نقوس المهدي
كاتب
مع صدور كل مخطوطة حول ألف ليلة وليلة وما شابهها من حكايات، يشعر من يطلع عليها بشيء من الحيرة، فرغم أنها كتبت قبل قرون عديدة، إلا أنّها ما تزال تكشف الكثير من الخفايا والصور حول الأزمنة التي كتبت فيها، وحتى حول أزمنتنا، فهي دائمة العطاء والتقلب في المعاني. ولعل ما يحسب لدار الجمل وصاحبها الشاعر خالد المعالي، في هذا الجانب، اهتمامه المستمر بنشر تحقيقات جديدة حول أي قصص تدور عن الليالي العربية من أيام العباسيين وحتى القرن الثامن عشر، كما فعل مثلاً مع نشره لمخطوطة الحلبي حنا دياب، الذي كتب نصا مبكراً حول رحلته إلى باريس، وما شاهده في الطريق من عجائب وغرائب وأناس مختلفين، والطريف في هذه الحكايا أنها بدت متأثرة بأسلوب الليالي العربية، وهذا أمر قد لا يبدو غريبا على مؤلفها دياب، الذي غدا مصدراً أساسيا لبعض ليالي ألف ليلة وليلة لدى انطوان غالان، الذي نقل هذه القصص إلى العالم الأوروبي. وضمن هذا الاهتمام، عملت الدار على طباعة مخطوطة جديدة، طريفة من نوعها أيضا، وقريبة في شكلها ومضمونها وقصصها من عالم الليالي العربية، وقد اختار محقق هذه المخطوطة إبراهيم العاقل، الذي عثر على نسختها الوحيدة في باريس وتعود لعام 1471 نشرها تحت عنوان «الماجريات: خمس وعشرون حكاية عن النساء من القرن الرابع عشر» (يصدر خلال أيام قليلة) والماجريات مصطلح اشتهر في عبارة ابن خلكان 1282 في كتابه «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» وقصد به المظالم والخصومات، بينما وجد ابن قيم الجوزية ت1350 أنه «متى انفتح هذا الباب للعبد انتفع بمطالعة تاريخ العالم، وأحوال الأمم، وماجريات الخلق، بل انتفع بماجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس».
تدور حكايا هذه المخطوطة حول مكر النساء وكيدهن، وكثرة حيلهن في القاهرة المملوكية خلال القرن الرابع عشر. ومما يلاحظه المحقق أنّ احدى الحكايا التي ترد في هذه المخطوطة «حكاية الرجل صاحب الدرة» ترد في الليلة الرابعة عشر من غرايب وعجايب حكايا ألف ليلة وليلة، في مخطوطة الفرنسي انطوان غالان، ما يرجح أن تكون هي الأصل الذي اعتمدت عليه كثير من الكتب اللاحقة في باب كتب الباه.
أما عن مؤلف هذه المخطوطة، فكل ما نعرفه عنه أنه من سكان القاهرة في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وأنه سافر إلى حلب الشهباء في زمن سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة 1325 كما سافر صحبة الملك الناصر صوب صعيد مصر 1337، ورافق موكبه، ولعله كان من كبار مقدميه، كما يذهب لذلك محقق المخطوطة، أو ربما كان يرافقه من باب الترويح عن نفس قائد المماليك، كما فعل العباسيون عندما اصطحبوا معه بعض الساردين لهذه الحكايا، ولعله جمع هذه القصص في البداية للترفيه عن الملك. وقد اعتمد في نصه على اللغة الوسطى القريبة من العامية، كما اشتمل على مفردات وتراكيب مصرية وأحياناً تركية «جانم/حبيبي» وهنا يحسب للمحقق أنه حافظ على متن النص واللغة كما هي، مع وضع هوامش عند ورود بعض الأخطاء لتصويبها، أو لتوضيح معاني بعض الأسماء والأماكن.
والطريف في هذه الحكايا أنّ الأدوار تنقلب على صعيد السارد، فخلافا لما عهدناه في الليالي العربية من دور لشهرزاد وحفيداتها في قص الأحداث، فإننا في هذه المخطوطة نرى أن الرجال هم من يتكفلون بوظيفة السرد.
القاهرة المملوكية.. «مدينة العاهرات»؟
وكما نلاحظ في الماجريات، تدور الأحداث في مدينة القاهرة المملوكية، إذ يجري ذكر الأماكن بشكل دقيق (الحبانية، جامع ابن طولون) من باب دعم السرد والتشويق. مع ذلك، فإنّ صورة الأزقة والأسواق تنطبق على مدن أخرى مثل دمشق وبغداد. وتقوم القصص على فكرة مكر النساء في هذه المدينة وحيلهن في اصطياد الفتيان والرجال المليحين لمعاشرتهم، دون أن يتمكن أزواجهن من كشفهن. والطريف في هذه الحكايا أنّ الأدوار تنقلب على صعيد السارد، فخلافا لما عهدناه في الليالي العربية من دور لشهرزاد وحفيداتها في قص الأحداث، فإننا في هذه المخطوطة نرى أن الرجال هم من يتكفلون بوظيفة السرد. كما تظهر ثلاثة أصناف أخرى من الذكور؛ الأول، رجال غشامة، «عندهم بعض تغفل» بائعون (عنبري/زيات/دلال) أما الصنف الثاني، هم فتيان أو غلمان (مثل زعتر) الذي يوحي اسمه بالتذوق، لم يفقدوا عذريتهم بعد، ولذلك تجلبهن هؤلاء النسوة إلى مخادعهن ليفقدوها مع هذه المرأة الشهوانية، كما في حال قصة الماجرية الثالثة «زوجة الدلال وابن التاجر» إذ كان والده يحبه محبة عظيمة، ولذلك لا يسمح له بالخروج من البيت ولا في السوق، وجعل عنده اشياء يتشاغل بها حتى يشغله عن الخروج إلى خارج المنزل، وفي جملة ذلك حمام جعله في السطح، فكان الصبي يقضي أكثر أوقاته في السطح يلعب وكان لهم جار دلال يبيع الدور وكانت له زوجة مليحة، فلمحت الصبي وصارت كل الوقت تراقبه مسلوبة الفؤاد، ولذلك قررت أخذ أحد طيوره وتهديده بقتلها إذا لم يزرها في منزلها، وهناك يفقد الطفل عذريته مع هذه المرأة «اوريني وعلميني» وخلافا للقصص التي تتحدث عن الرجال وهم يفضون عذرية الفتيات الصغار، نرى العكس يحدث ويتكرر في ماجريات أخرى (الحكاية الرابعة التي تدور حول اصطياد زوجة عنبري لابن أمير الصيد لدى السلطان قلاوون) أما النوع الثالث من الرجال، فهم رجال مليحون، لكن دورهم يقتصر على إشباع شهوات هؤلاء النسوة، إذ لا نعرف شيئا عن حيواتهم، وبالتالي فهم ليسوا سوى أداة يجري شرائها في مرات عديدة، خلافاً للصورة التي تظهر في الليالي العربية عندما يقوم الرجال بالبحث عن نساء لإشباع رغباتهم الذكورية فقط. وهنا قد يثار سؤالان أساسيان؛ الأول، هل تمثّل هذه القصص بالضرورة تعبيراً موضوعيا عن الواقع الاجتماعي المملوكي، وتقريراً دقيقا عن حالة شريحة من النساء (معظم اللواتي في الماجريات صاحبات جاه ومال، إحداهن ابنة صاحب ماردين، أو متزوجات من رجال ميسوري الحال)؟ ولعل هذا ما ذهب إليه الباحث أشرف صالح محمد، الذي يرى أنّ قصص الليالي المملوكية تكشف أنّ المجتمع المصري في ذلك العصر، امتلأ بكثير من العلاقات الحميمية المرتبطة بالجنس والانحلال الأخلاقي والإغراءات، لكن في المقابل ألا يمكن القول إنّ هذه القصص بصورها البورنوغرافية المبالغ بها (رجل يقذف اثني عشر مرة في الليلة، وأخرى تضاجع خمسين رجلاً) التي تأتي من باب تشويق القارئ والمستمع لها، ليست سوى صور رمزية تعكس تفاقم الحضور الأنثوي بين بعض الشرائح ذات النفوذ، ما طرح تحديات خطيرة للمجتمع الذكوري، بطرفيه الإسلامي والمسيحي (بعض الماجريات تتحدث عن قصص رجال مسيحيين) لذلك كان من الطبيعي أن نرى ردود الفعل الذكورية عبر خلق عالم جنساني شبقي نصي، تظهر فيه نساء المدينة الميسورات بوصفهن «عاهرات» (سيصفهن البديري الحلاق المحافظ في القرن الثامن عشر ببائعات الهوى) وحتى لو قبلنا بالوصف الأخير، ألا يعني انقلاب الأدوار الجنسية (رجال جحوش/ ونساء يستمتعن) خلافاً لما هو دارج، ولادة واقع اجتماعي آخر، هذا إذا ما اعتمدنا فكرة عبد الصمد الديالمي عن الجنس/الجنسانية، الذي لا يراه مجرد عملية فيزيولوجية، بل هو يعكس صوراً ثقافية عن المجتمع، وفي حالتنا تظهر النساء متحكمات أو لنقل متساويات مع الرجال في البحث عن المتعة، كما أنّ ما يدعم فكرة أنّ هذه الصور ذات بعد رمزي/ذكوري، وتعكس غيرة من قبل بعض الرجال لظهور واقع آخر للنساء داخل الفضاء العام المديني، ما ذهب إليه المؤرخ الفرنسي جوليان لوازو في كتابه الفريد «المماليك» إذ لاحظ أنّ قسما من الجنود المماليك قد عملوا على توزيع تركاتهم بالتساوي بين أبنائهم الذكور والإناث من خلال الأوقاف، خلافاً للقاعدة الإسلامية، ما مثّل تطوراً عاما في مجتمع ذلك الزمن المصري والسوري، مما أتاح الفرصة لبعض النساء ليصبحن صاحبات ثروة ودور في الفضاء العام، ولعل هذا ما يفسر تكرار الربط بين ثروة النساء والفتنة (البحث عن رجال للنكاح) في قصص المخطوطة.
رجوع الشيخ إلى صباه
نعثر بين الماجريات على رجال قد بلغوا الثمانين، يمتلكون ذكريات عن غراميات النساء في المدينة، ولذلك يحاول مؤلف المخطوطة محاولات عديدة إقناعهم برواية ما لديهم من أسرار، وهذا ما نراه في الماجرية السادسة، التي تجري في حلب (وهناك رواية أخرى تجري في دمشق فقط) خلف المدرسة العصرونية، عندما يلتقي بالشيخ يوسف القيرواني، وكان رجل فضيلة، وقد سافر البلاد وتغرب أيام صباه. وقد رآه الشيخ ذات يوم وهو يطالع مسودات من حيل النساء، فتبسم في وجهه، وقال له «اظنك يا مصري، قد اتعبت خاطرك وأشغلت سرك وأفنيت نفايس عمرك فيما لا ينفعك ولا يضرك. فأين أنت ممن له ثمانين سنة يكتب حيل النساء، وما لهن من الإجرام والأسى، فأجابه «بالله عليك يا سيدي الشيخ يوسف، احكي لي الماجرية التي جرت لك حتى أنقلها وأرويها عنك بصحة.. وما زلت به حتة (حتى) أجابني».
قد تثير لدينا هذه الحادثة بعض الأسئلة أيضاً، مثل لماذا يلجأ المؤلف لهذا الأسلوب في تدوين ما ذكره الشيوخ، هل للقول مثلاً إنّ حيل النساء ومكائدهن الجنسية، ليست وليدة زمنه، بل هي جزء من طبيعتهن (ماكرات وشبقات) عبر الأزمان (كما في مثال زوجة عزيز مصر التي تراود النبي يوسف) وهذا ما تؤكده قصص الشيوخ الأجداد، وبذلك يدعم موقفه المحافظ/الذكوري منهن. وماذا لو حاولنا إجراء تعديل بسيط على سرد المخطوطة، وقلبنا الأدوار، بحيث يغدو هؤلاء الشيوخ هم من سعوا وراء هذا المصري للحديث عن ذكرياتهم (وهو ما تظهره بداية الحكاية الأخيرة عندما قام الرجل الكهل بالتدخّل كمدخل لفتح نقاش معه) ولعل صاحب المخطوطة لم يرغب البوح بذلك، من باب رفع أجواء التشويق، بينما يخيل لنا أنّ هؤلاء الرجال الطاعنين في السن هم من سعوا للإفصاح عن هذه القصص.
لكن لماذا؟
لأنهم من خلال استعادتهم للروايات والقصص، يعيدون ما فعلته شهرزاد التي ضمنت لنفسها الحياة عبر تكرار وسرد القصص، وبذلك فهم يضمنون الحياة مثلها، فسرد الحكايا أو الذكريات، كما يرى ألبير سويل، لا يتحول إلى مقبرة واعتراف بعبرات آخر العمر، وإنما إلى ينبوع لاستعادة الشباب وتبديل الحال، إذ ربما لا يصلح العطار ما أفسده الدهر، لكن لا بأس من استعادة الشباب الذي يرتبط بالفحولة عادة، ولو رمزياً. ولعل هذا الأسلوب القصصي يفسر محافظة بعض من ألّف في علم الباه في فترة المماليك على جزء من هذا الأسلوب في وصفاته، ولذلك نرى السيوطي (1455ـ 1505) يذكر عشرات القصص التي سمعها عن النكاح والشهوات لإثارة مشاعر قرائه، بينما سنجد لاحقاً أنّ بعض المؤلفين العثمانيين لن يعتمدوا هذا الأسلوب، وإنما سينحازون للجانب التقني/الطبي من خلال الحديث عن الأدوية التي تساعد على النكاح وأوقاتها، وهي مفارقة قد تحمل دلالات ليس بيسرنا قراءتها حالياً.
العجوز/الداية: قوادات المدينة:
وبالعودة إلى صورة النساء في هذه الماجريات، نلاحظ وجود ثلاثة أدوار للنساء، زوجات شبقات خائنات، وأمهات وأخوات كبيرات يحاولن التكتم على ما تفعله الزوجات الصغيرات، والدلالات والنساء العجائز اللواتي يلعبن دورا سلبيا في هذه الحكايا، كما في مثال أم سنجر (وهو اسم يرتبط بالهلاك) وخلافاً لصورة التقوى التي تربط بهن في بعض قصص ألف ليلة وليلة، فإنهن يحملن هنا رائحة ودور القوادات، وقد بقيت هذه الرائحة عالقة بهن (الدايات مثلاً) إلى زمن قريب، فغالبا ما كان يعيّر من تعمل والدته في هذه المهنة، وعادة ما توصف من تؤديها بصور غير أخلاقية، مثل نقل القصص والحكايا السرية من بيت إلى آخر، مع ذلك يبقى دورها مهما لتحريك الوضع الراكد. ويبدو أنّ مهنة القوادة كانت منتشرة آنذاك، كما يبدو أنّ هذا الصورة، مثلما لاحظ محسن جاسم الموسوي، هي وليد صورة أقدم لم تتشكل في العصر المملوكي، ففي الفترة العباسية مرورا بالفاطمية، إذ تمت الاستعانة بالنساء العجائز لمعرفة أحوال النساء، وكان الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي يستعين بهن لمعرفة أحوال النساء، فالعجوز والدلالة يقدران على بلوغ المنازل والأسرار، وهي غالبا تحمل صورة الشيطنة، كما نراها في حكاية (زوجة الجندي وغلامه زعتر) عندما روت للزوج قصة غريبة حول دخول فارة إلى جوف زوجته، وضرورة الإتيان برجل فحل عله يساعدها على إخراجها، بينما يقتصر دوره على الوقوف في الخارج لقتل الفارة عندما تهرب، دون أن يبدي أي غيرة، ربما لأنها سحرته، وكأنها بهذه الفعلة، و يا للمفارقة، كانت تنتقم من رجال زمنها الذين عادة ما يشككون بالنساء، فإذا بهم يتحولون إلى قوادين في وضح النهار.
تدور حكايا هذه المخطوطة حول مكر النساء وكيدهن، وكثرة حيلهن في القاهرة المملوكية خلال القرن الرابع عشر. ومما يلاحظه المحقق أنّ احدى الحكايا التي ترد في هذه المخطوطة «حكاية الرجل صاحب الدرة» ترد في الليلة الرابعة عشر من غرايب وعجايب حكايا ألف ليلة وليلة، في مخطوطة الفرنسي انطوان غالان، ما يرجح أن تكون هي الأصل الذي اعتمدت عليه كثير من الكتب اللاحقة في باب كتب الباه.
أما عن مؤلف هذه المخطوطة، فكل ما نعرفه عنه أنه من سكان القاهرة في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وأنه سافر إلى حلب الشهباء في زمن سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة 1325 كما سافر صحبة الملك الناصر صوب صعيد مصر 1337، ورافق موكبه، ولعله كان من كبار مقدميه، كما يذهب لذلك محقق المخطوطة، أو ربما كان يرافقه من باب الترويح عن نفس قائد المماليك، كما فعل العباسيون عندما اصطحبوا معه بعض الساردين لهذه الحكايا، ولعله جمع هذه القصص في البداية للترفيه عن الملك. وقد اعتمد في نصه على اللغة الوسطى القريبة من العامية، كما اشتمل على مفردات وتراكيب مصرية وأحياناً تركية «جانم/حبيبي» وهنا يحسب للمحقق أنه حافظ على متن النص واللغة كما هي، مع وضع هوامش عند ورود بعض الأخطاء لتصويبها، أو لتوضيح معاني بعض الأسماء والأماكن.
والطريف في هذه الحكايا أنّ الأدوار تنقلب على صعيد السارد، فخلافا لما عهدناه في الليالي العربية من دور لشهرزاد وحفيداتها في قص الأحداث، فإننا في هذه المخطوطة نرى أن الرجال هم من يتكفلون بوظيفة السرد.
القاهرة المملوكية.. «مدينة العاهرات»؟
وكما نلاحظ في الماجريات، تدور الأحداث في مدينة القاهرة المملوكية، إذ يجري ذكر الأماكن بشكل دقيق (الحبانية، جامع ابن طولون) من باب دعم السرد والتشويق. مع ذلك، فإنّ صورة الأزقة والأسواق تنطبق على مدن أخرى مثل دمشق وبغداد. وتقوم القصص على فكرة مكر النساء في هذه المدينة وحيلهن في اصطياد الفتيان والرجال المليحين لمعاشرتهم، دون أن يتمكن أزواجهن من كشفهن. والطريف في هذه الحكايا أنّ الأدوار تنقلب على صعيد السارد، فخلافا لما عهدناه في الليالي العربية من دور لشهرزاد وحفيداتها في قص الأحداث، فإننا في هذه المخطوطة نرى أن الرجال هم من يتكفلون بوظيفة السرد. كما تظهر ثلاثة أصناف أخرى من الذكور؛ الأول، رجال غشامة، «عندهم بعض تغفل» بائعون (عنبري/زيات/دلال) أما الصنف الثاني، هم فتيان أو غلمان (مثل زعتر) الذي يوحي اسمه بالتذوق، لم يفقدوا عذريتهم بعد، ولذلك تجلبهن هؤلاء النسوة إلى مخادعهن ليفقدوها مع هذه المرأة الشهوانية، كما في حال قصة الماجرية الثالثة «زوجة الدلال وابن التاجر» إذ كان والده يحبه محبة عظيمة، ولذلك لا يسمح له بالخروج من البيت ولا في السوق، وجعل عنده اشياء يتشاغل بها حتى يشغله عن الخروج إلى خارج المنزل، وفي جملة ذلك حمام جعله في السطح، فكان الصبي يقضي أكثر أوقاته في السطح يلعب وكان لهم جار دلال يبيع الدور وكانت له زوجة مليحة، فلمحت الصبي وصارت كل الوقت تراقبه مسلوبة الفؤاد، ولذلك قررت أخذ أحد طيوره وتهديده بقتلها إذا لم يزرها في منزلها، وهناك يفقد الطفل عذريته مع هذه المرأة «اوريني وعلميني» وخلافا للقصص التي تتحدث عن الرجال وهم يفضون عذرية الفتيات الصغار، نرى العكس يحدث ويتكرر في ماجريات أخرى (الحكاية الرابعة التي تدور حول اصطياد زوجة عنبري لابن أمير الصيد لدى السلطان قلاوون) أما النوع الثالث من الرجال، فهم رجال مليحون، لكن دورهم يقتصر على إشباع شهوات هؤلاء النسوة، إذ لا نعرف شيئا عن حيواتهم، وبالتالي فهم ليسوا سوى أداة يجري شرائها في مرات عديدة، خلافاً للصورة التي تظهر في الليالي العربية عندما يقوم الرجال بالبحث عن نساء لإشباع رغباتهم الذكورية فقط. وهنا قد يثار سؤالان أساسيان؛ الأول، هل تمثّل هذه القصص بالضرورة تعبيراً موضوعيا عن الواقع الاجتماعي المملوكي، وتقريراً دقيقا عن حالة شريحة من النساء (معظم اللواتي في الماجريات صاحبات جاه ومال، إحداهن ابنة صاحب ماردين، أو متزوجات من رجال ميسوري الحال)؟ ولعل هذا ما ذهب إليه الباحث أشرف صالح محمد، الذي يرى أنّ قصص الليالي المملوكية تكشف أنّ المجتمع المصري في ذلك العصر، امتلأ بكثير من العلاقات الحميمية المرتبطة بالجنس والانحلال الأخلاقي والإغراءات، لكن في المقابل ألا يمكن القول إنّ هذه القصص بصورها البورنوغرافية المبالغ بها (رجل يقذف اثني عشر مرة في الليلة، وأخرى تضاجع خمسين رجلاً) التي تأتي من باب تشويق القارئ والمستمع لها، ليست سوى صور رمزية تعكس تفاقم الحضور الأنثوي بين بعض الشرائح ذات النفوذ، ما طرح تحديات خطيرة للمجتمع الذكوري، بطرفيه الإسلامي والمسيحي (بعض الماجريات تتحدث عن قصص رجال مسيحيين) لذلك كان من الطبيعي أن نرى ردود الفعل الذكورية عبر خلق عالم جنساني شبقي نصي، تظهر فيه نساء المدينة الميسورات بوصفهن «عاهرات» (سيصفهن البديري الحلاق المحافظ في القرن الثامن عشر ببائعات الهوى) وحتى لو قبلنا بالوصف الأخير، ألا يعني انقلاب الأدوار الجنسية (رجال جحوش/ ونساء يستمتعن) خلافاً لما هو دارج، ولادة واقع اجتماعي آخر، هذا إذا ما اعتمدنا فكرة عبد الصمد الديالمي عن الجنس/الجنسانية، الذي لا يراه مجرد عملية فيزيولوجية، بل هو يعكس صوراً ثقافية عن المجتمع، وفي حالتنا تظهر النساء متحكمات أو لنقل متساويات مع الرجال في البحث عن المتعة، كما أنّ ما يدعم فكرة أنّ هذه الصور ذات بعد رمزي/ذكوري، وتعكس غيرة من قبل بعض الرجال لظهور واقع آخر للنساء داخل الفضاء العام المديني، ما ذهب إليه المؤرخ الفرنسي جوليان لوازو في كتابه الفريد «المماليك» إذ لاحظ أنّ قسما من الجنود المماليك قد عملوا على توزيع تركاتهم بالتساوي بين أبنائهم الذكور والإناث من خلال الأوقاف، خلافاً للقاعدة الإسلامية، ما مثّل تطوراً عاما في مجتمع ذلك الزمن المصري والسوري، مما أتاح الفرصة لبعض النساء ليصبحن صاحبات ثروة ودور في الفضاء العام، ولعل هذا ما يفسر تكرار الربط بين ثروة النساء والفتنة (البحث عن رجال للنكاح) في قصص المخطوطة.
رجوع الشيخ إلى صباه
نعثر بين الماجريات على رجال قد بلغوا الثمانين، يمتلكون ذكريات عن غراميات النساء في المدينة، ولذلك يحاول مؤلف المخطوطة محاولات عديدة إقناعهم برواية ما لديهم من أسرار، وهذا ما نراه في الماجرية السادسة، التي تجري في حلب (وهناك رواية أخرى تجري في دمشق فقط) خلف المدرسة العصرونية، عندما يلتقي بالشيخ يوسف القيرواني، وكان رجل فضيلة، وقد سافر البلاد وتغرب أيام صباه. وقد رآه الشيخ ذات يوم وهو يطالع مسودات من حيل النساء، فتبسم في وجهه، وقال له «اظنك يا مصري، قد اتعبت خاطرك وأشغلت سرك وأفنيت نفايس عمرك فيما لا ينفعك ولا يضرك. فأين أنت ممن له ثمانين سنة يكتب حيل النساء، وما لهن من الإجرام والأسى، فأجابه «بالله عليك يا سيدي الشيخ يوسف، احكي لي الماجرية التي جرت لك حتى أنقلها وأرويها عنك بصحة.. وما زلت به حتة (حتى) أجابني».
قد تثير لدينا هذه الحادثة بعض الأسئلة أيضاً، مثل لماذا يلجأ المؤلف لهذا الأسلوب في تدوين ما ذكره الشيوخ، هل للقول مثلاً إنّ حيل النساء ومكائدهن الجنسية، ليست وليدة زمنه، بل هي جزء من طبيعتهن (ماكرات وشبقات) عبر الأزمان (كما في مثال زوجة عزيز مصر التي تراود النبي يوسف) وهذا ما تؤكده قصص الشيوخ الأجداد، وبذلك يدعم موقفه المحافظ/الذكوري منهن. وماذا لو حاولنا إجراء تعديل بسيط على سرد المخطوطة، وقلبنا الأدوار، بحيث يغدو هؤلاء الشيوخ هم من سعوا وراء هذا المصري للحديث عن ذكرياتهم (وهو ما تظهره بداية الحكاية الأخيرة عندما قام الرجل الكهل بالتدخّل كمدخل لفتح نقاش معه) ولعل صاحب المخطوطة لم يرغب البوح بذلك، من باب رفع أجواء التشويق، بينما يخيل لنا أنّ هؤلاء الرجال الطاعنين في السن هم من سعوا للإفصاح عن هذه القصص.
لكن لماذا؟
لأنهم من خلال استعادتهم للروايات والقصص، يعيدون ما فعلته شهرزاد التي ضمنت لنفسها الحياة عبر تكرار وسرد القصص، وبذلك فهم يضمنون الحياة مثلها، فسرد الحكايا أو الذكريات، كما يرى ألبير سويل، لا يتحول إلى مقبرة واعتراف بعبرات آخر العمر، وإنما إلى ينبوع لاستعادة الشباب وتبديل الحال، إذ ربما لا يصلح العطار ما أفسده الدهر، لكن لا بأس من استعادة الشباب الذي يرتبط بالفحولة عادة، ولو رمزياً. ولعل هذا الأسلوب القصصي يفسر محافظة بعض من ألّف في علم الباه في فترة المماليك على جزء من هذا الأسلوب في وصفاته، ولذلك نرى السيوطي (1455ـ 1505) يذكر عشرات القصص التي سمعها عن النكاح والشهوات لإثارة مشاعر قرائه، بينما سنجد لاحقاً أنّ بعض المؤلفين العثمانيين لن يعتمدوا هذا الأسلوب، وإنما سينحازون للجانب التقني/الطبي من خلال الحديث عن الأدوية التي تساعد على النكاح وأوقاتها، وهي مفارقة قد تحمل دلالات ليس بيسرنا قراءتها حالياً.
العجوز/الداية: قوادات المدينة:
وبالعودة إلى صورة النساء في هذه الماجريات، نلاحظ وجود ثلاثة أدوار للنساء، زوجات شبقات خائنات، وأمهات وأخوات كبيرات يحاولن التكتم على ما تفعله الزوجات الصغيرات، والدلالات والنساء العجائز اللواتي يلعبن دورا سلبيا في هذه الحكايا، كما في مثال أم سنجر (وهو اسم يرتبط بالهلاك) وخلافاً لصورة التقوى التي تربط بهن في بعض قصص ألف ليلة وليلة، فإنهن يحملن هنا رائحة ودور القوادات، وقد بقيت هذه الرائحة عالقة بهن (الدايات مثلاً) إلى زمن قريب، فغالبا ما كان يعيّر من تعمل والدته في هذه المهنة، وعادة ما توصف من تؤديها بصور غير أخلاقية، مثل نقل القصص والحكايا السرية من بيت إلى آخر، مع ذلك يبقى دورها مهما لتحريك الوضع الراكد. ويبدو أنّ مهنة القوادة كانت منتشرة آنذاك، كما يبدو أنّ هذا الصورة، مثلما لاحظ محسن جاسم الموسوي، هي وليد صورة أقدم لم تتشكل في العصر المملوكي، ففي الفترة العباسية مرورا بالفاطمية، إذ تمت الاستعانة بالنساء العجائز لمعرفة أحوال النساء، وكان الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي يستعين بهن لمعرفة أحوال النساء، فالعجوز والدلالة يقدران على بلوغ المنازل والأسرار، وهي غالبا تحمل صورة الشيطنة، كما نراها في حكاية (زوجة الجندي وغلامه زعتر) عندما روت للزوج قصة غريبة حول دخول فارة إلى جوف زوجته، وضرورة الإتيان برجل فحل عله يساعدها على إخراجها، بينما يقتصر دوره على الوقوف في الخارج لقتل الفارة عندما تهرب، دون أن يبدي أي غيرة، ربما لأنها سحرته، وكأنها بهذه الفعلة، و يا للمفارقة، كانت تنتقم من رجال زمنها الذين عادة ما يشككون بالنساء، فإذا بهم يتحولون إلى قوادين في وضح النهار.