نقوس المهدي
كاتب
ما زال السؤال عن الحب والعشق والسلو بمعناه الروحي حاضراً في البحث الثقافي العربي. ورافق ذلك سؤال عن موقف الإسلام منه فهل سمح به دون قيود أم أنه أقره وفق محددات؟ وهنا يبرز سؤال أيضاً عن المسجد فهل يمكن أن يكون ناقلاً للمعرفة أي غير الوعظ والحديث عن العبادات؟
الكثير من السجال تم حول الحب والإسلام، وأنجزت الكثير من الندوات والمؤتمرات، وثمة كثير من المؤلفات في باب الحب والعشق مثل «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي و «تزيين الأسواق في أخبار العشاق» لداود الأنطاكي وغيرها من المؤلفات التي تؤكد أن التجربة الحضارية العربية الإسلامية في موضوع الحب والعشق جادت بحثاً وتأليفاً في هذا الباب في شكل وافر.
يروي جعفر بن احمد السراج البغدادي في كتابه «مصارع العشاق» رواية عن شاب دخل ديراً ومكث فيه وقد فارقته حبيبته ذات يوم، وهو في «شاب مكحول العين حسن الوجه مرجل الشعر، انشد أبياتاً في لوعة الغياب لمحبوبته، التي عانى من فراقها الكثير» ووجدها صاحب كتاب «مصارع العشاق» جديرة بأن يضمنها كتابه، والتي يمكن اعتبارها مدخلاً في الحديث عن اغتراب المعشوقة، وهي تتجاوز الوقوف على الطلل، وتنأى بالنفس عن الوصف للجسد، وتحل وتهيم في الغياب الموجع الذي اكتوى به العاشق. ومن يطالع الكتاب يجد قصصاً مملوءة بهذا اللون من العذاب وكانت القصيدة التي ينسبها السراج إلى ذلك الشاب مطلعها:
لما أناخو قبيل الصبح عيرهم/ ورحلوا فسارت بالهدى الإبل
وقلّبت من خلال السجفِ ناظرها/ ترنو إليّ ودمع العين منهمل
وودعـت ببنـان عقدُها عنـمٌ/ ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حلّ بي وبها/ يا نازح الدارِ حُلَّ البينُ وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي أودعها/ يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم انقض مودتكم/ فليت شعري وطال العهد ما فعلوا
من هذا المدخل يمكن النظر إلى زمن جعفر السراج الذي دوّن فيه كتابه «مصارع العشاق»، وهو نهاية القرن الخامس الهجري، وتحديداً بين السنوات الممتدة بين عامي 419 - 500 للهجرة حيث عاش جعفر السراج في بغداد وكان محدثاً وحافظاً واشتهر آنذاك في المشرق الإسلامي كونه صاحب علم واسع في الفقه الإسلامي وأحد محبي العلم والأدب، ولكن هذا الشيخ الذي اتسع اهتمامه وعلمه في مختلف الحقول كاد أن يكون مجرد أثر لولا كتابه الشهير «مَصارع العشاق».
وعنوان الكتاب دال على محتواه، فهو يحدث القارئ عن أخبار ونوادر أهل العشق في زمن كانت البلاد الإسلامية عرضة فيه لخطر الغزو الخارجي الفرنجي الذي انتهى بسقوط القدس عام 492 هـ أي قبل وفاة المؤلف بـ 8 سنوات.
يؤكد فحص السيرة أن كتاب التراجم أشادوا بشخصية السراج، وعدوّه من الأذكياء في مجتمعهم، أما الحديث الذي يجب أن يقود إليه مثل هذا المؤلف، فيمكن ابتداؤه بجملة من الأسئلة منها: ما موقع أدب العشاق في التراث الحضاري الإسلامي؟ وهل كانت لظروف العصر أن تحول دون هذا الأدب؟ وأين ومتى وكيف جاء تصنيف مثل هذا الكتاب؟
زمانية الكتاب هي العصر العباسي، ولكن في المرحلة الأخيرة منه التي كانت تشهد ظروفاً سياسية ساخنة مملوءة بالخصومات والخلافات والحقبة التي عاشها المؤلف كانت مليئة بالأحداث الصاخبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وزاخرة بتقلبات السياسة ومؤامرات القصور.
تنمّ غاية السراج من كتابه «مَصارع العشاق» الذي أراد فيه أن يجمع نوادر وقصصاً، عن رسالة أخلاقية هادفة أتت عبر توظيف قصص العشق لتكون في خدمة العقيدة، وقد أشار باحثون عرب محدثون إلى أهمية استخدام القصص في استنهاض قيم دينية فيها من الوفاء والعفة الشيء الكثير.
وقد تناول الكتاب قصص العشاق بقالب أدبي، وهو ليس الأول من نوعه في هذا الباب فهناك كتب ومصنفات منها كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم وكتاب «الزهرة» لأبي بكر محمد بن داود الأصفهاني (ت: 297هـ)، ولكن ميزة كتاب «مصارع العشاق» هي في انه ذو أثر مباشر أكثر من الكتب التي تلته أو سبقته.
في «مصارع العشاق» يقدم السراج نفسه عاشقاً عفيفاً كتوماً، ولذا حرص على نشر العفاف ودعا العشاق إلى ممارسة العفة في شكل واضح، وطالب بكتمان العشق للارتقاء للشهادة، والكتاب زاخر بالحكايات التي يرويها المؤلف بأسلوب أدبي رشيق ولها دلالاتها في المجتمع الذي انتشرت فيه، ويلاحظ في بعض الحكايات أن أبطال القصص من غير المسلمين. والسؤال هنا أين كان جعفر السراج يلقي دروسه في العشق؟
لعل الإجابة تبدو غريبة، ففي زمن الحروب والتهديدات الخارجية، وأهمها غزو الفرنجة للقدس، كان السراج يتخذ من أحد مساجد بغداد مكاناً لإلقاء دروسه ومنها نوادر وقصص العشاق، كان المسجد المكان الذي احتضن بث «مَصارع العشاق» في حلقة علمية.
كان المسجد آنذاك مكاناً لا يقتصر على خطب الدين ودروسه، بمقدار ما كان يعد ملتقى للدارسين والباحثين، فاستوعب حديث العشق وأسرار الوجد كما استوعب حديث الفقه ما يؤكد أن ذلك العصر أكثر رحابة مما نحن عليه اليوم في مساجدنا التي اقتصرت على بث خطاب الوعد والوعيد والتكفير.
يبدأ درس العشق عند السراج في باب تعريف أصل العشق وما ذكر فيه، فيسرد المؤلف جملة من التعريفات، ومما يرويه أن الخليفة المأمون سأل يحيى بن أكثم التميمي: «والعشق؟». فقال: «هو سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه»، فقال تمامة النميري: «اسكت يا يحيى، العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائزة، ملك الأبدان وأرواحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وأعطى عنان طاعتها وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله وعمي في القلوب مسلكه، فقال له المأمون أحسنت والله، وأمر له بألف دينار».
ليس في الخبر عن العشق جمال المعنى فحسب هنا، إنما الجمال أيضاً في أن يجلس خليفة لحديث مثل هذا ويوهب العطايا لمن يأتي بأفضل تعريف عن العشق. وثمة تعاريف أخرى للعشق، ومنها أن أحدهم سأل: «ما العشق؟». فأجاب آخر: «الجنون والذل وهو داء أهل الظرف»، وهناك من قال: «لو كان إلي من الأمر بشيء ما عذبت العشاق لأن ذنوبهم ذنوب اضطرار لا ذنوب اختيار».
وهناك من عرّف العشق بأنه غلبةه الهوى وملكة النفوس، وهناك من يشبّه العفة في العشق بالشهادة، فعن مجاهد عن ابن عباس قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): من عشق فظفر فعف فمات، مات شهيداً».
في الباب الثاني من «مصارع العشاق»، يقف المؤلف عند كل هذا العشق الذي صارعه نفر من العشاق، وهي حكايات يرويها جعفر السراج بقالب أدبي بسيط يقصد فيها بث رسالة في الأخلاق والعفة، ولكنه يبدأ بعد ذلك برواية أخبار للعشاق برواية عن الشيخة الكاتبة فخر النساء شهدة بنت احمد بن الفرج بن عمر الآبري، وقد قرأت هذا الكتاب برحبة جامع القصر الشريف في مجالس آخر عام 573 هـ، وهذا الأمر يلقي الضوء على دور المرأة في حركة المعرفة والعلم في ذلك العصر.
وفي هذا الفصل من الكتاب اقتراب شديد من العامة البغدادية، وهذا الاقتراب يتبدى في جملة من النصوص والحكايات التي تظهرها أحاديث العشاق عن الجواري والعامة، فمن القصص التي يرويها المؤلف عن جارية كانت ظريفة وتسكن المدينة وهي حاذقة بالغناء فهوت فتى من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها فملّها الفتى، وتزايدت هي في محبته وأسف فغارت فولهت، وجعل مولاها لا يعبأ بذلك ولا يرق لشكواها وتفاقم الأمر حتى هامت على وجهها ومزقت ثيابها وضربت من لقيها، فلما رأى مولاها ذلك عالجها فلم ينجح فيها العلاج فكانت تدور بالليل في السكك بعد الأدب والظرف.
ويفرد السراج باباً لعقوبات فسّاق العشاق يورد فيه بعض الحكايات والنوادر التي تعرض لها من وصفهم بالفساق مما أساؤوا للحب بأخلاقهم. وهذه القصص يحاول المؤلف فيها إثبات نية الحب العفيف في مقابل الحب الوضيع الذي لا يقدم أي نماذج إيجابية أو انه لا يبث أي رسالة أخلاقية غير انه يوضح من خلاله ما قد يعرض للعشق من فساد بسبب تغليب الرغائب والغرائز الحيوانية عند الإنسان على القيم الإنسانية والكاتب هنا يستذكر قصة الشاعر العباسي ديك الجن الحمصي.
ومن الروايات التي يذكرها السراج في كتابه هذا (ص 125) ان لقمان بن عاد بن عاديا وهو معمر جاهلي من ملوك حمير، كان مبتلياً بالنساء وكان يتزوج المرأة فتخونه، حتى تزوج جارية صغيرة لم تعرف الرجال ثم نقر لها بيتا في سفح جبل وجعل له درجة بسلاسل ينزل بها ويصعد، فإذا خرج رفعت السلاسل، حتى عرض لها فتى من العماليق فوقعت في نفسه فقال: والله لأجلبن عليكم حرباً لا تقومون بها فقالوا: وما ذاك؟ قال امرأة لقمان هي أحب الناس إلي، قالوا: فكيف نحتال لها؟ قال اجمعوا سيوفكم ثم اجعلوني بينها وشدوها حزماً عظيمة ثم ائتوا لقمان فقولوا إنا أردنا ان نسافر ونحن نستودعك على سيوفنا حتى نرجع، وسموا له يوماً، ففعلوا وأقبلوا بالسيوف... فدفعوها إلى لقمان فوضعها في ناحية بيته وخرج لقمان وتحرك الرجل فخلّت الجارية عنه فكان يأتيها فإذا أمسكت بلقمان جعلته بين السيوف حتى انقضت الأيام ثم جاؤوا لقمان، فاسترجعوا سيوفهم فرفع لقمان رأسه بعد ذلك فإذا أثر الرجل في البيت فقال لامرأته أثر من هذا قالت انه أثري فقال لها افعلي مثله وكان الأثر نخامة وهي ما يخرج من الصدر والحلق من لعاب، ولما فعلت لم تكن تستطيع ان تأتي بما يشبه ذلك فرمى بها لقمان من ذروة الجبل فتقطعت، وعندما نزل لقيته ابنة له يقال لها صحر فقالت: يا أبتاه ما شأنك؟ قال وأنت أيضاً من النساء فضرب رأسها فقتلها، فقالت العرب: ما أذنبت إلا ذنب صحر فصارت مثلاً».
صحيح ان هذه قصص وأخبار سالفة من مدونة العشق العربي، إلا ان المؤلف أراد بها ان يلقي الضوء على أخبار هؤلاء العشاق الفساق الذين ابتعدوا عن قيم الوفاء والمحبة الصادقة، في مقابل قيم أخرى شاعت بفعل العفة والأنفة وفعالية النفس على الهوى.
مهند مبيضين
الكثير من السجال تم حول الحب والإسلام، وأنجزت الكثير من الندوات والمؤتمرات، وثمة كثير من المؤلفات في باب الحب والعشق مثل «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي و «تزيين الأسواق في أخبار العشاق» لداود الأنطاكي وغيرها من المؤلفات التي تؤكد أن التجربة الحضارية العربية الإسلامية في موضوع الحب والعشق جادت بحثاً وتأليفاً في هذا الباب في شكل وافر.
يروي جعفر بن احمد السراج البغدادي في كتابه «مصارع العشاق» رواية عن شاب دخل ديراً ومكث فيه وقد فارقته حبيبته ذات يوم، وهو في «شاب مكحول العين حسن الوجه مرجل الشعر، انشد أبياتاً في لوعة الغياب لمحبوبته، التي عانى من فراقها الكثير» ووجدها صاحب كتاب «مصارع العشاق» جديرة بأن يضمنها كتابه، والتي يمكن اعتبارها مدخلاً في الحديث عن اغتراب المعشوقة، وهي تتجاوز الوقوف على الطلل، وتنأى بالنفس عن الوصف للجسد، وتحل وتهيم في الغياب الموجع الذي اكتوى به العاشق. ومن يطالع الكتاب يجد قصصاً مملوءة بهذا اللون من العذاب وكانت القصيدة التي ينسبها السراج إلى ذلك الشاب مطلعها:
لما أناخو قبيل الصبح عيرهم/ ورحلوا فسارت بالهدى الإبل
وقلّبت من خلال السجفِ ناظرها/ ترنو إليّ ودمع العين منهمل
وودعـت ببنـان عقدُها عنـمٌ/ ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حلّ بي وبها/ يا نازح الدارِ حُلَّ البينُ وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي أودعها/ يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم انقض مودتكم/ فليت شعري وطال العهد ما فعلوا
من هذا المدخل يمكن النظر إلى زمن جعفر السراج الذي دوّن فيه كتابه «مصارع العشاق»، وهو نهاية القرن الخامس الهجري، وتحديداً بين السنوات الممتدة بين عامي 419 - 500 للهجرة حيث عاش جعفر السراج في بغداد وكان محدثاً وحافظاً واشتهر آنذاك في المشرق الإسلامي كونه صاحب علم واسع في الفقه الإسلامي وأحد محبي العلم والأدب، ولكن هذا الشيخ الذي اتسع اهتمامه وعلمه في مختلف الحقول كاد أن يكون مجرد أثر لولا كتابه الشهير «مَصارع العشاق».
وعنوان الكتاب دال على محتواه، فهو يحدث القارئ عن أخبار ونوادر أهل العشق في زمن كانت البلاد الإسلامية عرضة فيه لخطر الغزو الخارجي الفرنجي الذي انتهى بسقوط القدس عام 492 هـ أي قبل وفاة المؤلف بـ 8 سنوات.
يؤكد فحص السيرة أن كتاب التراجم أشادوا بشخصية السراج، وعدوّه من الأذكياء في مجتمعهم، أما الحديث الذي يجب أن يقود إليه مثل هذا المؤلف، فيمكن ابتداؤه بجملة من الأسئلة منها: ما موقع أدب العشاق في التراث الحضاري الإسلامي؟ وهل كانت لظروف العصر أن تحول دون هذا الأدب؟ وأين ومتى وكيف جاء تصنيف مثل هذا الكتاب؟
زمانية الكتاب هي العصر العباسي، ولكن في المرحلة الأخيرة منه التي كانت تشهد ظروفاً سياسية ساخنة مملوءة بالخصومات والخلافات والحقبة التي عاشها المؤلف كانت مليئة بالأحداث الصاخبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وزاخرة بتقلبات السياسة ومؤامرات القصور.
تنمّ غاية السراج من كتابه «مَصارع العشاق» الذي أراد فيه أن يجمع نوادر وقصصاً، عن رسالة أخلاقية هادفة أتت عبر توظيف قصص العشق لتكون في خدمة العقيدة، وقد أشار باحثون عرب محدثون إلى أهمية استخدام القصص في استنهاض قيم دينية فيها من الوفاء والعفة الشيء الكثير.
وقد تناول الكتاب قصص العشاق بقالب أدبي، وهو ليس الأول من نوعه في هذا الباب فهناك كتب ومصنفات منها كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم وكتاب «الزهرة» لأبي بكر محمد بن داود الأصفهاني (ت: 297هـ)، ولكن ميزة كتاب «مصارع العشاق» هي في انه ذو أثر مباشر أكثر من الكتب التي تلته أو سبقته.
في «مصارع العشاق» يقدم السراج نفسه عاشقاً عفيفاً كتوماً، ولذا حرص على نشر العفاف ودعا العشاق إلى ممارسة العفة في شكل واضح، وطالب بكتمان العشق للارتقاء للشهادة، والكتاب زاخر بالحكايات التي يرويها المؤلف بأسلوب أدبي رشيق ولها دلالاتها في المجتمع الذي انتشرت فيه، ويلاحظ في بعض الحكايات أن أبطال القصص من غير المسلمين. والسؤال هنا أين كان جعفر السراج يلقي دروسه في العشق؟
لعل الإجابة تبدو غريبة، ففي زمن الحروب والتهديدات الخارجية، وأهمها غزو الفرنجة للقدس، كان السراج يتخذ من أحد مساجد بغداد مكاناً لإلقاء دروسه ومنها نوادر وقصص العشاق، كان المسجد المكان الذي احتضن بث «مَصارع العشاق» في حلقة علمية.
كان المسجد آنذاك مكاناً لا يقتصر على خطب الدين ودروسه، بمقدار ما كان يعد ملتقى للدارسين والباحثين، فاستوعب حديث العشق وأسرار الوجد كما استوعب حديث الفقه ما يؤكد أن ذلك العصر أكثر رحابة مما نحن عليه اليوم في مساجدنا التي اقتصرت على بث خطاب الوعد والوعيد والتكفير.
يبدأ درس العشق عند السراج في باب تعريف أصل العشق وما ذكر فيه، فيسرد المؤلف جملة من التعريفات، ومما يرويه أن الخليفة المأمون سأل يحيى بن أكثم التميمي: «والعشق؟». فقال: «هو سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه»، فقال تمامة النميري: «اسكت يا يحيى، العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائزة، ملك الأبدان وأرواحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وأعطى عنان طاعتها وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله وعمي في القلوب مسلكه، فقال له المأمون أحسنت والله، وأمر له بألف دينار».
ليس في الخبر عن العشق جمال المعنى فحسب هنا، إنما الجمال أيضاً في أن يجلس خليفة لحديث مثل هذا ويوهب العطايا لمن يأتي بأفضل تعريف عن العشق. وثمة تعاريف أخرى للعشق، ومنها أن أحدهم سأل: «ما العشق؟». فأجاب آخر: «الجنون والذل وهو داء أهل الظرف»، وهناك من قال: «لو كان إلي من الأمر بشيء ما عذبت العشاق لأن ذنوبهم ذنوب اضطرار لا ذنوب اختيار».
وهناك من عرّف العشق بأنه غلبةه الهوى وملكة النفوس، وهناك من يشبّه العفة في العشق بالشهادة، فعن مجاهد عن ابن عباس قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): من عشق فظفر فعف فمات، مات شهيداً».
في الباب الثاني من «مصارع العشاق»، يقف المؤلف عند كل هذا العشق الذي صارعه نفر من العشاق، وهي حكايات يرويها جعفر السراج بقالب أدبي بسيط يقصد فيها بث رسالة في الأخلاق والعفة، ولكنه يبدأ بعد ذلك برواية أخبار للعشاق برواية عن الشيخة الكاتبة فخر النساء شهدة بنت احمد بن الفرج بن عمر الآبري، وقد قرأت هذا الكتاب برحبة جامع القصر الشريف في مجالس آخر عام 573 هـ، وهذا الأمر يلقي الضوء على دور المرأة في حركة المعرفة والعلم في ذلك العصر.
وفي هذا الفصل من الكتاب اقتراب شديد من العامة البغدادية، وهذا الاقتراب يتبدى في جملة من النصوص والحكايات التي تظهرها أحاديث العشاق عن الجواري والعامة، فمن القصص التي يرويها المؤلف عن جارية كانت ظريفة وتسكن المدينة وهي حاذقة بالغناء فهوت فتى من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها فملّها الفتى، وتزايدت هي في محبته وأسف فغارت فولهت، وجعل مولاها لا يعبأ بذلك ولا يرق لشكواها وتفاقم الأمر حتى هامت على وجهها ومزقت ثيابها وضربت من لقيها، فلما رأى مولاها ذلك عالجها فلم ينجح فيها العلاج فكانت تدور بالليل في السكك بعد الأدب والظرف.
ويفرد السراج باباً لعقوبات فسّاق العشاق يورد فيه بعض الحكايات والنوادر التي تعرض لها من وصفهم بالفساق مما أساؤوا للحب بأخلاقهم. وهذه القصص يحاول المؤلف فيها إثبات نية الحب العفيف في مقابل الحب الوضيع الذي لا يقدم أي نماذج إيجابية أو انه لا يبث أي رسالة أخلاقية غير انه يوضح من خلاله ما قد يعرض للعشق من فساد بسبب تغليب الرغائب والغرائز الحيوانية عند الإنسان على القيم الإنسانية والكاتب هنا يستذكر قصة الشاعر العباسي ديك الجن الحمصي.
ومن الروايات التي يذكرها السراج في كتابه هذا (ص 125) ان لقمان بن عاد بن عاديا وهو معمر جاهلي من ملوك حمير، كان مبتلياً بالنساء وكان يتزوج المرأة فتخونه، حتى تزوج جارية صغيرة لم تعرف الرجال ثم نقر لها بيتا في سفح جبل وجعل له درجة بسلاسل ينزل بها ويصعد، فإذا خرج رفعت السلاسل، حتى عرض لها فتى من العماليق فوقعت في نفسه فقال: والله لأجلبن عليكم حرباً لا تقومون بها فقالوا: وما ذاك؟ قال امرأة لقمان هي أحب الناس إلي، قالوا: فكيف نحتال لها؟ قال اجمعوا سيوفكم ثم اجعلوني بينها وشدوها حزماً عظيمة ثم ائتوا لقمان فقولوا إنا أردنا ان نسافر ونحن نستودعك على سيوفنا حتى نرجع، وسموا له يوماً، ففعلوا وأقبلوا بالسيوف... فدفعوها إلى لقمان فوضعها في ناحية بيته وخرج لقمان وتحرك الرجل فخلّت الجارية عنه فكان يأتيها فإذا أمسكت بلقمان جعلته بين السيوف حتى انقضت الأيام ثم جاؤوا لقمان، فاسترجعوا سيوفهم فرفع لقمان رأسه بعد ذلك فإذا أثر الرجل في البيت فقال لامرأته أثر من هذا قالت انه أثري فقال لها افعلي مثله وكان الأثر نخامة وهي ما يخرج من الصدر والحلق من لعاب، ولما فعلت لم تكن تستطيع ان تأتي بما يشبه ذلك فرمى بها لقمان من ذروة الجبل فتقطعت، وعندما نزل لقيته ابنة له يقال لها صحر فقالت: يا أبتاه ما شأنك؟ قال وأنت أيضاً من النساء فضرب رأسها فقتلها، فقالت العرب: ما أذنبت إلا ذنب صحر فصارت مثلاً».
صحيح ان هذه قصص وأخبار سالفة من مدونة العشق العربي، إلا ان المؤلف أراد بها ان يلقي الضوء على أخبار هؤلاء العشاق الفساق الذين ابتعدوا عن قيم الوفاء والمحبة الصادقة، في مقابل قيم أخرى شاعت بفعل العفة والأنفة وفعالية النفس على الهوى.
مهند مبيضين