نقوس المهدي
كاتب
بدأتُ القراءة في سن مبكرة جدا، كنت أذهب في الإجازة الصيفية بعد نجاحي في القبول الإعدادي إلى صاحب مكتبة في شارع إيزيس- آخذ منه كتب طه حسين والمنفلوطي والحكيم وباكثير وغيرهم، وفي اليوم التالي أعيد إليه الكتاب وأدفع له (نصف قرش) خمسة مليمات وآخذ كتابا آخر، من هذه الكتب؛ كتب السيرة، فأجد معظمهم يثني على كتاب ألف ليلة وليلة.
سألت صاحب المكتبة عنه، فقال لي مبتسما: أنت لسه صغير عليه.
قرأتُ ما كتبه طه حسين عنه؛ في كتابه الأيام فزاد شوقي إليه، فطلبت إستعارته من مكتبة البلدية، كتبتُ إستمارة إستعارة مذكور فيها اسم الكتاب ورقمه.
كان يجلس خلف المكتب بجوار الأسانسير الصغير الذي تنزل فيه الكتب؛ ساعي يرتدي بذلة صفراء، يقرأ اسم طالب الكتاب، من الكعب المرفق فيه. وينادي عليه، وعندما رآني؛ نظر إلي في دهشة، ورفض أن يسلمه لي، قائلا: لا، أنت مازلت صغيرا.
جلستُ في القاعة حزينا، وقرأتُ كتاباً آخر.
وشاهدتُ فيلما أمريكيا عن ألف ليلة وليلة بعنوان " علي بابا "، أظنه بطولة توني كيرتس، وأفلام أخرى عن ألف ليلة وليلة جعلتني متشوقا أكثر لقراءة الكتاب.
.. .. ..
قرأتُ حكاية علاء الدين والمصباح السحري، ربما كانت ضمن كتب القراءة المقررة علينا في المدرسة، وكتبوا في أسفل الصفحة: عن ألف ليلة وليلة:
ساحر يأتي من بلد بعيدة، يبحث عن صبي، هو الوحيد الذي يستطيع أن يأتي له بالمصباح السحري. الذي إذا مسسته؛ يخرج منه عفريتا عملاقا يقول لك: شبيك لبيك ،عبدك بين إيديك، ويحقق لك ما تتمنى مهما كان صعباً.
00
عندما عرفتُ طريق باعة الكتب القديمة في محطة مصر وشارع النبي دانيال، وجدت عندهم نسخا من ألف ليلة وليلة، الطبعة القديمة المزينة برسوم ساذجة، وورق أصفر، وكلمات مطبوعة بمطبعة حجر. تشبه الكتب الدينية القديمة الموجودة في مكتبة عمي. ليالٍ متفرقة غير مرتبة، إلى أن جمعتُها بعد وقت طويل جدا، ثم عثرت على أربع مجلدات تشمل كل الليالي، مطبوعة في بيروت في غلاف جميل، فقرأتُها مرة أخرى.
كنت أقرأ الليالي كل صباح، في سيارة الشركة التي أعمل بها، والتي تسير من محطة مصر إلى منطقة الطابية القريبة جدا من خليج أبي قير. أكثر من ساعة، أقضيها في القراءة، وكان يجلس بجواري شاب متدين يعمل في المصنع، يقرأ القرآن والكتب الدينية طوال الوقت، وفوجئ بي صائما في يوم إثنين من أيام رجب أو شعبان لا أذكر، فقال مندهشا: غريبة، أمال إيه حكاية ألف ليلة ولية التي تقرأها؟!
فأنا في نظره كافر ولا أصلي ولا أصوم ما دمت أقرأ ألف ليلة وليلة.
.. .. ..
أعجبتُ كثيرا بحكايات ألف ليلة وليلة التي كُتبت في مصر: علي بابا واللصوص الأربعين، وعلاء الدين أبو الشامات والمصباح العجيب، وهي التي أقتبسوا منها فيلم لص بغداد، ثم حكاية معروف الإسكافي، وأبو قير وأبو صير، (وقد أعددت لها سيناريو وحوار للأطفال، وصدرت في كتاب العربي الصغير، وذكرت الحكاية أيضا عندما كتبت مقالة عن حي أبو قير بالإسكندرية ) وحكاية كريم الدين وملكة الحيات، ومدينة النحاس .وأحمد الدنف، وحسن شومان وعلى الزيبق ودليلة المحتالة وزينب النصابة ( وهذه الحكايات بالذات كُتبت بين القرنين الثامن والعاشر للهجرة أيام حكم الماليك بفساده وحكم الأتراك بإستبداده؛ وقد أتيا على ما بقى من أركان الإجتماع وحللا أواصر الأخلاق، فلجأ البعض إلى الحيلة والخديعة، وأعتمد الناس في جمع الثروة على الحيلة والشعوذة والسحر، فتكدسوا في السوامر حول القصاص، وقد تجمع لهؤلاء من خلال القرون ذخيرة وفيرة من الأساطير والأسمار، فهبوا يدونونها ) أحمد حسن الزيات كتاب في أصول الأدب الجزء الأول.
وهذه الحكايات كانت تُحكى في القرى والأحياء الشعبية في المدن، فالحكاية المستمد منها حكاية علي بابا؛ كانت النسوة تحكيها لأطفالها هناك. وهي عن فلاح لم يجد قوتا لعياله، فذهب لأخيه الغني جدا؛ يطلب منه أن يعطيه كيلتين من القمح لإطعام العيال، وسيردهما إليه عند موسم الحصاد، لكنه رفض أن يعطيه شيئا. فلم يجد الرجل سوي أن يبيع عِجلته رغم حاجته الشديدة إليها، فسحبها وذهب بها إلى السوق، والظاهر أن السوق كان بعيد جدا عن القرية، فقد أحس الرجل بالتعب من قبل أن يصله؛ فربط عِجلته في شجرة، ونام بجوارها، وعندما إستيقظ من نومه، وجد نفسه تحت الأرض بين ناس يراهم لأول مرة، فأخذوا منه العِجلة وذبحوها وصنعوا منها وليمة فاخرة ودعوه ليأكل معهم، فأكل في شهية فقد كان جائعا، وأقاموا حلقة ذكر، وطلبوا منه أن ينشد، ولم يكن يحفظ شيئا من الإنشاد، لكنه عبر عن حاله قائلا: ماذا أفعل وقد أخذوا العِجلة مني؟!
فرددوا قوله في سعادة وإنتشاء، وبعد أن أنتهى الذكر، ملأوا جلد العِجلة بجنيهات ذهبية. وطلبوا منه أن يغمض عينيه، فوجد نفسه في المكان الذي نام فيه.
وعندما ذهب إلى زوجته، لم تجد " كيلة " لتعرف بها قدر الجنيهات الذهبية التى أتى زوجها بها، فذهبت إلى شقيق زوجها تستلف منه الكيلة، لكن زوجته وضعت بها قطعة عجين لتعرف ما الذي سيكيلونه، فوجدت في آخر الكيلة جنيه ذهب.
فذهب أخوه إليه وسأله عن سر هذا المال الذي جاءه فجأة، فحكى له الرجل الطيب ما حدث بالضبط.
فأخذ أخوه جاموسة ضخمة، وتظاهر بالنوم تحت ظل الشجرة، فوجد نفسه تحت الأرض وحوله الناس الغرباء، فذبحوا جاموسته ودعوه إلى الوليمة، لكنه أكل بدون شهية، وعندما أنشد في الذكر كان صوته قبيحا ومملا، فحشوا جلد جاموسته بقشر بصل.
.. .. ..
وحكى لي عمي: إن عمته في الصعيد كانت تحكي لهم حكاية " قِسم " التي كتبها عبد الفتاح مصطفي وأذيعت في الراديو وأشتهرت باسم "السلطانية "، وهي مستوحاة من القصة الشعبية التي حكيتها لكم الآن.
وقد شاهدتُ مسلسلا تلفزيونيا عن ألف ليلة وليلة كتبه الأستاذ أحمد بهجت، ودهشت مما أرى، فـيوسف شعبان كان معلما للأطفال. وهو جالس في دكانه سمع أحد المارة ينشد ويغني:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي عليّ فؤادي أينما كانا
فقال معلم الأطفال لنفسه: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها ما كان الشعراء يتغزلون فيها هكذا.
وتعلق قلبه بحبها. لكن بعد يومين عَبَرَ ذلك الرجل وهو ينشد هذا البيت:
لقد ذهب الحِمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلم إنها ماتت فحزن عليها ومضى له ثلاثة أيام وهو في العزاء.
دهشتُ مما أرى فقد قرأت طبعتين من ألف ليلة وليلة لم أجد فيهما هذه الحكاية، إنما قرأتُها في كتب الجاحظ، حيث زار أحد معلمي الأطفال في دكانه، وتحدث معه، فوجده عالماً بالقرآن وفقيها في النحو وشاعرا أديبا، فقال له:
- كنت قد أنوي أن أكتب كتابا عن نوادر معلمي الأطفال، لكنني وجدتك عالما فقيها عاقلا، فأمتنعت عن كتابة هذا الكتاب.
ومر الجاحظ بعد ثلاثة أيام فوجد دكان معلم الأطفال مغلقا، فسأل جيرانه عنه، فقالوا: أصل عنده ميت.
فزاره الجاحظ في بيته، فوجده حزينا باكيا، فسأله عن التي ماتت له، هل هي أمه، فقال لا، هل هي أخته فقال لا. إلى أن قال إنها حبيبته، وعرف الجاحظ إن هذا الرجل لم يرى هذه المرأة ولا يعرفها، إنما أحبها بسبب ما سمعه من رجل ينشد شعرا وهو يمر من أمام دكانه.
فقرر الجاحظ أن يبدأ الكتابة عن نوادر معلمي الأطفال، ويبدأ بهذا الرجل.
.....
وفي عام 1996 أقتنيت نسخة الذخائر التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة، ثمانية أجزاء، تحوي حكايات بعضها لم أجده في الطبعتين السابقتين، فقد وجدت فيها الحكاية التي حولها الأستاذ أحمد بهجت إلى مسلسل تلفزيوني. وحكايات أخرى سبق أن قرأتها في كتب أخرى، منها حكاية مصعب إبن الزبير مع عائشة بنت طلحة:
فقد وجد مصعب " عزة " في المدينة وكانت من أعقل النساء فقال لها:
- إني عزمت على زواج " عائشة بنت طلحة " وأريدك أن تذهبي إليها، متأملة لخلقها.
فسارت عزة إلي عائشة بنت طلحة، ثم رجعت إلى مصعب قائلة:
- رأيت وجها أحسن من العافية، لها عينان نجلاوان من تحتهما أنف أقنى وخدان أسيلان وفم كفم الرمانة وعنق كأبريق فضة، وتحت ذلك صدر فيه نهدان كأنهما رمانتان وتحت ذلك بطن أقّب، فيه صرة كأنها حق عاج ولها عجيزة كدعص الرمل وفخذان ملفوفتان وساقان كأنهما من المرمر عمودان، غير أني رأيت في رجلها كبرا وأنت تغيب عندها وقت الحاجة.
فلما وصفتها " عزة " بتلك الصفات تزوجها مصعب ودخل بها ثم أن " عزة " دعت عائشة ونساء قريش إلى بيتها، فغنت " عزة " ومصعب قائم بهذين البيتين:
وثغر البنات له نكهة لذيذ المقبل والمبتسم
وما ذقته غير ظني به وبالظن يحكم فينا الحكم
هذه الحكاية جعلتني- أنا - أعشق " عائشة بنت طلحة " فبحثتُ عنها في الكتب، وتحدثتُ عنها في روايتي المساليب، وصفت شخصية قريبة الشبه منها.
**
وفي أوائل عام 1985 نُوقشت روايتي " الجهيني" في كرمة ابن هانئ، ناقشها الأساتذة: محمد السيد عيد وأحمد محمد عطية وفاروق خورشيد، الذي فوجئت به يربط بين روايتي الجهيني وبين ألف ليلة وليلة، خاصة الجزء المصري منها؛ الذي يدور في الأحياء الشعبية، فيقول في مقالة له عن رواية الجهيني:
" ... ولهذا لعبت الأزدواجيات الممتزجة (الجنس بالفقر )، (حب الحياة بالأمل المظلم) دورها الرئيسي في هذه التكوينة الروائية لأن هذه الصورة التي نراها بإستمرار في حكايات المكان، وخاصة في ألف ليلة وليلة، في الأجزاء المتعلقة بالمدن، والصرخات التي أرتفعت ضد ألف ليلة وليلة، كان سرها بالدرجة الأولى – هو هذا الذي لم يفهمه تمام الفهم النقاد الذين هاجموا الليالي هذا الهجوم الكبير – ففي عمق المدينة يصبح التوالد الدائم هو الوجود، والعقم هو النهاية، ورمز التوالد الدائم في المكان بإستمرار هو الجنس، ربما كان الجنس بالنسبة للأفراد عنصرا واحدا من عناصر حياتهم، ولكنه بالنسبة للمكان هو البقاء الحقيقي للإستمرار الحقيقي للمكان " مجلة إبداع العدد 7 (السنة الخامسة) يوليو1987 ص 62
....
كنتُ أحب ألف ليلة وليلة من قبل أن يربط فاروق خورشيد بينها وبين روايتي الجهيني، لكن بعد ذلك تعلقت بها أكثر، وقررت أن أُخرج كل قصة منها على حدة، وأعيد كتابتها منفصلة عن غيرها بلغتي، كتبتُ الكثير جدا منها ونشرت الكثير منها، خاصة في مجلات الأطفال، وأعيد جمعها الآن لإصدارها في كتاب.
بعد صدور روايتي الجهيني بشهور قليلة، ذهبتُ مع الصديق حسين عيد إلى جريدة الأخبار في المبني القديم، كان الأستاذ جمال الغيطاني يجلس في مدخل المبني ينتظر الأتوبيس الذي سيقله إلى سكنه في حلوان، وما أن رآنا حتى وقف ورحب بنا، قائلا لي: لابد أن تبحث عن أصول وأعماق الحي الذي كتبت عنه الجهيني.
شُغلت بهاتين الملاحظتين: جو ألف ليلة وليلة – خاصة في المناطق الشعبية في المدن، وأن أتعمق في الحي الأثير عندي، والذي كتبت عنه ثلاث روايات: الصعود فوق جدار أملس والجهيني وجبل ناعسة.
كنتُ أسير مع أصدقائي الأدباء في الإسكندرية وأنا أحلم بأن أكتب رواية أنهج فيها نهج ألف ليلة وليلة، ظللتُ أفكر في هذا سنوات إلى أن كتبتُ رواية " ليالي غربال" حكايات منفصلة، نشرتها في الأول كقصص قصيرة، لكنها – في نفس الوقت - متصلة، ذكرت فيها أعماق وتاريخ، وتغيرات الحي، نشأته، وأزياءه، والتغيرات التي حدثت فيه بعد ثورة يوليو 52، والعادات والتقاليد التي أنتقلت من القرية - التي جاء أهلي منها - إلى هذا الحي. كتبتُ كل شيء عن العمل والتعليم والموت والزواج، كل شيء.
....
أما عن ظاهرة الهجوم على ألف ليلة وليلة من وقت لآخر، فهو أمر يدعو للدهشة، فمعظم كتب التراث مليئة بالكلمات التي يمكن أن يقال عنها؛ تخدش الحياء، فالأغاني ويتيمة الدهر والكثير من دواوين الشعر القديمة فيها من الفحش أكثر مما في الف ليلة وليلة.
فلماذا كتاب ألف ليلة وليلة بالذات الذي يهاجم من وقت لآخر؟
فألف ليلة وليلة كتاب شعبي تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته وتراءت من خلاله ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه أساليبه ولهجاته؛ فهو كالشعب. وكل شيء للشعب قد لقى من جفوة الخاصة وترفع العلية أذيً طويلا، أغفله الأدب فلم يتحدث عنه، وأحتقره الأدباء فلم يبحثوا فيه، فلما حقق العصر الحديث تغلُّب الديمقراطية وسيادة الشعوب، وأستتبع ذلك عناية الرومانتيكيين في الغرب بحياة السوقة والدهماء، عنايتهم بحياة الملوك والنبلاء. أخذ أدباؤنا يعطفون على أدب السواد، وسمعوا في رجفة الدهش إلى قول الأوربيين إن في أدبنا الموروث كنزا دفيناً أحمد حسن الزيات ص 42 كتاب في أصول الأدب الجزء الأول)
.....
مازال البعض يستخف بما هو شعبي، فقد رفضوا في عام 1939 أن يُطلق على فيلم إسم " الحارة " حتى أستبدلوه بإسم " العزيمة "، وهذا ما يحدث لكتاب ألف ليلة وليلة الشعبي، إنما الكتب الأخرى التي تتحدث عن الجنس أكثر منه؛ لا يقترب منها أحد، لأن بعضها له صلة بالدين، والبعض الآخر، يصعب عليهم فهمه، أو قراءته.
وذلك يذكرني بما حدث في سيارة الشركة التي كنتُ أعمل بها، إذ وضع السائق شريط كاسيت لداعية سكندري مشهور، عن حق الزوج على الزوجة، فكتبت زميلة لنا؛ شكوى إلى الشئون القانونية، ذكرت فيها: إن السائق يُسمعنا كل صباح كلمات أخجل منها فهي تخدش حيائي.
فكونوا في الشئون القانونية لجنة لسماع هذا الشريط، وفوجئوا بالداعية يتحدث في الدين، عن علاقة الرجل الجنسية بزوجته، وأشياء من هذا القبيل.
سألت صاحب المكتبة عنه، فقال لي مبتسما: أنت لسه صغير عليه.
قرأتُ ما كتبه طه حسين عنه؛ في كتابه الأيام فزاد شوقي إليه، فطلبت إستعارته من مكتبة البلدية، كتبتُ إستمارة إستعارة مذكور فيها اسم الكتاب ورقمه.
كان يجلس خلف المكتب بجوار الأسانسير الصغير الذي تنزل فيه الكتب؛ ساعي يرتدي بذلة صفراء، يقرأ اسم طالب الكتاب، من الكعب المرفق فيه. وينادي عليه، وعندما رآني؛ نظر إلي في دهشة، ورفض أن يسلمه لي، قائلا: لا، أنت مازلت صغيرا.
جلستُ في القاعة حزينا، وقرأتُ كتاباً آخر.
وشاهدتُ فيلما أمريكيا عن ألف ليلة وليلة بعنوان " علي بابا "، أظنه بطولة توني كيرتس، وأفلام أخرى عن ألف ليلة وليلة جعلتني متشوقا أكثر لقراءة الكتاب.
.. .. ..
قرأتُ حكاية علاء الدين والمصباح السحري، ربما كانت ضمن كتب القراءة المقررة علينا في المدرسة، وكتبوا في أسفل الصفحة: عن ألف ليلة وليلة:
ساحر يأتي من بلد بعيدة، يبحث عن صبي، هو الوحيد الذي يستطيع أن يأتي له بالمصباح السحري. الذي إذا مسسته؛ يخرج منه عفريتا عملاقا يقول لك: شبيك لبيك ،عبدك بين إيديك، ويحقق لك ما تتمنى مهما كان صعباً.
00
عندما عرفتُ طريق باعة الكتب القديمة في محطة مصر وشارع النبي دانيال، وجدت عندهم نسخا من ألف ليلة وليلة، الطبعة القديمة المزينة برسوم ساذجة، وورق أصفر، وكلمات مطبوعة بمطبعة حجر. تشبه الكتب الدينية القديمة الموجودة في مكتبة عمي. ليالٍ متفرقة غير مرتبة، إلى أن جمعتُها بعد وقت طويل جدا، ثم عثرت على أربع مجلدات تشمل كل الليالي، مطبوعة في بيروت في غلاف جميل، فقرأتُها مرة أخرى.
كنت أقرأ الليالي كل صباح، في سيارة الشركة التي أعمل بها، والتي تسير من محطة مصر إلى منطقة الطابية القريبة جدا من خليج أبي قير. أكثر من ساعة، أقضيها في القراءة، وكان يجلس بجواري شاب متدين يعمل في المصنع، يقرأ القرآن والكتب الدينية طوال الوقت، وفوجئ بي صائما في يوم إثنين من أيام رجب أو شعبان لا أذكر، فقال مندهشا: غريبة، أمال إيه حكاية ألف ليلة ولية التي تقرأها؟!
فأنا في نظره كافر ولا أصلي ولا أصوم ما دمت أقرأ ألف ليلة وليلة.
.. .. ..
أعجبتُ كثيرا بحكايات ألف ليلة وليلة التي كُتبت في مصر: علي بابا واللصوص الأربعين، وعلاء الدين أبو الشامات والمصباح العجيب، وهي التي أقتبسوا منها فيلم لص بغداد، ثم حكاية معروف الإسكافي، وأبو قير وأبو صير، (وقد أعددت لها سيناريو وحوار للأطفال، وصدرت في كتاب العربي الصغير، وذكرت الحكاية أيضا عندما كتبت مقالة عن حي أبو قير بالإسكندرية ) وحكاية كريم الدين وملكة الحيات، ومدينة النحاس .وأحمد الدنف، وحسن شومان وعلى الزيبق ودليلة المحتالة وزينب النصابة ( وهذه الحكايات بالذات كُتبت بين القرنين الثامن والعاشر للهجرة أيام حكم الماليك بفساده وحكم الأتراك بإستبداده؛ وقد أتيا على ما بقى من أركان الإجتماع وحللا أواصر الأخلاق، فلجأ البعض إلى الحيلة والخديعة، وأعتمد الناس في جمع الثروة على الحيلة والشعوذة والسحر، فتكدسوا في السوامر حول القصاص، وقد تجمع لهؤلاء من خلال القرون ذخيرة وفيرة من الأساطير والأسمار، فهبوا يدونونها ) أحمد حسن الزيات كتاب في أصول الأدب الجزء الأول.
وهذه الحكايات كانت تُحكى في القرى والأحياء الشعبية في المدن، فالحكاية المستمد منها حكاية علي بابا؛ كانت النسوة تحكيها لأطفالها هناك. وهي عن فلاح لم يجد قوتا لعياله، فذهب لأخيه الغني جدا؛ يطلب منه أن يعطيه كيلتين من القمح لإطعام العيال، وسيردهما إليه عند موسم الحصاد، لكنه رفض أن يعطيه شيئا. فلم يجد الرجل سوي أن يبيع عِجلته رغم حاجته الشديدة إليها، فسحبها وذهب بها إلى السوق، والظاهر أن السوق كان بعيد جدا عن القرية، فقد أحس الرجل بالتعب من قبل أن يصله؛ فربط عِجلته في شجرة، ونام بجوارها، وعندما إستيقظ من نومه، وجد نفسه تحت الأرض بين ناس يراهم لأول مرة، فأخذوا منه العِجلة وذبحوها وصنعوا منها وليمة فاخرة ودعوه ليأكل معهم، فأكل في شهية فقد كان جائعا، وأقاموا حلقة ذكر، وطلبوا منه أن ينشد، ولم يكن يحفظ شيئا من الإنشاد، لكنه عبر عن حاله قائلا: ماذا أفعل وقد أخذوا العِجلة مني؟!
فرددوا قوله في سعادة وإنتشاء، وبعد أن أنتهى الذكر، ملأوا جلد العِجلة بجنيهات ذهبية. وطلبوا منه أن يغمض عينيه، فوجد نفسه في المكان الذي نام فيه.
وعندما ذهب إلى زوجته، لم تجد " كيلة " لتعرف بها قدر الجنيهات الذهبية التى أتى زوجها بها، فذهبت إلى شقيق زوجها تستلف منه الكيلة، لكن زوجته وضعت بها قطعة عجين لتعرف ما الذي سيكيلونه، فوجدت في آخر الكيلة جنيه ذهب.
فذهب أخوه إليه وسأله عن سر هذا المال الذي جاءه فجأة، فحكى له الرجل الطيب ما حدث بالضبط.
فأخذ أخوه جاموسة ضخمة، وتظاهر بالنوم تحت ظل الشجرة، فوجد نفسه تحت الأرض وحوله الناس الغرباء، فذبحوا جاموسته ودعوه إلى الوليمة، لكنه أكل بدون شهية، وعندما أنشد في الذكر كان صوته قبيحا ومملا، فحشوا جلد جاموسته بقشر بصل.
.. .. ..
وحكى لي عمي: إن عمته في الصعيد كانت تحكي لهم حكاية " قِسم " التي كتبها عبد الفتاح مصطفي وأذيعت في الراديو وأشتهرت باسم "السلطانية "، وهي مستوحاة من القصة الشعبية التي حكيتها لكم الآن.
وقد شاهدتُ مسلسلا تلفزيونيا عن ألف ليلة وليلة كتبه الأستاذ أحمد بهجت، ودهشت مما أرى، فـيوسف شعبان كان معلما للأطفال. وهو جالس في دكانه سمع أحد المارة ينشد ويغني:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي عليّ فؤادي أينما كانا
فقال معلم الأطفال لنفسه: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها ما كان الشعراء يتغزلون فيها هكذا.
وتعلق قلبه بحبها. لكن بعد يومين عَبَرَ ذلك الرجل وهو ينشد هذا البيت:
لقد ذهب الحِمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلم إنها ماتت فحزن عليها ومضى له ثلاثة أيام وهو في العزاء.
دهشتُ مما أرى فقد قرأت طبعتين من ألف ليلة وليلة لم أجد فيهما هذه الحكاية، إنما قرأتُها في كتب الجاحظ، حيث زار أحد معلمي الأطفال في دكانه، وتحدث معه، فوجده عالماً بالقرآن وفقيها في النحو وشاعرا أديبا، فقال له:
- كنت قد أنوي أن أكتب كتابا عن نوادر معلمي الأطفال، لكنني وجدتك عالما فقيها عاقلا، فأمتنعت عن كتابة هذا الكتاب.
ومر الجاحظ بعد ثلاثة أيام فوجد دكان معلم الأطفال مغلقا، فسأل جيرانه عنه، فقالوا: أصل عنده ميت.
فزاره الجاحظ في بيته، فوجده حزينا باكيا، فسأله عن التي ماتت له، هل هي أمه، فقال لا، هل هي أخته فقال لا. إلى أن قال إنها حبيبته، وعرف الجاحظ إن هذا الرجل لم يرى هذه المرأة ولا يعرفها، إنما أحبها بسبب ما سمعه من رجل ينشد شعرا وهو يمر من أمام دكانه.
فقرر الجاحظ أن يبدأ الكتابة عن نوادر معلمي الأطفال، ويبدأ بهذا الرجل.
.....
وفي عام 1996 أقتنيت نسخة الذخائر التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة، ثمانية أجزاء، تحوي حكايات بعضها لم أجده في الطبعتين السابقتين، فقد وجدت فيها الحكاية التي حولها الأستاذ أحمد بهجت إلى مسلسل تلفزيوني. وحكايات أخرى سبق أن قرأتها في كتب أخرى، منها حكاية مصعب إبن الزبير مع عائشة بنت طلحة:
فقد وجد مصعب " عزة " في المدينة وكانت من أعقل النساء فقال لها:
- إني عزمت على زواج " عائشة بنت طلحة " وأريدك أن تذهبي إليها، متأملة لخلقها.
فسارت عزة إلي عائشة بنت طلحة، ثم رجعت إلى مصعب قائلة:
- رأيت وجها أحسن من العافية، لها عينان نجلاوان من تحتهما أنف أقنى وخدان أسيلان وفم كفم الرمانة وعنق كأبريق فضة، وتحت ذلك صدر فيه نهدان كأنهما رمانتان وتحت ذلك بطن أقّب، فيه صرة كأنها حق عاج ولها عجيزة كدعص الرمل وفخذان ملفوفتان وساقان كأنهما من المرمر عمودان، غير أني رأيت في رجلها كبرا وأنت تغيب عندها وقت الحاجة.
فلما وصفتها " عزة " بتلك الصفات تزوجها مصعب ودخل بها ثم أن " عزة " دعت عائشة ونساء قريش إلى بيتها، فغنت " عزة " ومصعب قائم بهذين البيتين:
وثغر البنات له نكهة لذيذ المقبل والمبتسم
وما ذقته غير ظني به وبالظن يحكم فينا الحكم
هذه الحكاية جعلتني- أنا - أعشق " عائشة بنت طلحة " فبحثتُ عنها في الكتب، وتحدثتُ عنها في روايتي المساليب، وصفت شخصية قريبة الشبه منها.
**
وفي أوائل عام 1985 نُوقشت روايتي " الجهيني" في كرمة ابن هانئ، ناقشها الأساتذة: محمد السيد عيد وأحمد محمد عطية وفاروق خورشيد، الذي فوجئت به يربط بين روايتي الجهيني وبين ألف ليلة وليلة، خاصة الجزء المصري منها؛ الذي يدور في الأحياء الشعبية، فيقول في مقالة له عن رواية الجهيني:
" ... ولهذا لعبت الأزدواجيات الممتزجة (الجنس بالفقر )، (حب الحياة بالأمل المظلم) دورها الرئيسي في هذه التكوينة الروائية لأن هذه الصورة التي نراها بإستمرار في حكايات المكان، وخاصة في ألف ليلة وليلة، في الأجزاء المتعلقة بالمدن، والصرخات التي أرتفعت ضد ألف ليلة وليلة، كان سرها بالدرجة الأولى – هو هذا الذي لم يفهمه تمام الفهم النقاد الذين هاجموا الليالي هذا الهجوم الكبير – ففي عمق المدينة يصبح التوالد الدائم هو الوجود، والعقم هو النهاية، ورمز التوالد الدائم في المكان بإستمرار هو الجنس، ربما كان الجنس بالنسبة للأفراد عنصرا واحدا من عناصر حياتهم، ولكنه بالنسبة للمكان هو البقاء الحقيقي للإستمرار الحقيقي للمكان " مجلة إبداع العدد 7 (السنة الخامسة) يوليو1987 ص 62
....
كنتُ أحب ألف ليلة وليلة من قبل أن يربط فاروق خورشيد بينها وبين روايتي الجهيني، لكن بعد ذلك تعلقت بها أكثر، وقررت أن أُخرج كل قصة منها على حدة، وأعيد كتابتها منفصلة عن غيرها بلغتي، كتبتُ الكثير جدا منها ونشرت الكثير منها، خاصة في مجلات الأطفال، وأعيد جمعها الآن لإصدارها في كتاب.
بعد صدور روايتي الجهيني بشهور قليلة، ذهبتُ مع الصديق حسين عيد إلى جريدة الأخبار في المبني القديم، كان الأستاذ جمال الغيطاني يجلس في مدخل المبني ينتظر الأتوبيس الذي سيقله إلى سكنه في حلوان، وما أن رآنا حتى وقف ورحب بنا، قائلا لي: لابد أن تبحث عن أصول وأعماق الحي الذي كتبت عنه الجهيني.
شُغلت بهاتين الملاحظتين: جو ألف ليلة وليلة – خاصة في المناطق الشعبية في المدن، وأن أتعمق في الحي الأثير عندي، والذي كتبت عنه ثلاث روايات: الصعود فوق جدار أملس والجهيني وجبل ناعسة.
كنتُ أسير مع أصدقائي الأدباء في الإسكندرية وأنا أحلم بأن أكتب رواية أنهج فيها نهج ألف ليلة وليلة، ظللتُ أفكر في هذا سنوات إلى أن كتبتُ رواية " ليالي غربال" حكايات منفصلة، نشرتها في الأول كقصص قصيرة، لكنها – في نفس الوقت - متصلة، ذكرت فيها أعماق وتاريخ، وتغيرات الحي، نشأته، وأزياءه، والتغيرات التي حدثت فيه بعد ثورة يوليو 52، والعادات والتقاليد التي أنتقلت من القرية - التي جاء أهلي منها - إلى هذا الحي. كتبتُ كل شيء عن العمل والتعليم والموت والزواج، كل شيء.
....
أما عن ظاهرة الهجوم على ألف ليلة وليلة من وقت لآخر، فهو أمر يدعو للدهشة، فمعظم كتب التراث مليئة بالكلمات التي يمكن أن يقال عنها؛ تخدش الحياء، فالأغاني ويتيمة الدهر والكثير من دواوين الشعر القديمة فيها من الفحش أكثر مما في الف ليلة وليلة.
فلماذا كتاب ألف ليلة وليلة بالذات الذي يهاجم من وقت لآخر؟
فألف ليلة وليلة كتاب شعبي تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته وتراءت من خلاله ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه أساليبه ولهجاته؛ فهو كالشعب. وكل شيء للشعب قد لقى من جفوة الخاصة وترفع العلية أذيً طويلا، أغفله الأدب فلم يتحدث عنه، وأحتقره الأدباء فلم يبحثوا فيه، فلما حقق العصر الحديث تغلُّب الديمقراطية وسيادة الشعوب، وأستتبع ذلك عناية الرومانتيكيين في الغرب بحياة السوقة والدهماء، عنايتهم بحياة الملوك والنبلاء. أخذ أدباؤنا يعطفون على أدب السواد، وسمعوا في رجفة الدهش إلى قول الأوربيين إن في أدبنا الموروث كنزا دفيناً أحمد حسن الزيات ص 42 كتاب في أصول الأدب الجزء الأول)
.....
مازال البعض يستخف بما هو شعبي، فقد رفضوا في عام 1939 أن يُطلق على فيلم إسم " الحارة " حتى أستبدلوه بإسم " العزيمة "، وهذا ما يحدث لكتاب ألف ليلة وليلة الشعبي، إنما الكتب الأخرى التي تتحدث عن الجنس أكثر منه؛ لا يقترب منها أحد، لأن بعضها له صلة بالدين، والبعض الآخر، يصعب عليهم فهمه، أو قراءته.
وذلك يذكرني بما حدث في سيارة الشركة التي كنتُ أعمل بها، إذ وضع السائق شريط كاسيت لداعية سكندري مشهور، عن حق الزوج على الزوجة، فكتبت زميلة لنا؛ شكوى إلى الشئون القانونية، ذكرت فيها: إن السائق يُسمعنا كل صباح كلمات أخجل منها فهي تخدش حيائي.
فكونوا في الشئون القانونية لجنة لسماع هذا الشريط، وفوجئوا بالداعية يتحدث في الدين، عن علاقة الرجل الجنسية بزوجته، وأشياء من هذا القبيل.