قصة قصيرة إدغار ألان بو ـ القلب الواشي

ترجمة: أحمد شفيق الخطيب
حقا ! ـ إنني عصبي ـ عصبي جدا جدا بصورة مخيفة ، هكذا كنت ومازلت ! سوف تقولون إنني مجنون ولكن لماذا ؟ لقد زاد المرض من حدة حواسي ، لم يدمرها ، أو يصبها بالتبلد. وتأتي في المقدمة حاسة السمع المرهف. إذ إنني كنت أسمع جميع الأشياء في السماء وفي الأرض. وكنت أسمع أشياء كثيرة. كيف ، إذن ، أكون مجنونا ؟ أصغوا ! ولاحظوا كيف أستطيع أن أحكي لكم القصة كلها حكاية صحيحة وبهدوء.

من المستحيل أن أقول كيف دخلت الفكرة عقلي أول مرة ؛ ولكن بمجرد أن خطرت لي، أخذت تطاردني نهارا وليلا . أما عن الهدف ، فلم يكن ثمة هدف ، وأما عن العاطفة فلم تكن ثمة عاطفة. فقد كنت أحب الرجل العجوز الذي لم يخطئ في حقي أبدا ، ولم يتسبب لي في أية إهانة على الإطلاق. وبالنسبة لذهبه لم تكن بي أية رغبة فيه. أعتقد أنها كانت عيناه ! نعم، لقد كانتا هاتين ! فقد كانت إحدى عينيه تشبه عين نسر ـ وهي عين لونها أزرق شاحب وعليها غشاوة. وكلما كانت تقع عليَّ ، كان دمي يتجمد ؛ وهكذا تدريجيا ـ تدريجيا جدا ـ عقدت العزم على أن أنهي حياة الرجل العجوز ، وهكذا أخلِّص نفسي من العين إلى الأبد.

والآن فإن هذا هو الأمر المهم. إنكم تتخيلونني مجنونا. ولكن المجانين لا يعرفون شيئا. ولكن كان ينبغي أن تروني أنا. كان ينبغي أن تروا كيف مضيت في العمل بحكمة وحذر وبعد نظر وخفاء !

ولم أكن أبدا أكثر عطفا على الرجل العجوز مما كنت خلال الأسبوع السابق على قتلي إياه. ففي كل ليلة ، في حوالي منتصف الليل ، كنت أدير مزلاج بابه وأفتحه ـ أوه ، بهدوء شديد ! ثم ، عندما قمت بعمل فتحة تكفي لرأسي ، أدخلت فانوسا داكن اللون ، مغلقا جميعه ، مغلقا ، بحيث لا يتسرب أي شيء منه إلى الخارج ، ثم أُدخل رأسي. أوه ، إنكم كنتم ستضحكون لو رأيتم كيف أنني كنت أُدخلها بخبث ! وكنت أحركها ببطء ـ ببطء شديد جدا ، حتى لا أُقلق نوم الرجل العجوز. واستغرق مني الأمر ساعة حتى أضع رأسي كله داخل الفتحة بقدر يمكِّنني من أن أراه وهو راقد في فراشه. ها ! ، هل كان يمكن لرجل مجنون أن يكون في مثل هذه الحكمة ؟ ثم ، عندما كان رأسي داخل الحجرة تماما ، خفضت من ضوء الفانوس بحذر ـ أوه ، بحذر شديد ـ بحذر (لأن المِفْصَلات كانت تَصِرُّ) ـ خفضته بقدر يكفي فقط لسقوط شعاع وحيد على عين النسر. وهذا ما فعلته على مدى سبع ليالٍ طوال ـ كل ليلة تماما في منتصف الليل ـ ولكنني كنت أجد العين مغلقة دائما ؛ ولذا فقد كان مستحيلا القيام بالعمل ؛ لأنه لم يكن الرجل العجوز هو الذي يثير ضيقي ، ولكن عينه الشـريرة. وكل صباح ، عندما كان الصبح ينبلج ، كنت أذهب بجسارة إلى الحجرة ، وأتحدث بجرأة إليه ، مناديا إياه باسمه بنغمة قلبية ، واستفسر كيف قضى ليلته. وهكذا ترون أنه كان لابد من أن يكون عجوزا عميق التفكير جدا ، حقا ، حتى يشك في أنني كل ليلة ، تماما في الثانية عشـرة ، كنت أرقبه بينما هو نائم.

وفي الليلة الثامنة كنت حذرا أكثر من المعتاد في فتح الباب. وكان عقرب الدقائق في ساعتي يتحرك أسرع مما تحركت يدي. ولم أشعر أبدا قبل تلك الليلة بمدى قوتي ، بمدى حصافتي. وكدت لا أستطيع كبح شعوري بالانتصار ، وأنا أفكر في أنني كنت هناك ، أفتح الباب ، شيئا فشيئا ، بينما هو حتى لا يحلم بأفعالي السرية أو أفكاري. لقد كنت إلى حد ما أضحك بيني وبين نفسي من هذه الفكرة ؛ وربما سمعني ، لأنه تحرك على الفراش فجأة ، كما لو كان قد رُوِّع فجأة. والآن ، ربما تظنون أني انسحبت ـ ولكن لا. فقد كانت حجرته سوداء فاحمة من الظلام الدامس (لأن مصاريع النوافذ كانت محكمة الغلق ، خوفا من اللصوص) ، ولذا كنت أعرف أنه لم يكن يستطيع أن يرى فتحة الباب ، واستمررت في دفعه باضطراد ، باضطراد.

وأدخلت رأسي ، وكنت على وشك فتح الفانوس ، عندما انزلق إبهامي على القْفل الصفيحي ، وقفز الرجل العجوز في فراشه ، وهو يصرخ ـ "من هناك ؟" وظللت بلا حراك تماما ولم أقل شيئا. ولمدة ساعة كاملة لم أحرك عضلة ، وفي هذه الأثناء لم أسمعه يرقد ثانية. فقد كان مازال جالسا في الفراش يتسمع ـ تماما مثلما كنت أفعل أنا ، ليلة بعد ليلة ، وأنا أتسمع دقات ساعة الموت المثبتة على الحائط.

والآن سـمعت تأوها خفيفا ، وعرفت أنه تأوه الرعب من الموت. ولم يكن تأوه ألم أو أسى، أوه ، لا ! فقد كان الصوت المكتوم الخفيض الذي ينبع من أعماق الروح عندما يسيطر عليها الفزع. لقد كنت أعرف هذا الصوت جيدا. ففي ليال كثيرة ، تماما في منتصف الليل ، عندما كان العالم كله يغط في النوم ، كثيرا ما كان يصدر عن صدري أنا ، مُعَمِّـقا ، بصداه المخيف، الرعب الذي كان يُخَبِّلني. وأقول إنني كنت أعرف هذا جيدا. وكنت أعرف بماذا يحس العجوز ، وكنت أشفق عليه ، بالرغم من أنني كنت أضحك في أعماقي. كنت أعلم أنه كان يرقد متيقظا منذ أول ضوضاء خافته ، عندما كان يتقلب في الفراش. وبدأت مخاوفه منذ ذلك الحين تتزايد عليه. وكان يحاول أن يتخيل أنه لا مبرر لها ولكنه لم يستطع. وكان يقول لنفسه ـ "هذا لا شيء سوى الريح في المدخنة ـ إنه فقط فأر يجري على الأرض." أو "إنه مجرد صرصار ليل قد أصدر سقسقة واحدة." نعم ، لقد كان يحاول أن يريح نفسه بتلك الافتراضات ؛ ولكنه وجد أن كل هذا بلا جدوى. كله بلا جدوى ؛ لأن الموت ، وهو يقترب منه ، قد أخذ يخطو مسرعا بظله الأسود الممتد أمامه ، وأحاط بالضحية. ولقد كان التأثير الحزين للظل الذي لا يُرى هو الذي جعله يحس ـ بالرغم من أنه لم يكن يرى أو يسمع ـ بوجود رأسي داخل الحجرة.

وعندما طال انتظاري ، بصبر شديد ، دون أن أسمعه يرقد ثانية ، قررت أن أقوم بعمل فتحة صغيرة ـ صغيرة جدا ، جدا ، في الفانوس. ولذلك فتحته ـ ولا يمكنكم أن تتخيلوا كيف فعلت ذلك خلسة ، خلسة ـ إلى أن ، في النهاية ، انطلق شعاع خافت وحيد ، مثل خيط العنكبوت ، انطلق من الفتحة وسقط على عين النسر.

لقد كانت مفتوحة ـ عن آخرها ، مفتوحة عن آخرها ـ واستولى عليَّ الغضب عندما وقعت عيني عليها. لقد رأيتها بوضوح تام ـ كلها أزرق باهت ، وذات حجاب بشع فوقها جعل النخاع نفسه يتجمد في عظامي ! ولكنني لم أستطع أن أرى شيئا آخر من وجه العجوز أو جسده : لأنني وجهت الشعاع ، كما لو كان بالغريزة ، تماما على البقعة اللعينة.

والآن ، ألم أقل لكم إن ما تظنونه خطأ أنه الجنون ، ما هو إلا حدة في الحواس ؟ ـ والآن ، أقول ، لقد وصل إلي أذني صوت سريع غير رنان ، خفيض مثل الصوت الذي يصدر عن ساعة عندما نلفها في القطن. ولقد كنت أعرف ذلك الصوت جيدا ، أيضا. لقد كان صوت دقات قلب الرجل العجوز. ولقد زاد من غضبي ، مثلما يحفز دق الطبلة الجندي على الشجاعة.

ولكن حتى ذلك الحين أحجمت وظللت ساكنا.وكنت لا أكاد أتنفس. وأمسكت بالفانوس بلا حراك. وحاولت بكل ما أوتيت من ثبات أن أحتفظ بالشعاع على العين. وفي تلك الأثناء ازدادت دقات القلب الجهنمية. وأخذت سرعتها تتزايد وتتزايد ، وتعلو وتعلو كل لحظة.ولابد أن رعب الرجل العجوز بلغ منتهاه ! فقد علا صوتها ، كما أقول ، وأخذ يعلو كل لحظـة ! ـ هل تتابعونني جيدا ؟ لقد قلت لكم إنني عصبي : وهكذا أنا بالفعل. والآن في ساعة الليل المخيفة ، وسط الصمت المرعب في ذلك البيت القديم ، فإن ضوضاء غريبة مثل هذه حفزتني إلى رعب لا يمكن السيطرة عليه. ومع ذلك ، فلعدة دقائق تالية أحجمت ووقفت بلا حراك. ولكن الدقات أخذت تعلو ، وتعلو !! وظننت أن القلب لابد من أن ينفجر. والآن ألـمَّ بي قلق جديد ـ وهو أن الصوت قد يسمعه أحد الجيران ! فقد حانت ساعة الرجل العجوز ! وبصرخة عالية ، فتحت الفانوس وقفزت إلى داخل الحجرة. وصرخ مرة واحدة ـ مرة واحدة فقط.

وفي لحظة قمت بجره إلى الأرض وسحبت السرير الثقيل فوقه. ثم ابتسمت بمرح ، عندما وجدت أن العمل قد تم إنجازه حتى ذلك الحين. ولكن ، لدقائق عديدة ، ظل القلب يدق بصوت مكتوم. وبالرغم من ذلك ، فإن هذا لم يثر ضيقي ؛ إذ إنه لا يمكن سماعه عبر الحائط. وأخيرا توقف. فقد مات الرجل العجوز. وأزحت السرير وفحصت الجثمان. نعم ، لقد كان متحجرا ، ميتا مثل حجر. ووضعت يدي على القلب وتركتها هناك لدقائق عدة. لم يكن هناك نبض. فقد كان ميتا كحجر. ولن تزعجني عينه أكثر من ذلك.

إذا كنتم مازلتم تظنون بي الجنون ، فإنكم لن تظنوا هذا أكثر من ذلك عندما أصف لكم الاحتياطات الحكيمة التي اتخذتها لكي أخفي الجثمان. وبدأ الليـل يمضي ، وأسرعت في العمل ، ولكن في صمت. فقبل كل شيء قمت بقطع أطراف الجثة ، ففصلت الرأس والذراعين والساقين.

ثم نزعتُ ثلاثة ألواح خشبية من أرضية الحجرة ، ووضعتُ كل شيء بين قطع الخشب. ثم أعدتُ الألواح بمهارة شديدة ، بخبث شديد ، بحيث لا تستطيع عين بشرية ـ حتى عينه هو ـ أن تلحظ أي شيء غريب. لم يكن هناك شيء ينبغي إزالته ـ لا بقع من أي نوع ـ لا بقعة دم على الإطلاق. فقد كنت حريصا على ذلك. فقد جمع حوض الاستحمام كل شيء ـ ها! ها!

وعندما انتهيت من هذه الأعمال ، كانت الساعة الرابعة ـ وكانت الدنيا مازالت مظلمة مثل منتصف الليل. وعندما دقت الساعة ، كانت هناك طرقة على باب الشارع. ونزلت لأفتحه بقلب مرح ـ إذ ماذا كان هناك الآن لأخشاه ؟ ودخل ثلاثة رجال ، قاموا بتقديم أنفسهم ، بدماثة خلق تامة ، بوصفهم ضباط شرطة. فقد سمع أحد الجيران صرخة خلال الليل ؛ وثار الشك في وقوع عنف ؛ فقد وصلت معلومات إلى مخفر الشرطة ، وانتدبوا الضباط لتفتيش المكان.

وابتسمت ـ فماذا كان هناك لأخشاه ؟ وقمت بالترحيب بالسادة المهذبين. وقلت إن الصرخة ، كانت صرختي أنا في حلم. أما الرجل العجوز ، فقد ذكرت أنه كان غائبا لأنه في الريف. وأخذت ضيوفي إلى جميع أنحاء المنزل. وطلبت منهم أن يفتشوا ـ يفتشوا جيدا. وقدتهم ، أخيرا ، إلى حجرته هو. وأريتهم كنوزه ، سليمة ، لم تعبث بها يد. وفي حماسة ثقتي، أحضرت مقاعد إلى الحجرة ، وحبَّبت إليهم أن يستريحوا هناك، من تعبهم ، بينما أنا في الشجاعة الجسورة لانتصاري التام ، وضعت مقعدي فوق البقعة نفسها التي كانت تستريح فيها جثة الضحية.

واقتنع الضباط. فقد أقنعتهم طريقتي. فقد كنت غير مرتبك بصورة فريدة. وجلسوا ، وبينما كنت أجيب عن أسئلتهم بمرح ، كانوا يرغون ويزبدون بأشياء مألوفة. ولكن قبل مضي وقت طويل ، أحسست بنفسي أُصبح شاحبا وتمنيت لو انصرفوا. فقد ألمَّ الصداع برأسي وتخيلت دقا في أذني ؛ ولكنهم كانوا مازالوا يجلسون ويزبدون. وأصبح الدق أكثر وضوحا ؛ واستمر وأصبح أكثر تميزا ؛ وتحدثت بحرية أكبر لكي أتخلص من هذا الإحساس ؛ ولكنه استمر وأصبح أكثر تحديدا ـ إلى أن ، في النهاية ، وجدت أن الضوضاء لم تكن داخل أذنيَّ فحسب.

ولا شك أنني أصبحت حينئذ شاحبا جدا ، ولكنني تحدثت بطلاقة أكبر وبصوت أعلى. ومع ذلك فقد ازداد الصوت ارتفاعا ـ وماذا كان يمكنني عمله ؟ لقد كان صوتا سريعا غير رنان، خفيضا ـ يشبه كثيرا الصوت الصادر عن ساعة عندما تلف في قطن. ولهثت محاولا أخذ نَفَسي ـ ومع ذلك يسمعه الضباط. وتحدثت بسرعة أكبر ـ بحماس أعظم ؛ ولكن الضوضاء ازدادت باضطراد ونهضت وجادلت بخصوص أمور تافهة ، بصوت عال وبحركات عنيفة ، ولكن الضوضاء أخذت في الازدياد باستمرار. لماذا لا ينصرفون ؟ وأخذت أذرع أرض الحجرة ذهابا وجيئة بخطوات ثقيلة ، كما لو كانت ملاحظات الرجال قد أثارت غضبي ـ ولكن الضوضاء ازدادت باضطراد. أوه ! ماذا يمكنني عمله ؟ ورغيت وأزبدت ـ وهذيت ـ وسببت ! وأرجحت المقعد الذي كنت أجلس عليه وحككت بشدة على الألواح ، ولكن الضوضاء علا صوتها على كل شيء وازدادت ارتفاعا باستمرار. وأصبحت أعلى ـ أعلى ـ أعلى ! وكان الرجال مازالوا يرغون بلطف ، ويبتسمون. هل كان من الممكن أنهم لا يسمعون ؟ ـ لا ، لا ! إنهم يسمعون ! ـ إنهم يشكُّون ! ـ إنهم يعرفون ! ـ لقد كانوا يسخرون من رعبي ـ هذا ما ظنته ، وهذا ما أظنه. ولكنَّ أيَّ شيء كان أفضل من هذا العذاب ! أي شيء كان من الممكن تحمله أكثر من هذه السخرية !

ولم أستطع تحمل هذه الابتسامات المنافقة أكثر من ذلك ! وشعرت أنني لابد من أن أصرخ وإلا فإنني سأموت ! ـ والآن ـ مرة أخرى ـ اسمعوا ! أعلى ، أعلى ، أعلى ، أعلى ! أيها الأشرار ! صرخت ، لا تخادعوني أكثر من ذلك ! إنني أعترف بفعلتي ! ـ انزعوا الألواح الخشبية ! ـ هنا ، هنا ! ـ إنها دقات قلبه اللعين !

مشاهدة المرفق 54
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...