نقد بثينة العيسى - ولع القصِّ القديم

يجب ألا نكتفي بتوليد الأفكار، بل بموضعتها في تجربة وجودية
يقال بأنه يمكن للإنسان أن يصدّق أيّ شيءٍ إذا وضع في قصّةٍ جيدة. في الأفلام الأمريكية التي تدور في قاعات المحاكم، يتكرّر هذا السطر مرارًا؛ المحامي الذي يفوز هو المحامي الذي يأتي بالقصّة الأفضل. كثيرًا ما ردّدتُ، متعجّبة، بأنني أستطيع أن أصدّق ماركيز، إذا ما جعل إحدى شخصياته تطير، وأكذّب نيوتن وقوانين الجاذبية. تستهلّ إيزابيل الليندي كلمتها الشهيرة على منصّة “تيد” بـ حكمة يهودية تسأل؛ ما هو الأصدق من الصدق؟ الجواب: القصّة. القصة تجيء في مرتبة أكثر حقيقية من الحقيقة ذاتها، لأنّ القصة كائن إسفنجي، يمتصّ العالم والإنسان وأسئلته ورعبه، ورغم أنها مليئة بالأكاذيب إلا أنها تكشفُ جوهرنا الإنساني أكثر من أي شكل فني وعلمي آخر.
في كتب الفلسفة والفكر نحنُ نقرأ عن الفكرة. في القصص والروايات، نحن نكون الفكرة. نحن نحتاج إلى القصة والرواية كما نحتاج إلى أدوية السرطان والمدارس الجيدة. لأننا يجب ألا نكتفي بتوليد الأفكار، بل بموضعتها في تجربة وجودية تلامسنا عميقًا. إننا بحاجة لأن نعيش الأفكار حتى “نختبرها” ونفهم ذواتنا أكثر. تقرأ الجريمة والعقاب وتشعر بأنك قاتل، وتحترق طوال ألف صفحة مع راسكولنيكوف وعذابات ضميره. تقرأ بؤساء هوغو وترى الكذب بصفته البوابة الوحيدة للفضيلة. أين الحقيقة إذن؟ وكيف أستطيع أن أحكم على راسكولنيكوف وجان فلجان؟ يقول غسان كنفاني “إنهم يحكمون عليك لأنهم لا يعرفونك”، ومن خلال القصة أنت تعرف الآخر وتكفُّ عن إطلاق الأحكام. أن تتلوث بالحياة على نحوٍ لا يمكن إصلاحه.
يقول كونديرا بأن الرواية اللا أخلاقية هي الرواية التي لا تكشف جزءًا جديدًا من الوجود. وعليه من الصعب عليّ جدًا أن أتفق مع الرأي الذي يقول بأنّ كل المهن الأخرى (منذ السبّاك وحتى جرّاح الأعصاب) أكثر أهمية من مهنة الكتابة. حتى لو بدر هذا الرأي من كاتبٍ أحبه، مثل بول أوستر.
في روايته “لعبة المغزل” يقوم الروائي الإرتري حجي جابر بغزل قصة، ثم نقضها وإعادة غزلها بقصة أخرى، فيما يشبه اللعبة الجدلية بين الفتاة وجدّتها، كلّ منهما تحاول أن تنفذ من تلك الفرج الكاذبة، المثالية، لتحويل الحكاية إلى شكلٍ أكثر حقيقية وصدقًا. الجميل بالنسبة لي في هذه اللعبة هو ما يحدث في رأسك أثناء القراءة. فأنت تصدّق القصة الأصلية ثم تصدّق نقيضها، ثمّ تصدق نقيض النقيض وهكذا. لماذا؟ لأن القصة هي الشيء الأصدق من الصدق نفسه. في هذه الرواية تكتشف قابليتك كقارئ إلى تصديق أي شيء، إذا ما وضع في قالبٍ حكائي متقن.
إنها لعبة مدوّخة وتكشف ولعنا بالحكايا. ولع أجدادنا الذين يتسامرون حول النار ويخترعون أصواتًا ويرسمون بشرًا وحيوانات على الجدران، ولعٌ تحمله في داخلك عابرًا أزمانًا طويلة، سنوات بالآلاف، لأجل أن تنفذ من بوابة القصة.. إلى حقيقتك الخاصّة.



* نشرت في الصدى الإماراتية.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...