نقوس المهدي
كاتب
“كلما كُتِبتْ قصّةٌ، سقط عرشٌ في الأرض، وتكشّفَ زيفُ قداسةٍ في الخيال، وعاد المعنى إلى ناسِه صافيا”
****
إنّ ما يبدو من سطوةِ الرواية على المشهد الإبداعي العربي وضخامةِ جوائزها واحتفاءِ المنابر الثقافية بها وبأصحابها أمورٌ لم تقدر على إخفاء توهُّج الكتابة القصصية العربية لدى الجيل الراهن من القصّاصين الذين راحوا يكتبونها بتنويعات فنية ومضمونية هي من شروط الأدبية جوهرُها.
وإنّ قراءة مدوّنة قصص هؤلاء تُوقِفنا على حقيقة أنّ كتابة القصة لديهم لا تحفل بتوصيف النصف السفليّ للعالَم وإثارة شهواته كما تفعل جلّ رواياتنا وإنما هي كتابة إبداعيّة واعية بأدوار الكاتب في دعم جهود مجموعته البشرية للتخفيف من ثِقَلِ ما ينصبُّ على كواهل أفرادها من إكراهات اجتماعية وثقافية وسياسية. فإذا القصّة لدى هؤلاء لا تزيد عن كونها طعنةً فكريّةً خاطفةً يُوجِّهونها إلى الواقع، فلا يملك معها من حولٍ أو قوّةٍ سوى الترنّحِ بمألوفِ يقينياته.
وهم إذْ يكتبونها -على اختلاف أساليبهم- يكتبونها وكلّهم حرصٌ على أن تكون جريئةً ومباغتةً، وأن تَمقُتَ مناورةَ موضوعها والدورانَ حوله، لكأنها لا ترغب في تبذير ما عندها من وقتٍ – وهو قصير- في استلطاف الأشياء والأحياء والخوض في الحَكْيِ العموميِّ، وإنما هي تحشد كلّ قوّتها الفنية والتخييلية ليكون فعلُها فعلاً انقضاضيًّا ماكرًا و«غيرَ مُؤدَّب». إنها كتابةٌ ضدّ وقتِها، بل ضدّ الساذَجِ من أدبِ وقتها، ما يُبيح لنا القول إنه كلما كُتِبتْ قصّةٌ، سقط عرشٌ في الأرض، وتكشّفَ زيفُ قداسةٍ في الخيال، وعاد المعنى إلى ناسِه صافيا.
في لغة قصّاصينا تتوتّر القصةُ، بل قُلْ: في قصصهم تتوتّر اللغةُ؛ حيث يظلّ الكاتب منهم يَعْرُك صَوّانَ فكرته حتى إذا نشأ قادحُها، توهّجت لغتُه وانطلقت مثل رصاصة ملساء مشحونة بطاقة انتهاكية تخترق كلّ أجساد الواقع وظلامياته. وهو أمر ينبئ بتنبّه هؤلاء القصّاصين إلى حقيقة أنّ أيَّ قصّةٍ لا تتسلّح بلغة لطيفةِ الحَشَا وخفيفةِ الإيقاع لا يُعوَّلُ على بلوغها ذروةَ فاعليتها الدَّلالية، فترهُّلُ الجملة وثخانتُها وهَذَرُها أمورٌ تجعل القصةَ عيِيّةً الحركةِ تتمايل من شدّةِ المَغْصِ، والمغصُ غيرُ الرَّقْصِ، لأنّ القصةَ في جوهرها رقصٌ باللغة واحتفاءٌ بخَفَرِها وصِباها. ومن ثمة لا تتغيّا قصصنا الراهنة قولَ الأشياء وإنما هي تَحْفِزُ قارئها لأنْ يقول أشياءَه وإنْ في صمتٍ.
ولا تُخفي قصّتنا الراهنة نزوعَها إلى التخلّي عن نُبْلِ أصل بطلها (الإمبراطوريّ أو الدّينيّ أو البورجوازيّ) وسعيها إلى جعله مواطنا «عموميا» من جمهور الناس ومن نَبْتهم الاجتماعي، بل إن أغلب القصص لا تحفل كثيرا بصناعة أبطالها، لأنّ البطولةَ فيها عائدةٌ إليها: إنها بطلةُ نفسِها، وذلك من جهة كون كتابتِها ليست إلاّ مواجهةً يتقابل فيها البالي من القيم وظَلاَمِيُّها مع المُتَوهِّجِ منها بكَوْنيته وتسامُحِه واعتدالِه.
ولعلّ في «قِيَميّةِ» القصّة العربية الراهنة ما يجد له جذورًا في أحوال القصة القديمة التي ارتقت في نصوص الديانات الكبرى إلى مرقى القداسة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصَصِ)، حتى لكأنه لا يكتب القصةَ إلا خارقٌ أو وليٌّ صالحٌ من بني الإنسان.
ونزعم، ومن الزّعم ما يصدق، أنّ القصة ستكون منتَهى السرد وغايةَ أجناسه في زمننا القريب، فما تشهده رواياتنا من فوضى في حكاياتها، ومن حشو في مكتوبها، ومن كثرة في صفحاتها، إضافة إلى ضمور وقت القارئ الممتلئ بمراغب يومه، كلّها أسباب أجبرت بعض الكتّاب، وستجبر بقيّتهم، على توسُّلِ شروط الاختصار في الجملة والتقدير في السرد وتكثيفه طريقًا سالكةً إلى شدِّ قُرّائهم بما يكتبون، ولا نخال القصّة إلاّ الجنسَ السرديَّ الذي يستجيب لهذه الشروط وينهض بنيانهُ على دعامتها.
.
****
إنّ ما يبدو من سطوةِ الرواية على المشهد الإبداعي العربي وضخامةِ جوائزها واحتفاءِ المنابر الثقافية بها وبأصحابها أمورٌ لم تقدر على إخفاء توهُّج الكتابة القصصية العربية لدى الجيل الراهن من القصّاصين الذين راحوا يكتبونها بتنويعات فنية ومضمونية هي من شروط الأدبية جوهرُها.
وإنّ قراءة مدوّنة قصص هؤلاء تُوقِفنا على حقيقة أنّ كتابة القصة لديهم لا تحفل بتوصيف النصف السفليّ للعالَم وإثارة شهواته كما تفعل جلّ رواياتنا وإنما هي كتابة إبداعيّة واعية بأدوار الكاتب في دعم جهود مجموعته البشرية للتخفيف من ثِقَلِ ما ينصبُّ على كواهل أفرادها من إكراهات اجتماعية وثقافية وسياسية. فإذا القصّة لدى هؤلاء لا تزيد عن كونها طعنةً فكريّةً خاطفةً يُوجِّهونها إلى الواقع، فلا يملك معها من حولٍ أو قوّةٍ سوى الترنّحِ بمألوفِ يقينياته.
وهم إذْ يكتبونها -على اختلاف أساليبهم- يكتبونها وكلّهم حرصٌ على أن تكون جريئةً ومباغتةً، وأن تَمقُتَ مناورةَ موضوعها والدورانَ حوله، لكأنها لا ترغب في تبذير ما عندها من وقتٍ – وهو قصير- في استلطاف الأشياء والأحياء والخوض في الحَكْيِ العموميِّ، وإنما هي تحشد كلّ قوّتها الفنية والتخييلية ليكون فعلُها فعلاً انقضاضيًّا ماكرًا و«غيرَ مُؤدَّب». إنها كتابةٌ ضدّ وقتِها، بل ضدّ الساذَجِ من أدبِ وقتها، ما يُبيح لنا القول إنه كلما كُتِبتْ قصّةٌ، سقط عرشٌ في الأرض، وتكشّفَ زيفُ قداسةٍ في الخيال، وعاد المعنى إلى ناسِه صافيا.
في لغة قصّاصينا تتوتّر القصةُ، بل قُلْ: في قصصهم تتوتّر اللغةُ؛ حيث يظلّ الكاتب منهم يَعْرُك صَوّانَ فكرته حتى إذا نشأ قادحُها، توهّجت لغتُه وانطلقت مثل رصاصة ملساء مشحونة بطاقة انتهاكية تخترق كلّ أجساد الواقع وظلامياته. وهو أمر ينبئ بتنبّه هؤلاء القصّاصين إلى حقيقة أنّ أيَّ قصّةٍ لا تتسلّح بلغة لطيفةِ الحَشَا وخفيفةِ الإيقاع لا يُعوَّلُ على بلوغها ذروةَ فاعليتها الدَّلالية، فترهُّلُ الجملة وثخانتُها وهَذَرُها أمورٌ تجعل القصةَ عيِيّةً الحركةِ تتمايل من شدّةِ المَغْصِ، والمغصُ غيرُ الرَّقْصِ، لأنّ القصةَ في جوهرها رقصٌ باللغة واحتفاءٌ بخَفَرِها وصِباها. ومن ثمة لا تتغيّا قصصنا الراهنة قولَ الأشياء وإنما هي تَحْفِزُ قارئها لأنْ يقول أشياءَه وإنْ في صمتٍ.
ولا تُخفي قصّتنا الراهنة نزوعَها إلى التخلّي عن نُبْلِ أصل بطلها (الإمبراطوريّ أو الدّينيّ أو البورجوازيّ) وسعيها إلى جعله مواطنا «عموميا» من جمهور الناس ومن نَبْتهم الاجتماعي، بل إن أغلب القصص لا تحفل كثيرا بصناعة أبطالها، لأنّ البطولةَ فيها عائدةٌ إليها: إنها بطلةُ نفسِها، وذلك من جهة كون كتابتِها ليست إلاّ مواجهةً يتقابل فيها البالي من القيم وظَلاَمِيُّها مع المُتَوهِّجِ منها بكَوْنيته وتسامُحِه واعتدالِه.
ولعلّ في «قِيَميّةِ» القصّة العربية الراهنة ما يجد له جذورًا في أحوال القصة القديمة التي ارتقت في نصوص الديانات الكبرى إلى مرقى القداسة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصَصِ)، حتى لكأنه لا يكتب القصةَ إلا خارقٌ أو وليٌّ صالحٌ من بني الإنسان.
ونزعم، ومن الزّعم ما يصدق، أنّ القصة ستكون منتَهى السرد وغايةَ أجناسه في زمننا القريب، فما تشهده رواياتنا من فوضى في حكاياتها، ومن حشو في مكتوبها، ومن كثرة في صفحاتها، إضافة إلى ضمور وقت القارئ الممتلئ بمراغب يومه، كلّها أسباب أجبرت بعض الكتّاب، وستجبر بقيّتهم، على توسُّلِ شروط الاختصار في الجملة والتقدير في السرد وتكثيفه طريقًا سالكةً إلى شدِّ قُرّائهم بما يكتبون، ولا نخال القصّة إلاّ الجنسَ السرديَّ الذي يستجيب لهذه الشروط وينهض بنيانهُ على دعامتها.
.