالفرنسية.
*- أوراق متناثرة( محمد خدّة بالفرنسية )
*- مجلة العربـي( مقال بلنـد الحيدري)
* مجلة نزوى ( مقال بلند الحيدري)
———————————————————————
* أحمد عبد الكريم (شاعر وكاتب من الجزائر)