عزت القمحاوي - شهوة الكتابة المحرَّمة

في رواياتي الست، استخدمتُ ضمير المتكلم، فتعامل معي قراء ونقّاد على أن ما أكتبه هو سيرة ذاتية، وأن نساء رواياتي هنَّ شخصيات حقيقية، سبق أن عاشرتهن، وما أقوم به، هو فضحهن جنسيّاً على الملأ ، فيما كنتُ أروم فضح الذكورة، وطريقة التفكير الذكوري في مجتمع شرقي مغلق
خليل صويلح

إذا كانت الإيروسية هي تعبير مباشر عن الشّهوة، فإن مراودتها في الكتابة ما هي إلا شهوة مضاعفة في هتك اللغة من الاحتشام المزيّف والمراوغ وتفكيك لصلابة النص المحرّم، وبمعنى آخر ردم المسافة بين ما حققه الأسلاف في هذا الباب، وخلع أقفال أحزمة العفّة التي علقت بكتابة الجسد في الحقب الظلامية اللاحقة. أحاول الآن استعادة مشهد الشيخ العلّامة محمد النفزاوي بعمامته وفقهه وعلمه، وهو منكبّ على كتابة”الروض العاطر في نزهة الخاطر”، مفتتحاً إياه بعبارة”الحمد لله الذي جعل اللذة الكبرى في فروج النساء…”، من دون أن يضع في ذهنه، أية شبهة، في ما يؤلف أو ينسخ، من جهةٍ، وصورة روائي اليوم وهو يراوغ اللغة كي يوصف مشهداً إيروتيكياً عابراً في متن نصه، من جهةٍ ثانية. فالمكاشفة، أو الأدب المكشوف، بات من المحرّمات، أو الكتابة المشبوهة.

اللافت حقاً في هذا السياق، أن تطفو على السطح قيم مبتذلة، وانحطاط أخلاقي في الحياة اليومية، طرداً مع تشذيب النص من الأعشاب الضّارة بعرف فقهاء الفتاوى وأصحاب “ذهنية التحريم”. فقهاء بالعشرات من ابن حزم صاحب” طوق الحمامة” إلى شهاب الدين التيفاشي (نزهة الألباب فيما لايوجد في كتاب)، كانوا يحصلون بمفاهيم اليوم على “منحة تفرّغ” في بلاط الخلفاء للاستفادة من علمهم في موضوعة الجنس، أما رقيب اليوم (المكتوبجي) فيحتاج في عمله إلى عدسة مكبّرة في التفتيش عن عبارة مارقة تحت بند”خدش الحياء العام”. لنقل بأن تنظيف النص من قاموس الرغبات هو نوع من وأد اللذة في مكمنها. لذة الكتابة والافتتان باللغة الطليقة بجمالياتها المفتوحة على البلاغة وثراء المخيّلة، وذلك عن طريق تحطيم الغواية بتجريدها من بعدها المعرفي. والاكتفاء بالنظر إليها كشبهة بورنوغرافية صرفة.على الأرجح، فإن انخراط الروائي بالسرد الايروتيكي هو محاولة لاستعادة الجسد العربي المخطوف والمثقل بالتابوهات المتوارثة. لدي قناعة شخصية بأن الجسد المكبّل يُنتج كتابة مكبّلة بقيود من خارجها، وتالياً فإن مناوشة الجسد كلحظة تخييلية هي محاولة لنبذ سلطة عليا مقدّسة، إذا اتفقنا أن السلطة تخلق الفرد ابتداء من جسده، وفقاً لما يقوله ميشيل فوكو. هذه الكتابة إذاً، باستعمالها الجسد كذريعة نصيّة، تسعى ذهنياً إلى تحريره من عبوديته، وتحرير الكتابة نفسها من الزخرفة اللغوية المراوغة، وذلك بذهابها إلى جملة خشنة لا تخشى حفر الطريق. استحضر الآن كلمات الأغاني الشعبية، لجهة احتفالها الصريح بالصور الحسيّة العالية والمبتكرة، من دون أن تُتهم بتجاوز الحدود والأعراف، على العكس تماماُ، مما يحدث لعبارة شعرية بالفصحى، قد تكون ترجمة مباشرة للمعنى الوارد في العامية. انتهاك اللغة بسطوة الفضيلة الكاذبة، أنتج نصاً هجيناً بمشية عرجاء ، تفضح غياب الجملة الناقصة. وفي المقابل وجدنا أنفسنا إزاء نصوص- نسوية- خصوصاً، مغرقة بالبورنوغرافية، كمحصلة لفهم مغلوط للمعنى العميق والكثيف للإيروتيكية، لعل ما نحتاجه في المقام الأول هو النأي عن الاستمناء الروائي والشعري أولاً، بإعلاء شأن السرد كخطاب ثقافي بأنساق متعددة، وليس الإباحية وحدها كملاذ للنجاة، ذلك أن الجسد كواجهة نصيّة، حسب ما يقول سعيد بنكراد، يعكس مجموعة من العلامات والدوال التي تشبه”الوحدات المعجمية” ليعيش على وقع الاستعمالات. بهذا المعنى فإن ضرورة الإيروتيكية في نصٍ ما، لا تتحقق أسلوبياً، في حال، لم تجترح بلاغة مبتكرة تتواءم معرفياً مع التطلعات السردية نحو عتبة إضافية في تحرير النص من اللغة المحنّطة. حين شرعت في جمع المادة الأولية لكتابة روايتي الأولى “ورّاق الحب” وجدتُ نفسي أمام مكتبة تراثية كاملة في كتابة الجنس. هكذا غرقت في “النسخ” مع أسلافي من العلماء والفقهاء، في تفكيك وشوم الجسد، في أكبر عملية”سطو” على الكنوز المخبوءة والمحرّمة في هذا التراث الضخم، واكتشفت ضرورة نفض الغبار عن مخطوطات ثمينة لاستعادة نصوص مؤسِسة في فن الحبّ. حينها تخيّلت نفسي نسّاخاً في حي الورّاقين، تائهاً بين دمشق وبغداد واسطنبول وقرطبة. قارئُ نهم، يغرق في حبر الأسلاف، وسارد معاصر يخشى الانزلاق أكثر مما هو مسموح في “الخطيئة”، لكن هذه المرجعيات قادتني إلى كتابة مضادة تستثمر التناص في معناه الشامل لجهة الترابط والتداخل والاعتماد المتبادل في الحياة الثقافية الحديثة. كان رولان بارت قد أشار إلى أنه” لا توجد كلمة عذراء” بما فيها كلمة “نصّ” التي يعيدها إلى كلمة أسبق هي “نسيج”، أو”حياكة”، وبناء على هذه المقولة، اشتغلت حائك نصوص بمغزل جديد، أو مثل بُستاني يعمل على تهجين الثمار، عبر الكتابة والمحو، وبتناوبٍ صارم، بين مفردات العيش والنص الموروث، معوّلاً على التجربة الشخصية في تحويل الطين إلى صلصال. ومن دون وعي صريح، كنت أحتلُّ مقعد شهرزاد، في أنوثة مضادة لبطريريكية اللغة الذكورية، وفضح الفحولة في مكمنها، وإذا بالجنس يتسلل إلى متن النص لتحريره من الهواء الفاسد للغة، أكثر منه، بضاعة رائجة، وسلعة مرغوبة للتسويق. كنت مفتوناً بشهوة الكتابة ولذتها المتفلتة من حرّاس الفضيلة، وتشكيل نص مكشوف في فضاء طليق، هو مزيج من الإيروتيكية، والصوفية، والخفّة التي لا تحتمل، حسب ميلان كونديرا. أن تحلّق بنصوص الآخرين إلى ذروة شخصية، وتوق إلى كسر بيضة الرخ بمطرقة لغة أخرى، ترفدها شذرات مستعارة من الشعر والتشكيل والسينما ومتاهة الكتب. الجنس المبثوث في النص، لم يكن أكثر من شريان بين شرايين أخرى، في ابتكار سرد مختلف. في روايتي”بريد عاجل” يلتقي الراوي في أرشيف صحيفة بفتاة شهوانية تعمل أمينة مكتبة. بعد مكابدات مشبوبة بينهما، يضع أحد مجلدات “تاريخ الطبري” تحت رأسها كمخدة، في وصالٍ محموم. وكأن لحظة غرام توازي كل المعارك التي أرشَفها الطبري كمؤرخ. وفي روايتي”زهور وسارة وناريمان” سعيت إلى كتابة أطروحة عن الجسد والصورة. الجسد المكبّل والصورة المحرّمة. اقنومان أساسيان في حقل ألغام السرد العربي واللذة الممنوعة. سوف ترقص”سارة” على وقع قصائد صوفية، وستدور بجسدها إلى حدّ الإنهاك في رقصة المولوية الذكورية، تستحضرها في إيقاعات تعبيرية، وبمعنى آخر، تعمل على نصٍ مضمرٍ، ورغم اكتمال هوية جسدها كراقصة تعبيرية إلا أنها سوف تهاجر إلى الضفة الأخرى من المتوسط، ففي لحظة ما، وجدت أن جسدها مكبّل بمحرمات لا يمكن تجاوزها. سوف يسأل الراوي معشوقته، وهما عاريان في الفراش، ماذا كان يكتب بأصبعه على ظهرها المكشوف، وحين تستفسره عمّا يكتب، يجيبها بأنه خطّ عبارات من أشعار عمر الخيّام، وجلال الدين الرومي، وأخرى من المأثورات المقدّسة. كأن الكتابة على الجلد، في لحظة عري تام، هي الفضاء السرّي الوحيد لقول ما لا يقال، فيما تكتشف”زهور” جسدها”الشعبي” حين تهجر فراش زوجها الجندي المهزوم بفحولته في حرب خاسرة، إلى أحضان مخرج سينمائي شاب، هو الآخر صاحب مشاريع مجهضة، فيعوّض خساراته المهنيّة، في ممارسة الجنس مع جارته. لكن” منى جابر” في روايتي”دع عنك لومي” لا تتردد في القول بأنها” تشتهي مضاجعة أعمى” في تمجيد حاسّة اللمس وحدها، من بين الحواس الأخرى، وتدافع عن قصة إيروتيكية نشرتها في مدوّنتها على شبكة الإنترنت بقولها” أيّ نصّ إذا لم ينتهك الثابت واليقيني، هو نصّ مكرّر، وهذا ما أسعى إليه في كتابتي. أن أعيد التاريخ المنهوب للأنثى. تصوّر حتى مفردة الفرج، تأتي في صيغة المذكّر!”. إثر هذا الحوار مع مدّعي فلسفة مصاب”بخصاء وجودي”، كان يفكر بافتراسها، تنتصر منى جابر لأنوثتها المنتهكة، فيما يحصل هذا المعاق ذهنيّاً على لقب” ملك العادة السريّة” بامتياز. ستبقى كتابة الإيروتيكية العربية إثماً محضاً، لسبب بسيط، هو أن محاكمتها تأتي من موقعٍ أخلاقي، في الدرجة الأولى، وليس من عتبةٍ نقدية تناوش النص جمالياً. هذا الرعب من رنين عبارة جنسية في ثنايا حياة متخيّلة، سيبقى ملازماً لهتك القيم الراسخة كنوع من الطهرانية الكاذبة التي أودت بنا إلى جحيم دنيوي، يحرسه رعاة جهلة، وجفاف لغوي في نصوص منهمكة بتنظيف حقولها من الثمار المحرّمة، خشية الانزلاق إلى ما لا يرغبه الرقيب، أو المحيط العام. في المقابل ينخرط آخرون وأخريات بوصفات من التوابل الجنسية، وولائم من المفردات الخشنة، المحمولة على رغبات متأججة في علاج أمراض شخصية، وثأر مؤجل، غالباً ما يقع في الركاكة، والانزلاق إلى تحرير الشفوي، في عتبته الأولى، لا أكثر. وفي منطقة ثالثة يُواجه النص الإيروتيكي معضلة أخرى، تتعلق هذه المرّة بطريقة السرد نفسها، إذ يقصي معظم الروائيين والروائيات(ضمير المتكلم) عن بقية الضمائر المستعملة، لإبعاد شبهة السيرة أو الاعترافات عن نصوصهم، ذلك أن القارئ، والناقد أيضاً، يقعان في خطل (التلصّص الشخصي) على الراوي/الراوية، بوصفه مؤلفاً. هكذا يظهر الروائي على هيئة فحل شرقي، وتُتهم الروائية بأنها تكتب سيرتها الذاتية، في استعادة لمناخات المدوّنات الاستشراقية، ومجتمع الحريم. في رواياتي الست، استخدمتُ ضمير المتكلم، فتعامل معي قراء ونقّاد على أن ما أكتبه هو سيرة ذاتية، وأن نساء رواياتي هنَّ شخصيات حقيقية، سبق أن عاشرتهن، وما أقوم به، هو فضحهن جنسيّاً على الملأ ، فيما كنتُ أروم فضح الذكورة، وطريقة التفكير الذكوري في مجتمع شرقي مغلق. إحدى بطلات روايتي”ورّاق الحبّ” تعمل ممثلة، وهي حسب وصف الراوي لها “نصف قديسة، ونصف عاهرة”، وقد فاوضني أصدقاء كتّاب على سبيل المزاح المراوغ، من أجل معرفة اسمها الحقيقي، على الأرجح، لاكتشاف نصفها الثاني. قارئة شابة، قالت بأنها لا تقرأ الروايات العربية، وتكتفي بقراءة الروايات بالانجليزية، لكنها أحبت روايتي”زهور وسارة وناريمان”، وحين سألتها رأيها بالرواية، قالت ببساطة” لقد وجدت نفسي أشبه زهور وسارة بآنٍ واحد”. كانت “زهور” امرأة شعبية لم تختبر جسدها جيداً، فيما كانت”سارة” أنثى تعيش جسدها بحريّة تامة. المفارقة أن راقصة تعبيرية شابة من بلد عربي مجاور، أتت دمشق للقائي، وقالت لي من دون مواربة” أنا سارة”، وأضافت” لو كنت أعرفك قبلاً، لقلت أنك كتبتَ سيرتي”.

شهوة التخييل الإيروتيكي ككتابة، لا يمكن عزلها عن محيط العيش. أن تستيقظ حاسة الشّم أولاً، في تلمّس تضاريس جسد متخيّل، ماهي إلا كتابة رائحة، سوف تستدعي استنفار الحواس الأخرى بكامل طاقتها لاختبار شهوة عصيّة على الوصف. هذه الشَّهوة الغائمة، قادتني لاحقاً لتقليد أفعال أبطال رواياتي في تجارب حميمة في الحياة، مثلما فشلتُ في علاقات أخرى بسبب تهتكَ بطل روايتي”ورّاق الحبّ”. نساء كثيرات كنّ حذرات من تطوير علاقاتهنّ بي، وفي أذهانهنّ ذلك الراوي الملعون والمتربص والماكر، وأخريات، لم يجدنّ ضالتهن في فحولة الروائي التي لا تضاهي فحولة الراوي وطرائقه السحرية في صناعة الغواية والمتعة.

إن عملية إقصاء الجنس عن قائمة القضايا الكبرى في الكتابة الإبداعية، بذريعة الخدش والعيب والابتذال، أدى وسيؤدي إلى خلل فكري فادح في التخييل العربي، وتهشيم إضافي للجسد الجريح في الأصل، وتمزيق لهوية غير مكتملة. والحال فإن المحاولات الشبقية لاستعادة الجنس، ما هي إلا مرآة شبقية للكتابة نفسها، ومحاولة لحفر بئر عميقة، في أرض صخرية قاسية وقاحلة وجرداء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقديم كتاب “قانون حراسة الشهوة”


 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...