نقوس المهدي
كاتب
إنني أراه هذا الصياد المعدم وقد عاد من صيده فارغ الجعبة ينتظره بالبيت تسعة عيال وأمهم التي وضعت في هذا اليوم بالذات مولودها العاشر. أراه في عودته واقفاً بباب الخباز وسط الزحام وكان (وقت غلاء، ولا يوجد عند الناس من المؤن إلا القليل في تلك الأيام)، يرمق الأرغفة المتراصة بنظر زائغ، ويستعبر رائحة (العيش السخن) تشتهيه نفسه. أراه ماثلاً أمامي هذا الصياد (الغلبان) خرج صباح اليوم يلقي الشبكة (على بخت المولود الجديد) فلا تصيد إلا رملاً وحصى وأعشاباً. وهو يتساءل (كيف يخلق الله هذا المولود من غير رزق) وقد حفظ من أقوال الأقدمين: (من شق الأشداق، تكفل لها بالأرزاق، فالله تعالى كريم رزاق)
وإذا بالخباز يناديه ويسأله إن كان يطلب خبزاً. ثم يلح عليه في أن يحمل منه ما يريد فهو صابر عليه حتى يأتيه الخير. ويرضى الصياد على شريطة أن يقدم شبكته رهناً، فيرفض الخباز احتجاز الشبكة التي يقوم عليها أود الصياد، ويعطيه خبزاً بعشرة أنصاف فضة، ويقدم له عشرة أنصاف فضة (ليطبخ بها طبخة). على أن يجيئه بسمكة في الغد.
وفي اليوم التالي يخفق في صيده كما أخفق في اليوم السابق، فيخجل أن يقف بباب الخباز. بل هو يعجل بخطاه أما حانوته ولكن الخباز يناديه قائلاً (يا صياد، تعال خذ عيشك ومصروفك فإنك نسيت). ودام الحال على هذا أربعين يوماً حتى سئم الصياد هذه الحياة، وود أن لم يكن المخبز في طريقه إلى البحر حتى لا يضطر إلى المرور بالخباز الكريم. ولكن زوجه تشجعه على المضي إلى البحر، وتشكر الله الذي قيض لهم هذا المحسن
ويذهب الصياد إلى البحر في اليوم الواحد والأربعين وهو يدعو الله أن يرزقه (ولو بسمكة واحدة يهديها للخباز): وإذا بالشبكة متثاقلة يسحبها في مشقة. حتى إذا هي عادت إليه ألفاه تحمل. . . حماراً ميتاً! وهرب من الرائحة الكريهة إلى ناحية أخرى من الشاطئ. وتثاقلت عليه الشبكة أكثر من المرة السابقة، حتى إذا ما جذبها إليه خرج منها رجل حسبه الصياد (عفريتاً ممن اعتاد سليمان أن يحبسهم في القماقم يرمي بها إلى البحر). وصاح الصياد:
- الأمان، يا عفريت سليمان!
فيجيبه الرجل:
- تعال يا صياد، لا تهرب مني فأنا آدمي مثلك. خلصني لتنال أجري.
يخلصه الصياد ويعلم من أمره أنه ليس عفريتاً من الجن. فيسأله عمن رماه في البحر، ويجيبه بأن البحر مقره ومثواه. فهو من (أولاد البحر) وقع بالشبكة صدفة، وكان بوسعه أن يقطعها ليخلص نفسه، لولا أنه (راض بما قدر الله). ويسأل الصياد أن يعتقه (ابتغاء لوجه الله). ويتفق وإياه أن يجتمعا في ذلك الموضع كل يوم، فيأتيه الصياد بفواكه البر (وعندكم منها العنب والتين والبطيخ والخوخ والرمان وغير ذلك) ويأتيه هو (بمعادن البحر من مرجان ولؤلؤ وزبرجد وزمرد وياقوت وغير ذلك).
ويقرآن الفاتحة، ويخلصه الصياد من الشبكة ثم يتفقان أن ينادي الصياد عليه من البر كلما أراد، قائلاً (أين أنت يا عبد الله يا بحري!) فيلبي.
- والآن ما اسمك أيها الصياد؟
- اسمي عبد الله
- أنت إذن عبد الله البري، وأنا عبد الله البحري. انتظر حتى آتي لك بهدية
ويختفي عبد الله البحري في الماء هنيهة تبدو لعبد الله البري كأنها دهر. ويتأسف على تركه هذا المخلوق يفلت من يديه، وكان في استطاعته أن يأخذه إلى المدينة يعرضه في الأسواق، ويدخل به (بيوت الأكابر)
ويعود عبد الله البحري باللؤلؤ والمرجان والزمرد والياقوت ملء اليدين. ويعتذر لأخيه عبد الله البري عن عدم تمكنه من أن يحمل اله أكثر من ذلك. ولو أن (عنده مشنة لملأها له) ويتواعدان على اللقاء في الأيام التالية
وغدا عبد الله البري رجلاً واسع الثروة بفضل صداقته لسميه البحري. وقد أخفى سره إلا عن الخباز الذي أحسن إليه في عسره. وراح يقاسمه الجواهر البحرية ولكن هذه الثروة المفاجئة تستثير شكوك الناس. وينتهي الأمر إلى أن يتهمه شيخ الجوهرية بسرقة حلي ابنة الملك. ويقتاده الحرس إلى القصر، فتنكر الأميرة أن هذه جواهرها. وترسل إلى والدها من يقول له بأن بعض اللآلئ أجمل من لآلئ عقدها. فيغضب الملك وينهر شيخ الجوهرية وأتباعه. فإذا اعتذر الرجل بأن (الصياد كان فقيراً فاستكثرنا عليه هذا الغنى المفاجئ) صاح الملك فيه وفيمن حوله: (أتستكثرون النعمة على مؤمن؟ اخرجوا لا بارك الله فيكم)
وسأل الصياد عن قصته فسردها عليه. وهنا يطأطأ الملك الحكيم رأسه هنيهة ثم يرفعه قائلاً:
- يا رجل هذا نصيبك. ولكن المال يحتاج إلى الجاه، وأنا أسندك بجاهي
ثم يزوجه ابنته ويقيمه وزيراً له، ويحنو على أطفاله العشرة وتكون زوجة الصياد موضع تكريم الملكة (فتنعم عليها، وتجعلها وزيرة عندها)
وغداة الزواج يطل الملك من النافذة فيرى وزيره وصهره عبد الله حاملاً على رأسه (مشنة) ملأى بالفواكه فينكر عليه ذلك، ويجيبه صهره بأن لا قبل له بإخلاف ميعاد صديقه عبد الله البحري، خصوصاً في الظرف الحاضر إذ يحق له أن يتهمه بأن (إقبال الدنيا عليه، قد ألهاه عنه)
يحافظ عبد الله البري على عهد صاحبه البحري، ويواصل قسمة الجواهر بينه وبين صاحبه الخباز. ثم ينتهي إلى التحدث بشأنه مع الملك الذي يقول له (أرسل إلى صاحبك الخباز وهاته لنجعله وزير ميسرة)
وربما حسبت القصة منتهية عند هذا الحد، والواقع أن مجرد استقرار الحال قد يؤذن بختامها. فعبد الله البري يذهب كل يوم بسلة الفواكه يستبدلها بجواهر البحر. وحين تخلو البساتين من الفواكه يحمل إلى صاحبه الزبيب واللوز والبندق والجوز والتين. ويدوم الحال على هذا عاماً تتطور القصة في آخره تطوراً جديداً أسرده عليك
جلس عبد الله البري ذات يوم على شاطئ البحر يتحدث إلى صديقه عبد الله البحري فيبادره هذا قائلاً:
- يقولون يا أخي إن النبي ﷺ مدفون عندكم في البر، فهل تعرف قبره؟ - نعم، فهو في مدينة يقال لها طيبة
- وهل يزوره أهل البر؟
- نعم.
- هنيئاً لكم يا أهل البر بزيارة النبي الكريم. فمن زاره استوجب شفاعته. هل زرته أنت يا أخي؟
- لا، فقد كنت فقيراً لا أجد ما أنفقه في الطريق. ولم أصبح غنياً إلا منذ عرفتك. والآن وجبت علي زيارته بعد أن أحج إلى بيت الله الحرام. وما منعني عن ذلك إلا محبتي لك
- وهل تفضل محبتي على زيارة قبر رسول الله الذي يشفع لكم يوم العرض على الله؟
- إن زيارته والله مقدمة عندي على كل شيء. وأطلب منك إجازة أزوره هذا العام
- أعطيك الإجازة بزيارته. وإذا وقفت على قبره فأقرئه مني السلام. وعندي أمانة فادخل معي في البحر حتى آخذك إلى مدينتي وأدخلك بيتي، وأعطيك الأمانة لتضعها على قبر الرسول
- يا أخي، أنت خلقت في الماء، ومسكنك الماء فهو لا يضرك. فهل إذا خرجت منه إلى البر يصيبك ضر؟
- نعم، يجف بدني وتهب علي نسمات البر فأموت
- كذلك أنا، خلقت في البر ومسكني البر. فإذا دخلت البحر يدخل الماء في جوفي ويخنقني فأموت
- لا تخف، فإني آتيك بدهان تدهن به جسمك فلا يضرك الماء، حتى لو قضيت فيه بقية عمرك
وعبد الله البري رجل كله إيمان واستكانة. فهو راض أن يأتيه بذلك الدهان يجربه. ويحمل عبد الله البحري (المشنة) ويغوص في البحر. ثم يعود بها ملأى (شحماً مثل شحم البقر، لونه أصفر كلون الذهب، ورائحته زكيه). ويخبر صاحبه بأنه شحم نوع من الأسماك يقال له (الدندان، أعظم أصناف السمك خلقة)
- وهو أشد أعدائنا علينا، وأكبر من أي دابة من دوابكم في البر. ولو رأى الفيل لابتلعه
- وماذا يأكل هذا المشؤوم يا أخي؟ - يأكل من دواب البحر. أما سمعت المثل القائل: مثل سمك البحر، القوي يأكل الضعيف؟
- يا أخي، إني أخاف إذا طوفت معك في البحر أن يصادفني هذا النوع فيأكلني
- خفف عنك، فإنه متى رآك عرف أنك ابن آدم فخاف منك وهرب. فالدندان أشد ما يكون خوفاً منكم. لأن شحم ابن آدم سم قاتل له. بل ليكفي أن يسمع صياح ابن آدم فيموت هلعاً
(وتوكل عبد الله البري على الله، وخلع ملابسه ودفنها في رمال الشاطئ. ثم دهن نفسه بشحم الدندان وغاص في الماء. وفتح عينيه ومشى يميناً وشمالاً والماء لا يضايقه. وجعل ينزل إلى القرار ثم يرتفع بكل سهولة)
واندفع عبد الله البحري أمامه دليلاً له في تلك النزهة البحرية النادرة. فرأى عن يمينه وشماله جبالاً. وشاهد أصنافاً عديدة من الأسماك (البعض كبير، والبعض صغير. منها ما يشبه الجاموس، ومنها ما يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين. وكلما قرب عبد الله البري من نوع هرب هذا منه. فيسأل صاحبه:
- يا أخي، ما لي أرى كل هذه الأسماك تهرب منا؟
- مخافة منك يا أخي. فجميع ما خلقه الله يخاف ابن آدم.
،،،،،، يتبع
__________
* المصدر : مجلة الرسالة - العدد 253
بتاريخ: 09 - 05 - 1938
==================
وإذا بالخباز يناديه ويسأله إن كان يطلب خبزاً. ثم يلح عليه في أن يحمل منه ما يريد فهو صابر عليه حتى يأتيه الخير. ويرضى الصياد على شريطة أن يقدم شبكته رهناً، فيرفض الخباز احتجاز الشبكة التي يقوم عليها أود الصياد، ويعطيه خبزاً بعشرة أنصاف فضة، ويقدم له عشرة أنصاف فضة (ليطبخ بها طبخة). على أن يجيئه بسمكة في الغد.
وفي اليوم التالي يخفق في صيده كما أخفق في اليوم السابق، فيخجل أن يقف بباب الخباز. بل هو يعجل بخطاه أما حانوته ولكن الخباز يناديه قائلاً (يا صياد، تعال خذ عيشك ومصروفك فإنك نسيت). ودام الحال على هذا أربعين يوماً حتى سئم الصياد هذه الحياة، وود أن لم يكن المخبز في طريقه إلى البحر حتى لا يضطر إلى المرور بالخباز الكريم. ولكن زوجه تشجعه على المضي إلى البحر، وتشكر الله الذي قيض لهم هذا المحسن
ويذهب الصياد إلى البحر في اليوم الواحد والأربعين وهو يدعو الله أن يرزقه (ولو بسمكة واحدة يهديها للخباز): وإذا بالشبكة متثاقلة يسحبها في مشقة. حتى إذا هي عادت إليه ألفاه تحمل. . . حماراً ميتاً! وهرب من الرائحة الكريهة إلى ناحية أخرى من الشاطئ. وتثاقلت عليه الشبكة أكثر من المرة السابقة، حتى إذا ما جذبها إليه خرج منها رجل حسبه الصياد (عفريتاً ممن اعتاد سليمان أن يحبسهم في القماقم يرمي بها إلى البحر). وصاح الصياد:
- الأمان، يا عفريت سليمان!
فيجيبه الرجل:
- تعال يا صياد، لا تهرب مني فأنا آدمي مثلك. خلصني لتنال أجري.
يخلصه الصياد ويعلم من أمره أنه ليس عفريتاً من الجن. فيسأله عمن رماه في البحر، ويجيبه بأن البحر مقره ومثواه. فهو من (أولاد البحر) وقع بالشبكة صدفة، وكان بوسعه أن يقطعها ليخلص نفسه، لولا أنه (راض بما قدر الله). ويسأل الصياد أن يعتقه (ابتغاء لوجه الله). ويتفق وإياه أن يجتمعا في ذلك الموضع كل يوم، فيأتيه الصياد بفواكه البر (وعندكم منها العنب والتين والبطيخ والخوخ والرمان وغير ذلك) ويأتيه هو (بمعادن البحر من مرجان ولؤلؤ وزبرجد وزمرد وياقوت وغير ذلك).
ويقرآن الفاتحة، ويخلصه الصياد من الشبكة ثم يتفقان أن ينادي الصياد عليه من البر كلما أراد، قائلاً (أين أنت يا عبد الله يا بحري!) فيلبي.
- والآن ما اسمك أيها الصياد؟
- اسمي عبد الله
- أنت إذن عبد الله البري، وأنا عبد الله البحري. انتظر حتى آتي لك بهدية
ويختفي عبد الله البحري في الماء هنيهة تبدو لعبد الله البري كأنها دهر. ويتأسف على تركه هذا المخلوق يفلت من يديه، وكان في استطاعته أن يأخذه إلى المدينة يعرضه في الأسواق، ويدخل به (بيوت الأكابر)
ويعود عبد الله البحري باللؤلؤ والمرجان والزمرد والياقوت ملء اليدين. ويعتذر لأخيه عبد الله البري عن عدم تمكنه من أن يحمل اله أكثر من ذلك. ولو أن (عنده مشنة لملأها له) ويتواعدان على اللقاء في الأيام التالية
وغدا عبد الله البري رجلاً واسع الثروة بفضل صداقته لسميه البحري. وقد أخفى سره إلا عن الخباز الذي أحسن إليه في عسره. وراح يقاسمه الجواهر البحرية ولكن هذه الثروة المفاجئة تستثير شكوك الناس. وينتهي الأمر إلى أن يتهمه شيخ الجوهرية بسرقة حلي ابنة الملك. ويقتاده الحرس إلى القصر، فتنكر الأميرة أن هذه جواهرها. وترسل إلى والدها من يقول له بأن بعض اللآلئ أجمل من لآلئ عقدها. فيغضب الملك وينهر شيخ الجوهرية وأتباعه. فإذا اعتذر الرجل بأن (الصياد كان فقيراً فاستكثرنا عليه هذا الغنى المفاجئ) صاح الملك فيه وفيمن حوله: (أتستكثرون النعمة على مؤمن؟ اخرجوا لا بارك الله فيكم)
وسأل الصياد عن قصته فسردها عليه. وهنا يطأطأ الملك الحكيم رأسه هنيهة ثم يرفعه قائلاً:
- يا رجل هذا نصيبك. ولكن المال يحتاج إلى الجاه، وأنا أسندك بجاهي
ثم يزوجه ابنته ويقيمه وزيراً له، ويحنو على أطفاله العشرة وتكون زوجة الصياد موضع تكريم الملكة (فتنعم عليها، وتجعلها وزيرة عندها)
وغداة الزواج يطل الملك من النافذة فيرى وزيره وصهره عبد الله حاملاً على رأسه (مشنة) ملأى بالفواكه فينكر عليه ذلك، ويجيبه صهره بأن لا قبل له بإخلاف ميعاد صديقه عبد الله البحري، خصوصاً في الظرف الحاضر إذ يحق له أن يتهمه بأن (إقبال الدنيا عليه، قد ألهاه عنه)
يحافظ عبد الله البري على عهد صاحبه البحري، ويواصل قسمة الجواهر بينه وبين صاحبه الخباز. ثم ينتهي إلى التحدث بشأنه مع الملك الذي يقول له (أرسل إلى صاحبك الخباز وهاته لنجعله وزير ميسرة)
وربما حسبت القصة منتهية عند هذا الحد، والواقع أن مجرد استقرار الحال قد يؤذن بختامها. فعبد الله البري يذهب كل يوم بسلة الفواكه يستبدلها بجواهر البحر. وحين تخلو البساتين من الفواكه يحمل إلى صاحبه الزبيب واللوز والبندق والجوز والتين. ويدوم الحال على هذا عاماً تتطور القصة في آخره تطوراً جديداً أسرده عليك
جلس عبد الله البري ذات يوم على شاطئ البحر يتحدث إلى صديقه عبد الله البحري فيبادره هذا قائلاً:
- يقولون يا أخي إن النبي ﷺ مدفون عندكم في البر، فهل تعرف قبره؟ - نعم، فهو في مدينة يقال لها طيبة
- وهل يزوره أهل البر؟
- نعم.
- هنيئاً لكم يا أهل البر بزيارة النبي الكريم. فمن زاره استوجب شفاعته. هل زرته أنت يا أخي؟
- لا، فقد كنت فقيراً لا أجد ما أنفقه في الطريق. ولم أصبح غنياً إلا منذ عرفتك. والآن وجبت علي زيارته بعد أن أحج إلى بيت الله الحرام. وما منعني عن ذلك إلا محبتي لك
- وهل تفضل محبتي على زيارة قبر رسول الله الذي يشفع لكم يوم العرض على الله؟
- إن زيارته والله مقدمة عندي على كل شيء. وأطلب منك إجازة أزوره هذا العام
- أعطيك الإجازة بزيارته. وإذا وقفت على قبره فأقرئه مني السلام. وعندي أمانة فادخل معي في البحر حتى آخذك إلى مدينتي وأدخلك بيتي، وأعطيك الأمانة لتضعها على قبر الرسول
- يا أخي، أنت خلقت في الماء، ومسكنك الماء فهو لا يضرك. فهل إذا خرجت منه إلى البر يصيبك ضر؟
- نعم، يجف بدني وتهب علي نسمات البر فأموت
- كذلك أنا، خلقت في البر ومسكني البر. فإذا دخلت البحر يدخل الماء في جوفي ويخنقني فأموت
- لا تخف، فإني آتيك بدهان تدهن به جسمك فلا يضرك الماء، حتى لو قضيت فيه بقية عمرك
وعبد الله البري رجل كله إيمان واستكانة. فهو راض أن يأتيه بذلك الدهان يجربه. ويحمل عبد الله البحري (المشنة) ويغوص في البحر. ثم يعود بها ملأى (شحماً مثل شحم البقر، لونه أصفر كلون الذهب، ورائحته زكيه). ويخبر صاحبه بأنه شحم نوع من الأسماك يقال له (الدندان، أعظم أصناف السمك خلقة)
- وهو أشد أعدائنا علينا، وأكبر من أي دابة من دوابكم في البر. ولو رأى الفيل لابتلعه
- وماذا يأكل هذا المشؤوم يا أخي؟ - يأكل من دواب البحر. أما سمعت المثل القائل: مثل سمك البحر، القوي يأكل الضعيف؟
- يا أخي، إني أخاف إذا طوفت معك في البحر أن يصادفني هذا النوع فيأكلني
- خفف عنك، فإنه متى رآك عرف أنك ابن آدم فخاف منك وهرب. فالدندان أشد ما يكون خوفاً منكم. لأن شحم ابن آدم سم قاتل له. بل ليكفي أن يسمع صياح ابن آدم فيموت هلعاً
(وتوكل عبد الله البري على الله، وخلع ملابسه ودفنها في رمال الشاطئ. ثم دهن نفسه بشحم الدندان وغاص في الماء. وفتح عينيه ومشى يميناً وشمالاً والماء لا يضايقه. وجعل ينزل إلى القرار ثم يرتفع بكل سهولة)
واندفع عبد الله البحري أمامه دليلاً له في تلك النزهة البحرية النادرة. فرأى عن يمينه وشماله جبالاً. وشاهد أصنافاً عديدة من الأسماك (البعض كبير، والبعض صغير. منها ما يشبه الجاموس، ومنها ما يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين. وكلما قرب عبد الله البري من نوع هرب هذا منه. فيسأل صاحبه:
- يا أخي، ما لي أرى كل هذه الأسماك تهرب منا؟
- مخافة منك يا أخي. فجميع ما خلقه الله يخاف ابن آدم.
،،،،،، يتبع
__________
* المصدر : مجلة الرسالة - العدد 253
بتاريخ: 09 - 05 - 1938
==================