دراسة أحمد خالد توفيق ـ خيال علمي عربي.. هل هو خيال علمي؟

لأسباب عديدة ترتبط بالمجلات الشعبية والأفلام السينمائية، صار هناك نوع من الضباب الواضح حول تعريف أدب الخيال العلمي، وبالتالي صارت الصورة الذهنية الجاهزة لدى المثقف العادي هي صورة أطباق طائرة وغزاة من الفضاء وسيوف ليزر.. بالطبع يضم الخيال العلمي هذا (أوبرات الفضاء)، لكنه يضم ما هو أعقد منه بكثير.


هناك تعريفات عديدة للخيال العلمي نذكر القارئ بها:


- الخيال العلمي هو خيال ممزوج بالحقائق العلمية والرؤية التنبؤية، وبالذات هو ما يكتبه جول فيرن وهـ. ج. ويلز. (هوجو جيمزباك 1926)


- تخمين واقعي عن الأحداث المستقبلية المحتملة، تم تأسيسه على معرفة كافية بالعالم الخارجي والماضي والمستقبل، وفهم الطريقة العلمية. (روبرت هاينلاين 1982).

- الخيال العلمي هو مصالحة بين الأدب والعلم اللذين حسبهما الكثيرون متعارضين، يقوم أحدهما على الخيال، ويقوم الآخر على التجربة والاستقراء (يوسف الشاروني).

يعتمد القالب الأدبي للخيال العلمي على مجموعة من الأبنية الفكرية المعقدة، التي تتصاعد من كتاب لآخر في شكل تراث تراكمي، وهذه هي بالذات مشكلة الأدب العلمي مع السينما، لأن صناع أفلام الخيال العلمي لم يثقوا قط في هذا الرقي، ولهذا كانت هناك تيمة واحدة أجمعوا عليها في أفلامهم هي لشدة الغرابة أن العلم شيء لا يمكن الوثوق فيه. واستخدموه ببساطة ليحل محل الرعب القوطي القديم، فبينما كانت قوى الظلام هي المسئولة عن إيجاد المسوخ في أفلام الرعب، صار العالم المجنون هو المسئول. أي أن السينما نظرت إلى العلم باعتباره نوعاً من أنواع السحر.

للخيال العلمي أنواع عديدة، يمكن أن نحصر منها 20 نوعًا مع ملاحظة أن الخلط بينها يحدث كثيرًا:


1- غرباء بيننا:

ربما كان أول من اصطك مصطلح (غرباء) Aliens بمعناه المعروف، هو جون تاين عام 1955 في مجلة (الخيال العلمي)، لكن أول قصة تحكي عن غرباء فضائيين يزورون الأرض كانت ميكروميجا لفولتير (1750). حيث يأتي عملاقان فضائيان إلى كوكبنا ليسخرا من فلسفتنا وقيمنا كلها.

قصة (كوكبان 1897) بقلم كورد لاسفيتش تحكي عن أول لقاء بين بشر وكائنات فضائية، حيث يعيش رجال المريخ في القطبين الشمالي والجنوبي وهم يبدون مثلنا تماماً.

(أوديسا المريخ) لفاينباوم (1934) تحكي عن مريخي يدعى تويل يملك ذكاء الإنسان، لكنه لايملك تفكير البشر المستقبلي... يحاول البطل الاتصال به ويفشل، لكنه يجرب الرياضيات في النهاية. معظم كتاب الخيال العلمي يعتقدون لسبب ما أن الرياضيات هي طريقة التفاهم المثلى مع الفضائيين، أو ربما سيتم التفاهم بالجدول الدوري كما في (اللغة الكونية) لبايبر (1957) و(الصور لا تكذب 1957) لكاترين ماكلين. سبييلبرج في القصة التي كتبها عن فيلمه (لقاءات لصيقة من النوع الثالث) جعل التفاهم ممكناً بوساطة خمس نغمات موسيقية.

(سولاريس - 1961) للكاتب البولندي ستانسلاف ليم، الذي يعتبره البعض أعظم كاتب خيال علمي على الإطلاق. تحكي عن كوكب كامل هو في الحقيقة كائن فضائي تتجاوز قدراته العقل البشري. هذا نموذج فريد لأدب الخيال العلمي الذي لا يضيع وقته في التكنولوجيا، ولكنه يناقش قضايا فلسفية من زاوية الخيال العلمي الغريبة.


2- لربما حدث التاريخ بشكل مختلف:

تدعى هذه القصص باسم التاريخ البديل أو Allohistory، حيث تحدث واقعة ما في لحظة تاريخية معينة، وتسبب وقائع تراكمية تؤدي إلى تاريخ مختلف تماماً عما نعرفه.. ومن المصطلحات التي تطلق على هذا الطرز الشعبي من الخيال العلمي: الخيال المضاد Counterfactuals.. ماذا إذا؟ What if.... Uchronias..

ومن الأنواع الفرعية شديدة الشعبية لهذا النوع ما يتحدث عن الحرب العالمية الثانية، وماذا لو فاز المحور بها؛ مثل رائعة فيليب ديك (الرجل في القلعة الشامخة- 1962). أو الحرب الأهلية الأمريكية لو فاز بها الجنوب مثل (بنادق الجنوب) بقلم هاري ترتلدوف. إن بقاء هتلر حيًا حتى اليوم موضوع يتكرر بإفراط في قصص الخيال العلمي.

سبراج دي كامب قدم (خشية أن يهبط الظلام) عام 1939. أما روبرت هاريس، ففي عام 1992 جعل النازيين يربحون الحرب (أرض الجدود). وكذا نذكر (غربي عدن) بقلم هاري هاريسون عن الديناصورات التي ظلت حية (1984).

ثمة تعريف مناسب للتاريخ البديل قدمه روبرت هاينلاين في كتاب قوائم الخيال العلمي- 1982 هو : افتراض واقعي عن مستقبل غير محتمل تم تأسيسه على معرفة كافية بالعالم الحقيقي والحاضر والمستقبل، وعلى فهم أمين للطريقة العلمية.


3- العوالم البديلة

هذه فكرة محببة لكتاب الخيال العلمي؛ حيث يمكن للمرء أن يجد نفسه مع بعض الاختلاف في بعد آخر. الحقيقة أن هناك أساساً علمياً لنظرية العوالم المتعددة. إن ميكانيكا الكم تقول إن الجزيئات الدقيقة تقسم الكون إلى نسخ متعددة تختلف فقط في حدث صغير جداً، وينقسم الكون ويعاود الانقسام ويتفرع إلى شجرة مذهلة من الوقائع البديلة، وقد استنبط هو إيفرت هذه النظرية علمياً عام 1957 لكن سبقته نظريات فلسفية تقول الشيء ذاته.

لقد أحرق جيورديانو برونو عام 1600 لأنه اقترح أن هناك عدداً لا نهاية له من العوالم في الكون، ولهذا يمكن أن يوجد أي عالم محتمل.

في القرن العشرين يخطو أديب الخيال العلمي الأشهر (هاينلاين) خطوة جريئة جدًا عندما يقدم لنا مفهوم (العالم كأسطورة World - as -Myth) الذي يتصور أن كل كون هو فكرة في خيال مؤلف في كون آخر. وفي قصته (رقم الوحش 1980) جعل أبطال قصصه المختلفة يلتقون، بل يقابلون أبطال قصص لمؤلفين آخرين. كما ناقش هذه الفكرة في كتاب (القطة التي تعبر الجدران 1985).


4- تحدي الجاذبية

أقدم حلم للبشرية: الطيران.. منذ قصة (إيكاروس) في الأساطير الإغريقية الذي اقترب من الشمس بجناحين من شمع مع أبيه (ديدالوس)، ثم ذاب الشمع فهوى في المحيط، مرورًا بمحاولات عالم الواقع مثل (ابن فرناس) الليبي و(أتولننتال) الألماني، ظل هذا الحلم يؤرق الإنسانية.. في (رحلة إلى القمر- 1650) جعل سيرانو دي برجيراك بطل قصته يبتكر عدة طرق لبلوغ القمر. تضمنت إحداها بناء مركبة حديدية يركبها البطل ثم يلقي مغناطيساً في الهواء ليجذب المركبة لأعلى، وكلما ارتفعت أكثر، قام البطل بقذف المغناطيس من جديد. أي أنه كمن يرفع نفسه لأعلى بحزامه. وقد تبنى سويفت الفكرة نفسها في جزيرة لابوتا الطائرة في (رحلات جليفر). وقبلها فعلها البارون (منخاوزن) أكبر فشار في الأدب العالمي عندما رفع نفسه من شعره ليطير في الهواء.

عام 1827 نشرت في نيويورك قصة (رحلة إلى القمر) بقلم جورج تاكر.. هنا كانت مركبة الفضاء مغطاة بمادة ضد الجاذبية تشبة الكافوريت في قصة هـ. ج. ويلز (أول رجال على القمر- 1901) بعد 75 سنة. الكافوريت هي مادة تقاوم الجاذبية صنعها عالم اسمه (كافور)، وقد صنع منها كرة كاملة يمكن أن يستقلها الإنسان، وتغطى الكرة بصفائح قابلة للفتح من الداخل. هكذا تكشف جزءًا من الكرة يواجه الأرض عندها تنطلق في الفضاء ويجذبك القمر، وعندما ترغب في مغادرة القمر تغطي هذا الجزء فتتحرر من جاذبيته.

الحقيقة أن مقاومة الجاذبية بمادة خاصة وجدت شعبية مع نظرية أينشتاين، لكن المثال الأقوى لها هو قصة ويلز آنفة الذكر.


5- الانتقال الجزيئي

الانتقال عن بعد Teleportation هو الاسم الذي اختاره كتاب الخيال العلمي للطريقة التي تجعل إنساناً أو مادة تتلاشى في موضع وتتكون في موضع آخر. يبدو أن التقنية تقوم على مسح الجسم الأصلي لأخذ كل المعلومات عنه، ثم يتم استخدام هذه المعلومات للتجميع في مكان آخر، ربما باستعمال ذرات أخرى لا تمت للأصل بصلة، لكن فقط تكون موجودة هناك. بهذا يكون جهاز الانتقال أقرب إلى الفاكس لكنه يمارس عمله على ثلاثة أبعاد. ولابد من أن يدمر الأصل.. هنا تنشأ المشكلات لو ظل الأصل والصورة معاً. وقد أقر العلماء أن الانتقال عن بعد ممكن بقواعد ميكانيكا الكم في الغد البعيد بشرط أن يتم تدمير الأصل، وإن لم ينظروا للموضوع كله بجدية.

من أمثلة الانتقال الجزيئي: (نجوم معادية) قصة باول أندرسون عام 1959. (القمر الأحمر) قصة ألجيس بيرديس (1960). توماس ديش (الصدى حول عظامه - 1967) وزيلازني (اليوم نختار الوجوه 1973). ويبدو أن هذا النوع بدأ مع إدوارد بيج متشيل في (الرجل الذي لا جسد له) عام 1877.


6- خلف الحقول التي نعرفها:

هذا المصطلح beyond the fields we know اصطكه لورد دونسي ليصف القصص التي تحدث بالكامل في عوالم لا تنتمي إلى عالمنا. من هذه الأمثلة القوية (سيد الخواتم) لتولكين حيث سعى إلى خلق عالم كامل له إقناعه الخاص، تتم فيه عملية بحث بطولية. ولسبب كهذا أطلق ديفيد هارتويل على هذا العالم اسم (الخيالات التولكينية) في كتابه (عصر العجائب -1984). هذا عالم مستقل له تاريخه وجغرافيته وأجناسه، وهناك مسحة من السحر الذي خلق ليؤخذ كما هو.

من أنواع هذا الأدب: (بنت القمر الساطع) لماكلين أبي وشارديك لرتشالرد أدامز، ولويد الكساندر في (القطة التي أرادت أن تكون بشراً). أيضاً فرانك باومز في (كتب أوز)، وجون برانر (المسافر في ثياب سود)، وروبرت هوارد في سلسلة (كونان).


7- مدن المستقبل:

منذ البداية لم يكف أدب الخيال العلمي عن ابتكار المدن العملاقة المركزية، التي تحوي كل إبهار وتقدم وفساد بابل كما وصفها العهد القديم. في عام 1771 كتب الفرنسي لوي سباستيان مرسييه رواية (العام 2440) ليجعل باريس مدينة مستقبلية يوتوبية. أما مدينة لابوتا التي ابتكرها سويفت عام 1726 فكانت تطير ضد الجاذبية الأرضية، ولها طريقة مبتكرة لعقاب المدن الأرضية حين تقف فوقها لتحجب عنها الشمس. قد تكون المدن المستقبلية يوتوبيات أو يوتوبيات مضادة، وربما كانت الاثنين معاً.

يقول بيتر نيكولز: لقد تعامل الرعب القديم مع إعادة بعث الوحش، أما الرعب المعاصر فيتعامل مع رعب ضياع الوحش.. ضياع الدفء الحيواني الذي هو جزء مهم من بشريتنا. مهما كانت مدن المستقبل، فإن سكانها أناس باردون عقلانيون يفتقرون إلى الحب والشهوة والغضب.


7- السايبر بانك

موجة السايبر بانك هي الموجة التي بدأت تنحسر قبل أن يفهم الناس معناها بالفعل. هذا المصطلح ابتكره الكاتب بروس بثك وصار شهيراً حين استعمله كاتب آخر هو ويليام جيبسون في رواية (ممزق الأعصاب) Neuromancer التي اصطك فيها مصطلحاً آخر شهيراً هو الفضاء السايبري Cyberspace. لكن سرعان ما استخدم مصطلح Cyberpunk بوفرة وتشوه، وصار يعني عدة أشياء في الوقت ذاته، حتى أن مؤسسيه اعترفوا بأنه قد استنفد أغراضه ومات. كان الصحفي بروس سترلينج هو داعية هذا النوع الجديد من الخيال العلمي، وقد أثر على كل شيء من السينما إلى الثياب إلى أغاني البوب. هذه التيمة تتكون من مفردات متجاورة لا تنفصل (الكمبيوتر، التسلل hacking، اليوتوبيا ونقيضها، السايبورج التمرد على المجتمع). من أمثلة السايبربانك (عدو النظام) لبرايان ألديس. (الرجل الراكض) لستيفن كينج و(ابن الجورجون) لستيف بيمس و(451 فهرنهايت) لراي برادبوري و(عالم جديد شجاع) لألدوس هكسلي.


8 - اليوتوبيا

لو اعتبرنا الخيال العلمي هو أدب البحث عن يوتوبيا، فلابد من اعتبار جمهورية أفلاطون نوعاً مبكراً جداً من الخيال العلمي. تلك الجمهورية التي أنشأها أفلاطون عام 360 قبل الميلاد، ويبلغ تعدادها 5040 مواطناً، وهو من مضاعفات السبعة.. معنى يوتوبيا باليونانية هو لا مكان.

عام 1516 نشر سير توماس مور باللاتينية قصته (يوتوبيا) مما يمنحه لقب كاتب خيال علمي هو الآخر. ومن عباءة توماس مور خرج جون فالنتين أندريه بقصته (كريستيانوبوليس 1619). ثم قدم بيكون (أطلنطس الجديدة 1627). هنا يزور البطل جزيرة بها كلية للبحث العلمي (بيت سليمان) حيث تجرى تجارب على التنبؤ بالطقس والتجميد وخزانات الأكسجين والغواصات والطائرات.. وهناك رسل بين الجزر اسمهم تجار النور.

تنبأ هالدين في مقال شهير عام 1928 بأن الإنسان سيحاول حتماً مغادرة الأرض. ولسوف يفشل عدة مرات قبل أن ينجح في استيطان كواكب ليست بالضرورة حول شمسنا. لا توجد حدود لمحاولات الإنسان السيطرة على كل ذرة وكل حزمة طاقة في الكون.


9- نقائض اليوتوبيا Dystopias

كثيراً ما يفاجئنا الخيال العلمي المعاصر بيوتوبيات نقيضة Dystopia.. كان الخيال العلمي لا يعرف إلا اليوتوبيا الفاضلة حتى انقض عليه ويلز في إنجلترا ولاسفيتش في ألمانيا وبدأوا يصورون مستقبلات كابوسية، حيث لا يوجد أي نوع من الإشباع الطبيعي للناس البسطاء. ثم لحق بهما هكسلي وبرادبوري ولندن، وبالتالي تعلمنا أن ننظر إلى المستقبل بخوف وتوجس. لقد لاحظ برادبوري أن أول استخدام للذرة كان للقتل الجماعي وليس لأغراض سلمية، وآمن ويلز أن التقدم العلمي خطر داهم بالنسبة لبشرية لم تنضج إنسانياً بعد. من الطريف هنا أن نلاحظ أن السينما الخيالية لم تتعامل قط مع اليوتوبيا وإنما بدأت بالتعامل مع اليوتوبيا النقيضة من البداية، ويرى بيتر نيكولز أن السبب في هذا هو أنه من العسير على فن بدأ أيام الحرب العالمية الأولى، أن يؤمن بأننا نتقدم باطراد، وأن حال البشرية يصير إلى الأفضل. لم تستطع السينما أن تتكلم عن الآلة التي ستخلصنا، بل تكلمت عن الآلة التي ستستعبدنا


من هذه اليوتوبيات النقيضة:

(آلة الزمن) لويلز (1895) حيث تحولت الطبقة العاملة إلى وحوش آكلة للبشر تعيش تحت الأرض، وتتغذى على الطبقة البرجوازية التي تحولت إلى مجموعة من الحملان. (نحن) ليفجيني زاميتين (1929). (عالم جديد شجاع) لهكسلي (1932). وهي تتحدث عن يوتوبيا نقيضة كلها هندسة جينية ورقابة ومحو لفكرة الأسرة. تم إلغاء الجنس في هذا المجتمع ولم يعد ثمة مفهوم محترم إلا الإنتاج. الإله الأوحد في هذا العالم هو فورد (ربما فرويد) ويعيش الناس راضين باستعمال دواء اسمه سوما، يعينهم على النوم والنسيان.. ويوجد إنسان (متوحش) واحد في المتحف... تنتهي القصة القاتمة إما بانتحار أبطالها أو تخديرهم بوساطة الحكومة أو نفيهم. لا ننسى كذلك جورج أورويل في 1984 التي كتبها عام 1948. و(اليوم الأمثل) بقلم إيرا ليفين (1970).


10- الإدراك الفائق للحواس

هنا يتم استعمال حواس غير الخمس التي نستعملها كي ندرك العالم من حولنا. ويقال إن هذه الحواس كانت لدينا جميعاً ثم انقرضت. في قصة (الورثة) لويليام جولدنج نجد إنسان النياندرثال ذا الشفافية القادر على التخاطر يتحول إلى كروماجنون الصاخب الثرثار.. نحن.. وبالتالي يكون الكلام في مفهوم جولدنج تراجعاً في الحضارة.

أطلق على هذا الموضوع أيضاً اسم باراسيكولوجي، ولهذا يطلق عليه بعض كتاب الخيال العلمي اسم Psi أو psionics

ويشمل التخاطر.. قراءة الأفكار.. الخ..

التخاطر يعطي مزية داروينية هائلة لصاحبه، ولو كان له وجود حقيقي في عالمنا لكان عدد من يمارسونه هو الأغلب.. بينما هم في الحقيقة نادرون جداً إن كان لهم وجود.. وهذا يهدم الفكرة من أساسها.


11- الخيال العلمي الصعب Hard Sci-Fi:

هذا طراز من الخيال العلمي الصارم، بالغ الدقة يتم تأسيسه على مفهوم علمي حقيقي.

مثلاً في قصة كليمنت (مهمة الجاذبية- 1954)، نرى كوكب مسلكين حيث الجاذبية تفوق الأرض 300 مرة في القطب وأقل بثلاث مرات عند خط الاستواء. ويقوم أهل الكوكب بالاستكشاف وهم يخاطبون الأرضيين، ويحكون لهم عن ملاحظاتهم. فنجد أن علم الفلك والفيزياء والكيمياء غاية في الدقة. هنا يقع على عبء كاتب الخيال العلمي أن يقدم قصة مسلية وأن يكون دقيقاً.

من أمثلة هذا النوع كذلك باول أندرسون في (كوكب يدعى كليوباترا 1974).


12- الأبدية بمعناها المادي:

هذه التيمة قديمة تعود إلى ملحمة جلجاميش الفارسية (حوالي 2700 قبل الميلاد) عن ملك قوي يبحث عن الخلود في أرض غريبة. وفي الأوديسة تعرض كاليبسو الخلود على أوديسيوس. ثم من جديد نقابل الخالدين الذين يولدون بوحمة حمراء على جبينهم في قصص جليفر لسويفت (1726) حيث يؤدي بهم الخلود إلى أن يتحولوا إلى مخلوقات مرعبة بشعة يتحاشاها الجميع، وهي نظرة للخلود تمتاز بالأصالة والجدة.

من ضمن هذا الموضوع الإحياء المؤقت.. إنه تبريد الجسم البشري بحيث لا يشيخ Cryonics.. نرى هذا المفهوم في قصة مرسييه (العام 2440) التي كتبها عام 1771. و(ريب فان وينكل) لواشنجتون إرفنج (1819). لكن أدق معالجة لها كانت في قصة إدمون دابو (الرجل ذو الأذن المكسورة 1861) حيث يتم تجميد رجل مصاب بمرض عضال إلى أن تمر قرون ويأتي أطباء بارعون بدلاً من أطباء العصر الجهلة. هذا المفهوم يتعامل مع الموت باعتباره مرضاً يمكن الشفاء منه فيما بعد.


13- الاختفاء:

هذه النوعية خرجت من الأساطير التي يفوز فيها البطل دومًا بخوذة تجعله خفيًا، كما حدث مع برسيوس، أو طاقية الإخفاء في تراثنا، ثم دخلت تراث الخيال العلمي بشكل رسمي مع (الرجل الخفي) لويلز.


14- الأراضي المفقودة:

يقول توماس كلاريسون في كتابه (نحو تأريخ الخيال العلمي): إن البريطانيين هم أول من ابتكر فكرة الأراضي والشعوب المفقودة التي غفل عنها الزمن، حينما استولت على البريطانيين المخاوف من توسع الإمبراطورية. وقد استعمل رايدار هجارد هذه التيمة بنجاح عظيم، بينما قدمها إدجار رايس بوروز مراراً وتكراراً. هنا دائماً ما توجد أرض لم يرها أحد بعد مثل أتلانتيس وليموريا. لسوف نجدها بوضوح في يوتوبيا توماس مور، ورحلات جليفر لسويفت. كما نجدها عند صمويل بتلر في (إريهون 1880) وهي كلمة Nowhere لو لفظتها بالعكس. هنا راعي غنم نيوزيلندي يقتاده أحد الأهالي إلى تلك الأرض حيث كل شيء جميل طاهر، والرذائل تعامل كمرض مثل البرد. بالمثل قدم رايدار هجارد (كنوز الملك سليمان 1885) و(هي 1887).

الآن مع التقدم العلمي، نجد أن رقعة هذه المدن المفقودة بدأت تضيق وتبتعد عن إفريقيا وأمريكا الجنوبية المكان المعتاد لها، لتنحصر تحت البحر تقريباً.


15- الخيال العلمي الشهواني

هناك كتاب خيال علمي كثيرون يهتمون كذلك بالأدب الشهواني. بالنسبة للجادين منهم هي مجرد طريقة لبيع أفكار أكثر عمقًا. من هؤلاء تشستر أندرسون صاحب (القصر الوردي) و(مخلص لثمان ساعات)، وريمون بانكس (مغتصبو القمر 1979). على كل حال صار ارتباط الفضاء بالجنس Space erotica نوعاً خاصاً من الأدب، ربما يظهر أكثر في القصص المصورة.


16- أوبرات الفضاء

هي تلك التمثيليات الفضائية التي لا نهاية لها.. وقد عرفها كاتب الخيال العلمي برايان ألديس بأنها تتضمن التالي: النمط تقليدي..القصة بأكملها تدور في أماكن لم يرها أحد من قبل.. بعض الحقيقة العلمية تشوهها الميلودراما.. لابد أن تكون الأرض في ورطة.. لابد من بحث.. لابد من مواجهة الكائنات الغريبة.. هناك سفن تنطلق في الظلام.. لقد كان (حرب الكواكب) جيداً لكنه ما زال يلعب الخيال العلمي بمنطق أوبرات فضاء العشرينيات حيث السفن تشق الفضاء بسرعة البرق، ورجال أقوياء يحملون مدافع الليزر يحاربون بها الغرباء ويكسبون دوماً. وخلاصة هذه القصص كما يعرفها الناقد فيليب ستريك هو هناك الكثير من القذارة في الفضاء الخارجي، ومن الخير لنا أن نبقى حيث نحن ولا نحاول الخروج.


17- السوبرمانات

شخصية سوبرمان التي ابتكرها سيجل ورسمها شوستر في أوائل الثلاثينيات لأكشن كوميكس ذات أهمية بالغة بالنسبة لأدب الخيال العلمي الأمريكي، بحيث يصعب تماماً فصل هذا النوع عن أدب الشرائط المصورة Strips والأدب المكتوب. ومن الذين كتبوا عن السوبرمان بشكل جدي ويلز في (طعام الآلهة - 1904.).


18- السفر عبر الزمن

إن الكتاب الذي تحدث بالتفصيل عن السفر في الزمن وبقوانين الفيزياء الحديثة هو كتاب بول ناهين (آلات الزمن: السفر عبر الزمن في الفيزياء والخيال العلمي 1993). أما بالنسبة للخيال العلمي فقد كانت هذه التيمة مما أثار شغف الكثيرين، ومنهم الكاتب النرويجي هرمان فيسل في (قصة العام 7603) (1781) حيث نرى السفر عبر الزمن من الحاضر للمستقبل، ثم القصة الأشهر (آلة الزمن لويلز 1895). بينما نرى السفر من المستقبل إلى الحاضر في (طيف غير معتاد 1879) لإدجار بيج ميشيل.

من القصص الأخرى المهمة (الإنسان في زمنه 1970) و(المحارب الصغير المسكين 1982) لبريان ألديس و(السؤال الأخير 1988) لأزيموف.


19- في أعماق البحر

ثمة اعتقاد شائع أن جول فيرن هو أول من وصف الغواصة في (عشرون ألف فرسخ تحت البحر 1870 )، بينما الحقيقة أن الأمريكي روبرت فلتون اخترع غواصته عام 1801 وكان اسمها نوتيليوس بالضبط كغواصة القصة. بل إن تيوفيل جوتييه كتب عام 1848 عن غواصة في قصته (النجمان) أي قبل فيرن بعشرين عاماً ونيف.

قدم جيمس بليش (توتر سطحي 1952) حيث يهبط رجال الفضاء على كوكب مهجور يغمره الماء، وتنتقل شخصياتهم إلى كائنات وحيدة الخلية. كذا قدم آرثر كلارك (المدى العميق 1957).


20- نهاية العالم

هنا لم تعد في الأرض حضارة.. إنه يوم القيامة.. ربما هي الأرض بعد حرب نووية أو وباء أو نضوب الطاقة أو غرق القارات.. هذا نمط القصص التي يطلقون عليها (بعد المحرقة). ربما نشأ هذا الفرع من الخيال العلمي من قصة جرينفيل (الرجل الأخير) التي كتبها عام 1805. ثم جاءت قصة (أوميجا: آخر أيام الأرض) التي كتبها عالم الفلك كاميل فلاماريون عام 1893. ومن الكتب المهمة التي عالجت هذه التيمة:

(الرجل الأخير) ماري شيللي، (السحابة القرمزية) لجاريت سيرفيس : هنا يغمر الطوفان الأرض ويفر بعض الناس بفلك ثان كفلك نوح، (الطاعون القرمزي 1915) لجاك لوندون.. هنا يقضي الوباء على البشرية. (حين تصطدم العوالم 1933) بقلم فيليب ويلي: كوكبان يقتربان من الأرض. أحدهما سيدمرها والآخر أملنا الوحيد.

من القصص المهمة جداً عن عالم ما بعد المحرقة، قصة هارلان إيليسون (ولد وكلبه) التي ترينا كيف أن حاجات الإنسان بعد المحرقة قد تتحول لأشياء مقززة جداً بالنسبة لنا.. الاغتصاب وأكل لحم البشر. بصفة عامة برهنت قصص ما بعد المحرقة عن حيويتها وأهميتها. من الممتع دوماً كما يقول بيتر نيكولز أن ترى مجتمعاً ذا اهتمامات بيروقراطية، وقد تحول إلى قطع حديد صدئ ومبان مهدمة وكتب بهتت ألوانها.


العرب والخيال العلمي

يمكن القول بلا خطأ كبير إن الحركة الأدبية العربية لم تتعامل قط مع الخيال العلمي بجدية، كما أنه لم ينمُ قط ليتخذ شكل تيار.. هناك محاولات فردية من الكتاب ومحاولات فردية من النقاد. فهل الخطأ يكمن في المتلقي أم في هذا الأدب ذاته؟.. وهل ما يناسب الغرب لا يناسب المتكلمين بالعربية؟.. من الممكن أن يكون التفسير المتفائل هو حداثة التجربة الروائية العربية أصلاً، بحيث لم تصل بعد لمرحلة التخصص في أنواع أكثر انتقائية مثل الخيال العلمي والأدب البوليسي وأدب الجاسوسية.. الخ.. ومن الممكن أن يكون التفسير المتشائم هو أن أدب الخيال العلمي قد ولد خاسرًا في بيئة تستهلك العلم ولا تنتجه.

الأسماء محدودة وتتكرر في كل مرة نتكلم فيها عن هذا الموضوع: من السعودية نجد الأديب أشرف إحسان الفقيه الذي أصدر مجموعات عدة من قصص الخيال العلمي هي (صائد الأشباح 1997) و(حنينًا إلى النجوم 2000 ) و(نيف وعشرون حياة 2006). من الجزائر تأتي الأديبة صافية كتو التي قدمت قصص (المحققة الفضائية 1967) و(القمر يحترق 1968) و(الكوكب البنفسجي 1969). ومن المغرب نجد أحمد عبدالسلام البقالي صاحب رواية (الطوفان الأزرق) الذي دخل في جدل مع نجيب محفوظ حول قيمة هذا الأدب، ومن لبنان قاسم قاسم (لعنة الغيوم). في سورية نجد الدكتور طالب عمران الذي صدر له ما يزيد على 52 كتابا في هذا المجال، وقدم برنامج (آفاق علمية) في التلفزيون السوري لمدة تزيد على 14 سنة، وقد صدرت دراسة موسعة عن أعماله للباحث السوري محمد عزام.

عندما نتحدث عن تجاهل هذا الضرب من الأدب، يجب استثناء الاهتمام السوري الواضح به، كما رأينا في دورة ابن طفيل التي أقيمت على هامش معرض مكتبة الأسد الدولي للكتاب، والاسم نفسه يذكر العالم بالتراث العربي ممثلاً في (أسطورة حي بن يقظان) التي هي الأب الشرعي لروبنسن كروزو. كذلك كانت هناك ندوة (لوقيانوس السوري) التي كرمت المصري نهاد شريف وأشرف عليها د. طالب عمران، وناقشت مجموعة أبحاث جادة عن أدب الخيال العلمي العربي.


أدبيات عربية

على مستوى الأديبات تنفرد الأديبة الكويتية طيبة أحمد الابراهيم بكتابة أدب الخيال العلمي، فقد كتبت خمس روايات في هذا المنحى، صدرت الرواية الأولى منها في الكويت عام 1968 وهي (الانسان الباهت)، كما صدر لها عام 1991 روايتان هما: (الإنسان المتعدد) و(انقراض الرجل). وقد كانت أول كاتبة عربية تنبأت بعملية الاستنساخ على الإنسان قبل تطبيقه العملي عام 1997. كذلك هناك الأديبة لينا كيلاني من سورية ولها ما يزيد على الأربعين عملاً في مجال الخيال العلمي.

في مصر كانت هناك محاولات لتوفيق الحكيم (في سنة مليون) و(رحلة إلى الغد)، ويوسف عز الدين عيسى في أعماله الإذاعية التي فقد معظمها مع الأسف، وفي الستينيات ظهر من كتبوا الخيال العلمي وهم يعرفون ما يفعلون جيدًا.. من هؤلاء مصطفى محمود بروايتيه (العنكبوت 1965) و(رجل تحت الصفر 1967).. ثم نهاد شريف الرائد الأهم في أدب الخيال العلمي، والأديب الوحيد الذي كرس نفسه لهذا النوع من الأدب فحسب، في روايته (قاهر الزمان) عام 1972 ومجموعته القصصية (رقم أربعة يأمركم) عام 1974 و(سكان العالم الثاني) عام 1977 و(الشيء) عام 1989 ورواية (ابن النجوم) عام 1997. كما كانت هناك العديد من الروايات بقلم صبري موسى وايهاب الأزهري وأميمة خفاجى التي تحدثت عن الهندسة الوراثية في روايتها (جريمة عالم) التي نشرت في موسكو عام 1990.. وغيرهم، وقد استعرضهم يوسف الشاروني بشكل موفق في كتابه المهم (الخيال العلمي في الأدب العربي). ثم جاءت كتابات رؤوف وصفي فبدأ بمجموعته القصصية (غزاة من الفضاء 1979)، كما قدم د. نبيل فاروق عددًا كبيرًا من العناوين في سلسلة (ملف المستقبل) ناقش فيها بجدية تامة كل تيمات الخيال العلمي تقريبًا.

التجاهل النقدي لهذا النوع من الأدب مع ضعف الإقبال الجماهيري ظاهرتان تستحقان البحث. يقول الأديب السعودي الشاب أشرف إحسان فقيه: «فكرة العمل القصصي عند المتلقي العربي تقوم علي تيمات محددة كالهزيمة السياسية أو الجنس أو تفصيل لواعج النفس والخاطر. وحين تحاول أن تلتف حول أي من هذه الرموز فأنت تخاطر بأن تصنف نفسك إما كدخيل أو كمغامر، واحتمال أن تجد نفسك منبوذاً من قبل سدنة وسطك الثقافي وارد جداً». آخر ما عرفته عن أشرف الفقيه هو أنه في كندا، ولا أعرف إن كان قد عاد أم استقر هناك بصورة دائمة.

يمكن أن نضيف كذلك أن العقلية العربية بطبعها تنفر من ضرب الأدب الذي يصف نفسه منذ البداية بأنه (خيال).. وكما يقول فاروق خورشيد في كتابه عن (أديب الأسطورة عند العرب)، فإن الراوي العربي القديم كان بحاجة دائمة إلى إقناع مستمعيه أن ما يحكيه أحداث واقعية شهدها بنفسه وإلا فقد اهتمامهم.. بالتالي انتحل الرواة قصصًا كثيرة إشباعًا لملكة الخيال عندهم، لكن الجمهور تناقلها كحقائق تاريخية بعد ذلك.


نظرة دونية

يقول عميد الخيال العلمي العربي نهاد شريف: الدولة تعتبر الخيال العلمي أدبًا دونيًا، وقد اتضح لي ذلك الأمر جليًا عندما تم تنصيبي عضوًا باللجنة العلمية في المجلس الأعلى للثقافة. إضافة إلى أن دور النشر الخاصة لا تقبل ذلك النوع من الادب، وإن خاضت تلك التجربة الشائكة فإنها تعترض أحيانًا على أمور عديدة في النص.

مشكلة أخرى طرحها الناشر المصري محمد هاشم، هي عدم وجود قواعد معرفية يُبنى عليها أدب الخيال العلمي بالعالم العربي، ولا حتى قواعد علمية للكاتب. أي أننا نتعامل مع فن لا ندرك مقاييسه ولا مواصفاته بشكل واضح. د. طالب عمران أديب الخيال العلمي السوري الأشهر يقول: «إن أدب الخيال العلمي في الوطن العربي مغيب لقصور النقد عن ملاحقة كتابه».

يقول الناقد والأديب يوسف الشاروني الذي كتب كتابًا كاملاً عن أدب الخيال العلمي العربي: «هناك الأمية الثقافية، أضف إلى ذلك الأمية العلمية، لكن هناك كتابًا تجاوزوا ذلك. معظم النقاد يتعاملون مع هذا الأدب باعتباره درجة ثانية، وهذا تقصير وتكاسل منهم، لأنهم يجرون وراء السائد ويهملون الجديد». يرى زهير غانم من سورية أنه يوجد لدينا أدباء خيال علمي لكن ليس لدينا أدب خيال علمي؛ بسبب حداثته وطزاجته وطفولته وبداياته المتعثرة نتيجة الظروف القاهرة: التخلف والأمية وغياب البنى العقلية والبحث العلمي وتغييب الإصلاح والديمقراطية وحرية الرأي. كلام صحيح تمامًا، لكنه يعقد الأمور أكثر، فبهذا لن يكون لدينا أدب خيال علمي إلا لو صرنا قومًا آخرين!.


أحمد خالد توفيق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...