نقوس المهدي
كاتب
مشاهدة المرفق 865
الفصل الأول:
لعلني وأنا اقرأ القاص الناقد د. محمد عبدالرحمن يونس تأخذني غرة صيف اللاذقية المنعكس بنسيمه على ملامح هذا الأديب السارد الثَر، كان ذلك في زمن بدء التسعينات حيث أشاء لي التحدي المادي والثقافي وبالتعاون مع الأستاذ القاص عبدالباقي شنان إصدار مجلة "النافذة" الثقافية الفصلية، والتي مولتها ماديا طيلة فترة اصدارها، فكانت المجلة أحد أهم الأسباب التي جمعتنا بحضرة الأديب الشمولي يونس، حيث وجدتَ أداء حرفه يستلهم هدوء محياه النبيل، المنعكس على علوِّ شأنه الاجتماعي بمقدار مبني نسبته الثقافية، وفي خطب ذلك الحال أخذني الرأي إلى التدور في جمانة صفحات حققت مُعْطى سريان يثاب فيها صيغ قصص مُحدِثَة، وملامح بلاغة تتفاوت في جناسها الأسلوبي، ليكون النص بحد ذاته يأسسُ لأبعادٍ تميزت بصيَّغه الطارفة، ومنذ ذلك الزمن لم التق به سواء أكان عن طريق المراسلة أو التلاقي على صفحة النت إلاَّ وعلم الكلام يفيض جوابات لغة تحاكي تفريع منتقى اللفظ لأصول أرسخ عرقاً في منظوم البلاغة. ولأني وجدته منساباً كنهر يجري بالصور القصصية المندلقة على ضفتي نهره الخصب يعالج التشذيب بمهارة الإعجاز، كان لابدَ لي من موقف إيجابي اتجاه أعماله المُنْتَجَة بدراية وامعان، وتلك اللطائف ضمته إلى أقرانه من القصاصين العرب، أمثال القاصة والروائية المعروفة سميرة المانع، والأديب عبد الباقي شنان "الذي سوف أتناوله بدراسة تحليلية متممة لدراستي السابقة عنه" والقاص المميز عبدالله طاهر، وعلي سرور، وجنان جاسم حلاوي، واحمد اسكندر، وعبدالوهاب البياتي.
فبدأ يونس ومازال يؤسس لطموح مغاير يرى أن المبدع الأكثر اقناعاً يجب أن يعاين قيمة التجلي المتمم لثقافة الكاتب الذي يحقق قناعة أن يكون الراوي محايدا وبعيدا عن نرجسة الذات الحاكية، لكي يجعل من المتلقي ناقدا لأعماله وليس قارئا وحسب، وبهذا يحقق أوجه تطورات تمدن النص الذي يُشبع قراءهُ بتورية اختلاف فاعلية نماذجه، وفي هذا نطالع الآمدي يرشدنا إلى أن:
"لا نسلم أوَّلاً أنَّ المناقدة مغايرة لقيام العلم بالذات، ولا المتحركية مغايرة لقيام الحركة بالذات، ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم يصاحب التمثيل*"
وهذا ما نسميه لزوم اللزوم أو التجريد الكامن في حقيقة المعنى، الذي يجعل الصورة المتفاعلة أكثر تلائماً وانسجاماً مع إبانة إضاءة إسناد الممتع واعطاه بعدا رمزيا خصبا، وهذا حكم نتبين خواصه تثري معطيات الكتابة باتجاه تجاوزها الموروث الذي استقام بعضه عند الكثير على ظاهرة المعاضلة، أو الأحاجي والحجب الريفية التي توهم المستمع على أن هناك من يخاطبه خلف الأستار، وبين الكاتب والآخر حجابان: المقدار، والتلقي، وكلاهما عاملان يعنيان خصائص البحث التقليدي، وسرعة إتيان النص وإثباته بالاقتراحات وتسمى "عين العقل"، تلك المقالات المتأثرة بالحجاوي الروحية التي يتساوى فيها قطبا الأدنى، والأقرب، خاصة عند أولئك الذين اتخذوا من أقوال: العربي الحاتمي، وبديع الزمان، والصخري وأبي الحسين السهيلي، ومحمد بن منصور الحوالي، وهذه المرئية استفاد منها الكثير بصور مختلفة جاءت على الشكل التالي في قراءات العيون الثلاثة:
"أولاً: عين الوجه وقيده بالجهة.
ثانياً: عين العقل وقيده بالفكر.
ثالثاً: عين القلب وقيده بالعاطفة.*"
فالقاص محمد عبدالرحمن وبكل جدارة تجاوز مسميات قواعد اطر التعريف في مدرسية السلف، بالمقدار الذي بنيَ نحوه الشخصي على قيَّم حددت واجازت جهة التوظيف، فاختلفت بها أفانين حاصله التوليدي الذي يعني التوكيد على إزالة الوهم والريبة والتقليد من دلالات مفاهيمه المُوضّحَة والمُبَيّنَة بوازع السياق الثابت في نصاب عيونه الثلاثة المختلفة وهي:
أولاً: جعل من محاسن جوازات اللغة العربية تشوقها المشاهدات بوصل أوائل الحكاية بأواخرها.
ثانياً: سهولة المطالع التي تتم فيها انزياحهُ إلى فصاحةِ البيان بتمام المعاني.
ثالثاً: اقصار الاسهاب بواسطة جودة الألفاظ وغاياتها واشراقها بالمحاور المؤدية إلى غنى التفاعل بين وحدات تتميم المجانسة.
ومن خلال هذه الرؤى التوليدية أصبحت أسلوبية يونس تنفذ إلى العام الثقافي بمقتضى الدقة من مبتدأ الصورة حتى اكمال سردها التجانسي، وبهذا نجده يجتاز تركيب الحاكي العام إلى دقة التركيز المنظوم وكأنك تتحسس خواتم انفعالاته الوجدانية، التي تصب ميزتها الطافحة بالتركيبية المعطاء التي تؤالف خلايا بواطنها، بقدرة هائلة على التعاطي التنويري المشرق بالاختلاف، واضعاً سياقه الأول على نبض المضمون من خلال تفاصيل الأحداث، بدءا من التحامه مع الشخصيات اليومية، وكأنه يرى ويسمع الآخر من ذاته، وحاله يتعامل مع الحقيقة بواقع تضمنته الأحداث الملموسة، بشكل يعالج التأثر المعيون في طرح قضايا الفرد في معتركه الحياتي.
وجدتُ في قراءتي المكثفة ومتابعتي لما يكتبه يونس أنَّهُ يحث اللحاق بركب الزمن الأدبي الثقافي ومراده يستنفد قواه لتأسيس انتصار على نجاحه، وخاصة عندما تناول المرأة وما أثارته من أبداع في روايته "ولادة بنت المستكفي" بعد أن أزاح الأحداث المحتجبة عن حياة المرأة الأندلسية في مجتمع ساقها إلى أن تكون مرتكز أعماله الكبيرة، وهو يرفد الرؤى الجامحة للشروق والتحرر إلى بنية فنية يعالج من خلالها الانكسار الذي أطاح بالإنسانية، فنجده يطلقها إلى رحابها المشرق لأن تعيش بلا وجع، وما الإرهاب الذي تمارسه بعض القوى المتنفذة "سلاطين وملوك وحكام" على امتداد عصور البداوة ليومنا هذا ممن عملوا على إلغاء وسحق مفهوم الحريات العامة والخاصة، فهو مثلٌ ساطع شارك في الكشف عن الظلم القسري الذي مورس على مكانة المرأة، فالقتل المجاني الذي تتعرض له طالبات العلم في المحافظات العراقية والسورية المحتلة من قبل الفصائل الإرهابية، ما هو إلا دليل واضح على هذا الاستهتار المعيب بمعاقبة المرأة التي هي الأم العظيمة، ومن أجل هذا نجده قد عالج توشيع أفكاره أنْ تنثال الماً على هذا الإتيان السلطوي الثقيل عند الإسلاميين الصهاينة، الطامح على أن يجعل من المرأة عبارة عن مسبية يلقها المتخلفون الغرباء.
ولهذا فقد جاءت روايته "بنت المستكفي" تعاصر ماضيا فتطرح ثقافة تعالج مصبات تلك الأفعال الدخيلة المشينة ودحضها بمساندة المتلقي الواعي، ايذانا بتفعيل تخصيب يعالج تعبيراً ثقافياً تنويرياً مستمداً من بلاغة الكاتب بدعوته إلى التحرر الاجتماعي من ممولي ومنفذي تلك الثقافات الدموية الدخيلة على ثقافتنا، ومن أجل هذا دلنا يونس إلى أنَّ سداد رأيه الغني بجديده الأدبي المغاير، إنما جاء يحاكي المختصر في حرية الرأي عند الفرد العربي، ليطلق الممكن لتشريع الحقوق الإنسانية لا الفقهية الدينية، ليكون التسارع الأخلاقي متمثلاً بحرية المرأة نصف المجتمع وربما أكثر. ومن أجل هذا أصبح من الغنى الأخلاقي الذي تطرحه المعرفة أنْ يُلْحِقَ ثقافة المرأة إلى تراثنا الأدبي على أنه تراث نافع ومؤثر بأعماله، وعليه يجب أن يُنظر إلى المرأة وإلى نتاجها الأدبي نظرة احترام، ويبدو ذلك واضحاً من خلال اهتمام بعض الأدباء القدامى بجمع ما قالته المرأة من شعر أو نثر، لتتناقله الأجيال من جيلٍ إلى جيل.
يتناسق الكاتب محمد عبدالرحمن يونس مع نصه ليمنح منظومة التنوير المعرفي بالابتعاد عن الآراء الكبيرة غير المفهومة، حيث يحكم منظومته بالثابت المعنوي، وذلك باستدراج الأحداث أن تتشكل ببوح أنسجة النص بكفاءةٍ في بنائها الداخلي بمفاهيم متداولة ومفهومة حتى لا يستاء منها المتلقي المستدرك لأمور وأحوال الأدب المحترف، حيث نجد يونس يمنحهُ القوة المثالية التي تحقق له المطلوبات النافعة والمؤثرة في تعاملها مع بنيات الحكاية، لأن السرد القصصي خرج ومنذ زمن ليس بالبعيد عن حكاية الجدات على يد محرريه ومعتقيه من ذلك الويل الكبير، أمثال القاص الكوني محمد خضير، ومحمود الجنداري، والأديب اللامع خالد القشطيني، والقاصة ليلى عثمان، هؤلاء الأدباء الذين عارضوا البناء المسهب بتقليديته غير الواضحة بمقدار نضوجها ووعيها، ولأجل هذا جاء المجددون لينتجوا شكلاً مكثفا بفكر سريعَ الدفقات في تلاقيات مضمون المشهد التخيلي، الذي يفتح صورة التشكيل الباطني بالإضافة إلى ضم القارئ إلى المكان الذي هم فيه، عبر سردية مكثفة تحاور اللغة والايماءات والدفق الفني المتتالي بنسقية تشابه الشعر.
وعلى أساس هذا التقدير جاء يونس يضع بصمته المجددة، في جوانية هذا البناء مع الاحتفاظ بملهى تراجيديا خصوبة المعاني وحكمة دلالاتها السريعة، بأسلوبٍ ساخرٍ حينا وواقعي في أحايين كثيرة، ملهما متلقيه حدثاً ذا ذائقة يستمر نشؤها إلى أبعد زمن ممكن في خياله، والنية هنا عند الكاتب تعني تسليم الرؤية على فتح قنوات جديدة بالمُرَكّبْ الفني التقني الذي يتصاحب مع تجانس الجمل القصية ببعضها، وكأن الحكاية تنهال من نظرة المثقف الثاقبة والفاحصة للأحداث على الزمكان، وبهذا الصنع يكاد الكاتب أن يشكل جيلاً متأثراً به لديباجته الجديدة الخالية تماما من التأليف السردي المكرر كما هو الحال عند بعض القصاصين، الذين غاب عن نظرهم ايجاز التنظيم السردي، بالسياق الذي يقتضي الحرفية الإبداعية بمعية بسط أثر مباهجة المشاعر الصادقة، المفترض أن تعالج حالة موضوعية في تناول الحدث الذي يعتمد مبدأ الوحدة العضوية الصغيرة لتشكيل تنوع النص في عمومه، وإطلاق فضاءاته الذكية من لدن توظيف بلاغات تحتكم الاحتمال المتمم بالفائدة. لأننا في كثير من الأحيان نجد بعض الكتاب وقد انصهروا كثيرا في الكلفانية الفضة، أو الايغال أكثر فأكثر في محاكاة التكرار للمفاهيم المنقولة التي لا تفيد القارئ بشئ، بقدر ما تدفعه إلى الملل من تلك المصطلحات السطحية الكبيرة المفخخة بالغيبية والغموض والرمزية الفجة، يداخلها الظلام ويتعبها التباهي.
وتحقيقاً لهذا الهدف صب يونس ثمرة إبداعه في قدح المتلقي فأنتجَ نصاً تلاقحيا بين اللغة والشجن، أي أنه ناغم الحالتين: فملكة العقل تساوت إبداعاً. وعاطفة الروح أنتجت الشجن، وهذه الإلهامية ندرت عند الكثير من الأدباء على مر العصور، لأنك أن تقرأ جملة خصبة، حلوة على السمع، شفيفة في تلقيها، مقبولة في تواصل نسيجها المفتوح على فضاءات تشد القارئ إلى سعة جواباتها الفنية، تجده يأنس المتعة في استمرارية القراءة والتجاوب معها، وفي هذا عامل مشجع يضع القاص محمد عبدالرحمن يونس يطرق باب الأهمية وتأثيرها على الحركة الأدبية السورية، بعنوان انفتاح الجديد الايجابي وتأثيره على اتساع الحركة الأدبية العربية والعالمية وخاصة على مستوى القارئ الذي يتواصل مع الحالات الإبداعية بالإضافة المجددة.
فقراءتي للأديب "الروائي، القاص، الناقد" يونس ليست استكشافية تختصر تناولي لمعطياته الخاصة نقدا متوجا بالحيادية الصارمة التي تعني هذا الغرض وحسب، إنمّا بدأت معايشتي اليومية في متابعة لنصوصه ومحاضراته منذ منتصف التسعينات عندما التقيتُ به في اللاذقية عروس المتوسط، وكان طموحي هو الإتيان في تحقيق المختلف أمام كل أديب التقي به، سواء أكان ذاتيا متمماً لإفادة، أو تحديا مكشوفاً تكون نتائجه سريعة وواضحة، ولهذا استمرت قراءتي لنصوصه تتفاعل عبر زوايا معينة قد تكون قاسية عليه، ومن أجل هذا أدعو القارئ الكريم أن يكون ناقداً روحياً بيني وبين القاص عبر إلمامه التمتعي بجوهر النص الذي نقرأه، بجواز أن يونس ناسب بطله بميزة القريب من المعقول في صفات الإنسان، كما قال الفارسي في ثقافات المعتزلة:
"أن حقيقة الإنسان هي أمر حاصل فيه*"
أمَّا أنا الناقد فعلاقتي القطعية مع النص لا غير، وهذا ما يجعلني قريبا من القارئ، عبر إبانة تناصف الناسك في حق التمييز على أن يكون التوظيف السردي للحكاية توظيفا ضديً بأحوال فطنة الكاتب.
وحسب ما ورد في قراءاتنا للإنتاج القصصي الحديث رأينا أن يونس استفاد كثيرا من الاسفار التي عايشها الراوي بذاتيته، خاصة اطلاعه على الثقافات العالمية عبر اطلالة على الحركة الأدبية الأوروبية والعربية، ولأهمية مثل هكذا ثقافة أجدني أنظر إليها بمنظورين دلاليين وهما:
أولاً: منظور المساجلة بين العربي والأوروبي، بمستوى بيان حقليْ التجديد والاختلاف.
ثانيا: نقل النص القصصي من سياقه المألوف الروتيني في كتابات القرن الماضي، إلى مواضع واضاءات اختلفت أحوالها بحسب التعريفات في الجملة القصيرة.
فكان ابتعاده عن منهج التقمص الذي يتبعه الكثير من كتاب القصة القصيرة المعاصرة لصوت السلف عبر محاولات استعادة التاريخ الشخصي وما نعنيه بالتقليد، ومن أجل هذا استنهض القاص يونس تخصيصه السردي عن سواه من الذين عاصروه بالاتجاه والمعاينة، محاولا أن لا يضع القارئ في حيرة الأسلوب المعقد، بل عمد دائما إلى استئناف التمايز بين الصورة الحسية ومحاكاة اختلاف ثقافات القارئ، متتبعاً الصورة الصوتية التي يتصورها القارئ على أنها مثار متخيلات سمعية مختلفة، ومع هذا يمكن للكاتب التنويري المجدد لأساليبه أن يعالج المقاربة الفنية بقرينها الآخر بين صيغه الخاصة ونتاجات أدباء الشعوب الأخرى، شرط أن لا يكون النص الشعري أو القصصي أو الروائي تقليداً للسلف أو حتى للمعاصرة، فالتقليد ليس له صفة إبداعية تميز الكاتب المقلد من حيث ثقافته ولون اشتقاق النص عنده، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما:
الأول: التناصب وهو باب من أبواب تلاقي الحضارات الأديبة بتكامل بعضها البعض كما فعل أبو فراس الحمداني مع أبو الطيب المتنبي*، وهذا لا عيب فيه ولا ملامة.
الثاني: التقليد وهو باب مذموم ومكروه، لأنه ماثل الآخر برؤيته وخلقه، كونه لم يُخلق من الذات خاصته على اعتبارها ذاتا غير منتجة للتقليد.
خاصة إذا كانت تلك المقاربة ندخلها من مسارها التاريخي الأدبي بين عصرين أدبيين مختلفين، أحدهما أوروبي حرك مجد الأزمان في كافة مناهج العوامل الثقافية اليومية، وآخر عربي عاش في زمن مثقل بويلات الحروب الداخلية منها والخارجية، فكانت تلك الحروب سببا من أسباب التردي والتخلف الثقافي المجتمعي والمعرفي المادي، فتولدت صراعات مستمرة بين طبقتين الغنى والفقر، والملحد والمؤمن، وبين مذهبين متخلفين كل منهما يدعي الحق بالقرب النبوي منه، وهذان الداعيان حركا التناحر والتقاتل فيما بينهما حتى احدثا هوة وجدانية تساعد على طمر الوعي عند الشعوب بالمخاصمة.
أمَّا في الجانب الإبداعي فالتقارب الفني ليس بالجديد على الاطلاق، فالمقاربات الأدبية كثيرة وأهمها: تلك المقاربة بين الشاعر العربي الجوال "قيس بن عامر النجدي"، الشاعر المجنون الذي عاش في زمن آخر ملوك غرناطة للدولة الإسلامية "أبي عبدالله"، الذي قضى حياته متجولا بين المدن والأرياف، وعودته الدائمة إلى غرناطة. يقرأ قصيدته الرائعة "مجنون إلزا"، التي عشقها واقتبس موضوعها الشاعر الفرنسي أراغون الذي عاش في القرن المنصرم في قصيدته "مجنون إلسا" 1939-1940 والذي منحها نفس الاسم، فالاقتباس هنا مبرر إذا كان يتناول نفس المعاناة الحبية باختلاف مباهج التعبير، حيث أخذ من الشكل عنوانا، دون التطرق إلى النقل النصي اللغوي، والمضمون الحرفي في جوابات التجريد، أي مناقلة بنية المشار إليه من غير تخصيص، أي إعادة خلق الصور، ومعاينة دفق الإحساس المنساب على المنوال الذي سابق ذات المضامين المنعكسة رؤيتها المطابقة، كما مال بقصيدته المقتبس عنوانها مبتعدا عن التكلف واخفاء خصوصية الحالة بقرينها، والحال هذا ينطبق على كل الاجناس الأدبية بكل أطيافها.
حيث أنَّ أراغون لم يعرج كثيراً على تداعيات التاريخ الأدبي وربطه بالمعالجات الزمنية التي عاشها الشاعر الأندلسي النجدي، ومدى تأثير تلك الظروف المعاشية والسياسية والدينية على حرية الشاعر، عندما نجد أنَّ صدى فارق التكامل الأدبي والحضاري بين الكاتبين يبعث الفارق الكبير بين اتحادهما في بيان عنوان القصيدة، الذي لا يشير إلى التشابه في العديد من مؤلفات آراغون خاصة في الجانب البنيوي فقصيدة قيس بن عامر النجدي عمودية، وقصيدة أراغون نثرية. وتكفينا الاشارة إلى أنَّ بعض تلك المؤلفات تبين كيف يشكل حضور ذلك الحب. في نشيد يتعاظم من الشباب إلى الشيخوخة، فيحسن جوهر العديد من وجوه التحولات في الشعر الفرنسي المعاصر، فصار الأول "قيس بن عامر النجدي" للمعاني مؤسساً، وصار الثاني "أراغون" بالتلقي مكملاً، كذلك نشير إلى الأقتباس الذي ورد في معالجتي عن حياة الشاعر المصري أمل دنقل في قصيدة " "الوصايا العشرة" الذي منحها نفس الأسم تيمناً بالشاعر العربي الخالد كليب وقصيدته الخالدة "لا تصالح"، التي ضمنها الوصايا العشرة. وتلك المقاربة أو الموازنة بين شعر امرؤ القيس وبين عمر بن ود العامري، وفيها مقاربات معروفة بدلالاتها ووعيها وصورها ومضامينها. وليس ذلك بمانع من أن يكون امرئ القيس أشعر من عمر فكلاهما شاعر من الطراز الأول، وذاك كُثَيّر قد أخذ من جميل وتتلمذ على مهارته وأستقى من معانيه. فما رأَينا أحداً أطلق على كُثَيّر أَن جميلاً أشعر منه، وما خلا أن أديباً أكمل بغيره نقصه. يدلنا يحيى بن حمزة إلى أنَّ: "فالاتمام يرفعُ الخطأ مما ليس ذماً، والإكمال يرفع الذم المتوهم*". إذن فالتقارب الأدبي ليس بعيبٍ أن تربط بين مضمونين قد تعارف عليهما منذ زمن مضى وبين معاصرة لهذا الكاتب أو ذاك، ومبرره كونه تداول في الزمن القديم.
أمَّا إذا أردنا وضع استثناءات الأديب يونس التاريخية المطلة بحوارها المعنوي التوليدي على المقروء النوعي نجد أنه صاحب التاريخ من أوسع أبوابه في روايته "ولادة بنت المستكفي" تلك المهارة المثالية التي تقودني إلى أنْ أدخل بقسوتي النقدية إلى تفاصيلها الفنية واللغوية والتاريخية ومرامي سهام بديعها، وفي الوقت ذاته تجدني أحاور الأسئلة الكبيرة التي تطرحها الرواية، وأجيب عليها، متخذا من قوة الالهام المعرفي المملوء بشهوة العقل الخلاق وقدرته على صناعة هذا المنجز من حيث موقعه وتأثيره على المتلقي العام، أمّا فيما يتعدى الجانب البنيوي فقد أحدثت هذه الرواية هزة نوعية في تلقيها من الناقد وما تقارب وتباعد من الصحافة العربية على اختلاف منجزها النوعي التعبيري في الفهم المعنوي لكل ما تلاقى مع الكاتب يونس.
رواية ولادة بنت المستكفي
دأب القاص يونس على منح القارئ الكريم متابعة استيعاب حركة شخصياته سواء أكانت في الرواية أو القصة القصيرة، المتمثلة بالرموز الداخلة في القياس انموذج سيرورة التدوَّار في منظور الحكائيين، بمصاحبة ازدياد الحضور التراكمي في توظيف دواعٍ تجزل رصد العطاء الروحاني، وما يتحقق بسرد مدركات الحدث المعنوي المعنى به، ثم يخرج الكاتب بسردية تقرب الصلة التاريخية بالموصول المعاصر حتى يبقيها على أصولها، بجواز ثبوتها، وكل ما كان مبنياً على قاعدة تبنت طباق حالة الزمان على جهة المقصود، فهو يقرر جهة التأكيد بما وقع بين العامة في الزمنين، وبتفصيل أخر نجده أي الكاتب يكشف عن الصورة المتحركة من واقع طبائعها الخاصة، ليكون البطل فيها مرتحلاً حينا بنياته، ومقيما فيها في أحايين أخرى بأحوال مقاصده الخاصة، التي تستنظر اِحتساب تبيان قدرته على اِتمام إكمال المدركات بوازع جواباتها المؤثرة على المتلقي، أي أن يكون البطل يتقمص مسرحة المكان التي تكشف عن التفريع بالأوْصَاف والتَّشْبِيهات الماسة بحقيقة المضمون المنكشف على مساحة كافية للتعبير، بجواز معطيات وإشارات الأداء الايعازي المولد من لدن عطاء مذهب خصوصية النفس المعطاء لفرائدها الشكلية الخارجة عن حركة التصانيف التي تحدد إظهار حالة الرفض أو القبول على جهة المبنيات السردية، فتكون الشخصيات متحركة في الواقع المعيون، كل يؤدي دوره المناط به، مع مُحدِثات اكتشاف الأثر الذي تعكسه أفعال الشخصية من تأثير ممارساتها بالجو المحيط بها ومدى استيعاب الحالتين ببعضها البعض، ولهذا نجد الكاتب يستكثر في وجهته السردية أن يوقع المبالغة لكي تُفتَحْ على صيغ تحقق بيان عطف انجاز ملقحة إحداها على الأخرى بجامع يجمعها، فنجده يجتهد وهو يَهمُ في طلب اِستَصوَاب التشبيه أن يفي بالأصلح تقنيا، وكأنه يقيس فاعلية الشكل على المضمون فتظهر مناخات المتخيل على أنها واقع مبصر، اِستحبَ جنون رومانسية الشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي "994 - 1091 م" ابنة الخليفة المستكفي بالله*"، من عصرها ليلبسها جنون عصرنا حيث تعتبر بنت المستكفي من أمهر شاعرات زمانها وهي تطمح لتغيير عالمها المحاط بسلطة والدها الدينية، خاصة في تغنيها بشاعرية الاباحة "الأيروتيك"، حيث كان مجلسها عامرا بالرجال من الشعراء والفقهاء والنقاد، وقد ذاع صيتها لجودة شعرها وبليغها اللغوي وجمالها الأخاذ، ومن أهم ما قالته:
"أنا ولله أصلح للمعالي - وأمشي مشيتي وأتيه تيهاً
أمكن عاشقي من صحن خدي - وأعطي قبلتي من يشتهيها"
تقصد الكاتب يونس أن يعاصر الماضي ويربطه ربطا درامياً، فيقرب المستبعد من أجل ما اختص به من الغرابة والإعجاب، فيبني الحكاية على جهة الاستطراد، على أنْ يؤتي غايته على وجهين:
أولاً: تطابق الشخصية بمثيلتها على أن يكون الأمر بينهما باعثاً على جواز التتميم.
ثانيا: يكون اِستطراف مواضيع السرد تُطرح على اساس اِعطاء المضمون المعني حقه من تفعيل يندرج تحت المنازلة الإباحية ذاتها.
فكانت ولاّدة الشاعرة الأميرة التي ارتبطت بعلاقة عاطفية بالشاعر القرطبي ابن زيدون 1003 – 1071 المنتمي لأسرة من فقهاء بني مخزوم، وقد تولى منصب القضاء والوزارة في عهد المستكفي، وذلك لإعجاب الخليفة الأندلسي بعلمه وأدبه رغم صغر سن ابن زيدون، كذلك كان مقربا وصديقا لابن جهور الذي أصبح فيما بعد خليفة للمسلمين في الأندلس وسمي عهده بالعهد الجهوري، ولكن الخلاف دب في ما بينهما خاصة بعد أن تكشفت العلاقة العاطفية بين ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، " صاحب المعلقة النونية التي اشتهر بها "
"أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت سودا وكانت بكم بيضا ليلينا"
المدخل
حين فتح الكاتب محمد عبدالرحمن يونس بلاغات الشخصية النسوية، رصد حركة التاريخ من منظور توظيف الدلالة بجوازها الايحائي، فكانت: ولادة بنت المستكفي، التي تركت بصماتها في تنوعها وثقافتها وإبداعها وإنسانيتها واشواقها ومخاوفها، فأصبحت أسطورة تغنى بها الملحن والمغني والشاعر والناقد والروائي، وكأنه يوسم الشاعرة المستكفية بتلطيف المزاج للقارئ فقد اهدانا انجازهُ التاريخي الساحر المختلف بتميزه المتجانس بسياقات أجمعت البحث بالفن الروائي، الذي آذن بالظهور عن كشف الوعي المرتبط بالمكننة وهو يجمع الحكاية بالخيال التوازني، أي أنه سقى وعي منجزه المختلف بخصوصية أنَّهُ اِستنهضَ نصا معاصرا يحتاج منا الوقوف على مقدار ما تبوء به أهميته ووعيه، أي أن الروائي يونس بَسَطَ ملامح الوعي الانتقالي من حال كان في الماضي، إلى حال حاضر فآمن الارتقاء به إلى مستوى المنظور الذي يُبَرزُ ملامحه إعداد فن مبتكر يحتمل ايقاظ مزايا تلك الحكاية التي تركت بصمات لا تنسى في التاريخ الأندلسي، فقد وضعنا الكاتب يونس أمام عمل أفاض مضمونه مقارنة حداثة بالغة التمييز والمؤاربة والاقتراب، وفي الوقت ذاته أحال المعاصرة في شخصية البطلة بإحساسها الأنثوي الأساسي أن توائم صورتها التي بقيت مؤثرة في الحركة الأدبية الكونية.
لذلك نجده يحادث ما أنارت به أوضاع ولاَّدة السري للإعلان عن حلاوة الجمال في معانيها المغرية كما وصفها المؤرخون، وهنا تناص الكاتب وكأنه يريد أن يقول لنا، كل شيء مخلوق فيها بدراية ومعجزة، اِتسام مرسوم بإتقان دقيق، العينان فاحمتان تتألقان بالسعة، والبريق الأخاذ، والرموش مقوسة طويلة، وفوق ذلك يلمع جسدها باسقاً، أما تناسق صدرها المندفع المستثار، وطرفاها يلتاعان لمشته آت بمشتهاه، يعلن ذوو الصَّبَابة متَّيما، وحال الكاتب يلوحُ بإيماءاته ويتمنى لو أنَّه ابن زيدون أو حتى لو أنه العومري بصيغة الذات المشبهة بالفعل في قوله: "وتأمل ولادة وقد طفحت وجنتاها بقلاع ومراكب ، فودَّ لو أن يرتمي على صدرها، ويشق قفطانها من أعلى نحرها، ويرضع ثديها الأيمن، وينزف آخر مآسيه وشجونه" لذا فالكاتب البطل يأتي بتاليه فيومئُ كونه حبيبها، إذن فجمال ولادة يرتبط باسمها الذي ذاع صيته في كل الأندلس والأمصار، وهذا مرتبط بعموم ما اختص بسيكولوجية الفتاة بتصرفاتها واندفاعاتها الفنية الأنثوية في طبعها المدلل، ولم يدم حبها مع ابن زيدون طويلا، حتى استقلت بمجازها الذي انعكس فيضه على جمال براعتها، فأصبحت هي الاعجاز بشخصيتين مختلفتين، ولادة الأولى نبيلة وشجاعة وذات قدرة هائلة على القيادة في مجلسها وعلى حاشيتها بما فيهم عاشقها، الذي خلعته بعد أن وقع معجبا ومغرما بخادمتها بارعة القد والغناء وملاحة الأغراء فقالت فيه:
لو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا - لم تأت جاريتي ولم تتخيّر
وتركت غصنا مثمرا بجماله- وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السماء – لكن دهيت لشقوتي بالمشترى
إذن لابد من التعريض إلى اِستصواب الاستدعاء الذي استخرجه يونس من بواطن التاريخ، حين اِستحبَ إغداق انفراده بالموازنة بعد أنْ لاءم التشبيه بالشيء مع فارق التطبيق بجانبه المعنوي المكاني، مع فارق البعد الزمني، ولأني وجدتُ الأمر لا يتعارض فيه الكاتب في تظهير أحكام المقابلة، كونه أشار إلى منطق التحول في مراتب المحاكاة التراكمية في ملقحة جسد ولادة وهو ينضح بالعرق البارد والسوائل الدافئة، سيقا بزينب الفاسيَّةَ عندما خرجت من الحمام تقطر شهداً، جعلنا نعتقد بقوة الإيماءة على أن زنوبة الفاسيَّةَ هي ولاَّدة، وتلك قدرة أنه جعل من الموازنة تأخذ مساقات مختلفة بالجوانب التي تساوى فيها الحُسن بدال نقيضه، ليجعلنا نفهم الغرض من أنه يقدم أو يؤخر ما يستفاد منه الوعي التطوري، وبهذا نحصل على ما توصل إليه الكاتب من محاباته الوصفية من جهة التقاط الاشارات القصدية بواسطة الاستطراد، لما يؤرخ الكاتب فعل الحريريات باحكام القيم التاريخية بين البطلة الحقيقية "ولاّدة بنت المستكفي، والنسخة المعاصرة التي نقرأ ضعفها المعنوي وتخلف انتمائها العائلي بقوله:
"عند مدخل حارة الصباغين شاهد الشيخ العومري ابن زيدون وقد تأبط ولادة بنت المستكفي، كانت تبدو أميرة يقطر منها وجد قديم، وصبابات عشق، وبوح وأماني ترفرف باسطة جناحيها فوق الأزقة وبيوت القصدير التي أخذت تتململ تحت وطأة قيظ جوان. تقدم منهما.. حياهما بأدب، عَرَّفَهما بنفسه، ودعاهما إلى عربة كان يدفعها صاحبها مردداً: تين.. صبّار يا شوكي يا صبّار.. تطواني يا صبار، أخذ العموري موسا وبدأ يزيل قشور الصبار، ويقدم التينة شهية، وجميلة عارية إلى ولادة وصاحبها. سأله البائع عن هذه المرأة التي بدت سروة شامخة بقطفانها الأخضر الطويل.. هل هي من طنجة أم من خنيفره أو من الصويرة؟ وأكدّ العومري أنها أميرة قادمة من غرناطة، في زيارة سياحية قصيرة، لكنَّ البائع أصرَّ وزمجر أنها من خنيفره.*"
وبما ينتهي الكاتب إلى المُبصر في الغاية وكأن البطل يوبخ البائع بحال قوله، ويحك أتُغالطنا؟ فيكون السياق موصولا على أنه صورة لا تخرج عن صورة أخرى خاصة في مَوضَعَ المكان الذي اِشتُقَّ منه الحال أن لا ينطق بزمان ولاّدة، وبهذا يعترف في إثبات حقيقة معاصرة بالمجاز وليس للحقيقة أصل، وهنا حدد الكاتب مصدر الاختصار على أنّ الوعي المطلوب اثباته يتحدد في التشبيه، من حيث لم يكن ائتلاف ضرورة الإخفاء لأنه يعني المقصود من النحو لدعوى الاطراد لا غير، حتى كون الحوار الذي دار بين سي العومري والبائع أختلف بالفارق المعرفي التاريخي والمستوى الثقافي، وما حصل في مراتب العلم والانتماء إلى الأصل بين الرجلين، لا سيما وأنَّ المعنى جاز به الكاتب أنْ ينطقه باِستحضار قدرة المجاز على التصوير في احياء الرمز "ولادة"، مع أنه ساق الإيهام إلى أنْ الأثَرَ في حدوثه وحصوله مقاربة الصورة "ولاّدة" وتطريز صورتها في بنات الحاضر، أي أنه يجعل من الحقيقة تساوي واقعها، لذلك جعل من الاستدعاء وسيلة تفرض خصوبة الاعجاز بمبنيات تشابه الحقيقة بدال المجاز في قوله: " لم يصدق بائع الصبار أنَّ هذه الواقفة أمامه ولاّدة بنت المستكفي"
إذن هي القدرة الهائلة على ملامسة توليد الوعي المنتج للحكم بأنَّ الفعل السردي أصبح دالا على وعي الفن الروائي بالقرينة كونه لا يخالف الاستعارة بشيء، فالخبر التصويري يصاحب واقع أسس على أنَّ الاستسقاء التوليدي للحدث أصبح مطردا عند بائع الصبار وإن كان الشك يراوده، باعتبار أن تفسير موضعية التماس في الرؤية بدت واضحة بعد أن تحدثت ولاّدة في ما سمعت عن اسم المكان قائلة:
"ابتسمت ولادة قائلة: ماذا تعني خنيفره يا شيخ؟ قال العومري: إنها البؤبؤ الذي يضئ ليل المراكشيين المظلم*".
بهذه الحالة فضل الكاتب أن يجئ بتزاوج أمرين، حتى يفرق مضمونه المحسوس باستعارته بين حالتين اختلفتا في الزمان والمكان ليجعل الحال مصوراً من أصله كحقيقة من حيث هو منظور الحكواتي الذي يحاكي المجاز على أنه واقع، وفي هذه الحالة يكون تناص الحالتين يؤرخ ذات قيمة واحدة، أحدهما مشتق من المتخيل النوعي الذي يبسطه الكاتب على أساس الواقعية، والآخر غير مشتق وهو زمن الحياة التي عاشتها ولادة، ونحن هنا في صدد توثيق المشتق من المجاز بصيغة استدلال التوليد الذي نُقلَ من واقعه الأصلي، حتى يُبيَّن فائدة جهته، وهذا ينتج لنا في أمر التشبيه فيقضي حالتين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، على أن يزيل حالة الالتباس، وبالتالي يأخذنا المعنى لشيئين الصريح المباشر، وغير الصريح، وكأنك سمعت عن ولادة بنت المستكفي وأنت تعرف هويتها الصادمة، فتكون لغة الكاتب قد تجاوزت العقدة التصويرية مما أحيا وأجاد في التقدير في ثبوت الشيء بسياق الإسناد إلى توظيف الحكاية على أنها أمر تشبه به، وحال الكاتب أراد أن يُعِيرَ ولادة مكانة حية في الوجدان الأدبي خالية من المبالغة والإيهام، وتقديره يكون أنه زاد الإبانة وضوحاً على ترتيب صحيح ونسق مقبول.
أمّا الفارق البياني المندرج تحت جنس أدبي مركب نتبين أنّه يقعُ في انسجام واختلاف المحاكاة على جهة الإضافة، أي أن الكاتب جعل من أمر ولادة اشبه بدفتر مذكرات يسجل عليه تأويلات سياقيه على ما يريد وضعه تلبيساً وتحميلا للأحداث العاطفية، حتى أنه أخذ التوظيف التاريخي وجعله يدل على حالة ممكنة تتسامى بمهارة المجاز على أنه وقع بدلالته من وعي ناتج استثمره الروائي، لذا فهو يدرجه تحت مؤثرات حكم يحاكي خصال البطلة الافتراضية بواقع شخصية زينب فيكون الجمع موفقا، خاصة وأن المكان الممكن قربه من الأندلس تمثل بالاحتمال وتناصه، وأن البطل العومري نديماً لابن زيدون ومترجما مجازيا لولادة بنت المستكفي، لأن فارق الزمن جعل من اللغة العربية تحذف بعض مفاهيمها ومعانيها وتبديل كلماتها كما يحدث بين لغة شكسبير ولغة كيتس، وفي الصورة يبدو أنَّ ابن زيدون مازال شابا قويا له الدراية بأمور القتال خاصة بالاستعارة "السيف" غير المثلم، والمصاحبة التي حررها الكاتب هي تسليط الضوء على جمال بنات فاس المستوحى من ولادة.
وكما عهدنا ابن زيدون ما فتئ في مبتغاه السلوكي العام يتمثل القوة المؤرخة في قيادة شأنه، لكنه بدا في تصرفاته أنه غير واع في مطالبه الخاصة، لأنه واقع في التتميم من الوجه المبالغ فيه، وبهذا التجريد أثبت يونس موضعية التشبيه المُتَخَيل لما يوازي الرد إلى ما لا يستحق المستحق في إثبات الأصل في وضوح المستعار المجازي ببنيته، لذلك قارب الزمن الافتراضي من واقع بوابة قرينه المكاني، لعله يخيط اللحمة بين الواقعي والمجازي بأسلوبية حال دون تفككها بالجمع بين حالتين، خاصة وأن المكان غير خارج عن التصور بين شيئين عن طريق التشبيه والتأويل في مقاربة الشخصية الروحية الذي يؤكد عليها يونس في محاكات الواقع الجنسي المبادل بالمال، فالعائلة المعادلة للأندلس تتطابق والمفهوم الفلسفي القائل "أن الأصل في فصل المادة يعود إلى الانفجارات الذاتية*" ونعني العائلة التي في أغلبها التي تجعل من البغاء سدادا لعيشها، وقد تعمد الكاتب أن يجعل الذكر متفرجا على الجسد الأنثوي عاريا لغرض أوضاعه الشاذة.
يستمر الكاتب في ملاحقة ولادة عبر تصوراته لكي يثبت المثبت على أنه محسوس في الذاكرة وليس في الواقع الذي قد يتصور القارئ العادي حقيقة من حيث وجوده في مضمون المساق، ولكن السياق الروائي يتطلب هذه الحبكة الذكية من الكاتب، على أساس أنه يرجع في المستعار إلى مطلقه، أي الحكم القادر على أن يجمع بين الماضي والحاضر، وتغليب الخلق السردي والسمو بالحكاية على أنها تُنسب إلى الفعل المنظور، القادر على فتح التأويل بالقرينة التي يلتمسها القارئ المجتهد أو الذكي، بمقدار ما أوضحه الروائي وحدد نظامه في ثلاثة عوامل مهمة جدا:
أولاً: أوضحَ بأسلوبه الأيروتيكي المفتوح على اطلاق التحدي لعوامل مجتمعية عدة مستغلاً المكان والتاريخ والنسب والمادة، ليكون تأثيره منصباً على ايثار قناعة المعنى.
ثانياً: إثبات الفعل في سياق الطموح الجنسي على أنه يتضمن نوايا رغبة الجسد، دون أن يتحدد في القوانين المورثة في العادات والتقاليد.
ثالثاً: جعل الحالة الجنسية تتسم بالمتماشي بين الروح والجسد على احقاق إثبات جنوح الفعل نحو عدم اللامبالاة في تحقيق رغبة العاطفة، وتطبيقها مهما وضع لها من الممنوعات والتقاليد بطريق ممارستها، حتى تجعل من تحقيق خيانتها واقعا مقنعا لا يتصور من الزوج أو الحبيب دون تصورها هي.
يستمر الكاتب وهو يدخل إلى المساحة المستعارة في الفصل الثاني من خلال المدخل ذاته في الفصل الأول، وذلك في نغمية لعب الكاتب على مراعاة اتجاه بسط تحفيز الوعي الادراكي بواسطة استدعاء الشخصيات التاريخية، تلك التي تركت أثراً بارعاً سواء أكان في بلاغاتها الشعرية أو العلمية أو التنويرية، وما كان عندهم من سعة الإتيان بموضوعات قل تكرارها في عصرنا، تجلت بسيرورة ظاهرة الحيِّز والانفصام في حالة التوحد الإبداعي، ابتداءً من منشئ ما سيولده الإلهام من تحرير الوعي التوليدي إلى ما تصح عليه النقلة الفنية بحالتيها: التمكن والسكون، وما يتواصل شغفها التوليدي بالاتصال المعني بمزاوجة جعلت من تفريق التاريخ لا يصحُّ بالنوايا البريئة إنما بالأنس والمسرة الخاصة في المعيون السردي، حيث جعل من التورية كمنظور فاعل لتلك الحياة، بما يستشعر الكاتب باتصاله الموحد بالوحي، وفي تلك اللحظة يسقيه حالة الانفصام الذاتي عن محيطه، وقول القرآن: " آتيك من حيث لا تشعر*"
القصة القصيرة:
الأم..
" ظلّت تدعو الله سنين كثيرة.. ولم تترك ولياً من الأولياء الصالحين إلاّ وزارته , وقدّمت له البخور والمجامر والكبريت. وعندما عدت من بلد ناء خلف البحر، قالت: جلبتك صلواتي يا جاحد، يا ناكر ، يا ناسي الحليب واللبن.. ومع الأيام سرعان ما تشكّلت غيمة، وجبل من نار بيننا. وتذكّرت أنّها أرضعتني مازوتاً وكيروسيناً. أهو الحليب أم الدفلى؟.. نسيت الحليب والثدي، ولا زالت بقايا أشواك الصبّار.
كانت تقول لي مرّات كثيرة: يا ليتني لم ألدك.. ليتني متّ يوم ولدتك.. أنت عاق. توقّعتها يوم كنت طافشاً في بلاد الأعراب والأغراب الموحشة الضيقة قادرة على صنع الأشرعة, فأرسلت لها قماشاً أبيض من أمستردام, وثوباً من الشانزي ليزيه، لكنّها مزّقتهما, لأنّهما من صناعة بلاد الكفار، البلاد التي حاربت المسلمين وفتكت بهم ولا تزال تفتك."
يبدأ البطل الذي لا يحمل اسماً في قصة "الأم" يستعرض طبائع وعادات أمه نازك التقيَّة المؤمنة بلله واليوم الآخرة، بعد عودته من بلاد ما وراء البحر التي عاش فيها فتأثر بعادات وتقاليد تلك "البلدان الفاجرة" كما تسميها الأم، لكن ولدها يحاول جاهدا أن يستعطف حبها له وتقديرها بما يفعل ويتمنى لها الخير، وقد جلب لها معه بعض المشتريات من أرقى الأسواق واشهرها في العالم، لكن الأم بقيت تندب سوء حظها على ما أنجبت من ولد عاق، لم تسامحه على ما فعل بها حين تركها وهاجر صوب تلك البلدان حيث المتعة والخمر والنساء والرقص واللهو، فالأم تعتقد أن ابنها فاقد لمعاينة الصح من الخطأ، ومتعديا على معنى الغيرة المصانة لقيمهِ وشرفه، وهنا فهو يمارس الجنس الحرام برغبة خاطر تجول في نفسه، مع علمه بخطأ هذا السلوك الوقح، وذلك أن الإثبات الأخلاقي الذي تلتزم به الأم اتجاه ابنها، يدخله الكاتب من طرفين: الأم والأبن، ويُحَيْد الأب، حيث نجده يستثمر شخصيات العائلة بأحداثها بواسطة التمعن الرمزي لمُسقيات جواز تعليل الحكم المعنوي الذي تطبع عليه الفرد المسلم، عبر تلقين أمتد منذ 1400 سنة، ورأي الكاتب دالاً على وصف مدلول شائع على جناس غير المتصوَّر في جنس واحد، أي أنه يُشَبهُ صفة مجردة بصفة تستحب الإثبات على الشيء، وكأنه اقتصر على الحالتين في ثوابت الحكاية من بدايتها حتى نهايتها في معتنى الصورة والشكل واللون، على مبدأ العودة إلى التزام الأبناء بتربية الوالدين التزاما يحكم القصاص المطلق بأصول النواحي بجوازها الأخلاقي، والقرآن يقول: "واطيعوا الله وبالوالدين احسانا*".
يعتقد الولد أن الإثبات التعليمي الذي تحاول الأم أنْ تتلمذ ابنها على أساسه هو وصفةٌ جاهزة عند الأمهات، ونسميه المطلق والمُقَيَّد والشرط والصرف في لغتهما، لأن المسند التربوي أختلف في لزوم الحُكم في صورته، لأن الأم آمر، والابن منهي، سواء أتحد سببهما بالنية أو أختلف بالرأي، وهذا لا ينفي أنَّ الولد لا يعرف عقل الأم المتحول بعواطفه العرفانية، باعتباره الضمير المُقيَّد العاكس لهمومها وخوفها، خاصة عندما تجد وليدها وقد انحرف عن السلوك المبدئي لتربيتها له، بمدلول تثبيت الأفعال المشينة بتصرفاته، وهذا الإثبات العقلي في نوايا الأم يساوي مقدار تأثيره عليها، حيث نجد خوفها على ابنها واضحاً في ايمانها المرابط الصابر على المقاصد المنحرفة عند من أخلَ بتربيتها مطلقة النيَّات، وهو ما يصح الالتزام به فيكون في رأي الله أنه تعدى على جواز آياته، أي يفترض من الولد أن لا يجعل الوالدين ينفران منه فيحل غضب الرب عليه يوم الحساب، أمَّا ما نراه في الرأي الفلسفي في العلاقات الروحية، أن عند كل واحد منا حاصل الإثبات والمثبت بقرين النوايا الباطنة بيقينها، حتى لو أصبح هذا الفعل كما هو في حال التوريث لأن يكون طبعاً يتطبع به الفكر وهو يساقي التنافر بين أفراد الأسرة. وهنا تكمن فصاحة الكاتب في رسم مساحة التقدير في مثبته اللغوي، أي وقوع وظائف نظامه السردي بحال موقع النقيض لأنه يلقح جمع وصفين على وجه واحد، من خلال مراعاة الفهم في ملموس تناظر الحكاية، ودلقها في مخيلة ما يرتضيه المتلقي العقلي العاطفي، خاصة إذا كان الكاتب متفاعلا نشطا في محاكاة الواقع الذي طرق بابه بتأملاته النافعة، إذن لنقرأ قدرته على هذا التوظيف حيث يقول:
"كان أشد ما يزعجها الحديث عن المرأة والجنس"
وهنا أراد يونس أن يفصل الأم عن الجنس فتصبح آلة تتحرك بفعل روحاني خال من الرغبات والشهوات، ولأن هذه الحالة يحكمها الشرط عن كونه موفياً لبسط أدَّاهُ النثري المُقَرَب من النفس الشعري، بمعنى لا يحصل أن يستشعر الراوي أن المشاعر العاطفية غير مُتفَاوِتة على اعتبار أنَّ المرأة إذا شاخت أصبحت مجردة من الشهوة، حتى لو أنها تتمني أن تلك الحالة العاطفية تأتيها برغبة منها أو لمسة ذكر من هنا أو هناك، إذن فالرؤيا التنظيمية عند الكاتب تعثرت قليلا لأنه لم ينفتح على أدوات تطورية تبين التحولات الحسيَّة من ملموس مصباتها العاطفية النفسية عند الأم، من منظور أن الاستحقاق الفسيولوجي العاطفي عند كل امرأة مزدوج الحكم والتثبيت، أي أنه يقوم على نظرية ردة الفعل الجانبية الجاهزة لأن تُنقض وتُبرم وتنفى حصول الرغبة الشهوانية ولو لزمن قصير يعوضها أيام وربما شهور تساعد على تأويل حالتها النفسية وصرف رغبتها عن حقيقتها المجازية، على اعتبار أن الإنسان أكثره مجازي، وهذا يرجع إلى القناعة في ما ترضيه الذات قضاءً للحاجة، وهو استجابة لإثبات العودة للرغبة العاطفية إذا لزم الأمر، على شرط أن لا يدوم اللزوم حتى يتكرر ظهور الحالة ثانية بين زمن وآخر.
"كانت تتهمني بالفجور والفساد، وتتهم صديقاتي القليلات بالعهر والدناءة.. وكانت تسألني دائماً عن أحوال الدنيا والعباد، فأحدّثها عن علاقاتي مع بعض نساء البلدان التي أزورها, وعن جوعي وفقري ونومي على أرصفة الشوارع, وتحت أقبية المترو، وعن غربتي الكلبيّة, وعن وطني الذي يتّمني, فتحترق أعصابها وتصيح: يا كافر .. يا زنديق.. أبوك قديس ، وجدك ولي من أولياء الله, وجدّ جدك بنوا له قبّة ومنارة, وقريباتك من أطهر نساء المعمورة , وأعرقهنّ حسباً ونسباً. وكنت أتأملهن جيدا , فلا أرى إلا طبولا جوفاء, وسنين عجافا, وقحطاً وبواراً , وغرورا كاذباً, وطهارة روح زائفة, وعنجهية ترتع في أسمالها البدوية والقبليّة والطائفيّة والعشائريّة".
إذا كان الوصف الذي قدمه الابن عن حال لسان أمه على أنه يتلصص على النساء بهذه الفضاحة، سيكون ردة الفعل عند الأم الغضب والشتيمة والعصبية والرجف لا من خوفها عليه وحسب، إنما وكأنها من خلال ردة الفعل المتشنجة تتمنى أن تكون هي من يتلصص عليها الرجال، بينما هي تود لو أن ذلك يحدث لها بصدق في سرها، وأن يكون تكذيباً في العلن، وهي في الوقت ذاته توبخ ابنها وتذكره بقريباته القديسات الطاهرات في الحسب والنسب، ولكن هذا الأمر يخضع للتظاهر لا غير، لأن المرأة لها وجهان أو حتى ثلاثة أوجه عند البعض منهن خاصة في الغاية الجنسية، وفي كل وجه حياة مستقرة ومستقلة ومقدسة في نظرها بدون اعتراف أو إنكار بينها وبين نفسها وهذا ممَّا لا انكار فيه، إذن فالصيغة السردية ربما مكررة عند الكثير من الكتاب ومنهم يونس لأن المجتمع العربي واحد تحت لواء اسمه الدين الاسلامي بواقع اشتراط التنصيص القائم بالنفس، على اعتبار أن نوايا العاطفة مسيرة بإيعازات العقل فهو الأساس الذي يمول قواعد التصرف بالنية والهوى، فالمرجع واحد هو "الدين" والأيمان تحكمه العصبية التي اشتغلت عليها الأديان، وهذه التعليمات تعتمد إفساد العقل التمثيلي بأسس يبنى عليها تطرف مختلفات الأصول التي يُرَدّ فعل باطنها على شكلها، مع أن جواز ثبات النيَّة عند الأم يكون له تأثير برئ على ولدها، وبصمت لا يريد أن يثير شهوة أمه لرغبتها غير المعلنة في نفسها، فتدعي البرود بفاعل القصد والاحساس.
"كانت باردة كالعجين , وتكره جميع الرجال, باعتبارهم خنازير بريّة، ومتوحشين جنسياً, ولا يكتفون بامرأة أو جارية مهما كانت جميلة وشهيّة, ولا تشبعهم كل نساء الأرض ـ على حدّ تعبيرهاـ وعلى الرغم من أنّها تبجّل والدي تبجيلا منقطع النظير, إلاّ أنها لم تكن على وفاق جسدي معه, وكانت في أحيان كثيرة تفتعل الخصومات , محتجة بأنّها ضلع أعوج, ولا تعطى المكانة اللائقة بأجدادها الغرّ الميامين."
مما يجب ضبطه في سياق السرد القصصي يجب أن يكون تثبيت الملقحة التراكمية وجوبا بين الجمل الحاكية للمعاني، وبين فكّ الغرائز بعد استغلاقها واستبهامها العفوي، حتى يتم تسلسل مسقاها من الوحدة الباطنة للموضوع إلى جانب حصر المشكلات باحترام المشاعر، لا أن تتشتت وتعاد المفاهيم الغرائبية الجامدة على مغز واحد، فيكون الوصول إلى المعنى مرتبكا وغير قابل للمتابعة فيما يود طرح المشكلات على أساس حلها، ومثال ذلك التكرار في أسلوبية الألفاظ بدلالة اللغة، وجعلها بنية غير مشروطة للتسامي في الإبانة النوعية ونحوها، فالإعادة في موضوع ما عند الكثير من الكتاب والشعراء لا يختلف بشيء سوى التلاعب في اللغة ومضامينها وقدرتها على الخلق والتمييز، فنقول هذا النص إنما أنشأ اليوم، لكن بحقيقته أنشأ بالأمس البعيد، خاصة في المكان الذي يتم تناول العائلة فيه، التي هي الخاص للعام كما عبر عن هذا كارل ماركس، ومع هذا ومن خلال قراءاتي لكثير من الكتب: الرواية، القصة القصيرة والقصيرة جدا، والشعر، والنقد في كل أجناسه، والبحوث التاريخية وغيرها" وجدتُ تناص مضمون الموضوعات "قائم على قدم وساق" مع تلاعب وحيلة أو دراية من البعض في حكمة تطفو على المادة فتغير ما في شكلها، لكن ليس في مضمونها، فلو أخذنا رواية الأم عند مكسيم غوركي، ورواية بين القصرين لنجيب محفوظ لا نجد سوى تغيير في المبنى والشكل إلاَّ ما تعدى اسماء الأماكن التي يحكم السرد تناول العادات والتقاليد في بنية هذا المجتمع أو ذاك، لأن الناس تختلف باختلاف بيئتها، ولذا فالمجتمعات اختلفت بسلوكيات المنشأ، خاصة في المكانة الشعبية التي اشتغل عليها الروائي المصري بتناوله الفئة الشعبية، على أسس تحتاج إلى تضمين الدلالة باختصاص لغوي معين.
"لا تزال بقايا الطفولة البعيدة تهبّ كالسنبلة في ذاكرتي. وكانت تصرّح سراً وعلناً: بالناقص من الرجال، ليذهبوا إلى الجحيم, لولا أنهم يزرعون الأطفال الوسيمين في أرحام النساء لكانت الخنازير أفضل منهم.
وقال لي والدي: إنّ طاقاتها الجنسيّة قد ماتت منذ عشر سنوات، بعد أن أجرى لها طبيب جرّاح فاشل ، تخرّج في جامعات المعسكر الاشتراكي, عمليّة جراحيّة خاصّة.
أذكر مرّة أصحبتها لزيارة أصدقاء لنا، وعندما وضعوا شريط فيديو لفلم أمريكي ، ملأ صيته الدنيا، وأقامها ولم يقعدها بعد, بدت بطلة الفلم شبه عارية، فجنّ جنونها، وشتمت أعداء الله والكفار في أمريكا وروسيا وجميع أصقاع الدنيا. وعندئذ اعتذر صاحب المنزل، واضطرّ إلى حرماننا من متعة أمريكا وعظمتها الأثيرة, وسحر نسائها اللواتي يعشقن الصحراء العربية الكريمة, وجلابيبها , وجبروت رجالها, وأنهار بترولها الدافقة عزّا وأبّهة وكبرياء هامة ونفس أبيّة."
لاشك أن النفس التي انضبطت تلقائيا تحتاج إلى تضمين رغبات الجسد من حيث مكون الانسجام الروحي المتشكّلْ عضوياً من فلسفة جنسية قاهرة، خاصة وأن الأنوثة من الاستحالة في مكان ما أن تقاوم الذكورة المكون الحقيقي لخصوبتها وتوليد شهوتها حتى تروم ناحيتها، وكأن الإباحة تولد جهة القصاص بالتمني لا بالشح، لأن العقل يطلق مناداة الرغبة المحركة للخلايا الشهوانية، فهو ينتج الاحساس بالرغبة والجسد يلبي من وازع أن يقع بشيء ليس له صفة القادر على رفضه، لأن الحاجة الجنسية مستحقة حتى يكون واقعا بنفسها، وبهذا يبطلُ الإبهامُ، ولأن الكاتب أصر على أن الأم تمتنع عن التصرفات المكشوفة، لكنها وربما لا ترفض الممارسات الشهوانية السرية، بالمعدل الفني في معنى المجمل النفسي المتحول في محصلاته الثابتة، الذي لم يلتفت له الكاتب تبعا لثقافته التعليمية، فنقول إنْ أجاد ووفق في ملائمة علم التصريف وربط المزايا بحاصل العقدة والوضوح فهذا نجاح، وإنْ أخل في استحقاق التخييل ونظيره خاصة في تناول موضوعة علمية كالتي بين متناولنا النقدي، وهكذا علل قد لا يلتفت لها الكاتب غير الشمولي، وقد تؤول بالسروح إلى غير ذي فائدة، وربما تكون مفيدة إذا اجتهد الكاتب بتجاوز الشقوق والانصداع، وجامعَ المقادير الفنية واللغوية بنفسها من حيث أن تكون الحكاية ذات نفع ودراية وقبول واسعاد، فمن إيجابيات الكاتب يفترض أن يكون ملما بقوانين تنوعت بالدقة التقنية، إلى جانب الإلمام بالعلوم الشاملة في ترتيب المضامين اللائقة بمنزلة المقصود بحكم الشيء وبديله، وإن لم يكن في غير هذا فالكاتب يُعتبر غير ملمٍ في جناس التناقض والمقابلة والجواز، بمعطى رصف المعلومات بضروبها بما يحسن بناءه الفني، الذي يجب أن يجعل قارئ نصه قادراً على الإلمام بمتابعة دقيقة بين الشخوص وما يُحسن بأفعالهم، وما يكون مخالفا ومن ثم ناقدا لها، هذا لأنَّ من تثقف على أساليب التجنيس الشامل بنظمه يكون ملماً في تحريك أدواته اللغوية خاصة في النحو والصرف إلى اتمام الدلالة بما هو مجمل من وجهٍ، ومبيّن من وجهٍ آخر، خاصة إذا كان خياله يتمتع بالخصوبة والنضوج، وهنا لابد من ثبوت فاعلية القاص على إبانة التحريض على الدهشة اللائقة، لذلك فالحوار التقني بين العلوم اللغوية والفنية تشكل بنيوية تجعل من المضامين الحسيَّة تفيض مجانسةً وتحريضاً على التلقي النافع، فتكون الملقحة تلك قد شكلت مصدرا باعثا للشروع المقصود الذي يعتني بثلاثة شروط وهي:
أولاً: كونها جمعت الحكاية بالتصوير البيني المعتمد على جمع جهة السياق بخطاب واحد.
ثانياً: حتى لا يقع القياس في الضعف الباعث للشرط المقنع، لذا يجب أن يكون النص مناسبا وضابطاً لكلا الحكمين بالتصرف الدلالي يقيناً.
ثالثاً: كذلك المطلوب من الأديب أن يكون جامعاً لمتطلبات المعلومة الحاكية التي تتشكل بالوعي الجمعي في لغتنا التي قرأنا أصولها الفقهية، والكنايات البلاغية واسرار احكامها.
ومع هذا فقد أستطاع يونس أن يقنع القارئ والناقد على الاستمتاع بقصته المُحوَّلة بوجهتها وتفردها المخصوص بالشَرْحَ والمعاينة التي وجدناها تشابه المحكيات المجتمعية الكثيرة عن حقيقة أن الأبن على علم مسبق بأن الأم تكون طاقتها الجنسية قد ماتت وهذا علميا غير صحيح، فالطاقة الجنسية عند الإنسان تموت بموت الجسد لا غير، ربما تخف نوعا ما لكنها لم تمت، فالأَمرُ اليقين أن الابن أخذ يبحث عن طرق سرية شاذة تعينه على التفرج على فتنة الفتيات العاريات أو شبه عاريات، وتلك الممارسة تستوفي حالاته الجنسية مع بعضهن، بينما هو يمارس عادته السرية برغبة الذات وشهوتها. وهذا يعتبر استحضاراً للجسد الأنثوي بمشتهى منه، لكي يمتع نفسه الشاذة بالممارسة المفرطة. ولكن على ما يبدو يوماً بعد يوم وغسلا للخطيئة، بل لعلها استجابة لطلاق تلك التصرفات، وجدنا البطل ينشد السياق التحولي نادما على تصرفاته في كلَّ مأخذٍ، وقد أبان ندمه بجلد ذاته على أن يحرك النور الأخلاقي في داخله، ولم يعد إلى تلك المشاعر باهظة السمعة، وفعلا أخذ يلتمس تلك النجوى الروحانية تتحرك خيرا في ضميره وتتكشف له عن سيرورة تشع املا في ذاته، وبهذا التحول المعرفي عند القاص الذي جعل من مضمون قصته تدور بتلاقح ضمني في دلالاتها بإيضاح الصورة المولدة لتوظيفها، وهو ما أتفق عليه بالموروث الشعبي برد الخطايا إلى موطن ترك المجال لأبنيةٍ تسر القارئ، خاصة بعد أن أقام الكاتب استعاراته الفكرية المحتشدة معرفة بذكائه اللامع، حين أراد أن يزق التجلي بواسطة رمزية كدليل للتحول المعيون وهو يزق في حقل المعنى خصوبة تشوق الحالة السردية للحكاية، فيقوم بتثبيت النهايات بجديد خلقه الفني المفاجئ، على أساس الإنابة عن الأطر العامة، ليجانس بعضها مقام بعض.
"في الآونة الأخيرة لاحت لها خاطرة.. بدا لها زواجي هاجساً وهمّا، لكني أصررت على أن من أتزوجها لا بدّ أن تكون دافئة العينين, وتكون صديقة, وتحبّ الشعر والموسيقى, و لها صداقات وعلاقات إنسانية كريمة, وصادقة قولا وعملاً, وليس شرطاً أن يكون لها غشاء بكارة, فالماضي ملك لأصحابه, وما يهمني حاضرها النظيف, فصاحت مفجوعة: يا ويلي .. يا مصيبتي.. حفيد المشايخ والقبب والأولياء والقديسين يريد مطلقة! لكني لم أستطع الزواج لأن نساء بلدتي شرانق جميلة محصّنة باللؤلؤ والمرجان, وضفادع لا تفتح فخذيها إلا للمستبدين والطغاة، وأصحاب المكاتب العقارية ، والأحذية الجميلة التي تقود سيارات " البويك الأمريكية " ، و " ميتسوبيشي اليابانيّة"، وسرطانات يتركّز شرفها المقدّس المنيع في نصفها الأسفل, وأكفالها الجميلة, والمصيبة إني لا أريد إلا مطلقة كما تقول أمي" .
نتابع الأحداث المحكية من قبل الراوي وكأننا نقرأ استقامة المفهوم المعنوي للبطل، مع استمرار علاقته المتوترة مع والدته، بينما نجد تلك العلاقة مع والده سلمية أخوية، وهنا نجد البطل يشرح لنا أحوال العائلة التي تُسِّيْر أمورها الأم، خاصة في مواقفها المتشددة مع ابنها، وفي نهاية الحكاية التي التزمت بالقواعد ذات الصيَّغ الفنية للقصة القصيرة تنتهي وننتهي معها دون أن نعرف على أي رأي استقر الموقف لكل من الأم وابنها هل يتزوج الولد من فتاة لها بكارة، أم يتزوج من امرأة فقدت بكارتها في الماضي لمن هب ودب وهذا مقروء في مفهوم الحريات الجنسية، وهو ما لا يفهم منه شيء في المثبَّت الإنساني الدال على النيَّة.
يتبع في الفصل الثاني...
* عن موقع الحوار المتمدن
الفصل الأول:
لعلني وأنا اقرأ القاص الناقد د. محمد عبدالرحمن يونس تأخذني غرة صيف اللاذقية المنعكس بنسيمه على ملامح هذا الأديب السارد الثَر، كان ذلك في زمن بدء التسعينات حيث أشاء لي التحدي المادي والثقافي وبالتعاون مع الأستاذ القاص عبدالباقي شنان إصدار مجلة "النافذة" الثقافية الفصلية، والتي مولتها ماديا طيلة فترة اصدارها، فكانت المجلة أحد أهم الأسباب التي جمعتنا بحضرة الأديب الشمولي يونس، حيث وجدتَ أداء حرفه يستلهم هدوء محياه النبيل، المنعكس على علوِّ شأنه الاجتماعي بمقدار مبني نسبته الثقافية، وفي خطب ذلك الحال أخذني الرأي إلى التدور في جمانة صفحات حققت مُعْطى سريان يثاب فيها صيغ قصص مُحدِثَة، وملامح بلاغة تتفاوت في جناسها الأسلوبي، ليكون النص بحد ذاته يأسسُ لأبعادٍ تميزت بصيَّغه الطارفة، ومنذ ذلك الزمن لم التق به سواء أكان عن طريق المراسلة أو التلاقي على صفحة النت إلاَّ وعلم الكلام يفيض جوابات لغة تحاكي تفريع منتقى اللفظ لأصول أرسخ عرقاً في منظوم البلاغة. ولأني وجدته منساباً كنهر يجري بالصور القصصية المندلقة على ضفتي نهره الخصب يعالج التشذيب بمهارة الإعجاز، كان لابدَ لي من موقف إيجابي اتجاه أعماله المُنْتَجَة بدراية وامعان، وتلك اللطائف ضمته إلى أقرانه من القصاصين العرب، أمثال القاصة والروائية المعروفة سميرة المانع، والأديب عبد الباقي شنان "الذي سوف أتناوله بدراسة تحليلية متممة لدراستي السابقة عنه" والقاص المميز عبدالله طاهر، وعلي سرور، وجنان جاسم حلاوي، واحمد اسكندر، وعبدالوهاب البياتي.
فبدأ يونس ومازال يؤسس لطموح مغاير يرى أن المبدع الأكثر اقناعاً يجب أن يعاين قيمة التجلي المتمم لثقافة الكاتب الذي يحقق قناعة أن يكون الراوي محايدا وبعيدا عن نرجسة الذات الحاكية، لكي يجعل من المتلقي ناقدا لأعماله وليس قارئا وحسب، وبهذا يحقق أوجه تطورات تمدن النص الذي يُشبع قراءهُ بتورية اختلاف فاعلية نماذجه، وفي هذا نطالع الآمدي يرشدنا إلى أن:
"لا نسلم أوَّلاً أنَّ المناقدة مغايرة لقيام العلم بالذات، ولا المتحركية مغايرة لقيام الحركة بالذات، ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم يصاحب التمثيل*"
وهذا ما نسميه لزوم اللزوم أو التجريد الكامن في حقيقة المعنى، الذي يجعل الصورة المتفاعلة أكثر تلائماً وانسجاماً مع إبانة إضاءة إسناد الممتع واعطاه بعدا رمزيا خصبا، وهذا حكم نتبين خواصه تثري معطيات الكتابة باتجاه تجاوزها الموروث الذي استقام بعضه عند الكثير على ظاهرة المعاضلة، أو الأحاجي والحجب الريفية التي توهم المستمع على أن هناك من يخاطبه خلف الأستار، وبين الكاتب والآخر حجابان: المقدار، والتلقي، وكلاهما عاملان يعنيان خصائص البحث التقليدي، وسرعة إتيان النص وإثباته بالاقتراحات وتسمى "عين العقل"، تلك المقالات المتأثرة بالحجاوي الروحية التي يتساوى فيها قطبا الأدنى، والأقرب، خاصة عند أولئك الذين اتخذوا من أقوال: العربي الحاتمي، وبديع الزمان، والصخري وأبي الحسين السهيلي، ومحمد بن منصور الحوالي، وهذه المرئية استفاد منها الكثير بصور مختلفة جاءت على الشكل التالي في قراءات العيون الثلاثة:
"أولاً: عين الوجه وقيده بالجهة.
ثانياً: عين العقل وقيده بالفكر.
ثالثاً: عين القلب وقيده بالعاطفة.*"
فالقاص محمد عبدالرحمن وبكل جدارة تجاوز مسميات قواعد اطر التعريف في مدرسية السلف، بالمقدار الذي بنيَ نحوه الشخصي على قيَّم حددت واجازت جهة التوظيف، فاختلفت بها أفانين حاصله التوليدي الذي يعني التوكيد على إزالة الوهم والريبة والتقليد من دلالات مفاهيمه المُوضّحَة والمُبَيّنَة بوازع السياق الثابت في نصاب عيونه الثلاثة المختلفة وهي:
أولاً: جعل من محاسن جوازات اللغة العربية تشوقها المشاهدات بوصل أوائل الحكاية بأواخرها.
ثانياً: سهولة المطالع التي تتم فيها انزياحهُ إلى فصاحةِ البيان بتمام المعاني.
ثالثاً: اقصار الاسهاب بواسطة جودة الألفاظ وغاياتها واشراقها بالمحاور المؤدية إلى غنى التفاعل بين وحدات تتميم المجانسة.
ومن خلال هذه الرؤى التوليدية أصبحت أسلوبية يونس تنفذ إلى العام الثقافي بمقتضى الدقة من مبتدأ الصورة حتى اكمال سردها التجانسي، وبهذا نجده يجتاز تركيب الحاكي العام إلى دقة التركيز المنظوم وكأنك تتحسس خواتم انفعالاته الوجدانية، التي تصب ميزتها الطافحة بالتركيبية المعطاء التي تؤالف خلايا بواطنها، بقدرة هائلة على التعاطي التنويري المشرق بالاختلاف، واضعاً سياقه الأول على نبض المضمون من خلال تفاصيل الأحداث، بدءا من التحامه مع الشخصيات اليومية، وكأنه يرى ويسمع الآخر من ذاته، وحاله يتعامل مع الحقيقة بواقع تضمنته الأحداث الملموسة، بشكل يعالج التأثر المعيون في طرح قضايا الفرد في معتركه الحياتي.
وجدتُ في قراءتي المكثفة ومتابعتي لما يكتبه يونس أنَّهُ يحث اللحاق بركب الزمن الأدبي الثقافي ومراده يستنفد قواه لتأسيس انتصار على نجاحه، وخاصة عندما تناول المرأة وما أثارته من أبداع في روايته "ولادة بنت المستكفي" بعد أن أزاح الأحداث المحتجبة عن حياة المرأة الأندلسية في مجتمع ساقها إلى أن تكون مرتكز أعماله الكبيرة، وهو يرفد الرؤى الجامحة للشروق والتحرر إلى بنية فنية يعالج من خلالها الانكسار الذي أطاح بالإنسانية، فنجده يطلقها إلى رحابها المشرق لأن تعيش بلا وجع، وما الإرهاب الذي تمارسه بعض القوى المتنفذة "سلاطين وملوك وحكام" على امتداد عصور البداوة ليومنا هذا ممن عملوا على إلغاء وسحق مفهوم الحريات العامة والخاصة، فهو مثلٌ ساطع شارك في الكشف عن الظلم القسري الذي مورس على مكانة المرأة، فالقتل المجاني الذي تتعرض له طالبات العلم في المحافظات العراقية والسورية المحتلة من قبل الفصائل الإرهابية، ما هو إلا دليل واضح على هذا الاستهتار المعيب بمعاقبة المرأة التي هي الأم العظيمة، ومن أجل هذا نجده قد عالج توشيع أفكاره أنْ تنثال الماً على هذا الإتيان السلطوي الثقيل عند الإسلاميين الصهاينة، الطامح على أن يجعل من المرأة عبارة عن مسبية يلقها المتخلفون الغرباء.
ولهذا فقد جاءت روايته "بنت المستكفي" تعاصر ماضيا فتطرح ثقافة تعالج مصبات تلك الأفعال الدخيلة المشينة ودحضها بمساندة المتلقي الواعي، ايذانا بتفعيل تخصيب يعالج تعبيراً ثقافياً تنويرياً مستمداً من بلاغة الكاتب بدعوته إلى التحرر الاجتماعي من ممولي ومنفذي تلك الثقافات الدموية الدخيلة على ثقافتنا، ومن أجل هذا دلنا يونس إلى أنَّ سداد رأيه الغني بجديده الأدبي المغاير، إنما جاء يحاكي المختصر في حرية الرأي عند الفرد العربي، ليطلق الممكن لتشريع الحقوق الإنسانية لا الفقهية الدينية، ليكون التسارع الأخلاقي متمثلاً بحرية المرأة نصف المجتمع وربما أكثر. ومن أجل هذا أصبح من الغنى الأخلاقي الذي تطرحه المعرفة أنْ يُلْحِقَ ثقافة المرأة إلى تراثنا الأدبي على أنه تراث نافع ومؤثر بأعماله، وعليه يجب أن يُنظر إلى المرأة وإلى نتاجها الأدبي نظرة احترام، ويبدو ذلك واضحاً من خلال اهتمام بعض الأدباء القدامى بجمع ما قالته المرأة من شعر أو نثر، لتتناقله الأجيال من جيلٍ إلى جيل.
يتناسق الكاتب محمد عبدالرحمن يونس مع نصه ليمنح منظومة التنوير المعرفي بالابتعاد عن الآراء الكبيرة غير المفهومة، حيث يحكم منظومته بالثابت المعنوي، وذلك باستدراج الأحداث أن تتشكل ببوح أنسجة النص بكفاءةٍ في بنائها الداخلي بمفاهيم متداولة ومفهومة حتى لا يستاء منها المتلقي المستدرك لأمور وأحوال الأدب المحترف، حيث نجد يونس يمنحهُ القوة المثالية التي تحقق له المطلوبات النافعة والمؤثرة في تعاملها مع بنيات الحكاية، لأن السرد القصصي خرج ومنذ زمن ليس بالبعيد عن حكاية الجدات على يد محرريه ومعتقيه من ذلك الويل الكبير، أمثال القاص الكوني محمد خضير، ومحمود الجنداري، والأديب اللامع خالد القشطيني، والقاصة ليلى عثمان، هؤلاء الأدباء الذين عارضوا البناء المسهب بتقليديته غير الواضحة بمقدار نضوجها ووعيها، ولأجل هذا جاء المجددون لينتجوا شكلاً مكثفا بفكر سريعَ الدفقات في تلاقيات مضمون المشهد التخيلي، الذي يفتح صورة التشكيل الباطني بالإضافة إلى ضم القارئ إلى المكان الذي هم فيه، عبر سردية مكثفة تحاور اللغة والايماءات والدفق الفني المتتالي بنسقية تشابه الشعر.
وعلى أساس هذا التقدير جاء يونس يضع بصمته المجددة، في جوانية هذا البناء مع الاحتفاظ بملهى تراجيديا خصوبة المعاني وحكمة دلالاتها السريعة، بأسلوبٍ ساخرٍ حينا وواقعي في أحايين كثيرة، ملهما متلقيه حدثاً ذا ذائقة يستمر نشؤها إلى أبعد زمن ممكن في خياله، والنية هنا عند الكاتب تعني تسليم الرؤية على فتح قنوات جديدة بالمُرَكّبْ الفني التقني الذي يتصاحب مع تجانس الجمل القصية ببعضها، وكأن الحكاية تنهال من نظرة المثقف الثاقبة والفاحصة للأحداث على الزمكان، وبهذا الصنع يكاد الكاتب أن يشكل جيلاً متأثراً به لديباجته الجديدة الخالية تماما من التأليف السردي المكرر كما هو الحال عند بعض القصاصين، الذين غاب عن نظرهم ايجاز التنظيم السردي، بالسياق الذي يقتضي الحرفية الإبداعية بمعية بسط أثر مباهجة المشاعر الصادقة، المفترض أن تعالج حالة موضوعية في تناول الحدث الذي يعتمد مبدأ الوحدة العضوية الصغيرة لتشكيل تنوع النص في عمومه، وإطلاق فضاءاته الذكية من لدن توظيف بلاغات تحتكم الاحتمال المتمم بالفائدة. لأننا في كثير من الأحيان نجد بعض الكتاب وقد انصهروا كثيرا في الكلفانية الفضة، أو الايغال أكثر فأكثر في محاكاة التكرار للمفاهيم المنقولة التي لا تفيد القارئ بشئ، بقدر ما تدفعه إلى الملل من تلك المصطلحات السطحية الكبيرة المفخخة بالغيبية والغموض والرمزية الفجة، يداخلها الظلام ويتعبها التباهي.
وتحقيقاً لهذا الهدف صب يونس ثمرة إبداعه في قدح المتلقي فأنتجَ نصاً تلاقحيا بين اللغة والشجن، أي أنه ناغم الحالتين: فملكة العقل تساوت إبداعاً. وعاطفة الروح أنتجت الشجن، وهذه الإلهامية ندرت عند الكثير من الأدباء على مر العصور، لأنك أن تقرأ جملة خصبة، حلوة على السمع، شفيفة في تلقيها، مقبولة في تواصل نسيجها المفتوح على فضاءات تشد القارئ إلى سعة جواباتها الفنية، تجده يأنس المتعة في استمرارية القراءة والتجاوب معها، وفي هذا عامل مشجع يضع القاص محمد عبدالرحمن يونس يطرق باب الأهمية وتأثيرها على الحركة الأدبية السورية، بعنوان انفتاح الجديد الايجابي وتأثيره على اتساع الحركة الأدبية العربية والعالمية وخاصة على مستوى القارئ الذي يتواصل مع الحالات الإبداعية بالإضافة المجددة.
فقراءتي للأديب "الروائي، القاص، الناقد" يونس ليست استكشافية تختصر تناولي لمعطياته الخاصة نقدا متوجا بالحيادية الصارمة التي تعني هذا الغرض وحسب، إنمّا بدأت معايشتي اليومية في متابعة لنصوصه ومحاضراته منذ منتصف التسعينات عندما التقيتُ به في اللاذقية عروس المتوسط، وكان طموحي هو الإتيان في تحقيق المختلف أمام كل أديب التقي به، سواء أكان ذاتيا متمماً لإفادة، أو تحديا مكشوفاً تكون نتائجه سريعة وواضحة، ولهذا استمرت قراءتي لنصوصه تتفاعل عبر زوايا معينة قد تكون قاسية عليه، ومن أجل هذا أدعو القارئ الكريم أن يكون ناقداً روحياً بيني وبين القاص عبر إلمامه التمتعي بجوهر النص الذي نقرأه، بجواز أن يونس ناسب بطله بميزة القريب من المعقول في صفات الإنسان، كما قال الفارسي في ثقافات المعتزلة:
"أن حقيقة الإنسان هي أمر حاصل فيه*"
أمَّا أنا الناقد فعلاقتي القطعية مع النص لا غير، وهذا ما يجعلني قريبا من القارئ، عبر إبانة تناصف الناسك في حق التمييز على أن يكون التوظيف السردي للحكاية توظيفا ضديً بأحوال فطنة الكاتب.
وحسب ما ورد في قراءاتنا للإنتاج القصصي الحديث رأينا أن يونس استفاد كثيرا من الاسفار التي عايشها الراوي بذاتيته، خاصة اطلاعه على الثقافات العالمية عبر اطلالة على الحركة الأدبية الأوروبية والعربية، ولأهمية مثل هكذا ثقافة أجدني أنظر إليها بمنظورين دلاليين وهما:
أولاً: منظور المساجلة بين العربي والأوروبي، بمستوى بيان حقليْ التجديد والاختلاف.
ثانيا: نقل النص القصصي من سياقه المألوف الروتيني في كتابات القرن الماضي، إلى مواضع واضاءات اختلفت أحوالها بحسب التعريفات في الجملة القصيرة.
فكان ابتعاده عن منهج التقمص الذي يتبعه الكثير من كتاب القصة القصيرة المعاصرة لصوت السلف عبر محاولات استعادة التاريخ الشخصي وما نعنيه بالتقليد، ومن أجل هذا استنهض القاص يونس تخصيصه السردي عن سواه من الذين عاصروه بالاتجاه والمعاينة، محاولا أن لا يضع القارئ في حيرة الأسلوب المعقد، بل عمد دائما إلى استئناف التمايز بين الصورة الحسية ومحاكاة اختلاف ثقافات القارئ، متتبعاً الصورة الصوتية التي يتصورها القارئ على أنها مثار متخيلات سمعية مختلفة، ومع هذا يمكن للكاتب التنويري المجدد لأساليبه أن يعالج المقاربة الفنية بقرينها الآخر بين صيغه الخاصة ونتاجات أدباء الشعوب الأخرى، شرط أن لا يكون النص الشعري أو القصصي أو الروائي تقليداً للسلف أو حتى للمعاصرة، فالتقليد ليس له صفة إبداعية تميز الكاتب المقلد من حيث ثقافته ولون اشتقاق النص عنده، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما:
الأول: التناصب وهو باب من أبواب تلاقي الحضارات الأديبة بتكامل بعضها البعض كما فعل أبو فراس الحمداني مع أبو الطيب المتنبي*، وهذا لا عيب فيه ولا ملامة.
الثاني: التقليد وهو باب مذموم ومكروه، لأنه ماثل الآخر برؤيته وخلقه، كونه لم يُخلق من الذات خاصته على اعتبارها ذاتا غير منتجة للتقليد.
خاصة إذا كانت تلك المقاربة ندخلها من مسارها التاريخي الأدبي بين عصرين أدبيين مختلفين، أحدهما أوروبي حرك مجد الأزمان في كافة مناهج العوامل الثقافية اليومية، وآخر عربي عاش في زمن مثقل بويلات الحروب الداخلية منها والخارجية، فكانت تلك الحروب سببا من أسباب التردي والتخلف الثقافي المجتمعي والمعرفي المادي، فتولدت صراعات مستمرة بين طبقتين الغنى والفقر، والملحد والمؤمن، وبين مذهبين متخلفين كل منهما يدعي الحق بالقرب النبوي منه، وهذان الداعيان حركا التناحر والتقاتل فيما بينهما حتى احدثا هوة وجدانية تساعد على طمر الوعي عند الشعوب بالمخاصمة.
أمَّا في الجانب الإبداعي فالتقارب الفني ليس بالجديد على الاطلاق، فالمقاربات الأدبية كثيرة وأهمها: تلك المقاربة بين الشاعر العربي الجوال "قيس بن عامر النجدي"، الشاعر المجنون الذي عاش في زمن آخر ملوك غرناطة للدولة الإسلامية "أبي عبدالله"، الذي قضى حياته متجولا بين المدن والأرياف، وعودته الدائمة إلى غرناطة. يقرأ قصيدته الرائعة "مجنون إلزا"، التي عشقها واقتبس موضوعها الشاعر الفرنسي أراغون الذي عاش في القرن المنصرم في قصيدته "مجنون إلسا" 1939-1940 والذي منحها نفس الاسم، فالاقتباس هنا مبرر إذا كان يتناول نفس المعاناة الحبية باختلاف مباهج التعبير، حيث أخذ من الشكل عنوانا، دون التطرق إلى النقل النصي اللغوي، والمضمون الحرفي في جوابات التجريد، أي مناقلة بنية المشار إليه من غير تخصيص، أي إعادة خلق الصور، ومعاينة دفق الإحساس المنساب على المنوال الذي سابق ذات المضامين المنعكسة رؤيتها المطابقة، كما مال بقصيدته المقتبس عنوانها مبتعدا عن التكلف واخفاء خصوصية الحالة بقرينها، والحال هذا ينطبق على كل الاجناس الأدبية بكل أطيافها.
حيث أنَّ أراغون لم يعرج كثيراً على تداعيات التاريخ الأدبي وربطه بالمعالجات الزمنية التي عاشها الشاعر الأندلسي النجدي، ومدى تأثير تلك الظروف المعاشية والسياسية والدينية على حرية الشاعر، عندما نجد أنَّ صدى فارق التكامل الأدبي والحضاري بين الكاتبين يبعث الفارق الكبير بين اتحادهما في بيان عنوان القصيدة، الذي لا يشير إلى التشابه في العديد من مؤلفات آراغون خاصة في الجانب البنيوي فقصيدة قيس بن عامر النجدي عمودية، وقصيدة أراغون نثرية. وتكفينا الاشارة إلى أنَّ بعض تلك المؤلفات تبين كيف يشكل حضور ذلك الحب. في نشيد يتعاظم من الشباب إلى الشيخوخة، فيحسن جوهر العديد من وجوه التحولات في الشعر الفرنسي المعاصر، فصار الأول "قيس بن عامر النجدي" للمعاني مؤسساً، وصار الثاني "أراغون" بالتلقي مكملاً، كذلك نشير إلى الأقتباس الذي ورد في معالجتي عن حياة الشاعر المصري أمل دنقل في قصيدة " "الوصايا العشرة" الذي منحها نفس الأسم تيمناً بالشاعر العربي الخالد كليب وقصيدته الخالدة "لا تصالح"، التي ضمنها الوصايا العشرة. وتلك المقاربة أو الموازنة بين شعر امرؤ القيس وبين عمر بن ود العامري، وفيها مقاربات معروفة بدلالاتها ووعيها وصورها ومضامينها. وليس ذلك بمانع من أن يكون امرئ القيس أشعر من عمر فكلاهما شاعر من الطراز الأول، وذاك كُثَيّر قد أخذ من جميل وتتلمذ على مهارته وأستقى من معانيه. فما رأَينا أحداً أطلق على كُثَيّر أَن جميلاً أشعر منه، وما خلا أن أديباً أكمل بغيره نقصه. يدلنا يحيى بن حمزة إلى أنَّ: "فالاتمام يرفعُ الخطأ مما ليس ذماً، والإكمال يرفع الذم المتوهم*". إذن فالتقارب الأدبي ليس بعيبٍ أن تربط بين مضمونين قد تعارف عليهما منذ زمن مضى وبين معاصرة لهذا الكاتب أو ذاك، ومبرره كونه تداول في الزمن القديم.
أمَّا إذا أردنا وضع استثناءات الأديب يونس التاريخية المطلة بحوارها المعنوي التوليدي على المقروء النوعي نجد أنه صاحب التاريخ من أوسع أبوابه في روايته "ولادة بنت المستكفي" تلك المهارة المثالية التي تقودني إلى أنْ أدخل بقسوتي النقدية إلى تفاصيلها الفنية واللغوية والتاريخية ومرامي سهام بديعها، وفي الوقت ذاته تجدني أحاور الأسئلة الكبيرة التي تطرحها الرواية، وأجيب عليها، متخذا من قوة الالهام المعرفي المملوء بشهوة العقل الخلاق وقدرته على صناعة هذا المنجز من حيث موقعه وتأثيره على المتلقي العام، أمّا فيما يتعدى الجانب البنيوي فقد أحدثت هذه الرواية هزة نوعية في تلقيها من الناقد وما تقارب وتباعد من الصحافة العربية على اختلاف منجزها النوعي التعبيري في الفهم المعنوي لكل ما تلاقى مع الكاتب يونس.
رواية ولادة بنت المستكفي
دأب القاص يونس على منح القارئ الكريم متابعة استيعاب حركة شخصياته سواء أكانت في الرواية أو القصة القصيرة، المتمثلة بالرموز الداخلة في القياس انموذج سيرورة التدوَّار في منظور الحكائيين، بمصاحبة ازدياد الحضور التراكمي في توظيف دواعٍ تجزل رصد العطاء الروحاني، وما يتحقق بسرد مدركات الحدث المعنوي المعنى به، ثم يخرج الكاتب بسردية تقرب الصلة التاريخية بالموصول المعاصر حتى يبقيها على أصولها، بجواز ثبوتها، وكل ما كان مبنياً على قاعدة تبنت طباق حالة الزمان على جهة المقصود، فهو يقرر جهة التأكيد بما وقع بين العامة في الزمنين، وبتفصيل أخر نجده أي الكاتب يكشف عن الصورة المتحركة من واقع طبائعها الخاصة، ليكون البطل فيها مرتحلاً حينا بنياته، ومقيما فيها في أحايين أخرى بأحوال مقاصده الخاصة، التي تستنظر اِحتساب تبيان قدرته على اِتمام إكمال المدركات بوازع جواباتها المؤثرة على المتلقي، أي أن يكون البطل يتقمص مسرحة المكان التي تكشف عن التفريع بالأوْصَاف والتَّشْبِيهات الماسة بحقيقة المضمون المنكشف على مساحة كافية للتعبير، بجواز معطيات وإشارات الأداء الايعازي المولد من لدن عطاء مذهب خصوصية النفس المعطاء لفرائدها الشكلية الخارجة عن حركة التصانيف التي تحدد إظهار حالة الرفض أو القبول على جهة المبنيات السردية، فتكون الشخصيات متحركة في الواقع المعيون، كل يؤدي دوره المناط به، مع مُحدِثات اكتشاف الأثر الذي تعكسه أفعال الشخصية من تأثير ممارساتها بالجو المحيط بها ومدى استيعاب الحالتين ببعضها البعض، ولهذا نجد الكاتب يستكثر في وجهته السردية أن يوقع المبالغة لكي تُفتَحْ على صيغ تحقق بيان عطف انجاز ملقحة إحداها على الأخرى بجامع يجمعها، فنجده يجتهد وهو يَهمُ في طلب اِستَصوَاب التشبيه أن يفي بالأصلح تقنيا، وكأنه يقيس فاعلية الشكل على المضمون فتظهر مناخات المتخيل على أنها واقع مبصر، اِستحبَ جنون رومانسية الشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي "994 - 1091 م" ابنة الخليفة المستكفي بالله*"، من عصرها ليلبسها جنون عصرنا حيث تعتبر بنت المستكفي من أمهر شاعرات زمانها وهي تطمح لتغيير عالمها المحاط بسلطة والدها الدينية، خاصة في تغنيها بشاعرية الاباحة "الأيروتيك"، حيث كان مجلسها عامرا بالرجال من الشعراء والفقهاء والنقاد، وقد ذاع صيتها لجودة شعرها وبليغها اللغوي وجمالها الأخاذ، ومن أهم ما قالته:
"أنا ولله أصلح للمعالي - وأمشي مشيتي وأتيه تيهاً
أمكن عاشقي من صحن خدي - وأعطي قبلتي من يشتهيها"
تقصد الكاتب يونس أن يعاصر الماضي ويربطه ربطا درامياً، فيقرب المستبعد من أجل ما اختص به من الغرابة والإعجاب، فيبني الحكاية على جهة الاستطراد، على أنْ يؤتي غايته على وجهين:
أولاً: تطابق الشخصية بمثيلتها على أن يكون الأمر بينهما باعثاً على جواز التتميم.
ثانيا: يكون اِستطراف مواضيع السرد تُطرح على اساس اِعطاء المضمون المعني حقه من تفعيل يندرج تحت المنازلة الإباحية ذاتها.
فكانت ولاّدة الشاعرة الأميرة التي ارتبطت بعلاقة عاطفية بالشاعر القرطبي ابن زيدون 1003 – 1071 المنتمي لأسرة من فقهاء بني مخزوم، وقد تولى منصب القضاء والوزارة في عهد المستكفي، وذلك لإعجاب الخليفة الأندلسي بعلمه وأدبه رغم صغر سن ابن زيدون، كذلك كان مقربا وصديقا لابن جهور الذي أصبح فيما بعد خليفة للمسلمين في الأندلس وسمي عهده بالعهد الجهوري، ولكن الخلاف دب في ما بينهما خاصة بعد أن تكشفت العلاقة العاطفية بين ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، " صاحب المعلقة النونية التي اشتهر بها "
"أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت سودا وكانت بكم بيضا ليلينا"
المدخل
حين فتح الكاتب محمد عبدالرحمن يونس بلاغات الشخصية النسوية، رصد حركة التاريخ من منظور توظيف الدلالة بجوازها الايحائي، فكانت: ولادة بنت المستكفي، التي تركت بصماتها في تنوعها وثقافتها وإبداعها وإنسانيتها واشواقها ومخاوفها، فأصبحت أسطورة تغنى بها الملحن والمغني والشاعر والناقد والروائي، وكأنه يوسم الشاعرة المستكفية بتلطيف المزاج للقارئ فقد اهدانا انجازهُ التاريخي الساحر المختلف بتميزه المتجانس بسياقات أجمعت البحث بالفن الروائي، الذي آذن بالظهور عن كشف الوعي المرتبط بالمكننة وهو يجمع الحكاية بالخيال التوازني، أي أنه سقى وعي منجزه المختلف بخصوصية أنَّهُ اِستنهضَ نصا معاصرا يحتاج منا الوقوف على مقدار ما تبوء به أهميته ووعيه، أي أن الروائي يونس بَسَطَ ملامح الوعي الانتقالي من حال كان في الماضي، إلى حال حاضر فآمن الارتقاء به إلى مستوى المنظور الذي يُبَرزُ ملامحه إعداد فن مبتكر يحتمل ايقاظ مزايا تلك الحكاية التي تركت بصمات لا تنسى في التاريخ الأندلسي، فقد وضعنا الكاتب يونس أمام عمل أفاض مضمونه مقارنة حداثة بالغة التمييز والمؤاربة والاقتراب، وفي الوقت ذاته أحال المعاصرة في شخصية البطلة بإحساسها الأنثوي الأساسي أن توائم صورتها التي بقيت مؤثرة في الحركة الأدبية الكونية.
لذلك نجده يحادث ما أنارت به أوضاع ولاَّدة السري للإعلان عن حلاوة الجمال في معانيها المغرية كما وصفها المؤرخون، وهنا تناص الكاتب وكأنه يريد أن يقول لنا، كل شيء مخلوق فيها بدراية ومعجزة، اِتسام مرسوم بإتقان دقيق، العينان فاحمتان تتألقان بالسعة، والبريق الأخاذ، والرموش مقوسة طويلة، وفوق ذلك يلمع جسدها باسقاً، أما تناسق صدرها المندفع المستثار، وطرفاها يلتاعان لمشته آت بمشتهاه، يعلن ذوو الصَّبَابة متَّيما، وحال الكاتب يلوحُ بإيماءاته ويتمنى لو أنَّه ابن زيدون أو حتى لو أنه العومري بصيغة الذات المشبهة بالفعل في قوله: "وتأمل ولادة وقد طفحت وجنتاها بقلاع ومراكب ، فودَّ لو أن يرتمي على صدرها، ويشق قفطانها من أعلى نحرها، ويرضع ثديها الأيمن، وينزف آخر مآسيه وشجونه" لذا فالكاتب البطل يأتي بتاليه فيومئُ كونه حبيبها، إذن فجمال ولادة يرتبط باسمها الذي ذاع صيته في كل الأندلس والأمصار، وهذا مرتبط بعموم ما اختص بسيكولوجية الفتاة بتصرفاتها واندفاعاتها الفنية الأنثوية في طبعها المدلل، ولم يدم حبها مع ابن زيدون طويلا، حتى استقلت بمجازها الذي انعكس فيضه على جمال براعتها، فأصبحت هي الاعجاز بشخصيتين مختلفتين، ولادة الأولى نبيلة وشجاعة وذات قدرة هائلة على القيادة في مجلسها وعلى حاشيتها بما فيهم عاشقها، الذي خلعته بعد أن وقع معجبا ومغرما بخادمتها بارعة القد والغناء وملاحة الأغراء فقالت فيه:
لو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا - لم تأت جاريتي ولم تتخيّر
وتركت غصنا مثمرا بجماله- وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السماء – لكن دهيت لشقوتي بالمشترى
إذن لابد من التعريض إلى اِستصواب الاستدعاء الذي استخرجه يونس من بواطن التاريخ، حين اِستحبَ إغداق انفراده بالموازنة بعد أنْ لاءم التشبيه بالشيء مع فارق التطبيق بجانبه المعنوي المكاني، مع فارق البعد الزمني، ولأني وجدتُ الأمر لا يتعارض فيه الكاتب في تظهير أحكام المقابلة، كونه أشار إلى منطق التحول في مراتب المحاكاة التراكمية في ملقحة جسد ولادة وهو ينضح بالعرق البارد والسوائل الدافئة، سيقا بزينب الفاسيَّةَ عندما خرجت من الحمام تقطر شهداً، جعلنا نعتقد بقوة الإيماءة على أن زنوبة الفاسيَّةَ هي ولاَّدة، وتلك قدرة أنه جعل من الموازنة تأخذ مساقات مختلفة بالجوانب التي تساوى فيها الحُسن بدال نقيضه، ليجعلنا نفهم الغرض من أنه يقدم أو يؤخر ما يستفاد منه الوعي التطوري، وبهذا نحصل على ما توصل إليه الكاتب من محاباته الوصفية من جهة التقاط الاشارات القصدية بواسطة الاستطراد، لما يؤرخ الكاتب فعل الحريريات باحكام القيم التاريخية بين البطلة الحقيقية "ولاّدة بنت المستكفي، والنسخة المعاصرة التي نقرأ ضعفها المعنوي وتخلف انتمائها العائلي بقوله:
"عند مدخل حارة الصباغين شاهد الشيخ العومري ابن زيدون وقد تأبط ولادة بنت المستكفي، كانت تبدو أميرة يقطر منها وجد قديم، وصبابات عشق، وبوح وأماني ترفرف باسطة جناحيها فوق الأزقة وبيوت القصدير التي أخذت تتململ تحت وطأة قيظ جوان. تقدم منهما.. حياهما بأدب، عَرَّفَهما بنفسه، ودعاهما إلى عربة كان يدفعها صاحبها مردداً: تين.. صبّار يا شوكي يا صبّار.. تطواني يا صبار، أخذ العموري موسا وبدأ يزيل قشور الصبار، ويقدم التينة شهية، وجميلة عارية إلى ولادة وصاحبها. سأله البائع عن هذه المرأة التي بدت سروة شامخة بقطفانها الأخضر الطويل.. هل هي من طنجة أم من خنيفره أو من الصويرة؟ وأكدّ العومري أنها أميرة قادمة من غرناطة، في زيارة سياحية قصيرة، لكنَّ البائع أصرَّ وزمجر أنها من خنيفره.*"
وبما ينتهي الكاتب إلى المُبصر في الغاية وكأن البطل يوبخ البائع بحال قوله، ويحك أتُغالطنا؟ فيكون السياق موصولا على أنه صورة لا تخرج عن صورة أخرى خاصة في مَوضَعَ المكان الذي اِشتُقَّ منه الحال أن لا ينطق بزمان ولاّدة، وبهذا يعترف في إثبات حقيقة معاصرة بالمجاز وليس للحقيقة أصل، وهنا حدد الكاتب مصدر الاختصار على أنّ الوعي المطلوب اثباته يتحدد في التشبيه، من حيث لم يكن ائتلاف ضرورة الإخفاء لأنه يعني المقصود من النحو لدعوى الاطراد لا غير، حتى كون الحوار الذي دار بين سي العومري والبائع أختلف بالفارق المعرفي التاريخي والمستوى الثقافي، وما حصل في مراتب العلم والانتماء إلى الأصل بين الرجلين، لا سيما وأنَّ المعنى جاز به الكاتب أنْ ينطقه باِستحضار قدرة المجاز على التصوير في احياء الرمز "ولادة"، مع أنه ساق الإيهام إلى أنْ الأثَرَ في حدوثه وحصوله مقاربة الصورة "ولاّدة" وتطريز صورتها في بنات الحاضر، أي أنه يجعل من الحقيقة تساوي واقعها، لذلك جعل من الاستدعاء وسيلة تفرض خصوبة الاعجاز بمبنيات تشابه الحقيقة بدال المجاز في قوله: " لم يصدق بائع الصبار أنَّ هذه الواقفة أمامه ولاّدة بنت المستكفي"
إذن هي القدرة الهائلة على ملامسة توليد الوعي المنتج للحكم بأنَّ الفعل السردي أصبح دالا على وعي الفن الروائي بالقرينة كونه لا يخالف الاستعارة بشيء، فالخبر التصويري يصاحب واقع أسس على أنَّ الاستسقاء التوليدي للحدث أصبح مطردا عند بائع الصبار وإن كان الشك يراوده، باعتبار أن تفسير موضعية التماس في الرؤية بدت واضحة بعد أن تحدثت ولاّدة في ما سمعت عن اسم المكان قائلة:
"ابتسمت ولادة قائلة: ماذا تعني خنيفره يا شيخ؟ قال العومري: إنها البؤبؤ الذي يضئ ليل المراكشيين المظلم*".
بهذه الحالة فضل الكاتب أن يجئ بتزاوج أمرين، حتى يفرق مضمونه المحسوس باستعارته بين حالتين اختلفتا في الزمان والمكان ليجعل الحال مصوراً من أصله كحقيقة من حيث هو منظور الحكواتي الذي يحاكي المجاز على أنه واقع، وفي هذه الحالة يكون تناص الحالتين يؤرخ ذات قيمة واحدة، أحدهما مشتق من المتخيل النوعي الذي يبسطه الكاتب على أساس الواقعية، والآخر غير مشتق وهو زمن الحياة التي عاشتها ولادة، ونحن هنا في صدد توثيق المشتق من المجاز بصيغة استدلال التوليد الذي نُقلَ من واقعه الأصلي، حتى يُبيَّن فائدة جهته، وهذا ينتج لنا في أمر التشبيه فيقضي حالتين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، على أن يزيل حالة الالتباس، وبالتالي يأخذنا المعنى لشيئين الصريح المباشر، وغير الصريح، وكأنك سمعت عن ولادة بنت المستكفي وأنت تعرف هويتها الصادمة، فتكون لغة الكاتب قد تجاوزت العقدة التصويرية مما أحيا وأجاد في التقدير في ثبوت الشيء بسياق الإسناد إلى توظيف الحكاية على أنها أمر تشبه به، وحال الكاتب أراد أن يُعِيرَ ولادة مكانة حية في الوجدان الأدبي خالية من المبالغة والإيهام، وتقديره يكون أنه زاد الإبانة وضوحاً على ترتيب صحيح ونسق مقبول.
أمّا الفارق البياني المندرج تحت جنس أدبي مركب نتبين أنّه يقعُ في انسجام واختلاف المحاكاة على جهة الإضافة، أي أن الكاتب جعل من أمر ولادة اشبه بدفتر مذكرات يسجل عليه تأويلات سياقيه على ما يريد وضعه تلبيساً وتحميلا للأحداث العاطفية، حتى أنه أخذ التوظيف التاريخي وجعله يدل على حالة ممكنة تتسامى بمهارة المجاز على أنه وقع بدلالته من وعي ناتج استثمره الروائي، لذا فهو يدرجه تحت مؤثرات حكم يحاكي خصال البطلة الافتراضية بواقع شخصية زينب فيكون الجمع موفقا، خاصة وأن المكان الممكن قربه من الأندلس تمثل بالاحتمال وتناصه، وأن البطل العومري نديماً لابن زيدون ومترجما مجازيا لولادة بنت المستكفي، لأن فارق الزمن جعل من اللغة العربية تحذف بعض مفاهيمها ومعانيها وتبديل كلماتها كما يحدث بين لغة شكسبير ولغة كيتس، وفي الصورة يبدو أنَّ ابن زيدون مازال شابا قويا له الدراية بأمور القتال خاصة بالاستعارة "السيف" غير المثلم، والمصاحبة التي حررها الكاتب هي تسليط الضوء على جمال بنات فاس المستوحى من ولادة.
وكما عهدنا ابن زيدون ما فتئ في مبتغاه السلوكي العام يتمثل القوة المؤرخة في قيادة شأنه، لكنه بدا في تصرفاته أنه غير واع في مطالبه الخاصة، لأنه واقع في التتميم من الوجه المبالغ فيه، وبهذا التجريد أثبت يونس موضعية التشبيه المُتَخَيل لما يوازي الرد إلى ما لا يستحق المستحق في إثبات الأصل في وضوح المستعار المجازي ببنيته، لذلك قارب الزمن الافتراضي من واقع بوابة قرينه المكاني، لعله يخيط اللحمة بين الواقعي والمجازي بأسلوبية حال دون تفككها بالجمع بين حالتين، خاصة وأن المكان غير خارج عن التصور بين شيئين عن طريق التشبيه والتأويل في مقاربة الشخصية الروحية الذي يؤكد عليها يونس في محاكات الواقع الجنسي المبادل بالمال، فالعائلة المعادلة للأندلس تتطابق والمفهوم الفلسفي القائل "أن الأصل في فصل المادة يعود إلى الانفجارات الذاتية*" ونعني العائلة التي في أغلبها التي تجعل من البغاء سدادا لعيشها، وقد تعمد الكاتب أن يجعل الذكر متفرجا على الجسد الأنثوي عاريا لغرض أوضاعه الشاذة.
يستمر الكاتب في ملاحقة ولادة عبر تصوراته لكي يثبت المثبت على أنه محسوس في الذاكرة وليس في الواقع الذي قد يتصور القارئ العادي حقيقة من حيث وجوده في مضمون المساق، ولكن السياق الروائي يتطلب هذه الحبكة الذكية من الكاتب، على أساس أنه يرجع في المستعار إلى مطلقه، أي الحكم القادر على أن يجمع بين الماضي والحاضر، وتغليب الخلق السردي والسمو بالحكاية على أنها تُنسب إلى الفعل المنظور، القادر على فتح التأويل بالقرينة التي يلتمسها القارئ المجتهد أو الذكي، بمقدار ما أوضحه الروائي وحدد نظامه في ثلاثة عوامل مهمة جدا:
أولاً: أوضحَ بأسلوبه الأيروتيكي المفتوح على اطلاق التحدي لعوامل مجتمعية عدة مستغلاً المكان والتاريخ والنسب والمادة، ليكون تأثيره منصباً على ايثار قناعة المعنى.
ثانياً: إثبات الفعل في سياق الطموح الجنسي على أنه يتضمن نوايا رغبة الجسد، دون أن يتحدد في القوانين المورثة في العادات والتقاليد.
ثالثاً: جعل الحالة الجنسية تتسم بالمتماشي بين الروح والجسد على احقاق إثبات جنوح الفعل نحو عدم اللامبالاة في تحقيق رغبة العاطفة، وتطبيقها مهما وضع لها من الممنوعات والتقاليد بطريق ممارستها، حتى تجعل من تحقيق خيانتها واقعا مقنعا لا يتصور من الزوج أو الحبيب دون تصورها هي.
يستمر الكاتب وهو يدخل إلى المساحة المستعارة في الفصل الثاني من خلال المدخل ذاته في الفصل الأول، وذلك في نغمية لعب الكاتب على مراعاة اتجاه بسط تحفيز الوعي الادراكي بواسطة استدعاء الشخصيات التاريخية، تلك التي تركت أثراً بارعاً سواء أكان في بلاغاتها الشعرية أو العلمية أو التنويرية، وما كان عندهم من سعة الإتيان بموضوعات قل تكرارها في عصرنا، تجلت بسيرورة ظاهرة الحيِّز والانفصام في حالة التوحد الإبداعي، ابتداءً من منشئ ما سيولده الإلهام من تحرير الوعي التوليدي إلى ما تصح عليه النقلة الفنية بحالتيها: التمكن والسكون، وما يتواصل شغفها التوليدي بالاتصال المعني بمزاوجة جعلت من تفريق التاريخ لا يصحُّ بالنوايا البريئة إنما بالأنس والمسرة الخاصة في المعيون السردي، حيث جعل من التورية كمنظور فاعل لتلك الحياة، بما يستشعر الكاتب باتصاله الموحد بالوحي، وفي تلك اللحظة يسقيه حالة الانفصام الذاتي عن محيطه، وقول القرآن: " آتيك من حيث لا تشعر*"
القصة القصيرة:
الأم..
" ظلّت تدعو الله سنين كثيرة.. ولم تترك ولياً من الأولياء الصالحين إلاّ وزارته , وقدّمت له البخور والمجامر والكبريت. وعندما عدت من بلد ناء خلف البحر، قالت: جلبتك صلواتي يا جاحد، يا ناكر ، يا ناسي الحليب واللبن.. ومع الأيام سرعان ما تشكّلت غيمة، وجبل من نار بيننا. وتذكّرت أنّها أرضعتني مازوتاً وكيروسيناً. أهو الحليب أم الدفلى؟.. نسيت الحليب والثدي، ولا زالت بقايا أشواك الصبّار.
كانت تقول لي مرّات كثيرة: يا ليتني لم ألدك.. ليتني متّ يوم ولدتك.. أنت عاق. توقّعتها يوم كنت طافشاً في بلاد الأعراب والأغراب الموحشة الضيقة قادرة على صنع الأشرعة, فأرسلت لها قماشاً أبيض من أمستردام, وثوباً من الشانزي ليزيه، لكنّها مزّقتهما, لأنّهما من صناعة بلاد الكفار، البلاد التي حاربت المسلمين وفتكت بهم ولا تزال تفتك."
يبدأ البطل الذي لا يحمل اسماً في قصة "الأم" يستعرض طبائع وعادات أمه نازك التقيَّة المؤمنة بلله واليوم الآخرة، بعد عودته من بلاد ما وراء البحر التي عاش فيها فتأثر بعادات وتقاليد تلك "البلدان الفاجرة" كما تسميها الأم، لكن ولدها يحاول جاهدا أن يستعطف حبها له وتقديرها بما يفعل ويتمنى لها الخير، وقد جلب لها معه بعض المشتريات من أرقى الأسواق واشهرها في العالم، لكن الأم بقيت تندب سوء حظها على ما أنجبت من ولد عاق، لم تسامحه على ما فعل بها حين تركها وهاجر صوب تلك البلدان حيث المتعة والخمر والنساء والرقص واللهو، فالأم تعتقد أن ابنها فاقد لمعاينة الصح من الخطأ، ومتعديا على معنى الغيرة المصانة لقيمهِ وشرفه، وهنا فهو يمارس الجنس الحرام برغبة خاطر تجول في نفسه، مع علمه بخطأ هذا السلوك الوقح، وذلك أن الإثبات الأخلاقي الذي تلتزم به الأم اتجاه ابنها، يدخله الكاتب من طرفين: الأم والأبن، ويُحَيْد الأب، حيث نجده يستثمر شخصيات العائلة بأحداثها بواسطة التمعن الرمزي لمُسقيات جواز تعليل الحكم المعنوي الذي تطبع عليه الفرد المسلم، عبر تلقين أمتد منذ 1400 سنة، ورأي الكاتب دالاً على وصف مدلول شائع على جناس غير المتصوَّر في جنس واحد، أي أنه يُشَبهُ صفة مجردة بصفة تستحب الإثبات على الشيء، وكأنه اقتصر على الحالتين في ثوابت الحكاية من بدايتها حتى نهايتها في معتنى الصورة والشكل واللون، على مبدأ العودة إلى التزام الأبناء بتربية الوالدين التزاما يحكم القصاص المطلق بأصول النواحي بجوازها الأخلاقي، والقرآن يقول: "واطيعوا الله وبالوالدين احسانا*".
يعتقد الولد أن الإثبات التعليمي الذي تحاول الأم أنْ تتلمذ ابنها على أساسه هو وصفةٌ جاهزة عند الأمهات، ونسميه المطلق والمُقَيَّد والشرط والصرف في لغتهما، لأن المسند التربوي أختلف في لزوم الحُكم في صورته، لأن الأم آمر، والابن منهي، سواء أتحد سببهما بالنية أو أختلف بالرأي، وهذا لا ينفي أنَّ الولد لا يعرف عقل الأم المتحول بعواطفه العرفانية، باعتباره الضمير المُقيَّد العاكس لهمومها وخوفها، خاصة عندما تجد وليدها وقد انحرف عن السلوك المبدئي لتربيتها له، بمدلول تثبيت الأفعال المشينة بتصرفاته، وهذا الإثبات العقلي في نوايا الأم يساوي مقدار تأثيره عليها، حيث نجد خوفها على ابنها واضحاً في ايمانها المرابط الصابر على المقاصد المنحرفة عند من أخلَ بتربيتها مطلقة النيَّات، وهو ما يصح الالتزام به فيكون في رأي الله أنه تعدى على جواز آياته، أي يفترض من الولد أن لا يجعل الوالدين ينفران منه فيحل غضب الرب عليه يوم الحساب، أمَّا ما نراه في الرأي الفلسفي في العلاقات الروحية، أن عند كل واحد منا حاصل الإثبات والمثبت بقرين النوايا الباطنة بيقينها، حتى لو أصبح هذا الفعل كما هو في حال التوريث لأن يكون طبعاً يتطبع به الفكر وهو يساقي التنافر بين أفراد الأسرة. وهنا تكمن فصاحة الكاتب في رسم مساحة التقدير في مثبته اللغوي، أي وقوع وظائف نظامه السردي بحال موقع النقيض لأنه يلقح جمع وصفين على وجه واحد، من خلال مراعاة الفهم في ملموس تناظر الحكاية، ودلقها في مخيلة ما يرتضيه المتلقي العقلي العاطفي، خاصة إذا كان الكاتب متفاعلا نشطا في محاكاة الواقع الذي طرق بابه بتأملاته النافعة، إذن لنقرأ قدرته على هذا التوظيف حيث يقول:
"كان أشد ما يزعجها الحديث عن المرأة والجنس"
وهنا أراد يونس أن يفصل الأم عن الجنس فتصبح آلة تتحرك بفعل روحاني خال من الرغبات والشهوات، ولأن هذه الحالة يحكمها الشرط عن كونه موفياً لبسط أدَّاهُ النثري المُقَرَب من النفس الشعري، بمعنى لا يحصل أن يستشعر الراوي أن المشاعر العاطفية غير مُتفَاوِتة على اعتبار أنَّ المرأة إذا شاخت أصبحت مجردة من الشهوة، حتى لو أنها تتمني أن تلك الحالة العاطفية تأتيها برغبة منها أو لمسة ذكر من هنا أو هناك، إذن فالرؤيا التنظيمية عند الكاتب تعثرت قليلا لأنه لم ينفتح على أدوات تطورية تبين التحولات الحسيَّة من ملموس مصباتها العاطفية النفسية عند الأم، من منظور أن الاستحقاق الفسيولوجي العاطفي عند كل امرأة مزدوج الحكم والتثبيت، أي أنه يقوم على نظرية ردة الفعل الجانبية الجاهزة لأن تُنقض وتُبرم وتنفى حصول الرغبة الشهوانية ولو لزمن قصير يعوضها أيام وربما شهور تساعد على تأويل حالتها النفسية وصرف رغبتها عن حقيقتها المجازية، على اعتبار أن الإنسان أكثره مجازي، وهذا يرجع إلى القناعة في ما ترضيه الذات قضاءً للحاجة، وهو استجابة لإثبات العودة للرغبة العاطفية إذا لزم الأمر، على شرط أن لا يدوم اللزوم حتى يتكرر ظهور الحالة ثانية بين زمن وآخر.
"كانت تتهمني بالفجور والفساد، وتتهم صديقاتي القليلات بالعهر والدناءة.. وكانت تسألني دائماً عن أحوال الدنيا والعباد، فأحدّثها عن علاقاتي مع بعض نساء البلدان التي أزورها, وعن جوعي وفقري ونومي على أرصفة الشوارع, وتحت أقبية المترو، وعن غربتي الكلبيّة, وعن وطني الذي يتّمني, فتحترق أعصابها وتصيح: يا كافر .. يا زنديق.. أبوك قديس ، وجدك ولي من أولياء الله, وجدّ جدك بنوا له قبّة ومنارة, وقريباتك من أطهر نساء المعمورة , وأعرقهنّ حسباً ونسباً. وكنت أتأملهن جيدا , فلا أرى إلا طبولا جوفاء, وسنين عجافا, وقحطاً وبواراً , وغرورا كاذباً, وطهارة روح زائفة, وعنجهية ترتع في أسمالها البدوية والقبليّة والطائفيّة والعشائريّة".
إذا كان الوصف الذي قدمه الابن عن حال لسان أمه على أنه يتلصص على النساء بهذه الفضاحة، سيكون ردة الفعل عند الأم الغضب والشتيمة والعصبية والرجف لا من خوفها عليه وحسب، إنما وكأنها من خلال ردة الفعل المتشنجة تتمنى أن تكون هي من يتلصص عليها الرجال، بينما هي تود لو أن ذلك يحدث لها بصدق في سرها، وأن يكون تكذيباً في العلن، وهي في الوقت ذاته توبخ ابنها وتذكره بقريباته القديسات الطاهرات في الحسب والنسب، ولكن هذا الأمر يخضع للتظاهر لا غير، لأن المرأة لها وجهان أو حتى ثلاثة أوجه عند البعض منهن خاصة في الغاية الجنسية، وفي كل وجه حياة مستقرة ومستقلة ومقدسة في نظرها بدون اعتراف أو إنكار بينها وبين نفسها وهذا ممَّا لا انكار فيه، إذن فالصيغة السردية ربما مكررة عند الكثير من الكتاب ومنهم يونس لأن المجتمع العربي واحد تحت لواء اسمه الدين الاسلامي بواقع اشتراط التنصيص القائم بالنفس، على اعتبار أن نوايا العاطفة مسيرة بإيعازات العقل فهو الأساس الذي يمول قواعد التصرف بالنية والهوى، فالمرجع واحد هو "الدين" والأيمان تحكمه العصبية التي اشتغلت عليها الأديان، وهذه التعليمات تعتمد إفساد العقل التمثيلي بأسس يبنى عليها تطرف مختلفات الأصول التي يُرَدّ فعل باطنها على شكلها، مع أن جواز ثبات النيَّة عند الأم يكون له تأثير برئ على ولدها، وبصمت لا يريد أن يثير شهوة أمه لرغبتها غير المعلنة في نفسها، فتدعي البرود بفاعل القصد والاحساس.
"كانت باردة كالعجين , وتكره جميع الرجال, باعتبارهم خنازير بريّة، ومتوحشين جنسياً, ولا يكتفون بامرأة أو جارية مهما كانت جميلة وشهيّة, ولا تشبعهم كل نساء الأرض ـ على حدّ تعبيرهاـ وعلى الرغم من أنّها تبجّل والدي تبجيلا منقطع النظير, إلاّ أنها لم تكن على وفاق جسدي معه, وكانت في أحيان كثيرة تفتعل الخصومات , محتجة بأنّها ضلع أعوج, ولا تعطى المكانة اللائقة بأجدادها الغرّ الميامين."
مما يجب ضبطه في سياق السرد القصصي يجب أن يكون تثبيت الملقحة التراكمية وجوبا بين الجمل الحاكية للمعاني، وبين فكّ الغرائز بعد استغلاقها واستبهامها العفوي، حتى يتم تسلسل مسقاها من الوحدة الباطنة للموضوع إلى جانب حصر المشكلات باحترام المشاعر، لا أن تتشتت وتعاد المفاهيم الغرائبية الجامدة على مغز واحد، فيكون الوصول إلى المعنى مرتبكا وغير قابل للمتابعة فيما يود طرح المشكلات على أساس حلها، ومثال ذلك التكرار في أسلوبية الألفاظ بدلالة اللغة، وجعلها بنية غير مشروطة للتسامي في الإبانة النوعية ونحوها، فالإعادة في موضوع ما عند الكثير من الكتاب والشعراء لا يختلف بشيء سوى التلاعب في اللغة ومضامينها وقدرتها على الخلق والتمييز، فنقول هذا النص إنما أنشأ اليوم، لكن بحقيقته أنشأ بالأمس البعيد، خاصة في المكان الذي يتم تناول العائلة فيه، التي هي الخاص للعام كما عبر عن هذا كارل ماركس، ومع هذا ومن خلال قراءاتي لكثير من الكتب: الرواية، القصة القصيرة والقصيرة جدا، والشعر، والنقد في كل أجناسه، والبحوث التاريخية وغيرها" وجدتُ تناص مضمون الموضوعات "قائم على قدم وساق" مع تلاعب وحيلة أو دراية من البعض في حكمة تطفو على المادة فتغير ما في شكلها، لكن ليس في مضمونها، فلو أخذنا رواية الأم عند مكسيم غوركي، ورواية بين القصرين لنجيب محفوظ لا نجد سوى تغيير في المبنى والشكل إلاَّ ما تعدى اسماء الأماكن التي يحكم السرد تناول العادات والتقاليد في بنية هذا المجتمع أو ذاك، لأن الناس تختلف باختلاف بيئتها، ولذا فالمجتمعات اختلفت بسلوكيات المنشأ، خاصة في المكانة الشعبية التي اشتغل عليها الروائي المصري بتناوله الفئة الشعبية، على أسس تحتاج إلى تضمين الدلالة باختصاص لغوي معين.
"لا تزال بقايا الطفولة البعيدة تهبّ كالسنبلة في ذاكرتي. وكانت تصرّح سراً وعلناً: بالناقص من الرجال، ليذهبوا إلى الجحيم, لولا أنهم يزرعون الأطفال الوسيمين في أرحام النساء لكانت الخنازير أفضل منهم.
وقال لي والدي: إنّ طاقاتها الجنسيّة قد ماتت منذ عشر سنوات، بعد أن أجرى لها طبيب جرّاح فاشل ، تخرّج في جامعات المعسكر الاشتراكي, عمليّة جراحيّة خاصّة.
أذكر مرّة أصحبتها لزيارة أصدقاء لنا، وعندما وضعوا شريط فيديو لفلم أمريكي ، ملأ صيته الدنيا، وأقامها ولم يقعدها بعد, بدت بطلة الفلم شبه عارية، فجنّ جنونها، وشتمت أعداء الله والكفار في أمريكا وروسيا وجميع أصقاع الدنيا. وعندئذ اعتذر صاحب المنزل، واضطرّ إلى حرماننا من متعة أمريكا وعظمتها الأثيرة, وسحر نسائها اللواتي يعشقن الصحراء العربية الكريمة, وجلابيبها , وجبروت رجالها, وأنهار بترولها الدافقة عزّا وأبّهة وكبرياء هامة ونفس أبيّة."
لاشك أن النفس التي انضبطت تلقائيا تحتاج إلى تضمين رغبات الجسد من حيث مكون الانسجام الروحي المتشكّلْ عضوياً من فلسفة جنسية قاهرة، خاصة وأن الأنوثة من الاستحالة في مكان ما أن تقاوم الذكورة المكون الحقيقي لخصوبتها وتوليد شهوتها حتى تروم ناحيتها، وكأن الإباحة تولد جهة القصاص بالتمني لا بالشح، لأن العقل يطلق مناداة الرغبة المحركة للخلايا الشهوانية، فهو ينتج الاحساس بالرغبة والجسد يلبي من وازع أن يقع بشيء ليس له صفة القادر على رفضه، لأن الحاجة الجنسية مستحقة حتى يكون واقعا بنفسها، وبهذا يبطلُ الإبهامُ، ولأن الكاتب أصر على أن الأم تمتنع عن التصرفات المكشوفة، لكنها وربما لا ترفض الممارسات الشهوانية السرية، بالمعدل الفني في معنى المجمل النفسي المتحول في محصلاته الثابتة، الذي لم يلتفت له الكاتب تبعا لثقافته التعليمية، فنقول إنْ أجاد ووفق في ملائمة علم التصريف وربط المزايا بحاصل العقدة والوضوح فهذا نجاح، وإنْ أخل في استحقاق التخييل ونظيره خاصة في تناول موضوعة علمية كالتي بين متناولنا النقدي، وهكذا علل قد لا يلتفت لها الكاتب غير الشمولي، وقد تؤول بالسروح إلى غير ذي فائدة، وربما تكون مفيدة إذا اجتهد الكاتب بتجاوز الشقوق والانصداع، وجامعَ المقادير الفنية واللغوية بنفسها من حيث أن تكون الحكاية ذات نفع ودراية وقبول واسعاد، فمن إيجابيات الكاتب يفترض أن يكون ملما بقوانين تنوعت بالدقة التقنية، إلى جانب الإلمام بالعلوم الشاملة في ترتيب المضامين اللائقة بمنزلة المقصود بحكم الشيء وبديله، وإن لم يكن في غير هذا فالكاتب يُعتبر غير ملمٍ في جناس التناقض والمقابلة والجواز، بمعطى رصف المعلومات بضروبها بما يحسن بناءه الفني، الذي يجب أن يجعل قارئ نصه قادراً على الإلمام بمتابعة دقيقة بين الشخوص وما يُحسن بأفعالهم، وما يكون مخالفا ومن ثم ناقدا لها، هذا لأنَّ من تثقف على أساليب التجنيس الشامل بنظمه يكون ملماً في تحريك أدواته اللغوية خاصة في النحو والصرف إلى اتمام الدلالة بما هو مجمل من وجهٍ، ومبيّن من وجهٍ آخر، خاصة إذا كان خياله يتمتع بالخصوبة والنضوج، وهنا لابد من ثبوت فاعلية القاص على إبانة التحريض على الدهشة اللائقة، لذلك فالحوار التقني بين العلوم اللغوية والفنية تشكل بنيوية تجعل من المضامين الحسيَّة تفيض مجانسةً وتحريضاً على التلقي النافع، فتكون الملقحة تلك قد شكلت مصدرا باعثا للشروع المقصود الذي يعتني بثلاثة شروط وهي:
أولاً: كونها جمعت الحكاية بالتصوير البيني المعتمد على جمع جهة السياق بخطاب واحد.
ثانياً: حتى لا يقع القياس في الضعف الباعث للشرط المقنع، لذا يجب أن يكون النص مناسبا وضابطاً لكلا الحكمين بالتصرف الدلالي يقيناً.
ثالثاً: كذلك المطلوب من الأديب أن يكون جامعاً لمتطلبات المعلومة الحاكية التي تتشكل بالوعي الجمعي في لغتنا التي قرأنا أصولها الفقهية، والكنايات البلاغية واسرار احكامها.
ومع هذا فقد أستطاع يونس أن يقنع القارئ والناقد على الاستمتاع بقصته المُحوَّلة بوجهتها وتفردها المخصوص بالشَرْحَ والمعاينة التي وجدناها تشابه المحكيات المجتمعية الكثيرة عن حقيقة أن الأبن على علم مسبق بأن الأم تكون طاقتها الجنسية قد ماتت وهذا علميا غير صحيح، فالطاقة الجنسية عند الإنسان تموت بموت الجسد لا غير، ربما تخف نوعا ما لكنها لم تمت، فالأَمرُ اليقين أن الابن أخذ يبحث عن طرق سرية شاذة تعينه على التفرج على فتنة الفتيات العاريات أو شبه عاريات، وتلك الممارسة تستوفي حالاته الجنسية مع بعضهن، بينما هو يمارس عادته السرية برغبة الذات وشهوتها. وهذا يعتبر استحضاراً للجسد الأنثوي بمشتهى منه، لكي يمتع نفسه الشاذة بالممارسة المفرطة. ولكن على ما يبدو يوماً بعد يوم وغسلا للخطيئة، بل لعلها استجابة لطلاق تلك التصرفات، وجدنا البطل ينشد السياق التحولي نادما على تصرفاته في كلَّ مأخذٍ، وقد أبان ندمه بجلد ذاته على أن يحرك النور الأخلاقي في داخله، ولم يعد إلى تلك المشاعر باهظة السمعة، وفعلا أخذ يلتمس تلك النجوى الروحانية تتحرك خيرا في ضميره وتتكشف له عن سيرورة تشع املا في ذاته، وبهذا التحول المعرفي عند القاص الذي جعل من مضمون قصته تدور بتلاقح ضمني في دلالاتها بإيضاح الصورة المولدة لتوظيفها، وهو ما أتفق عليه بالموروث الشعبي برد الخطايا إلى موطن ترك المجال لأبنيةٍ تسر القارئ، خاصة بعد أن أقام الكاتب استعاراته الفكرية المحتشدة معرفة بذكائه اللامع، حين أراد أن يزق التجلي بواسطة رمزية كدليل للتحول المعيون وهو يزق في حقل المعنى خصوبة تشوق الحالة السردية للحكاية، فيقوم بتثبيت النهايات بجديد خلقه الفني المفاجئ، على أساس الإنابة عن الأطر العامة، ليجانس بعضها مقام بعض.
"في الآونة الأخيرة لاحت لها خاطرة.. بدا لها زواجي هاجساً وهمّا، لكني أصررت على أن من أتزوجها لا بدّ أن تكون دافئة العينين, وتكون صديقة, وتحبّ الشعر والموسيقى, و لها صداقات وعلاقات إنسانية كريمة, وصادقة قولا وعملاً, وليس شرطاً أن يكون لها غشاء بكارة, فالماضي ملك لأصحابه, وما يهمني حاضرها النظيف, فصاحت مفجوعة: يا ويلي .. يا مصيبتي.. حفيد المشايخ والقبب والأولياء والقديسين يريد مطلقة! لكني لم أستطع الزواج لأن نساء بلدتي شرانق جميلة محصّنة باللؤلؤ والمرجان, وضفادع لا تفتح فخذيها إلا للمستبدين والطغاة، وأصحاب المكاتب العقارية ، والأحذية الجميلة التي تقود سيارات " البويك الأمريكية " ، و " ميتسوبيشي اليابانيّة"، وسرطانات يتركّز شرفها المقدّس المنيع في نصفها الأسفل, وأكفالها الجميلة, والمصيبة إني لا أريد إلا مطلقة كما تقول أمي" .
نتابع الأحداث المحكية من قبل الراوي وكأننا نقرأ استقامة المفهوم المعنوي للبطل، مع استمرار علاقته المتوترة مع والدته، بينما نجد تلك العلاقة مع والده سلمية أخوية، وهنا نجد البطل يشرح لنا أحوال العائلة التي تُسِّيْر أمورها الأم، خاصة في مواقفها المتشددة مع ابنها، وفي نهاية الحكاية التي التزمت بالقواعد ذات الصيَّغ الفنية للقصة القصيرة تنتهي وننتهي معها دون أن نعرف على أي رأي استقر الموقف لكل من الأم وابنها هل يتزوج الولد من فتاة لها بكارة، أم يتزوج من امرأة فقدت بكارتها في الماضي لمن هب ودب وهذا مقروء في مفهوم الحريات الجنسية، وهو ما لا يفهم منه شيء في المثبَّت الإنساني الدال على النيَّة.
يتبع في الفصل الثاني...
* عن موقع الحوار المتمدن