قصة قصيرة نيقولاي غوغول - المعطــف - ت: أبوبكر يوسف


في إحدى الإدارات كان يعمل أحد الموظفين؛ موظف لا نستطيع أن نقول عنه إنه كان بارزاً جداً، بل كان قصير القامة، مجدوراً إلى حدٍّ ما، وأحمر الشعر إلى حد ما، بل ويبدو أعمش إلى حدٍّ ما، بصلعة صغيرة فوق الجبين وتجاعيد على كلا الخدين. أما لون وجهه فكان -كما يقال- بواسيريا. وما العمل؟! الذنب في ذلك ذنب جو بطرسبورغ. أما فيما يتعلق برتبته (لأن من الضروري عندنا أن نعلن الرتبة قبل كل شيء) فقد كان ممن يسمون بـ"المستشارين الاعتباريين"(1) الخالدين، الذين سخر منهم وهزئ بهم ما وسعهم، كما هو معروف، شتى الكُتَّاب من ذوي العادة المحمودة في التهجم على أولئك الذين لا يحسنون العض. وكان اسم عائلة الموظف: بشماتشكين. وكان اسم الموظف أكاكي أكاكيفتش. أما متى وفى أي وقت التحق بالإدارة، ومن الذي ألحقه بها، فهذا ما لم يستطع أحد أن يتذكره؛ فمهما تغير المدراء والرؤساء فقد كان الجميع يرونه دائماً في نفس المكان وفي نفس الوضع وفي نفس الوظيفة؛ أي: موظف كتابة، حتى أنهم آمنوا فيما بعد بأنه، على ما يبدو، قد ولد هكذا جاهزا، في حلته الرسمية وبصلعة في رأسه. لم يكن يحظى في الإدارة بأي احترام؛ فالحراس لم يكونوا ينهضون عند رؤيته، ليس هذا فحسب، بل حتى لم يكونوا ينظرون إليه، كما لو أن مجرد ذبابة هي التي طارت عبر صالة الاستقبال. أما الرؤساء فكانوا يعاملونه بطريقة باردة. فأي مساعد من مساعدي الرئيس القلم كان يدس الأوراق تحت أنفه مباشرة حتى دون أن يقول له: «انسخها»، أو: «هاك عملاً طريفاً طيباً»، أو أية كلمات طيبة كما هي العادة في المكاتب المهذبة. أما هو فكان يتناول الأوراق متطلعا إليها وحدها دون أن ينظر إلى من قدمها له وهل يملك الحق في ذلك أم لا. كان يتناولها ويشرع على الفور في نسخها. وكان الموظفون الشبان يسخرون منه وينكتون عليه بقدر ما كانت تسمح به روح النكتة المكتبية، ويروون أمامه شتى الحكايات التي ألفوها عنه، ويقولون عن مدبرة بيته، وهي عجوز في السبعين من عمرها، إنها تضربه، ويسألونه متى سيحتفلون بزواجهما، ويهيلون الأوراق على رأسه قائلين إنه الثلج يسقط. ولكن أكاكي أكاكيفتش لم يكن يرد على ذلك بكلمة واحدة، كأنما لم يكن يقف أمامه أحد. بل إن ذلك حتى لم يؤثر على عمله، إذ لم يكن يرتكب خطأ واحداً في الكتابة وسط كل هذه السخريات. وفقط عندما تكون النكتة غير محتملة، وعندما كانوا يدفعونه بذراعه، فيعوقونه عن العمل، كان يقول: «دعوني في حالي! لماذا تهينونني؟». كان يبدو ثمة شيء غريب في كلماته وفي الصوت الذي قيلت به؛ كان فيها شيء غريب في الشفقة، حتى أن موظفاً شاباً التحق بالوظيفة حديثاً وكان قد سمح لنفسه بالسخرية منه كما يفعل الآخرون، توقف فجأة كالمصعوق، ومن يومها بدا وكأن كل شيء قد تغير أمام عينيه وتبدى في صورة أخرى. ودفعته قوة غير طبيعية مجهولة بعيداً عن زملائه الذين صاحبهم باعتبارهم أشخاصا محترمين مهذبين. وظل هذا الموظف بعد ذلك، ولفترة طويلة، وفي أوج لحظات المرح، يتذكر الموظف القصير ذا الصلعة فوق الجبين بكلماته النافذة: «دعوني في حالي! لماذا تهينونني؟»، وترن في هذه الكلمات النافذة كلمات أخرى: «أنا مثل أخيك». فكان الشاب المسكين يغطي وجهه بيديه ويرتجف مرات ومرات عديدة بعد ذلك طوال عمره وهو يرى ما في الإنسان من لا إنسانية، وإلى أي مدى تختفي الفظاظة الوحشية في التهذيب الراقي المرهف؛ ويا إلهي! حتى في ذلك الإنسان الذي يعتبره المجتمع نبيلاً وشريفاً. ومن النادر أن تجد شخصا يتفانى في عمله إلى هذا الحد. فلا يكفي أن نقول إنه كان يعمل بغيرة، كلا، لقد كان يعمل بعشق. كان يرى في ذلك النسخ عالماً خاصاً به، عالما متنوعاً ولطيفاً. وكانت المتعة تتجلى في وجهه. كانت بعض الحروف أثيرة لديه، وعندما يبلغها لا يعود يسيطر على نفسه. كان يضحك ويغمز بعينه ويساعد بشفتيه على كتابتها، حتى أنه كان يبدو أن بالإمكان أن تقرأ على وجهه الحرف الذي كان قلمه يخطه. ولو أنهم كافؤوه بقدر حميته فربما أصبح، ولدهشته هو، من مستشاري الدولة(2). ولكنه، وكما قال زملاؤه المازحون، نال من الخدمة فتلة في عروة وفاز بمرض البواسير وألم الظهر. وعموماً فلا يمكن أن نقول إنه لم يحظ بأدنى اهتمام؛ فقد أراد أحد المدراء، وكان رجلاً طيباً، أن يكافئه على النسخ، فكلفوه بأن يعد مذكرة من واقع ملف جاهز بالفعل لإرسالها إلى جهة أخرى. ولم يكن الأمر يتعدى أكثر من تغيير العنوان الرئيسي وتعديل بعض الأفعال من صيغة المتكلم إلى الغائب. ولكنه كلفه من الجهد ما جعله يعرق تماماً ويحك جبينه، وأخيرا قال: «كلا، من الأفضل أن تعطوني شيئاً ما أنسخه». ومن يومها أبقوه للنسخ إلى الأبد. وكان يبدو أنه لا يوجد بالنسبة له أي شيء خارج هذا النسخ. لم يكن يفكر في ملابسه أبدا؛ فحلته لم تكن خضراء اللون، بل ذات لون أحمر طحيني ما. وكانت ياقتها ضيقة، قصيرة، حتى أن عنقه، رغم أنه لم يكن طويلاً، كان يبرز من الياقة ويبدو طويلاً بصورة غير عادية. وكان يعلق بحلته دائما شيء: قطعة قش أو خيط ما. وعلاوة على ذلك كانت لديه مهارة خاصة أثناء سيره في الشارع في أن يتواجد تحت النافذة بالضبط في الوقت الذي يلقون منها شتى الفضلات، ولذلك كان يحمل على قبعته دائما قشر البطيخ والشمام وغير ذلك من التفاهات. لم يحدث مرة واحدة في حياته أن التفت إلى ما يجري ويحدث كل يوم في الشارع، ولا حتى إلى ما ينظر دائماً إليه أخوه الموظف الشاب، كما هو معروف، والذي تمتد نظرته الثاقبة النشطة إلى حد أنه يلاحظ على الرصيف الآخر من تفتقت ربطة ساق سرواله، الأمر الذي يجعل الابتسامة الخبيثة تظهر على وجهه. أما أكاكي أكاكيفتش فحتى لو نظر إلى شيء فما كان ليرى فيه سوى سطوره النظيفة المكتوبة بخط منمق، اللهم إلا إذا استقرت على كتفه فجأة سحنة حصان لا يعلم أحد من أين جاءت ونفثت بمنخاريها في خده ريحا قوية؛ عندها فقط كان يلاحظ أنه ليس في وسط السطر، بل على الأرجح في وسط الشارع. وعندما يعود إلى المنزل كان يجلس على الفور إلى المائدة، فيلتهم بسرعة حساء الكرنب وقطعة لحم البقر بالبصل، دون أن يحس أبداً بطعمها. وكان يأكل ذلك مع الذباب وكل ما كان الله يرسله في تلك الساعة. وعندما كان يلاحظ أن معدته بدأت تنتفخ ينهض من أمام المائدة ويستخرج دواة الحبر ويبدأ ينسخ الأوراق التي جاء بها معه إلى البيت. فإذا لم تكن لديه مثل هذه الأوراق كان يقوم بعمل نسخة لنفسه، فقط من أجل المتعة الشخصية، خاصة إذ كانت الورقة رائعة، لا من حيث جمال صياغتها، بل من حيث أنها مرسلة إلى شخصية جديدة أو هامة.


حتى في تلك الساعات التي تنطفئ فيها تماما سماء بطرسبورغ الرمادية، وبعد أن تكون جماعة الموظفين كلهم قد تعشوا وشبعوا، كلاً منهم حسب ما يتقاضاه من مرتب وحسب رغباته الخاصة، وبعد أن يكون الجميع قد ارتاحوا من صرير أقلام الإدارات والركض بعد أداء الأعمال الخاصة وأعمال الآخرين الضرورية، بعد كل ما يكلف به نفسه عن طواعية الإنسان الذي لا يهدأ، بل وبأكثر مما ينبغي... عندما يسرع الموظفون إلى تخصيص ما تبقى من وقت للمتعة؛ فالأنشط منهم ينطلق إلى المسرح، ومنهم من يخرج إلى الشارع مخصصاً هذا الوقت للتطلع إلى بعض القبعات، ومنهم من يذهب إلى حفل ما لينفق الوقت في إسداء المديح لفتاة ما مليحة تعد نجمة من نجوم أوساط الموظفين الضيقة، ومنهم من يذهب، وهؤلاء هم الأكثر، إلى أخيه الذي يسكن في الطابق الرابع أو الثالث، في شقة من غرفتين صغيرتين ومدخل أو مطبخ وببعض إدعاءات الموضة كمصباح مثلاً أو قطعة أثاث كلفت أصحابها تضحيات كثيرة وحرمانا من وجبات الغداء والنزهات... وباختصار: فحتى في الوقت الذي يجلس فيه الموظفون في شقق زملائهم الصغيرة ليلعبوا الورق وهم يرشفون الشاي من الأكواب مع قطع الخبز المحمص الرخيص وينفثون الدخان من الغلايين الطويلة ويروون أثناء توزيع الورق شائعة ما وردت من المجتمع الراقي... وباختصار أكثر: حتى عندما يسعى الجميع إلى اللهو؛ فإن أكاكي أكاكيفتش لم يكن يلجأ إلى أي لهو، ولا يستطيع أحد أن يقول إنه رآه في وقت ما في إحدى الحفلات. فبعد أن يشبع من النسخ يأوي إلى فراشه وهو يبتسم سلفاً مفكرا في الغد؛ فغدا سيرزقه الله بشيء ما لينسخه. هكذا كانت تمضي حياة هذا الرجل الوادعة، هذا الرجل الذي كان راضيا عن حظه بالأربعمائة روبل التي يتقاضاها في السنة، وربما مضت إلى أرذل العمر، لولا وجود شتى المصائب المتناثرة على درب الحياة، ليس فقط أمام المستشارين الاعتبارين، بل والمستشارين السريين الفعليين ومستشاري البلاط(3) وغيرهم من المستشارين، وحتى أولئك الذين لا يقدمون استشارات لأي شخص ولا يطلبون المشورة من أحد. في بطرسبورغ ثمة عدو لدود لكل من يتقاضى أربعمائة روبل في السنة أو زهاء هذا. وهذا العدو ليس إلا صقيعنا الشمالي، بالرغم من أنه يقال إنه مفيد جداً للصحة. ففي بداية الساعة التاسعة صباحا، وبالذات عندما تكتظ الشوارع بالذاهبين إلى العمل، يبدأ هو في توجيه لذعات حادة قوية إلى جميع الأنوف دونما تمييز، حتى أن الموظفين المساكين لا يعرفون أبداً أين يخفونها. وفي تلك الساعة يشعر حتى أولئك الذين يشغلون مناصب عليا بألم في جباههم من البرد، وتطفر الدموع من عيونهم. أما المستشارون الاعتباريون المساكين فيصبحون أحياناً بلا حماية، والمخرج الوحيد هو أن يركضوا في معاطفهم الهزيلة بأسرع ما يستطيعون ليقطعوا خمسة أو ستة شوارع، ثم يدقون بأقدامهم جيدا في المدخل لكي يذيبوا ما تجمد في الطريق من قدرات ومواهب على أداء الأعمال الوظيفية. ومنذ فترة قريبة بدأ أكاكي أكاكيفتش يحس بوخز شديد، خاصة في ظهره وكتفه، على الرغم من أنه كان يحاول أن يقطع المسافة المشروعة بأسرع ما يمكن. وأخيراً فكر: ألا يرجع ذلك إلى بعض العيوب في معطفه. وعندما فحصه جيدا في المنزل اكتشف أنه أصبح في موضعين أو ثلاثة، وبالذات عند الظهر والكتفين، مثل الخيش تماماً، فقد رق نسيجه إلى درجة أن الهواء صار ينفذ خلاله، أما البطانة فقد تهرأت. وينبغي أن نعرف أن معطف أكاكي أكاكيفتش كان أيضاً مادة لسخريات الموظفين، بل لقد نزعوا عنه اسم «المعطف» النبيل وسموه «قبوطا». وبالفعل فقد كان شكله غريبا؛ كانت ياقته تصغر عاما بعد عام، لأنها كانت تستخدم في ترقيع الأجزاء الأخرى، ولم يظهر الترقيع مهارة الخياط، فكانت الرقع تبدو قبيحة وخرقاء. وعندما عرف أكاكي أكاكيفتش حقيقة الأمر قرر أن يأخذ المعطف إلى بتروفتش، الخياط الذي يقطن في شقة ما بالطابق الرابع من ناحية سلم الخدم، والذي كان رغم عوره ووجهه المجدور كله يزاول بنجاح كبير تصليح معاطف الموظفين وسراويلهم وحللهم وما إلى ذلك، بالطبع عندما يكون مفيقا وليس في رأسه مشاريع أخرى. وما كان هذا الخياط ليستحق منا أن نتحدث عنه كثيراً، ولكن بما أن العادة جرت أن يحدد في القصة طبع كل شخصية بوضوح تام، فلا حيلة إذاً، هيا قدموا لنا بتروفتش أيضاً. كان في البداية يدعى ببساطة: غريغوري، وكان من رقيق الأرض عند أحد السادة. ثم أصبح يدعى بتروفتش عندما أعتق، وقد أصبح يسكر بشدة في جميع الأعياد؛ في البداية في الأعياد الكبيرة، وبعد ذلك دون تمييز في جميع الأعياد الدينية وحيثما وضعت إشارة الصليب أمام أي يوم من أيام التقويم.

وبينما كان أكاكي أكاكيفتش يصعد السلم المؤدي إلى بتروفتش أخذ يفكر في المبلغ الذي سيتطلبه بتروفتش وقرر في ذهنه ألا يعطيه أكثر من روبلين. كان الباب مفتوحاً، لأن ربة البيت تقلي سمكاً، فملأت المطبخ بالدخان إلى درجة أنه لم يعد من الممكن حتى رؤية الصراصير نفسها. ومرَّ أكاكي أكاكيفتش عبر المطبخ حتى دون أن يلاحظ ربة البيت ذاتها، إلى أن وصل أخيراً إلى غرفة رأى فيها بتروفتش جالساً على طاولة خشبية عريضة غير مطلية، طاويا قدميه تحت، كالباشا التركي. وكانت قدماه، كعادة الخياطين الجالسين إلى عملهم، عاريتين. وأول ما لفت نظر أكاكي أكاكيفتش تلك الأصبع الكبيرة المعروفة جداً له، ذات الظفر المشوه، الإصبع السمينة القوية كصدفة السلحفاة. ومن رقبة بتروفتش تدلت ذؤابة من الحرير والخيوط، وعلى ركبتيه حشو ما. كان منذ حوالي ثلاث دقائق يحاول إدخال الخيط في ثقب الإبرة ولا يستطيع، ولذلك كان ساخطاً على العتمة، بل وحتى على الخيط نفسه، وهو يدمدم بصوت خافت: «لا يدخل هذا الوغد، أيها الملعون! أنهكتني!». وشعر أكاكي أكاكيفتش بالضيق من مجيئه في هذه اللحظة التي كان بتروفتش فيها غاضبا، فقد كان يحسب أن يوصي بتروفتش بشيءٍ ما عندما يكون الأخير منتعشاً بعض الشيء، أو كما كانت زوجته تقول: «عبّ من الهباب المسكر هذا الشيطان الأعور». ففي مثل هذه الحالة كان بتروفتش في العادة يتنازل ويوافق عن طيب خاطر، بل كان ينحني كثيرا ويلهج بالشكر. صحيح أن زوجته كانت تأتي بعد ذلك وهي تعول وتشكو من أن زوجها كان آنذاك ثملا، ولذلك وافق على ثمن بخس؛ ولكن الأمر كان ينتهي بزيادة عشرة كوبيكات فقط وتسوى الأمور. أما الآن فيبدو أن بتروفتش غير ثمل، ولذلك فهو صعب المراس، لا يلين، وسيطلب على الأرجح ثمنا باهظا. أدرك أكاكي أكاكيفتش ذلك وأراد أن يعود أدراجه، ولكن كان قد بدأ الأمر. زر بتروفتش عينه الوحيدة مسدداً نظرتها الثاقبة إليه، فتفوه أكاكي أكاكيفتش مسلوب الإرادة:
- مرحباً يا بتروفتش!
- فقال بتروفتش:
- مرحباً بكم يا سيدي!

ونظر بطرف عينه نحو يدي أكاكي أكاكيفتش رغبة منه في أن يعرف ما هو الصيد الذي جاء به هذا إليه.
- ها أنذا قد جئت إليك، يا بتروفتش، بهذا! يعني...

وينبغي أن نعرف أن أكاكي أكاكيفتش كان يعبر عن أفكاره في أغلب الأحوال بحروف الجر والظروف وأخيرا بالأدوات التي ليس لها أي معنى على الإطلاق. أما إذا كانت المسألة صعبة جدا فقد كان من عادته ألا ينهي الجملة أبداً؛ ولذلك كان كثيراً ما يبدأ حديثه بهذه الكلمات: «هذا في الواقع... يعني... تماماً...»، وبعد ذلك لا يقول شيئاً، وينسى هو نفسه، وهو يظن أنه قد قال كل شيء.
- ما هذا؟

قال بتروفتش وتفحص أثناء ذلك بعينه الوحيدة حلة أكاكي أكاكيفتش كلها ابتداء من الياقة حتى الأكمام والظهر والصدر والعُرى وكل ما كان معروفا لديه جيدا، لأنه كان من صنع يديه. تلك عادة الخياطين، وهذا أول ما يفعله الخياط عندما يلقاك.
- وها أنذا، يا بتروفتش، يعني... المعطف... الجوخ... انظر، في كل مكان آخر مازال متيناً، لقد تعفر قليلا، ويبدو وكأنه قديم، لكنه جديد، فقط في مكان واحد، يعني... على الظهر، وأيضاً هنا على كتف واحد تلف قليلاً، وعلى هذا الكتف أيضاً قليلا، أترى، هذا كل شيء، عمل قليل!
أخذ بتروفتش القبوط وبسطه على الطاولة أولا وفحصه طويلا وهز رأسه ومد يده إلى النافذة ليأخذ علبة السعوط المستديرة والمرسوم عليها صورة جنرال ما، لا يعرف أي جنرال هو، لأن المكان الذي كان وجهه مرسوما عليه قد ثقب وغطي بقطعة ورق مربعة. واستنشق بتروفتش السعوط وبسط المعطف بين يديه وفحصه في مواجهة النور، وهز رأسه ثانية، ثم قلبه، فجعل بطانته إلى أعلى، وهز رأسه من جديد، ونزع من جديد غطاء العلبة بصورة الجنرال المغطى بورقة، وبعد أن حشا أنفه بالسعوط أغلق العلبة وخبأها... وأخيرا قال:
- كلا، لا يمكن إصلاحه؛ ملبس بال.

أحس أكاكي أكاكيفتش عند سماعه هذه الكلمات بوخزة في قلبه.
- ولماذا لا يمكن، يا بتروفتش؟ (قال بصوت ضارع كصوت الطفل تقريباً) كل ما فيه أنه أصبح خفيفاً عند الكتفين، وأنت لديك حتما قطع ما.
- نعم، يمكن أن أجد قطعا، القطع موجودة (قال بتروفتش) لكن لا يمكن تثبيتها؛ النسيج مهترئ تماما، ما إن تلمسه بالإبرة حتى يتفسخ.
- فليتفسخ، أما أنت فلتضع رقعة على الفور.
- ليس هناك ما توضع عليه الرقعة، لا يوجد ما تثبت عليه، إنه مستهلك جداً، الاسم فقط جوخ، ولكن لو هبَّت عليه الريح فسيتطاير.
- حاول أن تثبتها. كيف إذاً... في الواقع... يعني...؟!
- كلا (قال بتروفتش بحسم) لا يمكن عمل شيء. أما المعطف فيبدو أنك ستضطر إلى تفصيل واحد جديد.
عند سماع كلمة «جديد» غامت عينا أكاكي أكاكيفتش واختلط أمام نظره كل ما كان في الغرفة، لم ير بوضوح سوى الجنرال بوجهه المغطى بورقة على غطاء علبة سعوط بتروفتش.
- معطف جديد... كيف؟ (قال وكأنما لا يزال نائما) ليس لدي نقود لذلك.
- نعم، جديد (قال بتروفتش بهدوء وحشي)
- وإذا اضطررت إلى معطف جديد فكيف... يعني... هو...؟
- تقصد كم يساوي؟
- نعم.
- ثلاث ورقات من فئة الخمسين أو أكثر قليلا سيكون عليك أن تدفع.
- قال بتروفتش وزمّ شفتيه زمة ذات مغزى. كان يحب جدا التأثيرات القوية، كان يحب أن يربك من أمامه فجأة بطريقة ما، ثم ينظر بعد ذلك بطرف عينه إلى التعبير الذي يكسو ملامح الشخص المرتبك بعد سماع كلمات الخياط. وصرخ أكاكي أكاكيفتش المسكين:
- مائة وخمسون روبلا لمعطف!
صرخ ربما لأول مرة في حياته، فقد كان معروفا دائما بصوته الخافت.
- نعم (قال بتروفتش) وهذا يتوقف أيضاً على نوع المعطف؛ فلو وضعنا على الياقة فراء سنسار وبطنّا القلنسوة بالحرير فيصل إلى المائتين.
- بتروفتش! أرجوك! (قال أكاكي أكاكيفتش بصوت ضارع وهو لا يسمع ولا يحاول أن يسمع ما قاله بتروفتش من كلمات وجميع تأثيراته) أصلحه بأي شكل، لكي أستخدمه ولو فترة أخرى.
- كلا، هذا لا يمكن، سيكون ذلك إهداراً للعمل وتضييعا للنقود عبثا.
قال بتروفتش، فخرج أكاكي أكاكيفتش من عنده بعد هذه الكلمات محطما تماماً.

أما بتروفتش فقد ظل بعد خروجه واقفا مدة طويلة، وقد زمّ شفتيه زمة ذات مغزى، وهو لا يشرع في العمل، وقد أرضاه أنه لم يفرط في كرامته، كما أنه لم يخنْ فنه كخياط. عندما خرج أكاكي أكاكيفتش إلى الشارع كان كأنه في حلم. ومضى يحدث نفسه: «يا له من أمر! يا لها من قضية! في الحقيقة لم أكن أظن أن المسألة... يعني... ستكون...». وبعد فترة صمت استطرد: «هكذا إذاً! هذا حقا غير متوقع أبداً، يعني... أبداً، لكن... يا لها من مسألة!». وبعد أن قال ذلك، وبدلا من أن يذهب إلى البيت، سار في اتجاه آخر تماما، وهو لا يدري. وفي الطريق احتك به منظف مداخن بجنبه الملوث، فسوّد له كتفه كله. وانهال عليه كوم من الملاط من قمة منزل يجري بناؤه. لم يلاحظ ذلك كله. وفيما بعد، عندما اصطدم بالدركي الذي كان قد أسند بلطته إلى جواره وأخذ ينفض التبغ من علبة تبغه فوق راحته الخشنة، عندها أفاق أكاكي أكاكيفتش قليلاً؛ وذلك فقط لأن الحارس قال له: «مالك تندفع مصطدما بالسحنة!؟ أليس أمامك رصيف!؟». وقد جعله ذلك يتنبه ويعود أدراجه إلى المنزل. وهنا فقط بدأ يستجمع شتات أفكاره، فرأى وضعه في صورته الحقيقية الواضحة، وأخذ يحدث نفسه، لا بعبارات متقطعة، بل بحكمة وصراحة، كأنما يتحدث إلى زميل راجح يمكن أن تفضي إليه بأخص أسرار القلب. قال أكاكي أكاكيفتش: «لا، لا يمكن! الكلام مع بتروفتش الآن مستحيل! فهو الآن يعني... يبدو أن زوجته ضربته علقة بشكل ما. الأفضل أن أذهب إليه صباح الأحد، فبعد السبت سيكون زائغ النظرات ونعساناً وبحاجة إلى الشراب، وزوجته لن تعطيه نقودا. وعندئذ أدس... يعني... في يده عشرة كوبيكات، فيصبح الاتفاق معه أسهل، وعندئذ سيأخذ المعطف، يعني...». هكذا حدث أكاكي أكاكيفتش نفسه وشجعها. وانتظر حلول يوم الأحد. وعندما رأى من بعيد زوجة بتروفتش تخرج لأمر ما من المنزل، توجه إليه مباشرة. وبالفعل كان بتروفتش بعد السبت زائغ النظرات بشدة، ورأسه مدلى نحو الأرض، وكان نعساناً جداً. ورغم كل ذلك فما إن عرف بالأمر حتى اعتدل كأنما وخزه الشيطان، وقال: «لا يمكن! فلتتكرم بتفصيل معطف جديد». وهنا دس أكاكي أكاكيفتش في يده عشرة كوبيكات. فقال بتروفتش: «أشكرك، يا سيدي، سأشرب قليلاً في صحتك. أما بخصوص المعطف فلا تقلق، إنه لا ينفع أية منفعة. سأخيط لك معطفاً جديداً عظيماً، على هذا اتفقنا».

وأراد أكاكي أكاكيفتش أن يفتح فمه ليتحدث عن التصليح، ولكن بتروفتش لم يصغ إليه وقال: «سأخيط لك واحداً جديداً من كل بد، وبوسعك أن تعتمد علي في ذلك، سأبذل جهدي. ومن الممكن حسب الموضة الآن أن أركب الياقة بمشابك فضية».

وعندها أدرك أكاكي أكاكيفتش أنه لا يمكن التنصل من تفصيل معطف جديد، فانهار تماما. وبالفعل كيف يمكن أن يفصله، بأية نقود؟ ومن أين له؟ بالطبع كان من الممكن الاعتماد جزئياً على المكافأة القادمة بمناسبة العيد، ولكن هذا المبلغ قد وزع وحددت أوجه إنفاقه سلفاً منذ زمن بعيد؛ فقد كان من المطلوب اقتناء سروال جديد، وتسديد دين قديم للاسكافي مقابل تركيب رقبة جديدة للحذاء القديم، وكان عليه أيضاً أن يوصي الخياطة على ثلاثة قمصان وعلى قطعتين من تلك الملابس التي لا يليق ذكر اسمها في نص مطبوع؛ وباختصار، كان من المفروض إنفاق المبلغ كله، وحتى لو تكرم المدير وصرف له بدلاً من الأربعين روبلاً المقررة خمسة وأربعين أو خمسين فلن يتبقى منها مع ذلك سوى شيء تافه لن يكون في رصيد المعطف سوى قطرة من بحر. رغم أنه كان يعرف طبعاً أنه كان من عادة بتروفتش أحياناً أن يطلب فجأة مبلغا لا يعقل، حتى أن زوجته كانت لا تتمالك نفسها، فتصيح به: «ماذا دهاك!؟ هل جننت، أيها الأحمق؟! مرة لا يرضى أن يعمل بأي حال، والآن يدفعه الشيطان إلى طلب سعر لا يساويه المعطف حتى مقابل ثمانين روبلا، ومع ذلك فمن أين يأتي بالثمانين روبلا هذه؟ ربما أمكن تدبير نصف المبلغ، نعم، ربما وجد نصفه، بل وربما أكثر قليلاً، ولكن من أين يأتي بالنصف الآخر؟ ولكن ينبغي أولاً أن يعرف القارئ من أين جاء النصف الأول. كان من عادة أكاكي أكاكيفتش أن يوفر من كل روبل ينفقه نصف كوبيك ويضعه في صندوق صغير مقفل ذي فتحة في غطائه لإلقاء النقود فيها. وكان كل نصف عام يغير قطع النقود النحاسية المتجمعة هناك بقطع فضية. هكذا كان يفعل منذ زمن طويل، وعلى هذا النحو تجمع لديه خلال عدة سنوات مبلغ يفوق الأربعين روبلا. وهكذا فقد كان معه نصف المبلغ؛ ولكن من أين يأتي بالنصف الآخر؟ وفكر أكاكي أكاكيفتش طويلا، ثم قرر أنه ينبغي عليه أن يخفض نفقاته العادية، ولو خلال عام واحد على الأقل: يمتنع عن تناول الشاي كل مساء، ولا يشعل الشمعة مساء، فإذا تطلب الأمر أن يعمل فليذهب إلى غرفة صاحبة البيت ويعمل هناك على ضوء شمعتها، وأن يسير في الشارع بأقصى ما يمكن من الخفة والحذر وهو يخطو فوق الأحجار والبلاط على أطراف أصابعه تقريبا لكي لا يبلى نعله بسرعة، وأن يقلل ما أمكن من إعطاء ملابسه للغسالة، وحتى لا تبلى فعليه أن يخلعها كلما عاد إلى المنزل ويبقى فقط بالروب القطني العتيق جدا والذي رأف بحاله حتى الزمن نفسه. وللحقيقة ينبغي أن نقول إنه كان من الصعب عليه إلى حدٍّ ما في البداية أن يتعود على هذه القيود؛ ولكنه ألفها فيما بعد وسارت الأمور على ما يرام، بل إنه تعود تماما على الجوع في المساء، وفي المقابل فقد كان يتغذى معنويا، وهو يحمل في خاطره الفكرة الخالدة عن المعطف المقبل. ومنذ تلك اللحظة بدا وكأنَّ وجوده نفسه أصبح أكثر اكتمالاً، وكأنما تزوج، كأنما أصبح يلازمه شخص ما، كأنما لم يعد وحيداً، بل وافقت شريكة حياة لطيفة على أن تمضي معه في درب الحياة، ولم تكن شريكة الحياة تلك سوى المعطف ذي الحشوة القطنية السميكة والبطانة المتينة التي لا تعرف البلى. وأصبح أكاكي أكاكيفتش أكثر حيوية، بل وأصبحت شخصيته أكثر صلابة، كشخص حدد لنفسه هدفا وسعى إليه. واختفت من وجهه ومسلكه تلقائياً الشكوك والتردد، أي: كل الملامح المتذبذبة وغير المحددة. وكانت عيناه تتوقدان أحياناً، وكانت أكثر الخواطر جرأة وجسارة تومض في ذهنه؛ فماذا لو ركّب فعلا ياقة من فراء السنسار!؟ وكاد التفكير في ذلك أن يجعله نهبا لشرود الذهن. فذات مرة أوشك أن يخطئ وهو ينسخ الأوراق، حتى أنه صاح بصوت مسموع تقريبا: «أوه!» ورسم علامة الصليب. وكان كل شهر يزور بتروفتش مرة على الأقل لكي يتحدث عن المعطف، ومن أين يستحسن أن يشتري الجوخ، ومن أي لون، وبأي ثمن... وكان يعود من عنده مهموما بعض الأحيان، إلا أنه كان يعود راضياً دائما وهو يفكر في أنه سيأتي أخيرا ذلك الزمن الذي سيشتري فيه كل ذلك ويصبح المعطف جاهزاً. بل لقد سارت الأمور بأسرع مما كان يتوقع؛ فخلافا لكل الأحلام قرر المدير لأكاكي أكاكيفتش لا أربعين ولا خمسة وأربعين روبلا، بل ستين روبلا كاملة. وسواء أحس المدير أن أكاكي أكاكيفتش بحاجة إلى معطف أم أن ذلك حدث عفوا، فقد أصبح لديه نتيجة لذلك عشرون روبلا زيادة. وعجل هذا الوضع بسير الأمور، فبعد شهرين أو ثلاثة من الجوع البسيط أصبح لدى أكاكي أكاكيفتش بالضبط حوالي ثمانين روبلا. وبدأ قلبه، الذي كان هادئاً للغاية بصفة عامة، يدق. وفي نفس اليوم ذهب مع بتروفتش إلى المحلات، وابتاعا قماشاً جيداً جداً، ولا عجب؛ فقد كانا يفكران في ذلك قبلها بنصف عام، ونادرا ما مر شهر دون أن يذهبا إلى المحلات للنظر في الأسعار. وفي المقابل فقد قال بتروفتش نفسه إنه ليس هناك جوخ أفضل منه. واختار للبطانة قماشاً بفتة، ولكنه كان متينا وسميكا، وحسب كلام بتروفتش أفضل من الحرير، بل وكان منظره أبهى وأكثر لمعاناً. ولم يشتريا فراء السنسار، لأنه كان بالفعل غاليا، وبدلا منه اختارا فراء قط أفضل لم يجدا غيره في المحل، فراء قط يمكن دائما أن تظنه فراء سنسار إذا نظرت إليه من بعيد. واستغرق بتروفتش أسبوعين في خياطة المعطف، لأنه تطلب الكثير من التنجيد، ولولا ذلك لفرغ منه قبل ذلك. وأخذ بتروفتش اثني عشر روبلا أجرا، ولم يكن من الممكن إعطاؤه أقل من ذلك؛ فقد كانت الخياطة كلها بخيوط من الحرير وبخياطة دقيقة مزدوجة، ومر بتروفتش على كل الخياطة بأسنانه بعد ذلك مزيلا بها شتى النتوءات. وكان ذلك في... من الصعب أن نقول في أي يوم كان ذلك بالضبط، ولكنه على الأرجح كان أكثر الأيام مهابة في حياة أكاكي أكاكيفتش، وذلك عندما جاءه بتروفتش أخيراً بالمعطف. جاء به في الصباح بالضبط قبيل الوقت الذي كان على أكاكي أكاكيفتش فيه أن يذهب إلى الإدارة. وجاء هذا المعطف في وقت ليس هناك ما هو أكثر منه مناسبة، فقد بدأ بالفعل الصقيع الشديد، وبدا أنه ينذر بمزيد من البرد. وجاء بتروفتش بالمعطف كما ينبغي أن يأتي خياط جيد, فقد ظهر على وجهه تعبير أهمية لم يره أكاكي أكاكيفتش عليه من قبل قط. وبدا أنه يدرك الهوة التي تفصل بين الخياطين الذين يركبون البطانات فقط ويصلحون الملابس، وبين الخياطين الذين يخيطون الملابس الجديدة. وأخرج بتروفتش المعطف من المنديل الذي لفه به. وكان المنديل خارجا من أيدي الغسالة لتوه، وقد لفه بتروفتش بعد ذلك ووضعه في جيبه للاستعمال، وبعد أن أخرج المعطف نظر إليه بزهو شديد وأمسكه بكلتا يديه، ثم ألقى به بمهارة شديدة على كتفي أكاكي أكاكيفتش، ثم شده وسوَّاه بيده من الخلف إلى أسفل، ثم مر بيده على المعطف، وهو مسدل على كتفي أكاكي أكاكيفتش. ولكن أكاكي أكاكيفتش، كرجل متقدم في العمر، أراد أن يجرب المعطف، وقد ارتداه بأكمامه، فساعده بتروفتش على ارتدائه بأكمامه، فظهر أنه جيد بالأكمام أيضاً. وباختصار، فقد اتضح أن المعطف كان على مقاسه بالضبط. ولم ينس بتروفتش بهذه المناسبة أن يقول إنه فقط لأنه يعيش بدون لافتة وفي شارع صغير، وفوق ذلك يعرف أكاكي أكاكيفتش منذ فترة طويلة، فقد تقاضى أجراً قليلاً إلى هذا الحد. أما في شارع «نيفسكي» فكانوا سيأخذون منه خمسة وسبعين روبلا على الخياطة فقط. ولم يشأ أكاكي أكاكيفتش أن يجادل بتروفتش في ذلك، وعلاوة على ذلك فقد كان يخاف من تك المبالغ القوية التي كان يحلو لبتروفتش أن يوهم بها الزبائن. فنقده أجره وشكره وخرج على الفور في المعطف الجديد إلى الإدارة. وخرج بتروفتش في أثره ووقف في الشارع ينظر طويلاً إلى المعطف من بعيد. ثم انعطف عن عمد إلى حارة ملتوية لكي يختصر الطريق ويعود إلى الشارع ثانية وينظر مرة أخرى إلى المعطف، ولكن من ناحية أخرى، أي: من الوجه مباشرة. بينما كان أكاكي أكاكيفتش يسير ومشاعر البهجة تغمره. كان يشعر كل لحظة بأن على كتفيه معطفا جديدا، بل وضحك عدة مرات من السرور الداخلي. وبالفعل فقد كانت هناك منفعتان: واحدة هي أنه دافئ، والأخرى أنه حسن. ولم يلحظ الطريق أبداً، ووجد نفسه في الإدارة فجأة. وفي غرفة الحاجب خلع المعطف وتفحصه من جميع الجهات ووضعه في رعاية الحاجب الخاصة. ولا نعرف كيف علم جميع من في الإدارة فجأة أن لدى أكاكي أكاكيفتش معطفا جديدا، وأن معطفه السابق لم يعد له وجود بعد. وفي نفس اللحظة هرول الجميع إلى غرفة الحاجب ليروا معطف أكاكي أكاكيفتش الجديد. وراحوا يهنئونه ويحيونه، حتى أنه في البداية أخذ يبتسم فقط، ثم شعر بعد ذلك بالخجل، وعندما أخذ الجميع، وقد أحاطوا به، يقولون إنه لا بد من تدشين المعطف الجديد، وأنه ينبغي عليه على الأقل أن يقيم لهم جميعا حفلا، ارتبك أكاكي أكاكيفتش تماما، ولم يعرف ماذا يفعل وبمَ يردّ وكيف يتملص. وبعد بضع دقائق، وقد احمرّ كله، راح يؤكد لهم بسلامة نية أن هذا المعطف ليس جديداً أبداً وإنما هكذا مجرد معطف قديم. وأخيرا قال أحد الموظفين، بل كان أحد مساعدي رئيس القلم، ربما لكي يظهر أنه ليس متكبرا أبداً، بل ويتعامل مع من هم أدنى منه، قال: «طيب، فليكن! أنا سأقيم لكم حفلا بدلا من أكاكي أكاكيفتش، وأدعوكم اليوم لتناول الشاي. واليوم بالمناسبة عيد ميلادي». وعلى الفور هنأ الموظفون مساعد رئيس القلم وقبلوا دعوته بكل سرور. وأراد أكاكي أكاكيفتش أن يعتذر، ولكن الجميع راحوا يقولون إن ذلك لا يليق وأنه شيء معيب ومخجل، فلم يستطع أبدا أن يرفض الدعوة. وعلى العموم فقد شعر فيما بعد بالسرور عندما تذكر أن ذلك سيتيح له فرصة السير مساء أيضا في المعطف الجديد. وكان هذا اليوم كله بالنسبة أكاكي أكاكيفتش كأنما أكبر وأبهى عيد. وعاد إلى البيت في أسعد حالة، ونزع المعطف وعلقه بحرص على الجدار، وقد ملى عينيه مرة أخرى من الجوخ والبطانة، ثم أخرج معطفه القديم عمدا بقصد المقارنة، ذلك المعطف الذي تهرأ تماما، تطلع إليه فضحك هو نفسه منه؛ فما أبعد الفرق بينهما! وظل بعد ذلك وطوال الغداء يضحك كلما خطرت له حالة معطفه السابق. وتناول الغداء بمرح، ولم ينسخ شيئاً بعد الغداء، لم يمسك بأية أوراق، بل تمرغ في فراشه قليلا حتى هبط الظلام، ثم ارتدى المعطف دون تسويف وخرج إلى الشارع. وللأسف فإننا لا نستطيع أن نقول أين كان يسكن الموظف الذي دعاه، فقد بدأت الذاكرة تخوننا بشدة، فاختلط علينا كل شيء في بطرسبورغ، واندمجت كل البيوت والشوارع في الرأس، حتى أصبح من الصعوبة بمكان أن نستخرج منها شيئاً ما في صورة متسقة. وأياً كان الأمر، فإن الشيء الصحيح على الأقل هو أن الموظف كان يسكن في أحسن مناطق بطرسبورغ، وبالتالي بعيدا جدا عن أكاكي أكاكيفتش. كان على أكاكي أكاكيفتش في البداية أن يمر عبر بعض الشوارع المقفرة ذات الإضاءة الهزيلة. ولكن بقدر اقترابه من شقة الموظف أصبحت الشوارع أكثر حيوية وحركة وإضاءة. بدأ المارة يلوحون أكثر، ولاحت السيدات الأنيقات، وظهرت على الرجال ياقات من فراء السمور، ولم تظهر إلا نادراً الزخارف الشعبية الخشبية المليئة بالمسامير المذهبة. وعلى العكس من ذلك كثر الحوذيون المندفعون بسرعة بطواقيهم المخملية القرمزية، وبزحافاتهم المطلية باللاك اللامع، وبالأغطية المصنوعة من جلود الدببة. وكانت العربات ذات مقاعد الحوذية المزينة تنهب الشارع، وعجلاتها تصر على الثلج. وتطلع أكاكي أكاكيفتش إلى ذلك كله وكأنما يراه للمرة الأولى؛ إذ لم يخرج من داره مساء منذ عدة سنوات. وتوقف بفضول أمام واجهة متجر مضاءة ليتفرج على لوحة كانت تصور امرأة ما جميلة تخلع حذاءها كاشفة بذلك عن ساقها كلها، وكانت ساقا لا بأس بها أبداً. ومن خلفها أطل من باب غرفة أخرى رجل بسالفين ولحية جميلة تحت شفته. هزّ أكاكي أكاكيفتش رأسه وضحك ضحكة قصيرة، ثم مضى في حال سبيله. فهل يا ترى ضحك لأنه رأى شيئاً غير معروف له، ولكنه مع ذلك يترك في نفس كل من يراه حدسا ما؟! أم أنه ضحك لأنه فكر مثل كثيرين من الموظفين بهذه الصورة: «آه من هؤلاء الفرنسيين! ماذا بوسعك أن تقول؟ فهم إذا أرادوا شيئا ما... يعني... فهو بالضبط... يعني...»؟! وربما لم يفكر حتى في هذا، فمن الصعب أن تقحم نفسك في دخيلة إنسان ما لتعرف فيم يفكر. وأخيرا وصل إلى البيت الذي كان يقطنه مساعد رئيس القلم.

كان مساعد رئيس القلم يحيا في بحبوحة من العيش؛ فعلى سلم المدخل كان مصباح مضاء، وكانت شقته في الطابق الثاني. وعندما دخل أكاكي أكاكيفتش إلى الردهة رأى على الأرض صفوفا من الخفوف. وبينها، في وسط الغرفة، كان هناك سماور يغلي وينفث سحبا من البخار. وعلى الجدران علقت معاطف وأردية، كان من بينها معاطف بياقات من فراء السمور أو بطيات صدور من المخمل. وتناهى من وراء الجدار صخب ولغط أصبحا فجأة واضحين ورنانين عندما فتح الباب وخرج منه خادم يحمل صينية غاصة بالأكواب الفارغة ودورق حليب وسلة خبز مجفف. وكان واضحا أن الموظفين مجتمعون مدة طويلة وقد شربوا أول كوب شاي. وبعد أن علق أكاكي أكاكيفتش معطفه بنفسه داخل الغرفة، وفي نفس الوقت لاحت أمام ناظريه الشموع والموظفون والغلايين وموائد لعب الورق، وأصم سمعه حديث متصاعد من جميع الجهات وجلبة مقاعد يحركونها؛ توقف في وسط الغرفة مرتبكا تماما، وهو يبحث ويحاول أن يجد لنفسه شيئاً يفعله. ولكنهم كانوا قد لاحظوا وجوده، فاستقبلوه بالصياح ومضوا على الفور إلى الردهة وتفرجوا على معطفه مرة أخرى. ورغم أن أكاكي أكاكيفتش كان محرجا بعض الشيء؛ ولكنه، إذ كان شخصا سليم النية، لم يستطع إلا أن يفرح، وهو يرى أن الجميع يمتدحون المعطف. بعد ذلك تركوه ومعطفه بالطبع واتجهوا كما هو متبع إلى موائد لعب الورق. كان كل ذلك: الصخب واللغط وهذا الحشد من الناس، كان عجيباً بالنسبة لأكاكي أكاكيفتش. لم يكن يدري كيف يتصرف ولا ماذا يفعل بيديه وساقيه وجسمه كله. وأخيراً جلس إلى اللاعبين وتطلع إلى أوراق اللعب وحدق في وجه هذا وذلك. وبعد فترة من الوقت بدأ يتثاءب ويشعر بالملل، خاصة وأنه قد حان منذ زمن بعيد الموعد الذي كان عادة يأوي فيه إلى الفراش. وأراد أن يستأذن من رب الدار في الانصراف، ولكنهم لم يسمحوا له، قائلين إنه لا بد من تناول كأس شمبانيا بمناسبة المعطف الجديد. وبعد ساعة قدموا العشاء المكون من سلطة روسية ولحم عجول بارد وكبد مهروسة وقطع جاتوه وشمبانيا. وأجبروا أكاكي أكاكيفتش على شرب كأسين من الشمبانيا أحس بعدهما أن الجو في الغرفة أصبح أكثر مرحا، إلا أنه لم يستطع أبدا أن ينسى أن الساعة بلغت الثانية عشرة، وأن وقت عودته إلى البيت قد حان منذ زمن بعيد. ولكي لا يحاول صاحب البيت أن يستبقيه بطريقة ما، خرج أكاكي أكاكيفتش من الغرفة بهدوء وبحث عن معطفه في الردهة، فوجده للأسف ملقى على الأرض، فتناوله ونفضه ونزع منه كل ما علق به من زغب ووضعه على كتفيه ونزل على السلم إلى الشارع. كان الشارع لا يزال مضاءً. وكانت بعض المتاجر الصغيرة، هذه النوادي الدائمة للبوابين وغيرهم من الناس، لا تزال مفتوحة. أما البعض الآخر المغلق فكان يصدر عنه رغم ذلك شريط ضوء طويل عبر شق الباب كله، الأمر الذي كان يدل على أنها لم تخلُ بعد من تجمع بشري، إذ يبدو أن البوابين والسيّاس أو الخدم يوشكون على الفراغ من أحاديثهم ورواياتهم، موقعين أسيادهم في حيرة كاملة بخصوص أماكن تواجدهم. سار أكاكي أكاكيفتش مرح النفس حتى أنه همَّ بالركض فجأة لسبب مجهول وراء سيدة ما مرقت بجواره كالبرق، وكان كل طرف من أطراف جسدها مفعما بحركة غير عادية. إلا أنه مع ذلك توقف على الفور وسار كما في السابق بهدوء شديد، ودهش هو نفسه من ركضه الذي لا يعرف من أين حلَّ عليه. وسرعان ما امتدت أمامه تلك الشوارع الخاوية التي لا تتسم بمرح خاص حتى في النهار، فما بالك بالمساء! لقد أصبحت الآن أكثر خواء وعزلة. ومضت المصابيح أضعف، إذ يبدو أن الزيت فيها أصبح قليلا، وبدأت تلوح المنازل الخشبية والأسيجة. ولم يكن هناك أحد على الإطلاق. الثلج فقط هو الذي كان يلمع في الشوارع. ولاحت الأشباح السوداء الحزينة للأكواخ المنخفضة النائمة، بنوافذها الموصدة الشيش. واقترب من ذلك المكان الذي كان الشارع يتقاطع فيه مع ميدان لا نهاية له، لا تكاد المنازل تبين في طرفه الآخر. وكان هذا الميدان يبدو كصحراء رهيبة.

ومن بعيد، من مكان لا يعلمه إلا الله، ومض ضوء في كشك حراسة بدا وكأنه قائم في آخر الدنيا. وهنا انخفض مرح أكاكي أكاكيفتش إلى حد كبير. ودخل الميدان بإحساس لا إرادي بالخوف، كأنما كان قلبه يحدسه بشر. ونظر خلفه وتلفت حواليه، فبدا ما حوله وكأنه بحر. فقال في نفسه: «كلا، من الأفضل ألا أنظر». وسار مغمض العينين، وعندما فتحهما ليعرف هل أوشك الميدان على الانتهاء أم لا، رأى أمامه فجأة، تحت أنفه تقريبا، شخصين بشوارب، ولكنه لم يستطع حتى أن يميز أي شخصين هما. وغامت عيناه، وخفق قلبه بعنف. «ولكن هذا المعطف معطفي!»، قال أحدهما بصوت راعد، وأمسك بياقة معطفه. وأراد أكاكي أكاكيفتش أن يصرخ: «النجدة!»، ولكن الآخر دس أمام فمه مباشرة قبضة بحجم رأس موظف، ودمدم: «حاول أن تصرخ». ولم يشعر أكاكي أكاكيفتش إلا وهما ينزعان عنه المعطف، ثم ركلاه ركلة قوية، فسقط على وجهه فوق الثلج، ولم يعد يشعر بشيء أكثر من ذلك. وبعد بضع دقائق عاد إلى وعيه، فنهض على قدميه؛ ولكن لم يكن هناك أحد، وأحس أن الجو بارد، وأن المعطف ليس موجوداً، فأخذ يصرخ، ولكن صوته كما بدا لم يكن ينوي أن يبلغ آخر الميدان. فانطلق أكاكي أكاكيفتش يركض في يأس، وهو لا يكف عن الصراخ، متجها، عبر الميدان، إلى كشك الحراسة مباشرة، حيث كان الدركي يقف متكئا على البلطة، وهو يتطلع فيما يبدو بفضول ويريد أن يعرف أي شيطان دفع هذا الشخص إلى الركض نحوه صارخا من بعيد. وعندما بلغه أكاكي أكاكيفتش راح يصرخ بصوت مختنق بأنه نائم ولا يحرس شيئاً، ولا يرى كيف ينهبون الناس. فأجاب الدركي بأنه لم ير شيئا وأنه رأى كيف استوقفه شخصان وسط الميدان، ولكنه ظن أنهما من معارفه، وأنه بدلا من السباب عبثاً من الأفضل أن يذهب غدا إلى المفتش، وسيعثر المفتش على من سرق المعطف. وعاد أكاكي أكاكيفتش إلى المنزل في اضطراب تام، فقد تبعثر شعره الذي تبقى لديه بكمية صغيرة عند صدغيه ومؤخرة رأسه، وكان جنبه وصدره وسرواله ملوثة بالثلج كلها. وعندما سمعت العجوز، صاحبة شقته، دقا رهيبا على الباب نهضت من فراشها على عجل وركضت بفردة شبشب واحدة في قدمها لتفتح الباب وقد شدت بإحدى يديها القميص على صدرها من التواضع؛ ولكن عندما فتحت الباب تراجعت إلى الخلف، إذ رأت أكاكي أكاكيفتش في هذه الهيئة. عندما قص عليها ما حدث له أشاحت بيديها وأشارت عليه بأن يذهب مباشرة إلى مأمور القسم، لأن شرطي الحي سيخدعه، فسيعده بالبحث، ثم يماطل بعد ذلك. أفضل شيء أن يذهب إلى المأمور، مباشرة، بل أنها تعرف المأمور لأن الفنلندية التي كانت تعمل عندها طاهية، أصبحت تعمل الآن عند المأمور مربية، بل إنه كثيرا ما تراه شخصيا عندما يمر بجوار منزلهم، كما أنه يتردد على الكنيسة كل أحد ليصلي وفي الوقت نفسه يتطلع إلى الجميع بمرح، ولذلك فهو على ما يبدو رجل طيب. وبعد أن سمع أكاكي أكاكيفتش هذا القرار جر ساقيه حزينا إلى غرفته. أما كيف قضى ليلته فلنترك الحكم على ذلك لمن يستطيع أن يتخيل ولو إلى حدٍّ ما وضع شخص آخر. وفي الصباح الباكر مضى إلى المأمور. فقيل له إنه نائم. وعاد في العاشرة، فقيل له ثانية إنه نائم. فعاد في الحادية عشرة، فقيل له إن المأمور غادر البيت. فعاد ساعة الغداء، إلا أن الكتبة في المدخل لم يريدوا أن يسمحوا له بالدخول وأصروا على أن يعرفوا الغرض من زيارته وماذا يريد وماذا حدث؛ لكن أكاكي أكاكيفتش أراد أخيراً أن يبدي صلابة ولو مرة في حياته، فقال بلهجة قاطعة إنه يريد مقابلة المأمور نفسه وأنهم لا يملكون حق أن يمنعوه من مقابلته، وأنه جاء من الإدارة في عمل رسمي، وأنه سوف يشكوهم وعندئذ سيرون. ولم يستطع الكتبة أن يقولوا شيئاً أمام ذلك، فذهب أحدهم لاستدعاء المأمور. وكان موقف المأمور من روايته عن السرقة غريبا للغاية؛ فبدلا من أن يوجه اهتمامه إلى النقطة الأساسية في الموضوع راح يسأل أكاكي أكاكيفتش لماذا عاد في هذه الساعة المتأخرة، وألم يعرج في الطريق على أحد المنازل المشبوهة، حتى أن أكاكي أكاكيفتش أحرج تماما، وخرج من عنده وهو لا يعرف هل ستسير قضية معطفه كما ينبغي أم لا. لقد قضى هذا النهار كله غائبا عن العمل (المرة الوحيدة في حياته). وفي اليوم التالي جاء شاحبا وفي قبوطه القديم الذي أصبح أكثر بؤسا. وهزت قصة سرقة المعطف قلوب الكثيرين، بالرغم من أنه كان هناك بعض الموظفين الذين لم يتورعوا حتى في هذه المناسبة عن السخرية من أكاكي أكاكيفتش. وقرروا على الفور أن يجمعوا له تبرعا، إلا أنهم جمعوا مبلغا تافها؛ لأن الموظفين كانوا قد أنفقوا الكثير في الاكتتاب لرسم صورة للمدير، وفي شراء كتاب ما اقترحه عليهم رئيس القسم الذي كان صديقا للمؤلف. وهكذا جمعوا مبلغا تافها للغاية. وقرر أحدهم، بوازع من الشفقة، أن يساعد أكاكي أكاكيفتش على الأقل بنصيحة طيبة، فأشار عليه بألا يذهب إلى شرطي الحي، إذ بالرغم من أنه قد يحدث أن يتمكن الشرطي، رغبة منه في كسب تقدير الرؤساء، من العثور على المعطف بطريقة ما، لكن المعطف مع ذلك سيبقى في قسم البوليس ما لم يقدم أكاكي أكاكيفتش أدلة قانونية على ملكيته له. أفضل شيء أن يقصد أحد الشخصيات الهامة، فهذا الشخصية الهامة يستطيع، بالاتصال ومخاطبة من ينبغي، أن يدفع القضية بنجاح أكبر. ولم يكن أمام أكاكي أكاكيفتش من مفر، إنما ينبغي أن نعلم أن أحد الشخصيات الهامة أصبح منذ فترة قريبة شخصية هامة، أما قبل ذلك فكان شخصية غير هامة. على أية حال فإن منصبه لا يعتبر حتى الآن هاما بالمقارنة مع المناصب الأخرى الأكثر أهمية؛ غير أنك ستجد دائما دائرة من الناس الذين يعتبرون مهما ما يبدو في عيون الآخرين غير مهم. على أية حال، حاول هذا الشخصية الهامة أن يزيد من أهميته بوسائل أخرى كثيرة، وبالتحديد فقد عمل على أن يستقبله الموظفون الصغار على السلم ساعة حضوره إلى وظيفته، وألا يجرؤ أحد على الدخول إليه مباشرة، بل يمضي كل شيء وفق نظام صارم: يبلغ المساعد الاعتباري سكرتير المحافظ، ويبلغ سكرتير المحافظ المستشار الاعتباري أو شخصا آخر، وبهذه الطريقة يبلغ الأمر إليه. هكذا تنتشر عدوى التقليد إلى كل شيء في روسيا المقدسة، ويحاول كل شخص أن يقلد رئيسه ويتشبه به. بل ويقال إن مستشارا اعتباريا عندما عينوه رئيسا لإحدى الإدارات الصغيرة المستقلة، اقتطع لنفسه على الفور غرفة خاصة وسماها «غرفة الحضور» ووضع على بابها حُجَّابا بياقات حمراء، كانوا يمسكون بمقبض الباب ويفتحونه أمام كل وافد، على الرغم من أن «غرفة الحضور» كانت لا تتسع إلا بالكاد لطاولة مكتب عادية. لقد كانت أساليب وعادات الشخصية الهامة رصينة ومهيبة، ولكن دون تعقيد. كانت الصرامة هي القاعدة الأساسية لنظامه، وكان يقول عادة: «الصرامة، والصرامة، ثم الصرامة»، وعند الكلمة الأخيرة يحدق في العادة بأهمية في وجه من يخاطبه، رغم أن ذلك على أية حال لم يكن له أدنى مبرر، لأن الموظفين العشرة، الذين كانوا يشكلون كل الجهاز الحكومي للإدارة، كانوا حتى بدون ذلك مرعوبين بدرجة كافية، فما إن يروه من بعيد حتى يتركوا أعمالهم ويقفوا في انتباه، منتظرين حتى يمر الرئيس عبر الغرفة. وكان حديثه العادي مع مرؤوسيه يتسم بالصرامة، ويتألف تقريبا من ثلاث جمل: «كيف تجرؤ؟ هل تعلم مع من تتحدث؟ هل تفهم أمام من تقف؟». على أية حال، كان في قرارته رجلاً طيباً، لطيفا مع رفاقه، خدوماً، إلا أن رتبة الجنرال أفقدته توازنه، فما أن حصل على رتبة الجنرال حتى ارتبك وضل طريقه ولم يعرف أبداً كيف يتصرف، فإذا حدث أن اجتمع مع أناس من مستواه كان يبدو إنساناً كما ينبغي، إنساناً مستقيما جدا، بل وحتى إنساناً غير غبي في كثير من النواحي. ولكن ما إن يتواجد في مجتمع فيه أشخاص أدنى منه ولو برتبة واحدة حتى يصبح شخصا لا أمل منه؛ كان يركن إلى الصمت، ويثير وضعه الشفقة، خاصة وأنه هو نفسه كان يشعر بأنه كان من الممكن أن يقضي وقته بصورة أفضل بكثير. وكانت تتبدى في عينيه أحيانا رغبة قوية بالمشاركة في أحد الأحاديث أو الانضمام إلى إحدى الحلقات الشيقة، فتصده عن ذلك فكرة: لن يكون ذلك تنازلا كبيرا من جانبه! ألن يكون في ذلك رفع للكلفة!؟ ألن يكون في ذلك إهدار لأهميته!؟... ونتيجة لهذه الأفكار يظل دائما في حالة الصمت التي لا تتغير، فلا يتفوه إلا نادراً، بأصوات أحادية المقاطع، حتى استحق لقب «أضجر إنسان». إلى هذه الشخصية الهامة توجه صاحبنا أكاكي أكاكيفتش، ووصل في وقت غير موات أبدا وغير مناسب أبدا له، وإن كان على أية حال مناسبا للشخصية الهامة.

كان صاحبنا الشخصية الهامة في غرفة مكتبه يتحدث، وهو في غاية المرح، مع شخص جاء منذ طويل. وفي هذه الأثناء أبلغوه أن شخصا يدعى بشماتشكين يريد مقابلته. فسأل باقتضاب: «من القادم؟». فأجابوه: «أحد الموظفين». فقال الرجل الهام: «آه! فلينتظر، لا وقت عندي الآن». ومن المناسب هنا أن نذكر أن الرجل الهام قد كذب تماما؛ فقد كان لديه وقت، إذ إنه انتهى منذ زمن بعيد من الحديث مع زميله حول كل شيء، ومنذ زمن بعيد أخذت تتخلل حديثهما فترات صمت طويلة، وبين الحين والحين يربت أحدهما على ساق الآخر مرددا: «هكذا يا إيفان إبراموفتش!».

نعم، يا ستيبان فارلاموفتش!

ومع ذلك، ورغم كل شيء، فقط أمر الموظف أن ينتظر لكي يُظهر لزميله، هذا الرجل الذي لم يمارس الخدمة منذ زمن بعيد واستقر في داره بالقرية، كم من الزمن ينتظره الموظفون في الردهة. وأخيرا، وبعد أن شبعا من الكلام وبعد أن شبعا أكثر من الصمت ودخن كل منهما سيجارا على كراسٍ وثيرة للغاية بمساند متحركة، قال، وكأنما تذكر فجأة للسكرتير الذي وقف بجوار الباب حاملا أوراقا ليقدم له التقارير: «نعم، أعتقد أن هناك موظفا ينتظر، أخبره أنه يستطيع أن يدخل». وعندما رأى هيئة أكاكي أكاكيفتش المستكينة ومعطفه الرسمي القديم التفت نحوه فجأة وقال: «أي خدمة؟» بصوت قاطع حاسم تدرب عليه من قبل في غرفته على انفراد أمام المرآة، وذلك قبل أسبوع من توليه منصبه الحالي ورتبة الجنرال. وكان أكاكي أكاكيفتش قد تملكه الوجل قبل ذلك بوقت طويل، فارتبك قليلا، ثم مضى يشرح له قضيته كيفما استطاع وعلى قدر ما سمحت له طلاقة لسانه، مع اللجوء أكثر من أي وقت سبق إلى استخدام كلمة «يعني»، فقال إنه كان لديه معطف جديد تماماً، وها قد نهب بصورة لا إنسانية، وأنه يتوجه إليه لكي يتشفع له بما لديه «يعني...» ولكي يخاطب السيد مدير الشرطة أو غيره من المسؤولين لكي يجدوا المعطف. ولسبب ما بدت هذه اللهجة للجنرال خالية من الكلفة، فقال له بصوت قاطع:
- ما هذا!؟ يا سيدي المحترم، ألا تعرف النظام؟ إلى أين جئت؟ ألا تعرف كيف تصرف الأمور؟ كان ينبغي قبل كل شيء أن تقدم طلبا في الإدارة، فيرفع الطلب إلى رئيس القلم، ثم إلى رئيس القسم، ثم إلى السكرتير، وعندئذ يرفعه السكرتير إليَّ.
- ولكن، يا صاحب المعالي (قال أكاكي أكاكيفتش محاولاً أن يستجمع آخر حفنة تبقت لديه من الشجاعة، وهو يشعر في الوقت نفسه أن العرق يتصبب منه بصورة فظيعة) أنا، يا صاحب المعالي، لم أجرؤ على إزعاج معاليكم إلا الآن، السكرتيرون يعني... لا يعتمد عليهم...
فقال الشخصية الهامة:
- ماذا؟ ماذا؟ ماذا؟ من أين جئت بهذه الجرأة؟ من أين جئت بهذه الأفكار؟ ما هذا التمرد الذي انتشر بين الشباب ضد الرؤساء والكبار؟
- ويبدو أن الشخصية الهامة لم يلاحظ أن أكاكي أكاكيفتش قد جاوز الخمسين، وبالتالي فلو كان من الممكن اعتباره شابا فلا يعدو ذلك أن يكون أمراً نسبيا، أي بالنسبة لمن هم في السبعين.
- أتدري لمن تقول هذا الكلام؟ هل تفهم أمام من تقف؟ هل تفهم ذلك؟ هل تفهم ذلك؟ إنني أسألك!

وهنا دق بقدمه رافعاً صوته إلى طبقة عالية إلى درجة أنه حتى لو كان الواقف أمامه شخصاً غير أكاكي أكاكيفتش لأصابه الرعب. أما أكاكي أكاكيفتش فقد صُعق وترنح، واهتز بدنه كله، ولم يتمكن أبدا من الوقوف، ولولا أن الحراس هرعوا راكضين وأسندوه لانهار على الأرض. وحملوه من الغرفة، وهو بلا حراك تقريبا. أما الشخصية الهامة، وقد أرضاه أن تأثير كلماته فاق حتى توقعاته، وانتشى من فكرة أن كلمته قد تفقد الإنسان وعيه، فنظر بطرف عينه إلى صديقه ليعرف كيف ينظر إلى ما حدث، فرأى بإحساس لا يخلو من المتعة أن صديقه في حالة من القلق البالغ، بل وبدأ يشعر بالخوف.

لم يذكر أكاكي أكاكيفتش مطلقا كيف نزل على الدرج وخرج إلى الشارع، ولم يكن يحس بيديه ولا بساقيه. لم يحدث له في حياته أن نهره جنرال بهذا العنف. وعلاوة على ذلك جنرال ليس رئيسه. سار في العاصفة الثلجية التي كانت تعربد في الشوارع فاغراً فاه، وهو يتخبط بين الأرصفة. وهبت عليه الريح، كما العادة في بطرسبورغ، من الجهات الأربع كلها ومن جميع الحواري. وعلى الفور أصيب من البرد بورم في زوره، وعندما وصل إلى البيت لم يكن في وسعه حتى أن يتفوه بكلمة. وتورم بدنه كله، فرقد في الفراش. إلى هذه الدرجة يكون التعنيف قوياً أحياناً! وفي اليوم التالي أصيب بحمى شديدة. وبفضل مساعدة جو بطرسبورغ الرحيم سار المرض بأسرع من المتوقع. وعندما جاء الطبيب، وجس نبضه، لم يجد ما يشير به سوى الكمادات، وذلك فقط حتى لا يبقى المريض بدون عناية الطب الخيرة. وعلى العموم فقد أعلن الطبيب ساعتها أن نهايته المؤكدة ستحل بعد يوم ونصف. وبعد ذلك قال لربة الدار: «أما أنت، يا سيدتي، فلا تضيعي الوقت وجهزي له من الآن تابوتا من خشب الصنوبر، لأن خشب البلوط سكون غالياً بالنسبة له». فهل سمع أكاكي أكاكيفتش هذه الكلمات المشؤومة؟وإذا سمعها فهل كان لها عليه تأثير مذهل، وهل شعر بالأسى على حياته الشقية؟ نحن لا نعرف عن ذلك شيئاً، لأن أكاكي أكاكيفتش كان طوال الوقت يهذي في غيبوبة الحمى. وتوالت على ذهنه الرؤى بلا انقطاع، كل رؤيا أغرب من سابقتها؛ فمرة يرى الخياط بتروفتش، فيوصيه بتفصيل معطف بفخاخ للصوص الذين كانوا يبدون له طوال الوقت تحت السرير، فكان يدعو ربة الدار كل لحظة لتنتشل لصا حتى من تحت البطانية؛ وتارة كان يسأل لماذا يعلقون قبوطه القديم أمامه، فلديه معطف جديد؛ وتارة يخيل إليه أنه يقف أمام الجنرال يصغي إلى تعنيفه وهو يقول: «آسف، يا صاحب المعالي»؛ وتارة، وأخيراً، كان يسب متفوها بأفظع الكلمات، حتى أن ربة الدار العجوز كانت ترسم علامة الصليب، إذ لم تسمع منه قبلاً كلمات كهذه أبداً، خاصة وأن هذه الكلمات كانت تأتي مباشرة بعد عبارة: «يا صاحب المعالي». وبعد ذلك كان يهذي بأشياء لا معنى لها تماما، فلم يكن يفهم منها شيء. الأمر الوحيد الذي كان يبدو واضحاً أن هذه الكلمات والأفكار المشوشة كانت تدور حول المعطف فقط. وأخيراً، لفظ أكاكي أكاكيفتش المسكين آخر أنفاسه. ولم توصد غرفته أو ممتلكاته بالأختام، لأنه: أولاً: لم يكن هناك ورثة، وثانياً: لم يتبق لديه من الميراث إلا القليل. وخلت بطرسبورغ من أكاكي أكاكيفتش وكأنما لم يكن موجودا فيها أبداً. اختفى وغاب ذلك المخلوق الذي لم يكن له من يحميه والذي لم يكن عزيزا على أحد ولا شيقا بالنسبة لأحد، والذي لم يجذب إليه انتباه حتى عالم الطبيعة الذي لا يدع ذبابة عادية دون أن يغرس فيها دبوسا ويفحصها تحت المجهر؛ ذلك المخلوق الذي تحمل بإذعان سخريات الكتبة الموظفين، والذي واراه التراب دونما علة خارقة؛ ولكنه مع ذلك ولو قبيل نهاية عمره زاره ضيف جميل في صورة معطف بعث الحيوية ولو للحظة في تلك الحياة البائسة؛ ذلك المخلوق الذي دهمته فيما بعد الكارثة القاسية كما دهمت القياصرة والحكام. وبعد بضعة أيام من وفاته أرسلوا حارسا من الإدارة إلى شقته ليأمره بالحضور فورا، فالرئيس يطلبه؛ ولكن كان على الحارس أن يعود صفر اليدين، قائلا إنه لا يستطيع بعد الآن أن يأتي. وعلى هذا السؤال: «لماذا؟» أجاب بالكلمات التالية: «هكذا! فقد مات ودفن منذ أربعة أيام». وهكذا علموا في الإدارة بوفاة أكاكي أكاكيفتش. وفي اليوم التالي كان يجلس في مكانه موظف جديد، أطول منه قامة بكثير، يكتب الحروف بخط ليس باستقامة أكاكي أكاكيفتش، بل بميل وانحراف أكثر.

ولكن، من كان يتصور أن هذا ليس كل شيء عن أكاكي أكاكيفتش، وأنه كان مقدراً له أن يعيش عدة أيام صاخبة بعد وفاته، وكأنما مكافأة له على حياته التي لم ينتبه إليها أحد؟ ولكن هذا ما حدث، وها هي روايتنا البائسة تنتهي فجأة نهاية خيالية. انتشرت في بطرسبورغ فجأة شائعات تقول إنه عند جسر «كالينكين» وفيما وراءه بكثير يظهر في الليالي ميت في صورة موظف يبحث عن معطف مسروق، وبحجة هذا المعطف المسروق ينتزع كافة المعاطف من على جميع الأكتاف، غير آبه للقب أو لرتبة، سواء كانت بياقات من فراء القطط أو السمور أو مبطنة بالقطن أو معاطف فراء من جلد الثعالب أو الدببة؛ وباختصار، كافة أنواع الفراء والجلود التي ابتكرها البشر ليستروا بها أنفسهم. وقد نظر أحد موظفي الإدارات في عيني ذلك الميت وعرف فيه على الفور أكاكي أكاكيفتش، بيد أن ذلك أصابه بفزع شديد، حتى أنه ولى هارباً بكل قواه، ولهذا لم يتمكن من التدقيق جيداً، بل رآه فقط، وهو يلوح له من بعيد بأصبعه مهدداً. وصدرت الأوامر للشرطة بالقبض على الميت بأية وسيلة، حيا أو ميتا، ومعاقبته أقسى العقاب، ليكون عبرة للآخرين. وكادوا أن يفلحوا في ذلك؛ ولكننا مع ذلك تركنا تماما ذلك الشخصية الهامة، والذي يكاد أن يكون في الحقيقة سبب الاتجاه الخيالي الذي سارت فيه هذه القصة، الحقيقية تماما على أية حال. إن واجب العدالة يتطلب منا قبل كل شيء أن نقول إن الشخصية الهامة سرعان ما أحس بنوع من الأسف بعد انصراف أكاكي أكاكيفتش المسكين الذي نزل به ذلك التعنيف القاسي؛ فلم يكن الإحساس بالشفقة غريبا عليه، وكان قلبه قادرا على إبداء كثير من المشاعر الطيبة، على الرغم من أن رتبته كانت تعوقه كثيرا عن البوح بها. فما إن خرج زميله الزائر من غرفة مكتبه حتى انصرف تفكيره إلى أكاكي أكاكيفتش المسكين. ومنذ تلك اللحظة كان يتخيل كل يوم تقريبا أكاكي أكاكيفتش الشاحب الذي لم يتحمل تعنيفه الصارم. وأقلقه التفكير فيه، إلى درجة أنه قرر بعد أسبوع أن يرسل إليه موظفا ليعرف أحواله وهل يستطيع حقا أن يساعده بطريقة ما. وعندما أبلغوه أن أكاكي أكاكيفتش قد عاجله الموت مصابا بالحمى، اعتراه الذهول، وسمع صوت ضميره يؤنبه، وظل طول اليوم معتل المزاج. وأراد أن يسِّري عن نفسه بصورة ما وينسى ذلك الانطباع المقبض، فتوجه ليقضي المساء عند أحد زملائه وجد عنده جماعة محترمة، والأهم من ذلك أن الجميع هناك كانوا من نفس الرتبة تقريبا، فلم يكن ثمة شيء يقيد تصرفاته، وكان لذلك تأثير مدهش على حالته النفسية، فانطلق وأصبح لطيفاً في حديثه، ولبقاً؛ وباختصار، قضى المساء على نحو طيب للغاية. وعلى العشاء شرب كأسي شمبانيا، تلك الوسيلة المؤثرة تأثيراً لابأس به فيما يخص المرح كما هو معروف. ومنحته الشمبانيا ميلا إلى شتى أنواع المفاجآت، وبالتحديد فقد قرر ألا يعود إلى المنزل، بل يمضي إلى سيدة معروفة تدعى كارولينا إيفانوفنا، وهي سيدة فيما يبدو من أصل ألماني، كان يكنُّ لها مشاعر صداقة محضة. ومن الجدير بالذكر أن الشخصية الهامة كان رجلا قد جاوز الشباب وزوجا طيبا ورب أسرة محترما. وكان ابناه، وأحدهما يعمل عنده في الإدارة، وابنته اللطيفة البالغة ستة عشر عاما وذات الأنف الأعقف قليلا، ولكنه أنف جميل، كانا يقبلان عليه كل يوم ليلثما يده قائلين: «bonjour,papa». أما قرينته، وهي امرأة لا تزال نضرة، بل وحتى ليس فيها ما يعيب، فكانت تعطيه يدها أولا ليلثمها ثم تقلبها على الوجه الآخر لتقبل يده هو. ولكن الشخصية الهامة، الذي كان على أية حال راضيا تماما عن الملاطفات العائلية المنزلية، وجد من اللائق أن تكون له صاحبة للعلاقات الودية في القسم الآخر من المدينة. ولم تكن هذه الصاحبة أفضل أو أصغر سنا من زوجته، ولكن مثل هذه الألغاز توجد في الدنيا، وليس من شأننا أن نناقشها. وهكذا هبط الشخصية الهامة على الدرج واستقل الزحافة وقال للحوذي: «إلى كارولينا إيفانوفنا». أما هو فتغطى بالمعطف الدافئ في جلسة وثيرة للغاية وبقي في ذلك الوضع اللطيف. وتذكر وهو في غاية الرضا كل اللحظات المرحة في الأمسية التي قضاها، وكل الكلمات التي أثارت ضحكات تلك المجموعة الصغيرة، وردد كثيرا منها بصوت خافت، فوجدها جميعا مضحكة كما كانت، ولذلك فليس من الغريب أن يضحك هو نفسه من كل قلبه. ومع ذلك كانت تنغص عليه أحياناً ريح حارة متقطعة تهب فجأة من حيث لا يعلم إلا الله ولسبب لا يدريه أحد، فتلهب وجهه وتلقي عليه بقطعاً من الثلج وتنشر كما الشراع ياقة المعطف أو تلقي بها فجأة بقوة رهيبة على رأسه، فتكلفه عناء لا ينتهي في محاولة التخلص منها. وفجأة أحس الشخصية الهامة بأحد ما يمسك بياقة معطفه بقوة. وعندما التفت رأى رجلاً قصير القامة في معطف رسمي قديم مهترئ، فعرف فيه لرعبه أكاكي أكاكيفتش. كان وجه الموظف شاحبا بلون الثلج، وبدا ميتاً تماماً. ولكن رعب الشخصية الهامة فاق كل الحديد عندما رأى فم الميت يتلوى منفرجاً وتهب منه عليه رائحة القبور الرهيبة ويلفظ هذه الكلمات: «آه! ها أنت ذا أخيرا! أخيراً أنا... يعني... أمسكت بك من ياقتك! معطفك بالذات هو ما أحتاج إليه! لم تسعَ لاسترداد معطفي، بل وعنفتني. حسنا! هات الآن معطفك!». وكاد الشخصية الهامة المسكين أن يموت؛ أحس برعب شديد إلى درجة أنه بدأ يخشى، وليس دون مبرر، من أن تكون قد أصابته نوبة نفسية. وأسرع إلى نزع معطفه بنفسه عن كتفيه، وصرخ في الحوذي بصوت غير طبيعي: «اسرع إلى البيت بكل قواك!». وعندما سمع الحوذي نبرة الصوت التي لا تتردد عادة إلا في المواقف الحاسمة، بل وتصاحبها حركات أكثر انفعالاً، دفن رأسه بين كتفيه تحوطا، ولوح بالسوط واندفع بالعربة كالسهم، وبعد ست دقائق أو أكثر قليلا كان الشخصية الهامة أمام مدخل بيته. وصل شاحباً، مفزوعاً، وبلا معطف، إلى بيته بدلا من أن يصل إلى كارولينا إيفانوفنا، وجر ساقيه كيفما اتفق حتى وصل إلى رفته، وقضى ليلته في اضطراب شديد، حتى أن ابنته قالت له في صباح اليوم التالي، وهم يتناولون الشاي: «أنت اليوم شاحب جدا يا بابا». ولكن «بابا» لزم الصمت، ولم يخبر أحداً بما حدث له وأين كان وإلى أين كان ينوي الذهاب؛ لقد ترك هذا الحادث أثرا قويا في نفسه، بل إنه أصبح نادراً ما يقول لمرؤوسيه: «كيف تجرؤ؟ هل تفهم أمام من أنت؟»، وحتى إذا قالها فما كان يفعل إلا بعد أن يستمع أولاً إلى شرح الموضوع. ولكن الأمر الأجدر بالملاحظة أنه منذ تلك الساعة كف الميت الموظف تماما عن الظهور، إذ يبدو أن أحداً ما ينتزع المعاطف من على الأكتاف. ولكن كثيراً من رجال الأعمال الحريصين لم يريدوا أبداً أن يركنوا إلى الطمأنينة وراحوا يرددون أن الميت الموظف مازال يظهر في أطراف المدينة البعيدة. وبالفعل فقد رأى أحد رجال الدرك في حي «كولومنسكي» بعينيه شبحا يظهر من خلف أحد المنازل، بيد أنه لم يتمكن من إيقاف الشبح، بل سار خلفه في الظلام إلى أن التفت الشبح خلفه أخيراً وتوقف وسأله: «ماذا تريد؟» وأظهر له قبضة لا تجد لها مثيلا لدى الأحياء. فقال الدركي: «لا شيء!» وعاد أدراجه من فوره. كان الشبح أطول بكثير، ويحمل شوارب هائلة، ومضى متجهاً كما بدا نحو جسر: «اوبوخوف»، ثم اختفى تماماً في ظلام الليل.


هوامش
(1) رتبة مدنية في روسيا القيصرية من الرتب الدنيا تعادل رتبة النقيب العسكرية.
(2) رتبة مدنية تعادل رتبة نائب مدير الإدارة.
(3) رتب مدنية في روسيا القيصرية.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...