جبران الشداني
كاتب
تعتبر الرواية الجنس الأدبي الأكثر ملائمة للمبدع مقارنة بباقي الأجناس الأدبية الأخرى، لما تتميز به من اتساع رقعتها، وقدرتها على استيعاب أشكال تعبيرية أخرى وفي معرض الحديث عن الرواية “أمفيون الرقم المهني 4892′ لا يسعنا سوى الوقوف عند دلالة العنوان، فأمفيون تحيلنا مباشرة على الأساطير اليونانية وتحديدا على إله العمل، ومعروف عن الآلهة أنها لا تموت ولا تفنى، فيما يخص المتوالية الرقمية ‘4892’ فلكل رقم منها دلالة عميقة وضاربة جذورها في التاريخ فرقم أربعة يحيل على “عناصر الطبيعة الأربعة (ماء، هواء، نار، تراب)[1]، في حين يشير الرقم ثمانية إلى “الثقة، العدالة والاستقرار”[2]. أما الرقم تسعة فيؤشر على “الكمال والقوة والإنجاز”[3]، أما آخر رقم من المتوالية فيدل على “كل الثنائيات سواء المتضادة أو المتقابلة ويحمل أيضا رمزية التناسل والإزدواجية”[4].
وعلاقة بالرواية تجعلنا هذه الأرقام نفكر على سبيل الذكر في معاناة عمال منجم جرادة، الغير قابلة للنسيان، الصراع الثنائي الدائم بين هؤلاء وأرباب العمل، في تجسيد حقيقي لجدلية العبد والسيد، وكذا إصرارهم على تحقيق مطالبهم وتحسين ظروف عيشهم مهما كلفهم الأمر من ثمن، احتجاج وصمود.
وفيما يخص متن الرواية سأحاول مقاربة هذا النص الروائي من وجهة نظر البنية السردية، يقول فلاديمير كرزنسكي “إن مسألة الرواية هي أساسا مسألة العلاقة بين السرد – والقائمين به والموضوع – والمرجع”[5]؛ من بين المسائل المتضمة في الرواية يستهوينا الحديث عن الوظائف السردية Fonction demanatologie داخلها كما حددها الناقد الفرنسي جيرار جنيت Gérard Genette في خمسة وظائف ضمن كتابة Fidures III (1972)، مصنفا إياها حسب أولويتها داخل البناء السردي للنص الروائي.
أول هذه الوظائف:
1- الوظيفة السردية : Fonction Narrative
يتجلى دور هذه الوظيفة في “إنتاج نص سردي على شكل محكي يرويه العرجوني”[6] كما هو متمثل في قول السارد “الآن وقد أصبحت لا أنتمي إلى هذا العامل، عالم النور السماوي”[7]. يهم السارد هنا الفصل بين العالم فوق سطح الأرض وعالم الظلام الذي يقضي العامل المنجمي معظم وقته فيه والمتمثل في عالم المناجم، أو بصيغة أخرى يمثل اللفظ السابق الذكر انتقالا من عالم فوق-أرضي، إلى عالم تحت-أرضي، حيث يتميز الأول بنوره والثاني بظلامه الحالك؛ إنه مؤشر على ابتداء الحكي.
2- الوظيفة التحكمية (وظيفة التحكم) Fonction De Régie:
في مطلع الحديث عن هذه الوظيفة نجد جنيت يحصر دورها كالتالي: “التحكم في مجريات البناء السردي من قبيل التعليقات والملامح الجمالية للنص”[8] هذا ما يتجلى في قول السارد “أوف! يريد أن يمزق جلده لا يرضى ولا يقنع أبدا”[9] وفي الحديث عن ملامح النص الجمالية نمثل لها من خلال “توالت الليالي السرمدية. وطال الظلام بات سميكا لصقا، تنمرت البرودة للأجسام الذابلة والنحيلة المسودة التي تتعفن في البرودة اللزجة”[10]. باستعمال السارد لهذه الألفاظ وغيرها زخرف النص وجمع بين جمالية القول والمعنى وأضفى رونقا على البناء العام للنص.
3- الوظيفة التواصلية Fonction De Communication:12569_559358847455332_484393897_n (1)
تتيح هذه الوظيفة للسارد “التوجه إلى أحد شخصيات المحكي بضمير المخاطب الجمعي أنتم التي تحيل على هيئة المسرود له”[11]، هذا ما يوضحه قول السارد “نجم النهار ولد للتو يلمع أمام عيونكم، يبهركم زمن علاقة فيختفي. يمعنكم الكرسي. تتحول أفكاركم إلى نسخ، يتدفق إلى أحواض كل الشقوق الكائنة في أحلامكم تمنعكم الطاولة، يعب فمكم من رحيق تلك الأيام البوهيمية السريعة الزوال”[12]. هنا يتوجه السارد مباشرة لعمال منجم جرادة اللذين لم تفارقهم تلك الأحلام حول تحسين ظروف عيشهم وعيش أسرهم، رغم الصعوبات التي يواجهونها في تحقيق تلك الأحلام.
4- الوظيفة التجريبية Fonction Testemanial :
تمكن هذه الوظيفة “السارد من إخضاع النص المسرود لاختبار ذو مستويين؛ أولهما متمثل في مقدار اليقين والصدق حول ما يكتبه السارد”[13] يتبين ذلك من خلال “فكر فيمن أصادفهم في الطريق يلتحفون الورق المقوى، في من يسكنون خيم من حلفاء بها ثقوب، يفوق عددها ثقوب الغربال حيث أستطيع رمي جسد ذلك البدوي بسهام صقيعي وجسم زوجته وأطفالا العراة”[14] مدى صعوبة الحصول على نوم هانئ ودافئ في الليالي الباردة أمر لا يخفى على أي أحد، كلنا نعلم مدى قساوة العيش في أيام البرد القارس سواء لمن لهم ما يقيهم برودته ومن لا حول لهم ولا قوة و”فيما يخص المستوى الثاني يتعلق الأمر بالمشاعر التي تتخلل بنية القصة”[15]، نستدل له بقول السارد “كم مرة عاش أبناء العمال تلك اللحظات العصيبة. ذلك الإنتظار السرمدي المرقم بتشنجات معوية”[16]. هذه الحالة تخالج كل واحد منا سواءا إذا انتابه الشعور بالقلق حول أحد ما، أو عندما نكون في حالة ترقب لنتيجة ما أو بصدد القيام بعمل مصيري.
5- الوظيفة الإيديولوجية Fonction Idéologique :
تمكن هذه الوظيفة “السارد من إصدار مجموعة من الأحكام، أفكار بصفة عامة حول العالم والمجتمع والناس”[17]. تتمظهر هذه الأخيرة داخل نص العرجوني – على سبيل القول لا الحصر – “يتعلق الأمر بمدرسين كانا متواجدين بمقهى، كما يمكن أن تكونوا أنتم، طلبا قهوتين متسختين كجواربهما ودخلا في حديث وشروح حول ترقيتهما”[18]، هنا يصف السارد بعض شخصيات نصه الروائي، فيقدم لمحة وجيزة عن حالة رجال التعليم أصحاب التعيين الفرعي ولتدعيم وجود هذه الوظيفة داخل النص نظيف استدلالا آخر يتمثل في “لم تجد الشرطة القضائية صعوبة في التوصل إلى تجميع الأدلة، أشلاء الضحية وقد جمعت في أكياس البلاستيك، البندقية وجثث الضحية الثانية، الشيء الذي جعل مرافعة المحامي تبدو سخيفة”.[19]
الرواية عالم سردي بامتياز مليء بالوظائف السردية هذه الأخيرة لا تمثل إلا مجموعة مسائل – وأخرى كثيرة قابعة داخل الرواية – بحيث تكمل كل واحدة الأخرى ولا يمكن تجاوز إحداهما للأخرى.
هوامش
[2] _ نفس المرجع.
[3] _ نفس المرجع.
[4] _ نفس المرجع.
[5] _ أوضاع السارد وأشكال السارد في “سلطانة” لغالب هلسا، الفوضى الممكنة، دراسات في السرد العربي الحديث، عبد الرحيم العلام، دار الثقافة (البيضاء) الطبعة الأولى 2001، ص: 122.
[6]_ Gérard Genette, Figures III, Collection Poiétique, Edition Seuil, Paris, 1972, Page : 281.
[7] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، مطبعة الجسور ش.م.م وجدة، الطبعة الأولى، 2012، ص:12.
[8]_ Gerard Genette, Figures III, Page :261
[9] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص:115.
[10] _ نفس المرجع، ص:86
[11]_ Gerard Genette, Figures III, Même Page
[12] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص:122
[13]_ Gerard Genette, Figures III, Même Page.
[14] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص: 94
[15]_ Gerard Genette, Figures III, Page :261.
[16] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص: 112
[17]_ Gerard Genette, Figures III, Page :261.
[18] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص: 122.
[19] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص: 133.
وعلاقة بالرواية تجعلنا هذه الأرقام نفكر على سبيل الذكر في معاناة عمال منجم جرادة، الغير قابلة للنسيان، الصراع الثنائي الدائم بين هؤلاء وأرباب العمل، في تجسيد حقيقي لجدلية العبد والسيد، وكذا إصرارهم على تحقيق مطالبهم وتحسين ظروف عيشهم مهما كلفهم الأمر من ثمن، احتجاج وصمود.
وفيما يخص متن الرواية سأحاول مقاربة هذا النص الروائي من وجهة نظر البنية السردية، يقول فلاديمير كرزنسكي “إن مسألة الرواية هي أساسا مسألة العلاقة بين السرد – والقائمين به والموضوع – والمرجع”[5]؛ من بين المسائل المتضمة في الرواية يستهوينا الحديث عن الوظائف السردية Fonction demanatologie داخلها كما حددها الناقد الفرنسي جيرار جنيت Gérard Genette في خمسة وظائف ضمن كتابة Fidures III (1972)، مصنفا إياها حسب أولويتها داخل البناء السردي للنص الروائي.
أول هذه الوظائف:
1- الوظيفة السردية : Fonction Narrative
يتجلى دور هذه الوظيفة في “إنتاج نص سردي على شكل محكي يرويه العرجوني”[6] كما هو متمثل في قول السارد “الآن وقد أصبحت لا أنتمي إلى هذا العامل، عالم النور السماوي”[7]. يهم السارد هنا الفصل بين العالم فوق سطح الأرض وعالم الظلام الذي يقضي العامل المنجمي معظم وقته فيه والمتمثل في عالم المناجم، أو بصيغة أخرى يمثل اللفظ السابق الذكر انتقالا من عالم فوق-أرضي، إلى عالم تحت-أرضي، حيث يتميز الأول بنوره والثاني بظلامه الحالك؛ إنه مؤشر على ابتداء الحكي.
2- الوظيفة التحكمية (وظيفة التحكم) Fonction De Régie:
في مطلع الحديث عن هذه الوظيفة نجد جنيت يحصر دورها كالتالي: “التحكم في مجريات البناء السردي من قبيل التعليقات والملامح الجمالية للنص”[8] هذا ما يتجلى في قول السارد “أوف! يريد أن يمزق جلده لا يرضى ولا يقنع أبدا”[9] وفي الحديث عن ملامح النص الجمالية نمثل لها من خلال “توالت الليالي السرمدية. وطال الظلام بات سميكا لصقا، تنمرت البرودة للأجسام الذابلة والنحيلة المسودة التي تتعفن في البرودة اللزجة”[10]. باستعمال السارد لهذه الألفاظ وغيرها زخرف النص وجمع بين جمالية القول والمعنى وأضفى رونقا على البناء العام للنص.
3- الوظيفة التواصلية Fonction De Communication:12569_559358847455332_484393897_n (1)
تتيح هذه الوظيفة للسارد “التوجه إلى أحد شخصيات المحكي بضمير المخاطب الجمعي أنتم التي تحيل على هيئة المسرود له”[11]، هذا ما يوضحه قول السارد “نجم النهار ولد للتو يلمع أمام عيونكم، يبهركم زمن علاقة فيختفي. يمعنكم الكرسي. تتحول أفكاركم إلى نسخ، يتدفق إلى أحواض كل الشقوق الكائنة في أحلامكم تمنعكم الطاولة، يعب فمكم من رحيق تلك الأيام البوهيمية السريعة الزوال”[12]. هنا يتوجه السارد مباشرة لعمال منجم جرادة اللذين لم تفارقهم تلك الأحلام حول تحسين ظروف عيشهم وعيش أسرهم، رغم الصعوبات التي يواجهونها في تحقيق تلك الأحلام.
4- الوظيفة التجريبية Fonction Testemanial :
تمكن هذه الوظيفة “السارد من إخضاع النص المسرود لاختبار ذو مستويين؛ أولهما متمثل في مقدار اليقين والصدق حول ما يكتبه السارد”[13] يتبين ذلك من خلال “فكر فيمن أصادفهم في الطريق يلتحفون الورق المقوى، في من يسكنون خيم من حلفاء بها ثقوب، يفوق عددها ثقوب الغربال حيث أستطيع رمي جسد ذلك البدوي بسهام صقيعي وجسم زوجته وأطفالا العراة”[14] مدى صعوبة الحصول على نوم هانئ ودافئ في الليالي الباردة أمر لا يخفى على أي أحد، كلنا نعلم مدى قساوة العيش في أيام البرد القارس سواء لمن لهم ما يقيهم برودته ومن لا حول لهم ولا قوة و”فيما يخص المستوى الثاني يتعلق الأمر بالمشاعر التي تتخلل بنية القصة”[15]، نستدل له بقول السارد “كم مرة عاش أبناء العمال تلك اللحظات العصيبة. ذلك الإنتظار السرمدي المرقم بتشنجات معوية”[16]. هذه الحالة تخالج كل واحد منا سواءا إذا انتابه الشعور بالقلق حول أحد ما، أو عندما نكون في حالة ترقب لنتيجة ما أو بصدد القيام بعمل مصيري.
5- الوظيفة الإيديولوجية Fonction Idéologique :
تمكن هذه الوظيفة “السارد من إصدار مجموعة من الأحكام، أفكار بصفة عامة حول العالم والمجتمع والناس”[17]. تتمظهر هذه الأخيرة داخل نص العرجوني – على سبيل القول لا الحصر – “يتعلق الأمر بمدرسين كانا متواجدين بمقهى، كما يمكن أن تكونوا أنتم، طلبا قهوتين متسختين كجواربهما ودخلا في حديث وشروح حول ترقيتهما”[18]، هنا يصف السارد بعض شخصيات نصه الروائي، فيقدم لمحة وجيزة عن حالة رجال التعليم أصحاب التعيين الفرعي ولتدعيم وجود هذه الوظيفة داخل النص نظيف استدلالا آخر يتمثل في “لم تجد الشرطة القضائية صعوبة في التوصل إلى تجميع الأدلة، أشلاء الضحية وقد جمعت في أكياس البلاستيك، البندقية وجثث الضحية الثانية، الشيء الذي جعل مرافعة المحامي تبدو سخيفة”.[19]
الرواية عالم سردي بامتياز مليء بالوظائف السردية هذه الأخيرة لا تمثل إلا مجموعة مسائل – وأخرى كثيرة قابعة داخل الرواية – بحيث تكمل كل واحدة الأخرى ولا يمكن تجاوز إحداهما للأخرى.
هوامش
[2] _ نفس المرجع.
[3] _ نفس المرجع.
[4] _ نفس المرجع.
[5] _ أوضاع السارد وأشكال السارد في “سلطانة” لغالب هلسا، الفوضى الممكنة، دراسات في السرد العربي الحديث، عبد الرحيم العلام، دار الثقافة (البيضاء) الطبعة الأولى 2001، ص: 122.
[6]_ Gérard Genette, Figures III, Collection Poiétique, Edition Seuil, Paris, 1972, Page : 281.
[7] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، مطبعة الجسور ش.م.م وجدة، الطبعة الأولى، 2012، ص:12.
[8]_ Gerard Genette, Figures III, Page :261
[9] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص:115.
[10] _ نفس المرجع، ص:86
[11]_ Gerard Genette, Figures III, Même Page
[12] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص:122
[13]_ Gerard Genette, Figures III, Même Page.
[14] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص: 94
[15]_ Gerard Genette, Figures III, Page :261.
[16] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص: 112
[17]_ Gerard Genette, Figures III, Page :261.
[18] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص: 122.
[19] _ محمد العرجوني، ‘آمفيون الرقم المهني 4892’، ترجمة عيسى حموتي، ص: 133.