نقوس المهدي
كاتب
روى المسعودي في كتابه "مروج الذهب" قوله :
" وقعت بمجلس يحيى بن خالد بن برمك وتطرق الحديث إلى العشق والتناظر فيه بين مجموعة من متكلمى العصر العباسي وكان يحيى بن خالد ذا علم ومعرفة وبحث ونظر وكان له مجلس يجتمع فيه أهل الفكر والرأى حيث يدور الحوار بينهم في كل شأ وقال يحيى وقد اجتمعوا بمجلسه ذات يوم :قد أكثرتم الكلام في الكمون والظهور وفى القدم والحدوث والإثبات والنفي والحركة والسكون والممارسة والمباينة والوجود والعدم والجر والطفرة والأجسام والأعراض والتعديل والتجريح ونفى الصفات وإثباتها والاستطاعة والأفعال والكمية والكيفية والمضاف والإمامة أنص هي أم اختيار؟ وسائر ما توردونه من الكلام في الأصول والفروع فقولوا ألان في العشق على غير منازعة وليورد كل واحد منكم ما سنح له فيه وخطر إيراده بباله"
وأتصور أن يحيى بن خالد قد فهم جوهر العشق فهو مخالف لكل شئ مما تناظروا فيه واختلفوا حوله وهو غير قابل للاختصام فيه أو التنازع بشأنه لاختلاف الناس في فهمه وكون كل فهم له صحيحا في ذاته إذ هو تجربة ذاتية فريدة لا تتكرر ولا تتماثل وكان أول المتحدثين على بن الهيثم وكان امامى المذهب ومن كبار متكلمى الشيعة فقال :
أيها الوزير العشق ثمرة المشاكلة وهو ذليل تمازج الروحين وهو من بحر اللطافة ورقة الصنيعة وصفاء الجوهر وليس يحد لسعته والزيادة فيه نقصان من الجسد وتبعة أبو مالك الحضرمي وهو خارجي المذهب فقال: أيها الوزير العشق نفث السحر وهو أخفى وأحر من الجمر ولا يكون إلا بازدواج الطبعين وامتزاج الشكلين وله نفوذ في القلب كنفوذ صيب المزن في خلل الرمل وهو ملك على الخصال تنقاد له العقول وتستكين له الآراء
وتحدث بعده محمد بن الهزيل العلاف وكان معتزلي المذهب وشيخ البصريين فقال: أيها الوزير العشق يختم على النواظر ويطبع على الأفئدة مرتقي في الأجساد ومسرعة في الأكباد وصاحبه متصرف الظنون متغير الأوهام لا يصفو له موجود ولا يسلم له موعود تسرع إليه النوائب وهو جرعة من نقيع الموت وبقية من حياض الثكل غير انه من أريحية تكون في الطبع وطلاوة تكون في الشمائل وصاحبه جواد لا يصغى إلى داعية المنع ولا يسنح به نازع العذل
وعاد زمام الحديث إلى الأمامية مرة أخرى وذلك حين انبرى هشام بن عبد الحكم الكوفى شيخ الأمامية لوقته وكبير الصنعة في عصره يقول : أيها الوزير العشق حباله نصبها الدهر فلا يصيد بها إلا أمل التخالص في النوائب فإذا علق المحب في شبكتها ونشب في إثنائها فابعد به أن يقوم سليما أو يتخلص وشيكا ولا يكون إلا من اعتدال الصورة وتكافؤ في الطريقة وملاءمة في الهمة له مقتل في صميم الكبد ومهجة القلب يعقد اللسان الفصيح ويترك المالك مملوكا والسيد خولا حتى يخضع لعبد عبده
ثم قام الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر ومن يليهم حتى طال الكلام في العشق بألفاظ مختلفة ومعان تتقارب وتتناسب ويعقب المسعودي على ذلك بقوله :" تنازع الناس ممن تقدم وتأخر في ابتداء وقوع الهوى وكيفيته وهل ذلك من نظر وسماع ؟ واختيار واضطرار ؟ وما علة وقوعه بعد أن لم يكن ؟ وزواله بعد كونه ؟ وهل لذلك فعل في النفس الناطقة أو الجسم وطباعه؟ ويجيب المسعودي على كل هذه الأسئلة بإيراد أراء الأخصائيين من الأطباء مثل ا بقراط وجالينوس فالعشق كما يراه ابقراط هو : امتزاج النفسين كما لو أتمزج الماء بماء مثله عسر تخليصه بحيلة من الاحتيال والنفس ألطف من الماء وارق مسلكا فن اجل ذلك لا تزيله الليالي ولا تخلقه الدهور ولا يدفعه دافع دق عن الأوهام مسلكه وخفي عن الأبصار موضعه وحارت العقول في كيفية تمكنه غير أن ابتداء حركته من القلب ثم تسير إلى سائر الأعضاء فتظهر الرعدة في الأطراف والصفرة في الألوان واللجلجة في الكلام والضعف في الراى والوبل والعثار حتى ينسب صاحبه إلى النقص
وذهب بعض الأطباء إلى " إن العشق طمع يتولد في القلب وينمى وتجتمع إليه مواد من الحرص فإذا قوى زاد بصاحبه الاهتياج واللجاج والتمادي في الفكر والامانى والهيمان والأحزان وضيق الصدر وكثرة الفكر وقلة الطعم وفساد في العقل ويبس في الدماغ وذلك لان التمادي في الطمع للدم محرق فإذا احترق استحال إلى السوداء فإذا قويت جلبت الفكر فتستعلي الحرارة وتلتهب الصفراء ثم تستحيل الصفراء إلى الفساد فتلحق حينئذ بالسوداء وتصير مادة لها فتقوى ومن طبائع السوداء الفكر فإذا فسد الفكر فسدت السوداء وحصل نقصان في العقل
ولا يفوت المسعودي أن يعرض لأراء الفلاسفة ومتصوفة الباطنية إذ يذهب بعضهم إلى أن الله خلق كل روح مدورة على هيئة كرة وجزأها أنصافا وجعل في كل جسد نصفا فكل جسد لقي جسدا الذي فيه النصف الذي قطع منه كان بينهما عشق ضرورة للمناسبة القديمة وتتفاوت أحوال الناس في ذلك من القوة والضعف على قدر طبائعهم وان النفوس نورية وجوهر بسط نزل من علو إلى هذه الأجساد فسكنها وان النفوس تلي بعضا على حسب مجاورتها في عالم النفس في القرب والبعد وقد ذهب هذا المذهب جماعة ممن اعتنوا بدلائل من القرآن والسنن ويستدلون أيضا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم-فيما رواه سعيد بن مريم قال:" اخبرنا يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي – صلى الله عليه وسلم –قال : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " وفى مثل هذا يقول جميل بثينة :
تعلق روحي روحها قبل خلقنا
ومن فبل ما كنا نطافا وفى المهد
فزاد كما زدنا فأصبح ناميــــــا
وليس وان متنا بمنتقص العهــــــد
ولكنه باق على كل حـــالـــــــــة
وزائرنا في ظلمة القبر اللحد
ويرى بعض صوفية بغداد أن الله عز وجل إنما امتحن الناس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه ليشق عليهم سخطه ويسرهم رضاه فيستدلوا بذلك على قدر طاعة الله إذ كان لا مثل له ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم ورازقهم مبتدئا بالمن عليهم فإذا أوجبوا على أنفسهم طاعة سواه كان تعالى أحرى أن يتبع رضاه
وقبل أن يرفع المسعودي مائدته الفكرية عن العشق التي عرض لنا فيها هذه الألوان الشهية والثمار الناضجة من الآراء والأفكار عن العشق فانه يجدد لنا الدعوة إلى مأدبة اكبر في كتابه " أخبار الزمان ومن أباده الحدثان من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الدائرة" ليعود إلى وصل ما انقطع عن العشق ويورد في نهاية كتابه مقولتين أحداهما خفيفة والأخرى دسمة أما الخفيفة فهي تتمثل فيما أورده عن بعض الظرفاء من الكتاب إلى أخ له حيث قال :"أنى صادفت منك جوهر نفسي فانا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام لان النفس يتبع بعضها بعضا
وأما الثانية فهي تتمثل فيما أورده عن أفلاطون –صاحب المأدبة الكبيرة في العشق – من قوله :" ما أدرى ما الهوى ؟ غير انه جنون الهي لا محمود ولا مذموم وهكذا يعيدنا افلاطزن من حيث بدأنا ولقد يظن بعض من يقرأون قوله إننا خرجنا من المادية جوعي كما دلفنا إليها دون أن نظفر بما يسد رمقنا ولكن الحقيقة غير ذلك فالعشق لا يتنازع فيه كما فطن إلى ذلك يحيى بن خالد فلكل منا حقيقته فيه إلا أن ذلك لم يمنع طائفة من الأدباء أن تتخاصم مع طائفة من الفلاسفة حول العشق وقد حفظ لنا أبو بكر الرازي في بعض رسائله لقطات من هذا الخصام على جانب كبير من الطرافة وق مثل أبو بكر نفسه الفلاسفة في هذا الخصام إذ يقول:
"ولان قوما رعنا يعاندون الفلاسفة في هذا المعنى بكلام سخيف ركيك كسخافتهم وركاكتهم وهؤلاء هم الموسومون بالظرف والأدب فانا نذكر ما يأتون به في هذا المعنى ونقول فيه من بعده
إن هؤلاء يقولون إن العشق إنما تعتاده الطبائع الرقيقة والأذهان اللطيفة وان يدعو إلى النظافة واللباقة والزينة والهيئة ويشيعون هذا ونحوه من كلامهم بالغزل من الشعر البليغ في هذا المعنى ويحتجون بمن عشق من الأدباء والشعراء والسراة والرؤساء ويتخطونهم إلى الأنبياء ونحن نقول : إن رقة الطبع ولطافة الذهن وصفاءه يعرفان ويعتبران بأشراف أصحابها على الأمور الغامضة البعيدة والعلوم اللطيفة الدقيقة وتبين الأشياء المشكلة الملتبسة واستخراج الصناعات المجدية النافعة ونحن نجد هذه الأمور مع الفلاسفة فقط ونرى العشق لا يعتادهم ويعتاد اعتيادا كبيرا دائما أجلاف الأعراب والأكراد والاعلاج والأنباط ونجد أيضا من الأمر الكلى العام أن ندر من الأمم من ارق فطنة واظهر حكمة من اليونانيين ونجد العشق في جملتهم اقل مما في جملة سائر الأمم وهذا يوجب ضد ما ادعوه وأعنى انه يوجب أن يكون العشق إنما يعتاد أصحاب الطبائع الغليظة والأذهان البليدة ومن قل فكره ونظره ورويته بادر إلى الهجوم على ما دعته إليه نفسه ومالت به إليه شهوته
والرازي ينتهي من استدلاله إلى مقارنة العشق إلى بلادة الذهن ومفارقته للطا فته وكأنه يقيم مناظرة بين الفلسفة والشعر ويرد احتجاج الأدباء بكثرة من عشق من الأدباء والشعراء ولاسراة والرؤساء بقوله:
" إن السرو والرياسة والشعر والفصاحة ليست مما لا يوجد أبدا مع كمال العقل والحكمة وإذا كان الأمر كذلك أمكن أن يكون العشاق من هؤلاء من أهل النقص في عقولهم وحكمتهم وهؤلاء القوم لجهلهم ورعونتهم يحسبون أن العلم و الحكمة إنما هو النحو والشعر والفصاحة والبلاغة ولا يعلمون أن الحكماء لا يعدون ولا واحدا من هذه حكمة ولا الحاذق بها حكيما بل الحكيم عندهم من عرف شروط البرهان وقوانينه واستدرك وبلغ من العلم الرياضي والطبيعي والالهى مقدار ما في وسع الإنسان بلوغه" أما احتجاج الأدباء بالأنبياء لتحسين العشق وما بلوا به فيره بقوله:
" انه ليس من احد يستجيز ان يعد العشق منقبة من مناقب الأنبياء ولا فضيلة من فضائلهم ولا انه شأ آثروه واستحسنوه بل انه إنما يعد هفوة وزلة من هفواتهم وزلاتهم وإذا كان ذلك كذلك فليس لتحسينه وتزيينه ومدحه وترويجه بهم وجه بتة لأنه إنما ينبغي لنا أن نحث أنفسنا ونبعثها من أفعال الرجال الفاضلين على ما رضوه لأنفسهم واستحسنوه لها وما تابوا منه وندموا عليه وودوا ألا يكون ذلك جرى عليهم وكان منهم" ويرد على قولهم أن العشق يدعوا إلى النظافة واللباقة والهيئة بقوله:
" فما يصنع بجمال الجسد مع قبح النفس؟ وهل يحتاج إلى الجمال الجسدانى ويجتهد فيه إلا النساء وذوو الخنث من الرجال ؟ وكما يحذر الفلاسفة العشق ويرون فيه تسلطا للنفس الشهوانية على النفس الناطقة فإنهم يحذرون كذلك من الإلف الذي يحدث في النفس من طول الصحبة من كراهة مفارقة المحبوب ويرونه بلية عظيمة تنمى وتزداد على الأيام ولا يحس بها إلا عند مفارقة المحبوب وفى هذا يقول الرازي :
" إن مفارقة المحبوب أمر لابد منه اضطرار بالموت وان سلم من سائر حوادث الدنيا وعوارضها المبددة للشمل المفرقة بين الأحبة وإذا كان لابد من اساغة هذه القضية وتجرع هذه المرارة فان تقديمها والراحة منها أصلح من تأخيرها والانتظار لها لان ما لابد من وقوعه متى قدم أزيح مئونة الخوف منه مدة تأخيره وأيضا فان منع النفس من كحبوبها قبل أن يستحكم حبه ويرسخ فيها أيسر وأسهل وأيضا فان العشق متى انضم إليه الإلف عسر النزوع عنه والخروج منه فان بلية الإلف ليست بدون بلية العشق بل لو قاتل قائل انه اوكد وابلغ منه لم يكن مخطئا ومتى قصرت مدة العشق وقل فيه لقاء المحبوب كان أحرى ألا يخالطه ويعاوده الإلف والواجب في حكم العقل المبادرة في منع النفس وذمها من العشق قبل وقوعها فيه وفطمها منه إذا وقعت قبل استحكامه فيها "
ويحتج لرأيه هذا في فطم النفس عن العشق بما احتج به افلاطون على تلميذ له بلى بحب جارية فاخل الحب به وبمركزه من مجلس أستاذه فأمر افلاطون بان يؤتى به فلما مثل بين يديه قال :" اخبرني يا فلان هل تشك في انه لابد لك من مفارقة حبيبتك هذه يوما ما ؟ قال : ما اشك في ذلك فقال له افلاطون : فاجعل تلك المرارة المتجرعة في ذلك اليوم في هذا اليوم وأزح ما بينهما من خوف المنتظر الباقي بحاله الذي لابد من مجيئه وصعوبة معالجة ذلك بعد الاستحكام وانضمام الإلف إليه وعقده له فقال التلميذ: إن ما تقول أيها السيد الحكيم حق لكنني أجد انتظاري له سلوة بمرور الأيام عنى اخف على فقال افلاطون : وكيف وثقت بسلوة الأيام ولم تخف إلفها؟ ولم آمنت أن تأتيك الحالة المفرقة قبل السلوة وبعد الاستحكام فتشتد بك الغصة وتتضاعف عليك المرارة ؟ فرضخ الرجل لافلاطون وشكر له واثني عليه ولم يعاود شيئا مما كان فيه ولم يظهر منه حزن زلا شوق ولم يزل بعد ذلك لازما لمجلس افلاظون غير مخل به البتة واقبل افلاطون بعد فراغه من هذا الكلام على وجوه تلاميذه فلامهم وعذلهم في تركهم وإطلاقهم هذا الرجل وصرف كل همته إلى سائر أبواب الفلسفة قبل إصلاح نفسه الشهوانية وقمعها وتذليلها للنفس الناطقة
وهكذا لا يرى الفلاسفة عشقا يمكن أن يوجد في قلوبهم إلا للحكمة وحدها ذلك أن العشاق يجاوزون حد البهائم في عدم ملكة النفس وزم الهوى والانقياد إلى الشهوات وعلى الرجال الكبار الهمم والأنفس أن يبعدوا عن هذه البلية من نفس طبائعهم وغرائزهم إذ لا شئ اشد على أمثال هؤلاء من التذلل والخضوع والاستكانة وإظهار الفاقة والحاجة واحتمال التجني والاستطالة فهم إذا فكروا فيما يلزم العشاق من هذه المعاني نفروا من وتصابروا وأزالوا الهوى عنه وان بلوا به وكذلك الذين تلزمهم أشغال وهموم بليغة اضطرارية ودنيائية أو دينية فأما الخنثون من الرجال والغز لون والفراغ والمترفون والمؤثرون للشهوات الذين لا يهمهم سواها ولا يريدون من الدنيا إلا أصابتها ويرون فوتها فوتا وأسفا وما لم يقدروا عليه منها حسرة وشقاء فلا يكادون يتخلصون من هذه البلية ولاسيما أن أكثروا النظر في قصص العشاق ورواية الرقيق الغزل من الشعر وسماع الشجي من الألحان والغناء
هذا ما يراه الفلاسفة في العشق أما ما يراه الأدباء والشعراء في العشق فانه يحتاج غلى مأدبة أخرى في القريب إن شاء الله
" وقعت بمجلس يحيى بن خالد بن برمك وتطرق الحديث إلى العشق والتناظر فيه بين مجموعة من متكلمى العصر العباسي وكان يحيى بن خالد ذا علم ومعرفة وبحث ونظر وكان له مجلس يجتمع فيه أهل الفكر والرأى حيث يدور الحوار بينهم في كل شأ وقال يحيى وقد اجتمعوا بمجلسه ذات يوم :قد أكثرتم الكلام في الكمون والظهور وفى القدم والحدوث والإثبات والنفي والحركة والسكون والممارسة والمباينة والوجود والعدم والجر والطفرة والأجسام والأعراض والتعديل والتجريح ونفى الصفات وإثباتها والاستطاعة والأفعال والكمية والكيفية والمضاف والإمامة أنص هي أم اختيار؟ وسائر ما توردونه من الكلام في الأصول والفروع فقولوا ألان في العشق على غير منازعة وليورد كل واحد منكم ما سنح له فيه وخطر إيراده بباله"
وأتصور أن يحيى بن خالد قد فهم جوهر العشق فهو مخالف لكل شئ مما تناظروا فيه واختلفوا حوله وهو غير قابل للاختصام فيه أو التنازع بشأنه لاختلاف الناس في فهمه وكون كل فهم له صحيحا في ذاته إذ هو تجربة ذاتية فريدة لا تتكرر ولا تتماثل وكان أول المتحدثين على بن الهيثم وكان امامى المذهب ومن كبار متكلمى الشيعة فقال :
أيها الوزير العشق ثمرة المشاكلة وهو ذليل تمازج الروحين وهو من بحر اللطافة ورقة الصنيعة وصفاء الجوهر وليس يحد لسعته والزيادة فيه نقصان من الجسد وتبعة أبو مالك الحضرمي وهو خارجي المذهب فقال: أيها الوزير العشق نفث السحر وهو أخفى وأحر من الجمر ولا يكون إلا بازدواج الطبعين وامتزاج الشكلين وله نفوذ في القلب كنفوذ صيب المزن في خلل الرمل وهو ملك على الخصال تنقاد له العقول وتستكين له الآراء
وتحدث بعده محمد بن الهزيل العلاف وكان معتزلي المذهب وشيخ البصريين فقال: أيها الوزير العشق يختم على النواظر ويطبع على الأفئدة مرتقي في الأجساد ومسرعة في الأكباد وصاحبه متصرف الظنون متغير الأوهام لا يصفو له موجود ولا يسلم له موعود تسرع إليه النوائب وهو جرعة من نقيع الموت وبقية من حياض الثكل غير انه من أريحية تكون في الطبع وطلاوة تكون في الشمائل وصاحبه جواد لا يصغى إلى داعية المنع ولا يسنح به نازع العذل
وعاد زمام الحديث إلى الأمامية مرة أخرى وذلك حين انبرى هشام بن عبد الحكم الكوفى شيخ الأمامية لوقته وكبير الصنعة في عصره يقول : أيها الوزير العشق حباله نصبها الدهر فلا يصيد بها إلا أمل التخالص في النوائب فإذا علق المحب في شبكتها ونشب في إثنائها فابعد به أن يقوم سليما أو يتخلص وشيكا ولا يكون إلا من اعتدال الصورة وتكافؤ في الطريقة وملاءمة في الهمة له مقتل في صميم الكبد ومهجة القلب يعقد اللسان الفصيح ويترك المالك مملوكا والسيد خولا حتى يخضع لعبد عبده
ثم قام الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر ومن يليهم حتى طال الكلام في العشق بألفاظ مختلفة ومعان تتقارب وتتناسب ويعقب المسعودي على ذلك بقوله :" تنازع الناس ممن تقدم وتأخر في ابتداء وقوع الهوى وكيفيته وهل ذلك من نظر وسماع ؟ واختيار واضطرار ؟ وما علة وقوعه بعد أن لم يكن ؟ وزواله بعد كونه ؟ وهل لذلك فعل في النفس الناطقة أو الجسم وطباعه؟ ويجيب المسعودي على كل هذه الأسئلة بإيراد أراء الأخصائيين من الأطباء مثل ا بقراط وجالينوس فالعشق كما يراه ابقراط هو : امتزاج النفسين كما لو أتمزج الماء بماء مثله عسر تخليصه بحيلة من الاحتيال والنفس ألطف من الماء وارق مسلكا فن اجل ذلك لا تزيله الليالي ولا تخلقه الدهور ولا يدفعه دافع دق عن الأوهام مسلكه وخفي عن الأبصار موضعه وحارت العقول في كيفية تمكنه غير أن ابتداء حركته من القلب ثم تسير إلى سائر الأعضاء فتظهر الرعدة في الأطراف والصفرة في الألوان واللجلجة في الكلام والضعف في الراى والوبل والعثار حتى ينسب صاحبه إلى النقص
وذهب بعض الأطباء إلى " إن العشق طمع يتولد في القلب وينمى وتجتمع إليه مواد من الحرص فإذا قوى زاد بصاحبه الاهتياج واللجاج والتمادي في الفكر والامانى والهيمان والأحزان وضيق الصدر وكثرة الفكر وقلة الطعم وفساد في العقل ويبس في الدماغ وذلك لان التمادي في الطمع للدم محرق فإذا احترق استحال إلى السوداء فإذا قويت جلبت الفكر فتستعلي الحرارة وتلتهب الصفراء ثم تستحيل الصفراء إلى الفساد فتلحق حينئذ بالسوداء وتصير مادة لها فتقوى ومن طبائع السوداء الفكر فإذا فسد الفكر فسدت السوداء وحصل نقصان في العقل
ولا يفوت المسعودي أن يعرض لأراء الفلاسفة ومتصوفة الباطنية إذ يذهب بعضهم إلى أن الله خلق كل روح مدورة على هيئة كرة وجزأها أنصافا وجعل في كل جسد نصفا فكل جسد لقي جسدا الذي فيه النصف الذي قطع منه كان بينهما عشق ضرورة للمناسبة القديمة وتتفاوت أحوال الناس في ذلك من القوة والضعف على قدر طبائعهم وان النفوس نورية وجوهر بسط نزل من علو إلى هذه الأجساد فسكنها وان النفوس تلي بعضا على حسب مجاورتها في عالم النفس في القرب والبعد وقد ذهب هذا المذهب جماعة ممن اعتنوا بدلائل من القرآن والسنن ويستدلون أيضا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم-فيما رواه سعيد بن مريم قال:" اخبرنا يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي – صلى الله عليه وسلم –قال : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " وفى مثل هذا يقول جميل بثينة :
تعلق روحي روحها قبل خلقنا
ومن فبل ما كنا نطافا وفى المهد
فزاد كما زدنا فأصبح ناميــــــا
وليس وان متنا بمنتقص العهــــــد
ولكنه باق على كل حـــالـــــــــة
وزائرنا في ظلمة القبر اللحد
ويرى بعض صوفية بغداد أن الله عز وجل إنما امتحن الناس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه ليشق عليهم سخطه ويسرهم رضاه فيستدلوا بذلك على قدر طاعة الله إذ كان لا مثل له ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم ورازقهم مبتدئا بالمن عليهم فإذا أوجبوا على أنفسهم طاعة سواه كان تعالى أحرى أن يتبع رضاه
وقبل أن يرفع المسعودي مائدته الفكرية عن العشق التي عرض لنا فيها هذه الألوان الشهية والثمار الناضجة من الآراء والأفكار عن العشق فانه يجدد لنا الدعوة إلى مأدبة اكبر في كتابه " أخبار الزمان ومن أباده الحدثان من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الدائرة" ليعود إلى وصل ما انقطع عن العشق ويورد في نهاية كتابه مقولتين أحداهما خفيفة والأخرى دسمة أما الخفيفة فهي تتمثل فيما أورده عن بعض الظرفاء من الكتاب إلى أخ له حيث قال :"أنى صادفت منك جوهر نفسي فانا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام لان النفس يتبع بعضها بعضا
وأما الثانية فهي تتمثل فيما أورده عن أفلاطون –صاحب المأدبة الكبيرة في العشق – من قوله :" ما أدرى ما الهوى ؟ غير انه جنون الهي لا محمود ولا مذموم وهكذا يعيدنا افلاطزن من حيث بدأنا ولقد يظن بعض من يقرأون قوله إننا خرجنا من المادية جوعي كما دلفنا إليها دون أن نظفر بما يسد رمقنا ولكن الحقيقة غير ذلك فالعشق لا يتنازع فيه كما فطن إلى ذلك يحيى بن خالد فلكل منا حقيقته فيه إلا أن ذلك لم يمنع طائفة من الأدباء أن تتخاصم مع طائفة من الفلاسفة حول العشق وقد حفظ لنا أبو بكر الرازي في بعض رسائله لقطات من هذا الخصام على جانب كبير من الطرافة وق مثل أبو بكر نفسه الفلاسفة في هذا الخصام إذ يقول:
"ولان قوما رعنا يعاندون الفلاسفة في هذا المعنى بكلام سخيف ركيك كسخافتهم وركاكتهم وهؤلاء هم الموسومون بالظرف والأدب فانا نذكر ما يأتون به في هذا المعنى ونقول فيه من بعده
إن هؤلاء يقولون إن العشق إنما تعتاده الطبائع الرقيقة والأذهان اللطيفة وان يدعو إلى النظافة واللباقة والزينة والهيئة ويشيعون هذا ونحوه من كلامهم بالغزل من الشعر البليغ في هذا المعنى ويحتجون بمن عشق من الأدباء والشعراء والسراة والرؤساء ويتخطونهم إلى الأنبياء ونحن نقول : إن رقة الطبع ولطافة الذهن وصفاءه يعرفان ويعتبران بأشراف أصحابها على الأمور الغامضة البعيدة والعلوم اللطيفة الدقيقة وتبين الأشياء المشكلة الملتبسة واستخراج الصناعات المجدية النافعة ونحن نجد هذه الأمور مع الفلاسفة فقط ونرى العشق لا يعتادهم ويعتاد اعتيادا كبيرا دائما أجلاف الأعراب والأكراد والاعلاج والأنباط ونجد أيضا من الأمر الكلى العام أن ندر من الأمم من ارق فطنة واظهر حكمة من اليونانيين ونجد العشق في جملتهم اقل مما في جملة سائر الأمم وهذا يوجب ضد ما ادعوه وأعنى انه يوجب أن يكون العشق إنما يعتاد أصحاب الطبائع الغليظة والأذهان البليدة ومن قل فكره ونظره ورويته بادر إلى الهجوم على ما دعته إليه نفسه ومالت به إليه شهوته
والرازي ينتهي من استدلاله إلى مقارنة العشق إلى بلادة الذهن ومفارقته للطا فته وكأنه يقيم مناظرة بين الفلسفة والشعر ويرد احتجاج الأدباء بكثرة من عشق من الأدباء والشعراء ولاسراة والرؤساء بقوله:
" إن السرو والرياسة والشعر والفصاحة ليست مما لا يوجد أبدا مع كمال العقل والحكمة وإذا كان الأمر كذلك أمكن أن يكون العشاق من هؤلاء من أهل النقص في عقولهم وحكمتهم وهؤلاء القوم لجهلهم ورعونتهم يحسبون أن العلم و الحكمة إنما هو النحو والشعر والفصاحة والبلاغة ولا يعلمون أن الحكماء لا يعدون ولا واحدا من هذه حكمة ولا الحاذق بها حكيما بل الحكيم عندهم من عرف شروط البرهان وقوانينه واستدرك وبلغ من العلم الرياضي والطبيعي والالهى مقدار ما في وسع الإنسان بلوغه" أما احتجاج الأدباء بالأنبياء لتحسين العشق وما بلوا به فيره بقوله:
" انه ليس من احد يستجيز ان يعد العشق منقبة من مناقب الأنبياء ولا فضيلة من فضائلهم ولا انه شأ آثروه واستحسنوه بل انه إنما يعد هفوة وزلة من هفواتهم وزلاتهم وإذا كان ذلك كذلك فليس لتحسينه وتزيينه ومدحه وترويجه بهم وجه بتة لأنه إنما ينبغي لنا أن نحث أنفسنا ونبعثها من أفعال الرجال الفاضلين على ما رضوه لأنفسهم واستحسنوه لها وما تابوا منه وندموا عليه وودوا ألا يكون ذلك جرى عليهم وكان منهم" ويرد على قولهم أن العشق يدعوا إلى النظافة واللباقة والهيئة بقوله:
" فما يصنع بجمال الجسد مع قبح النفس؟ وهل يحتاج إلى الجمال الجسدانى ويجتهد فيه إلا النساء وذوو الخنث من الرجال ؟ وكما يحذر الفلاسفة العشق ويرون فيه تسلطا للنفس الشهوانية على النفس الناطقة فإنهم يحذرون كذلك من الإلف الذي يحدث في النفس من طول الصحبة من كراهة مفارقة المحبوب ويرونه بلية عظيمة تنمى وتزداد على الأيام ولا يحس بها إلا عند مفارقة المحبوب وفى هذا يقول الرازي :
" إن مفارقة المحبوب أمر لابد منه اضطرار بالموت وان سلم من سائر حوادث الدنيا وعوارضها المبددة للشمل المفرقة بين الأحبة وإذا كان لابد من اساغة هذه القضية وتجرع هذه المرارة فان تقديمها والراحة منها أصلح من تأخيرها والانتظار لها لان ما لابد من وقوعه متى قدم أزيح مئونة الخوف منه مدة تأخيره وأيضا فان منع النفس من كحبوبها قبل أن يستحكم حبه ويرسخ فيها أيسر وأسهل وأيضا فان العشق متى انضم إليه الإلف عسر النزوع عنه والخروج منه فان بلية الإلف ليست بدون بلية العشق بل لو قاتل قائل انه اوكد وابلغ منه لم يكن مخطئا ومتى قصرت مدة العشق وقل فيه لقاء المحبوب كان أحرى ألا يخالطه ويعاوده الإلف والواجب في حكم العقل المبادرة في منع النفس وذمها من العشق قبل وقوعها فيه وفطمها منه إذا وقعت قبل استحكامه فيها "
ويحتج لرأيه هذا في فطم النفس عن العشق بما احتج به افلاطون على تلميذ له بلى بحب جارية فاخل الحب به وبمركزه من مجلس أستاذه فأمر افلاطون بان يؤتى به فلما مثل بين يديه قال :" اخبرني يا فلان هل تشك في انه لابد لك من مفارقة حبيبتك هذه يوما ما ؟ قال : ما اشك في ذلك فقال له افلاطون : فاجعل تلك المرارة المتجرعة في ذلك اليوم في هذا اليوم وأزح ما بينهما من خوف المنتظر الباقي بحاله الذي لابد من مجيئه وصعوبة معالجة ذلك بعد الاستحكام وانضمام الإلف إليه وعقده له فقال التلميذ: إن ما تقول أيها السيد الحكيم حق لكنني أجد انتظاري له سلوة بمرور الأيام عنى اخف على فقال افلاطون : وكيف وثقت بسلوة الأيام ولم تخف إلفها؟ ولم آمنت أن تأتيك الحالة المفرقة قبل السلوة وبعد الاستحكام فتشتد بك الغصة وتتضاعف عليك المرارة ؟ فرضخ الرجل لافلاطون وشكر له واثني عليه ولم يعاود شيئا مما كان فيه ولم يظهر منه حزن زلا شوق ولم يزل بعد ذلك لازما لمجلس افلاظون غير مخل به البتة واقبل افلاطون بعد فراغه من هذا الكلام على وجوه تلاميذه فلامهم وعذلهم في تركهم وإطلاقهم هذا الرجل وصرف كل همته إلى سائر أبواب الفلسفة قبل إصلاح نفسه الشهوانية وقمعها وتذليلها للنفس الناطقة
وهكذا لا يرى الفلاسفة عشقا يمكن أن يوجد في قلوبهم إلا للحكمة وحدها ذلك أن العشاق يجاوزون حد البهائم في عدم ملكة النفس وزم الهوى والانقياد إلى الشهوات وعلى الرجال الكبار الهمم والأنفس أن يبعدوا عن هذه البلية من نفس طبائعهم وغرائزهم إذ لا شئ اشد على أمثال هؤلاء من التذلل والخضوع والاستكانة وإظهار الفاقة والحاجة واحتمال التجني والاستطالة فهم إذا فكروا فيما يلزم العشاق من هذه المعاني نفروا من وتصابروا وأزالوا الهوى عنه وان بلوا به وكذلك الذين تلزمهم أشغال وهموم بليغة اضطرارية ودنيائية أو دينية فأما الخنثون من الرجال والغز لون والفراغ والمترفون والمؤثرون للشهوات الذين لا يهمهم سواها ولا يريدون من الدنيا إلا أصابتها ويرون فوتها فوتا وأسفا وما لم يقدروا عليه منها حسرة وشقاء فلا يكادون يتخلصون من هذه البلية ولاسيما أن أكثروا النظر في قصص العشاق ورواية الرقيق الغزل من الشعر وسماع الشجي من الألحان والغناء
هذا ما يراه الفلاسفة في العشق أما ما يراه الأدباء والشعراء في العشق فانه يحتاج غلى مأدبة أخرى في القريب إن شاء الله