قصة قصيرة أجاثا كريسيتى ـ ثُمّ لَم يَبْقَ أحَدٌ ـ الفصل الرابع عشر

الفصل الرابع عشر

-1-

حملوا جثة القاضي وارغريف إلى غرفته في الطابق العلويّ وسجّوه على سريره، ثمّ نزلوا ثانية ووقفوا في القاعة ينظر بعضهم إلى بعض.

قال بلور بصوت رصين: ماذا نفعل الآن؟

فقال لومبارد بسرعة: نأكل شيئاً، لا بدّ لنا أن نأكل شيئاً.

مرة أخرى ذهبوا إلى المطبخ، ومرة أخرى فتحوا علب طعام محفوظ وتناولوا الطعام بطريقة آليّة ودون تذوّق تقريباً. وقالت فيرا: لن آكل طعامًا معلّباً مرة أخرى.

انتهوا من تناول وجبتهم ثم جلسوا حول طاولة المطبخ ينظر بعضهم إلى بعض، وقال بلور: بقي أربعة منّا فقط. تُرى مَن سيكون التالي؟

حدّق إليه آرمسترونغ وقال بطريقة آلية تقريباً: يجب أن نكون حذرين.

ثم توقف عن الكلام فأومأ بلور موافقاً وقال: هذا ما قاله، وها هو ميّت الآن.

قال آرمسترونغ: أودّ لو أعرف كيف حدث هذا.

أطلق لومبارد سباباً ساخطاً وقال: يا لها من خدعة ماكرة لعينة! وُضِعت تلك الأعشاب البحرية في غرفة الآنسة كلايثورن فأدّت الدور الذي وُضِعت من أجله تماماً. الجميع هُرعوا إلى الأعلى ظنّاً منهم أنّها قد قُتلت، وخلال الفوضى التي سادت قام أحدهم باقتناص العجوز وهو في غفلة من أمره.

فقال بلور: لماذا لم يسمع أحدٌ صوتَ الرصاصة؟

فهزّ لومبارد رأسه وقال: كانت الآنسة كلايثورن تصرخ والريح تزأر ونحن نجري هنا وهناك ونصيح... لم يكُن ممكناً سماعها.

وتوقف لحظة ثم أكمل قائلاً: ولكن هذه الخدعة لن تنطلي علينا ثانية. على القاتل أن يجرب شيئاً آخر في المرة القادمة.

قال بلور: الأرجح أنه سيفعل.

كانت في صوته نبرة مقلقة. وتبادل الرجلان النظرات فيما قال آرمسترونغ: أربعة منّا، ولا نعرف من الذي...

قال بلور: أنا أعرف.

وقالت فيرا: ليس لديّ أدنى شك.

فقال آرمسترونغ ببطء: أعتقد أنني أعرف بالفعل.

وقال فيليب لومبارد: أعتقد أن لديّ فكرة جيّدة الآن.

ونظر الجميع بعضهم إلى بعض مرة أخرى، ثم نهضت فيرا مترنحة وقالت: أشعر بأنني لا أطيق نفسي. يجب أن أذهب إلى النوم؛ أنا منهكّة تماماً.

وقال لومبارد: وأنا أيضاً. لا جدوى من الجلوس هنا ليراقب بعضنا بعضاً.

قال بلور: لا مانع لديّ.

وغمغم الطبيب: هذا أفضل ما يمكن عمله، رغم أنني أشكّ أن أحداً منّا سيستطيع النوم.

وتحركوا باتجاه الباب في حين قال بلور: تُرى أين ذلك المسدّس؟

-2-

صعدوا الدرَج إلى الطابق العلويّ، وإلى حد كبير كانت الخطوة التالية تشبه مشهداً في مسرحية هزلية؛ فقد كان كُل منهم يمسك بمقبض باب غرفته، ثم دخلوا جميعاً غرفهم وأغلقوا الأبواب في وقت واحد كأنما حدث هذا بإشارة واحدة، وسُمِعت أصوات المزاليج والأقفال وتحريك قطع الأثاث.

أربعة أشخاص يملؤهم رعب مُميت تَتْرسوا في غرفهم حتى الصباح.

-3-

تنفس فيليب لومبارد بارتياح بعد أن وضع مقعداً تحت مقبض الباب، ثم مشى باتجاه طاولة الزينة، وعلى ضوء الشمعة المرتعش تفحّص وجهه بفضول وهمس يخاطب نفسه: هذه الحكاية تركت أثارها عليك تماماً

وفتح فمه فجأة بابتسامه تشبه تكشيرة الذئب، ثم ذهب إلى سريره فوضع ساعة يده على الطاولة المجاورة للسرير، ثم فتح درج الطاولة ووقف هناك ينظر إلى المسدّس الذي كان في داخل الدرَج!

-4-

استلقت فيرا كلايثورن على سريرها . كانت الشمعة لا تزال تشتعل إلى جوارها ولكنها لم تكُن قادرة على استجماع شجاعتها لإطفائها؛ كانت خائفة من الظلام، وقالت لنفسها مرة تلو المرّة: لا خوف عليك حتى الصباح، لم يحدث شيء ليلة أمس ولن يحدث شيء الليلة، لا شيء يمكن أن يحدث ؛ أنتِ في غرفة مغلّقة بقفل ورِتاج ولا أحد يستطيع الاقتراب منك.

وفكرت فجأة قائلة لنفسها: طبعاً أستطيع البقاء هنا، هنا في الغرفة المغلّقة. الطعام ليس مهمّاً! أستطيع البقاء هنا في أمان حتى تصل النجدة، حتى لو تأخر ذلك يوماً أو يومين.

تبقى هنا ، نعم . ولكن هل تستطيع – فعلاً – البقاء ساعة بعد ساعة دون التحدث مع أحد ودون عمل أيّ شيء غير التفكير فقط؟ ستبدأ بالتفكير في كورنوول ، في هوغو، وفيما قالته لسيريل ذلك الولد القميء المتذمر الكريه الذي يضايقها دائماً.

  • آنسة كلايثورن، لماذا لا أستطيع السباحة إلى الصخرة؟ أنا أستطيع، أعرف أنني أستطيع.
هل كان صوتها هو الذي أجابه قائلاً: " طبعاً تستطيع يا سيريل، تستطيع فعلاً، أنا أعرف ذلك"؟

  • إذن هل أذهب يا آنسة كلايثورن؟

  • حسناً، أسمع يا سيريل، أمّك تقلق عليك جداً. سأخبرك شيئاً، بإمكانك غداً أن تسبح إلى الصخرة، سأتحدث مع أمك على الشاطئ وألهيها عنك، وعندما تفتقدك ستكون أنت هناك على الصخرة تلوّح لها. سوف تكون مفاجأة.

  • حقاً؟ أنت سيدة ممتازة يا آنسة كلايثورن، ستكون مغامرة رائعة!
كانت قد قالتها، غداً. هوغو كان ذاهباً إلى نيوكواي، وعند عودته سيكون كل شيء قد انتهى. ولكن لنفرض أن الأمور لم تَسِر على هاذ النحو، لنفرض أنّ حادثّا وقع. ربما أمكن إنقاذ سيريل في الوقت المناسب، وعندها سيقول سيريل: " الآنسة كلايثورن سمحَت لي " . حسناً، وماذا في ذلك؟ على المرء أن يخاطر قليلاً أحياناً إذا حصل المحذور فبإمكانها الإنكار بصلافة فتقول: كيف تستطيع اختلاق كذبة كهذه يا سيريل؟ طبعاً أنا لم أسمح لك قط.

وسوف يصدّقونها؛ فسيريل كان يروي قصصاً من هذا النوع، كان ولداً كاذباً. سيريل سيعرف طبعاً، ولكن ذلك لا يهمّ. وعلى أيّ حال لن يقع أيّ خطأ. ستتظاهر بأنها تسبح خلفه، ولكنها ستصل متأخرة ولن يشك أحد في أمرها.

هل شك هوغو؟ هل كان ذلك هو السبب في نظرته إليها بتلك الطريقة الغريبة كأنه لا يعرفها؟ هل عرف هوغو؟ هل كان ذلك سبب مغادرته بتلك السرعة بعد انتهاء التحقيق؟ إنه لم يرّد على الرسالة الوحيدة التي أرسلتها له ، هوغو....

تململت فيرا قلقة في سريرها وقالت لنفسها: يجبّ أن لا أفكّر فيه.

كان ذلك يؤلمها كثيراً، ولكنه انتهى ويجب أن تنساه. لماذا شعرت فجأة في ذلك المساء بأنه كان معها في الغرفة؟ حدّقت إلى السقف ونظرت إلى العلاّقة المتدلّية من السقف وسط الغرفة. لم تنتبه من قبل إلى تلك العلاقة التي كانت الأعشاب البحرية تتدلّى منها.

وارتجفَت حين تذكرَت تلك اللمسة الباردة الرطبة على عنقها. لم تعجبها تلك العلاّقة المتدلية من السقف؛ إنها تجذب نظرك وتدهشك . كم هي سوداء وكبيرة!

-5-

جلس المفتش السابق بلور على طرف سريره. كانت عيناه الصغيرتان بلون الدم محاطتين بهالتين حمراوين، وبدتا يقظتين وسط كتلة وجهه الصلبة. كان كالخنزير البري الذي يوشك أن ينقضّ. لم يكُن ميّالاً إلى النوم وكان يعلم أن الخطر قريب جداً في ذلك الوقت، فقد مات ستة من عشرة، حتى إن القاضي العجوز كانت نهايته كالآخرين رغم كل ذكائه وحذره ودهائه.

تنهّد بلور بارتياح وحشي وهو يتذكّر قول القاضي العجوز: " يجب أن نكون حذرين جداً" . المنافق العجوز المعتدّ بنفسه الذي يعتقد أنه أصلح الناس، يجلس في المحكمة وهو يشعر كما لو كان ملك الملوك. لقد نال نصيبه وانتهى ولن ينفعه الحذر مرة أخرى.

والآن كان هناك أربعة منهم، الفتاة ولومبارد وآرمسترونغ وهو نفسه. وقريباً جداً سيذهب شخص آخر منهم، ولكنه لن يكون هنري بلور؛ سوف يعمل على التأكد من ذلك. ولكن ماذا عن المسدّس؟ كان ذلك هو الشيء المزعج ، المسدّس.

جلس بلور على سريره وقد زوى حاجبَيه وتغضنَت أجفانه حول عينيه الصغيرتين وأخذ يفكّر بمشكلة المسدّس. وكسر الصمتَ صوتُ دقّات الساعة في الطابق السفليّ معلناً منتصف الليل، فاسترخى قليلاً، بل بلغ به الأمر أنه استلقى على السرير ، ولكنه لم ينزع ملابسه، استلقى هناك مفكّراً، استعرض الماضي كله من البداية وبطريقة منهجية وبالتفصيل كما أعتاد أن يفعل أيام عمله في الشرطة. كانت الدراسة الشاملة للقضية هي ما يحقّق النجاح في النهاية. كانت الشمعة تحترق. وفيما كان يحاول النظر ليرى إذا كانت علبة الثقاب في متناول يده عثرَت يده بالشمعة فانطفأت، ولدهشته جعلته الظلمة قلقاً! بدا كما لو كانت مخاوف ألف سنة قد استيقظت وأخذت تتصارع في عقله لتقلقه. تراءى له طيف بعض وجوه في الهواء، وجه القاضي وهو متوَّج بتلك اللُمّة الصوفية الرمادية، والوجه البارد الميّت للسيدة روجرز، والوجه القرمزي المتشنّج لأنتوني مارستون، ثم وجه آخر شاحب ذو نظارات وشارب صغير بلون القش، وجه رآه ذات مرة، ولكن متى؟ ليس على الجزيرة بل قبل ذلك بوقت طويل، غريب أن لا يستطيع تذكّر الاسم ! وجه من النوع الساذج، كان يبدو كالأبله.

فجأة تذكّره، تذكّره وهو يحسّ بصدمة حقيقية، إنه لاندور. من الغريب أن يكون قد نسي كلّياً كان لاندور يبدو. أمس فقط كان يحاول تذكّر وجه ذلك الرجل ولم يستطع، والآن ها هو يرى بخياله كل ملامحه واضحة ومحدّدة كما لو كان رآها أمس فقط!

كان للاندور زوجة، امرأة نحيلة ذات وجه قلق، وكان لهما طفلة أيضاً، بنت في نحو الرابعة عشرة، وتساءل للمرة الأولى فيما يمكن أن يكون قد حدث لهما، البنت وأمها.

انطلق الإنذار عالياً مرة ثانية في عقله: " المسدّس، ماذا حدث للمسدّس؟ هذا أكثر أهمية بكثير *. وكلما فكّر أكثر في أمر المسدّس ازدادت حيرته، ولم يستطع فهم حكاية المسدّس هذه. أحد الأشخاص في هذا البيت يحمل ذلك المسّدس.

في الطابق السفليّ دقّت الساعة الواحدة، وانقطع حبل أفكاره وجلس على السرير متيقظاً فجأة حين سمع صوتاً، صوتاً خافتاً جداً في مكان ما خارج باب غرفته، كان شخص ما يتحرك في ظلام البيت، فشعر بلور بالعرق يتفصّد من جبينه. مَن الذي يتحرك خلسة وبصمت في الممرات؟ لا بدّ أنه ينوي شرّاً ، هذا شيء أكيد.

نزل بلور عن السرير دون إصدار صوت، ورغم بنيته الضخمة استطاع أن يصل الباب في خطوتين فقط ووقف مُرهِفاً السمع، ولكن الصوت لم يأتِ ثانية. إلاّ أنّ بلور كان مقتنعاً أنه لم يكُن مخطئاً؛ لقد سمع وقع أقدام خارج الباب تماماً. أحس بشعر رأسه يقف قليلاً وبالخوف يعود ثانية.

كان متأكداً أن شخصاً يتحرك خلسة في الليل، فأرهف سمعه، ولكن الصوت لم يتكرر. وسيطرت عليه رغبة جديدة في تلك اللحظة؛ أراد أن يخرج بأي وسيلة ليتحقق من الأمر. لو استطاع فقط أن يعرف مَن هذا الذي يتسلل في هذا الظلام... ولكنّ فُتح الباب تصرف أحمق، والأغلب أن هذا بالضبط ما كان الشخص الآخر ينتظره، بل ربما تعمّد أن يسمع بلور الصمت على أمل استفزازه للخروج لمعرفة مصدر الصوت.

وقف بلور جامداً يصغي، وأصبح بوسعه سماع أصوات في كل مكان في ذلك الوقت، صوت صرير، أزيز، همسات غامضة... ولكن عقله العنيد الواقعي عرف ماهية تلك الأصوات، كان يعلم أنها من اختلاق خياله المهتاج، و... فجأة سمع شيئاً لا علاقة له بالخيال، سمع وقع خطوات خفيفة جداً وحذرة جداً، ولكنها مسموعة بوضوح بالنسبة لرجل يرهف سمعه تماماً كما كان بلور يفعل. تحركَت الخطوات بخفة في الممر (كانت غرف لومبارد وآرمسترونغ أبعد عن رأس الدرَج من غرفته) واجتازت باب غرفته دون تردّد أو اضطراب، وعند ذلك اتخذ بلور قراره، قرّر أن يرى صاحب الخطوات . مرّت الخطوات من أمام بابه متجهة نحو الدرَج بكل تأكيد، فتساءل بلور أين كان ذلك الرجل ذاهباً؟

عندما بدأ بلور تنفيذ قراره نفّذه بسرعة مدهشة بالنسبة لرجل ضخم وبطيء مثله، فعاد على أطراف أصابعه إلى السرير ووضع علبة الثقاب في جيبه وفصل قابس المصباح الكهربائي من جانب سريره ولفّ عليه السلك. كان المصباح من الكروم وله قاعدة ثقيلة، كان سلاحاً مفيداً.

قفز بسرعة وأزاح الكرسي من تحت مقبض الباب، وبمنتهى الحذر فتح قفل الباب ورفع المزلاج وخرج إلى الممر. كان في القاعة في الطابق السفلي صوت خافت، فركض بلور حافياً إلاّ من جوربَيه إلى قمة الدرَج دون أدنى صوت.

في تلك اللحظة أدرك لماذا كان قد سمع كل تلك الأصوات بذلك الوضوح. كانت الريح قد هدأت تماماً، ولا بدّ أن السماء قد أصبحت صافية. كان ينساب من نافذة قمة الدرَج ضوء قمر شاحب ويضيء القاعة في الطابق السفلي، ولمح بلور شبحاً يخرج من الباب الأمامي للمنزل في لحظة عابرة ، فهُرع ينزل الدرَج لمطاردة الشبح، إلا أنه توقف فجأة! مرة أخرى كاد يجعل من نفسه مغفَّلاً؛ فربما كانت هذه مصيدة لاستدراجه خارج البيت، ولكنّ الذي لم يدركه الرجل الآخر هو أنه قد أرتكب خطأ وأنه قد أوقع نفسه بين يدَي بلور؛ فمِن بين الغرف الثلاث المشغولة في الطابق العلوي هناك واحدة يجب أن تكون خالية في تلك اللحظة، وما عليه الآن سوى أن يعرف أي الغرف هي الخالية.

عاد بلور بهدوء وسار في الممر، ثم توقف عند باب الدكتور آرمسترونغ أولاً ودقّ الباب، ولكن لم يُجِب أحد، فانتظر دقيقة ثم ذهب إلى غرفة فيليب لومبارد ودقّ الباب، فجاء جواب لومبارد فوراً قائلاً: مَن هناك؟

  • أنا بلور . لا أظن أن آرمسترونغ في غرفته، انتظر لحظة.
ثم ذهب إلى باب الغرفة الموجودة في نهاية الممرّ ودقّ الباب أيضاً هاتفاً : آنسة كلايثورن. آنسة كلايثورن.

فأجابته فيرا فزعة: من هذا ؟ ما الأمر؟

  • لا شيء يا آنسة كلايثورن، انتظري لحظة، سأعود بعد قليل.
ورجع بسرعة إلى غرفة لومبارد فانفتح الباب تلك اللحظة وخرج لومبارد يحمل شمعة في يده اليسرى. كان قد ارتدى بنطاله فوق ثياب النوم ووضع يده اليمنى في جيب ثوب النوم وقال بحدّة: ما الأمر؟!

شرح بلور الوضع بسرعة فلمعَت عينا لومبارد قائلاً: آرمسترونغ! هو صيدنا إذن.

ومشى إلى باب آرمسترونغ مُضيفاً: آسف يا بلور، ولكنّي لا أقبل شيئاً بثقة عمياء.

وطرق بشدّة على إطار الباب صارخاً: آرمسترونغ ، آرمسترونغ. ولمّا لم يجد جواباً ركع لومبارد على ركبتيه ونظر من ثقب المفتاح، ثم أدخل إصبعه الصغير في الثقب بحذر وقال: المفتاح ليس في مكانه بالداخل.

فقال بلور: هذا يعني أنه أثقل الباب من الخارج وأخذ المفتاح معه.

فأومأ فيليب موافِقاً وقال: إنه إجراء احتياطي عادي. سنمسك به يا بلور، هذه المرّة سنمسك به. انتظرني لحظة واحدة فقط.

وانطلق عائداً إلى غرفة فيرا فناداها قائلاً: فيرا، فيرا.

  • ماذا ؟

  • نحن نبحث عن آرمسترونغ؛ فهو ليس في غرفته. لا تفتحي بابك مهما كان الأمر، أفهمتِ؟

  • نعم، فهمت.

  • إذا جاء آرمسترونغ وقال إنني قُتلت أو إن بلور قُتل فلا تُعيريه انتباهاً، أفهمتِ؟ لا تفتحي بابك إلاَ إذا تحدّثنا إليك بلور وأنا معاً. هل فهمت ذلك؟
قالت فيرا: نعم، أنا لست غبية إلى هذا الحد.

قال لومبارد : ممتاز.

ثم انضمّ إلى بلور وقال: والآن لننطلق خلفه. لقد بدأت المطاردة.

قال بلور: الأفضل أن نكون حذرَين؛ فلديه مسدّس، أتذكر؟

ضحك لومبارد ضحكة خافتة فيما كان يسرع نازلاً الدرَج وقال: أنت على خطأ في هذا.

وفتح الباب الأمامي ثم قال ملاحِظاً: سقّاطة القفل محوَّلة إلى الخلف لكي يستطيع فتح الباب عند العودة.

ثم تابع بابتسامة ماكرة: والمسدّس موجود معي.

وسحب طرف المسدّس من جيبه وهو يقول: وجدتُه قد وُضع ثانية في درجي الليلة.

وقف بلور جامداً على عتبة الباب وتغيرَت ملامح وجهه، ورأى فيليب لومبارد ذلك فقال: لا تكُن بهذه الحماقة يا بلور، أنا لا أنوي قتلك. عُد ثانية وتَترْس في غرفتك إذا شئتَ، وأنا سأذهب لأبحث عن آرمسترونغ.

وانطلق في ضوء القمر، فتبعه بلور بعد فترة تردّد قصيرة وهو يقول لنفسه: أحسب أنني أسعى إلى حتفي بنفسي.

ولكن المسألة – في النهاية – أنه سبق له التعامل مع مجرمين يحملون مسدّسات، وأيّاً كانت الفضائل التي تنقصه فالشجاعة ليست من بينها، فليكُن في مواجهة الخطر، وسيواجهه بكل شجاعة، لم يكُن يخشى المواجهة المفتوحة، ولكن الخطر المجهول فقط.

-6-

نهضت فيرا التي كانت قد تُركت لانتظار النتائج فارتدت ملابسها ثم نظرت إلى الباب مرة أو مرتين. كان باباً صُلباً جيّداً وكان مقفَلاً ومغلَقاً بالمزلاج إضافة إلى كرسي من خشب البلوط تحت المقبض. لم يكُن ممكناُ خلع الباب بقوة، خصوصاً من قِبل الدكتور آرمسترونغ الذي لم يكن قوياً جسمانياً.

لو كانت هي آرمسترونغ وكانت تنوي ارتكاب جريمة لاستخدمت المكر لا القوة. وأخذت تسلّي نفسها بالتفكير في الوسائل التي قد يستخدمها، قد يُعلن أن احد الرجلَين الآخرَين قد مات كما قال فيليب، أو قد يتظاهر بأنه أصيب بجراح قاتلة هو نفسه، وقد يجرّ نفسه إلى بابها وهو يئن. كما يمكن أيضاً أن يخبرها أن النار تشتعل في البيت، وأكثر من ذلك فربما قام فعلاً بإضرام النار في البيت... نعم، هذا احتمال ممكن، يستدرج الرجلين الآخريَن خارج البيت بعد أن يكون قد سكب بعض الوقود في الداخل، ثم يشعل النار وتبقى هي كالحمقاء حابِسةً نفسها في غرفتها حتى يكون الوقت قد فات.

مشت إلى النافذة قائلة لنفسها: لا بأس: يستطيع الإنسان الفرار من النافذة بسهولة. كل ما هنالك القفز إلى حوض زهور قريب.

ثم جلست فالتقطت دفتر مذكراتها وبدأت تكتب فيه بسهولة ووضوح وهي تقول لنفسها: لا بدّ للمرء أن يجد طريقة لتمضية الوقت.

وفجأة جمدت متنبهة وقد سمعت صوتاً ! وخطر لها أنه كان صوتاً يشبه صوت تحطّم زجاج، وقد جاء الصوت من مكان ما في الطابق السفليّ. أصغت بشدّة ولكن الصوت لم يتكرر ثانية، وسمعت (أو خُيّل إليها أنها سمعت) صوت خطوات مختلَسة وصرير الدرَج واحتكاك ملابس، ولكن لم تكُن تسمع شيئاً محدَّداً، فخلصت إلى النتيجة التي كان بلور قد انتهى إليها من قبل وهي أن أصل هذه الأصوات في مخيْلتها فقط.

ولكنها سرعان ما سمعت أصواتاً ذات طبيعة مؤكّدة، أصوات أشخاص يتحركون في الطابق السفلي وغمغمة أصوات، ثم صوتاً مؤكَّداً لشخص يصعد الدرَج، ثم أبواباً تُفتَح وتُغلَق وأقداماً تصعد إلى السطح العلوي، ثم مزيداً من الصوت هناك، وأخيراً جاءت أصوات الخطوات من الممر وسمعت صوت لومبارد يقول: فيرا، هل أنت بخير؟

  • نعم ، ماذا جرى؟
وسمعت صوت بلور يقول: هلاّ فتحت لنا الباب؟

ذهبت فيرا إلى الباب فأزاحت الكرسي وفتحت القفل وسحبت المزلاج، ثم فتحت الباب فظهر الرجلان وهما يتنفسان بصعوبة، وكانت أقدامهما والأجزاء السفلى من بنطاليَهما تقطر ماء، فأعادت السؤال: ماذا جرى؟

قال لومبارد: اختفى آرمسترونغ!

-7-

صرخت فيرا: ماذا؟!

فقال لومبارد: اختفى من الجزيرة تماماً.

فأكّد بلور قائلاً: نعم ، اختفى . هذا ما حدث، اختفى كحاوٍ وغد يقوم بحيلة.

قالت فيرا بصبر نافد: هراء! إنه يختبئ في مكان ما بالتأكيد.

فقال بلور: لا ، لا يمكن؛ لا يوجد مكان للاختباء في هذه الجزيرة فهي جرداء كباطن اليد، وضوء القمر في الخارج وكل شيء واضح كالنهار. إنه غير موجود في أيّ مكان.

قالت فيرا: لعلّه عاد أدراجه إلى البيت.

فقال بلور: لقد خطر لنا ذلك ففتشنا البيت، ولا بدّ أنك سمعتنا. آرمسترونغ ليس هنا، أؤكد لك أنه قد اختفى.. اختفى تماماً، تبخّر في الهواء.

قالت فيرا بتشكّك: لا أصدق ذلك.

فقال لومبارد: هذه هي الحقيقة يا عزيزتي.

وتوقف لحظة ثم قال: توجد حقيقة صغيرة أخرى. لقد كُسر أحد ألواح الزجاج في نافذة غرفة الطعام، ويوجد ثلاثة جنود صغار فقط على الطاولة!

* * *
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...