نقوس المهدي
كاتب
شارع التماسيح
احتفظ أبي في الدُّرج الأسفل من مكتبه الكبير بخارطة قديمة وجميلة لمدينتنا. كانت حزمة من ورق المخطوطات المعقود بشرائط كتان أصلية، شكّلت خريطة جدارية هائلة، تتبدى بمنظور عين الطائر البانورامية.
غطّت الخارطةُ المعلقةُ الجدارَ بالكامل تقريبا وكشفت المشهد الواسع لوادي نهر “التيشمينتسا-Tysmienica” الذي اجترح نفسه مثل وشاح متموج من الذهب الشاحب، على متاهة البَـحْرات والمستنقعات المنبسطة باتساعٍ فوق الهضبة الصاعدة باتجاه الجنوب، بتمهل في أولها، ثم في نطاقات متضامّة أكثر، في لوحة شطرنجية من التلال المكورة، تبدو أصغر وأشحب إذ تنحسر باتجاه ضباب الأفق المغشّى في صفرته. من هذا البُعد الباهت للهامش، أزهرت المدينة ونَـمَت باتجاه مركز الخارطة، كتلةٌ لامتمايزة أولا، مركّبٌ متراصٌّ من الأحياء المخططة والمنازل، مخدّدة بوديانِ شوارعَ عميقة، لتصبح في المخطط الأول مجموعة بيوت منفردة، منحوتة بالوضوح الحاد لمنظر يُرى عبر الدربيل. في هذا القسم من الخارطة، ركَّز النقاش على التعقيد والغزارة المتشعبة للشوارع والأزقة، الخطوط الحادة للأفاريز، والأُسْكُفَّات، ونقوش البوابات المقوسة، والأعمدة، موقدةٌ بالعتمة الذهبية لأصيلٍ غائم نقع كل الزوايا والارتدادات بكَـدْرةِ فيءٍ عميقة. الصُّلب والموشور الزجاجي لذلك الفيء شَـكَّل بعتمةٍ خلية نحل للشوارع الوديانية المخددة، حيث يغرق هنا في لونٍ دافئٍ نصفُ شارع، وهناك يغرق فراغٌ آخر بين المنازل. جميعها تُمسرِح وتلحن في تباين الضوء/الظل التعقيدَ المعماري البوليفوني.
على هذه الخارطة المصنوعة على طريقة الاستعراضات الباروكية، شعّت منطقة شارع التماسيح بالبياض المفرغ الذي يسِـمُ المناطق القطبية، أو الدول اللامكتشفة حيث لا يُعرف شيء منها. خطوطُ شوارع معدودة فقط كانت مرسومة بالسواد ومكتوبةً أسماؤها بحروف بسيطة لامزخرفة، مختلفة عن الخط الفخم في التعليقات الأخرى. لابدّ أن رسام الخارطة كان مشمئزا من إدراج هذا القطاع في المدينة، لتجد تحفظاتُه تعبيرا مناسبا في التطبيق الطباعي.
من أجل أن تُـفهم هذه التحفظات، لابد أن نلفت الانتباه إلى الشخصية المبهمة المريبة لتلك المنطقة الخصوصية، المختلفة كثيرا عن بقية المدينة.
لقد كانت منطقة صناعية وتجارية، جديةُ شخصيتها النفعية مُبرَزة بابتذال. روح العصر، ميكانيكية الاقتصاد، لم تنتشر في مدينتنا وإنما تجذرت في قطاعٍ من هامشها الذي تطور حينها إلى حارة دخيلة.
بينما سادت في المدينة القديمة تجارة ليلية متخفية، موسومة بتحفظ رسمي؛ ازدهرت دفعةً واحدة في المقاطعة الجديدة أشكالُ حداثة جدية من همة تجارية، الأمركة المزيفة، ملقحة في اللُّبّ القديم المنهار للمدينة، متعالية فيه بغابة حذلقة سوقية، ثرية ولكن خاويةٌ عديمة اللون. يستطيع أحدٌ أن يرى البيوت المشيدة على نحو رخيص بواجهات متنافرة، مغطّاة بزخرفةٍ جصية مشوهة فوق جبص متصدع. بيوتُ الضواحي القديمة المتزعزعة لها بوابات هائلة مركبة بعُجالةٍ مرقعة تكشف في حالة الفحص المقرب عن نفسها كتقليد تعيس لفخامة عاصمية. ألواحٌ زجاجية مختلة، رتيبة، قذرة، تنعكس فيها صور قاتمة متموجة للشارع، خشب الأبواب المركب على نحو رديء، هالة الهواء الداكنة في الداخل المقفر حيث الرفوف العالية مكسرة والجدران المتداعية مغطاة بخيوط عنكبوت وقشرة تراب كثيفة، صَبغت هذه الحوانيت بمسحة من براري الكلوندايك. صفٌّ تلو صف، تنتثر حوانيت خياطة، تجار ملابس، محلات خزف، صيدليات، صوالين حلاقة. نوافذ واجهاتها الرمادية جَـوّفت نقشا مائلا هلاليا بحروف مذهبة:
سكاكر، مانيكير، ملك إنجلترا.
سكان المدينة القدماءُ المؤسسون تنحّوا بعيدا عن المنطقة التي استقر بها الرعاع والطبقة المتدنية، مخلوقات بلا شخصية، بلا مرجعية، حثالة أخلاقية، ذلك الجنس السافل من البشر الذي ينشأ في مثل هذه المجتمعات سريعة الزوال. ولكن في أيام الرضوخ، في ساعات الأخلاق الواهنة، يحدث أن أحد قاطني المدينة سيتجاسر مدفوعا بنصف صدفة على ارتياد ذلك القسم المشبوه. أفضلهم لم يكونوا متحررين بالكامل من إغراء التهتك الاختياري، بتحطيم حواجز الهرمية، بالانغمار في ذلك الوحل السطحيّ للمخادنة، بالحميمية السهلة، بالاختلاط البذيء. القسم كان بمثابة “El Dorado” للمارقين أخلاقيا. كل شيء بدا مبهما وظنيا هناك، كل شيء موعود بغمزات سرية، إيماءات ساخرة مبرزة، حواجب مرفوعة، الشبع بآمال دنسة، كل شيء مهيأ ليطلق أرذل الغرائز من أصفادها.
مجموعة قليلة من الناس فقط لاحظت الخصوصية النوعية لذلك القسم: الافتقار المهلك للون، وكأن هذه المنطقة الرثة المتنامية لا تتحمل تكاليف رفاهية الألوان. كل شيء كان رماديا هناك، كصورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود أو كاتالوج مصور رخيص. هذا التشبيه كان حقيقيا أكثر من كونه مجازيا، لأنه في أوقات ما، أثناء التَّجوال في تلك الأماكن، يحدس الشخص انطباعا بأن أحدا يقلب صفحات نشرة، يعاين أعمدة الإعلانات التجارية المملة، حيث تعشعش وسطها أخبار مريبة كالطفيليات، مع ملاحظات ملتبسة ورسوم إيضاحية تحمل معنى مزدوج، تُـثبت أن تجوال الشخص عقيمٌ وتافه بقدر الانفعال الذي تحدثه مطالعة مقربة لأولبومات إباحية.
إذا دخل أحد، على سبيل المثال، حانوت خياطة ليطلب بدلة – بدلةُ طابع الأناقة الرخيصة لهذه المنطقة – سيجد أن الواجهة كبيرة وفارغة، وأن الغرف فارعة وعديمة اللون. رفوفٌ ضخمة حلقت في طبقات نحو الارتفاع المُـطلق للغرفة لتسحب نظرة الشخص إلى السقف الذي قد يكون السماء – السماء الرثة المتلاشية في هذا المكان. في الجانب الآخر، المخازنُ التي يمكن رؤيتها من الباب المفتوح، كانت مكدسة عاليا بالصناديق والكراتين – خزانة تضبير ضخمة تصعد إلى العُـلّية لتتفتت في هندسة الفراغ، في تخشيبات خواء. النافذة الرمادية الكبيرة، مخططة مثل صفحة من سجل حسابات، لم تُـدخل ضوء النهار بعد، الحانوت كان مليئا بضوء رمادي رطب مجهول لم يرمي ظلالا أو يُبرز شيئا. بعد قليل، ظهر البائع، شاب نحيل، متذلل على نحو مدهش، حَرِك، متعلل، ليرضي بهذا متطلبات ذلك الأحد ويغرقه بالتدفق اللطيف لأحاديث تسويق بضاعته. وأثناء حديثه طوال الوقت، بَسَط قطعة قماش ضخمة، يلائم ويطوي ويلف مجراها، يشكّلها على جسده إلى سترات وبناطيل متخيلة. كل هذا التلاعب بدا فجأة لاحقيقيا، كوميديا متكلفة، شاشةٌ مثبتة بمفارقة ساخرة لتخفي حقيقة معنى الأشياء.
البائعات الطويلات السمراوات، في كل واحدة منهن عيب في جمالها (على نحو ملائم لهذه المنطقة المكونة من فضْلة الموجودات) جئن وذهبن، وقفن عند المداخل ليراقبن إن كان العمل المنوط بالبائع الخبير قد بلغ نقطة ملائمة. تكلف البائع الابتسام واختال مثل متخنث. أراد الأحد أن يرفع ذقنه المنكفئ أو يقرص خده الباهت الممكيج بينما أشار هو بتروٍّ ونظرة مبطّنة جادة إلى العلامة التجارية على القماش، علامةُ رمزية واضحة.
اختيار البدلة أخيرا أفسح المجال للمرحلة الثانية من الخطة. الشاب المتأنث المنحل، محتوٍ لأكثر هيجانات الزبون الحميمية، توضع الآن أمامه تشكيلة من أكثر العلامات التجارية فرادة، مكتبة كاملة من ملصقات التصنيف، خزانة تعرض مختاراتِ متذوقٍ راقي. ففي حينها اتضح أن حانوت الأقمشة المستوردة هذا كان مجرد واجهة يوجد خلفها حانوت تراثٍ بمختاراتٍ من كتب مشبوهة وطبعات خاصة. فتح البائع المتذلل مخازن إضافية، ممتلئة حتى السقف بكتب، رسومات، صور فوتوغرافية، هذه النقوش والمنحوتات كانت تتجاوز أكثر توقعاتنا جرأة: لم نترقب ولو في أحلامنا هذا القدر من عمق الفساد، هذا القدر من تنوع الفجور.
البائعات الآن سرن صعودا وهبوطا بين طوابير الكتب، أوجههن، مثل الرِّق الرمادي، موسوم ببقع السَّـحْنة الداكنة الدهنية للسمراوات، أعينهن السوداء اللامعة تقذف فجأة نظرات حَـشَرية متعرجة. ولكن تورّدهن الداكن، بقع جمالهن اللاذع، آثار الزغَب على شفاههن الفوقية، تفضح دمهن الأسود الكث. انفعالهن المتلون، مثل قهوة فواحة، بدا أنه ينطبع في الكتب التي تلقفنها في أيديهن الزيتونية. لمستُهنَّ بدا أنها تمر على الصفحات وتترك في الهواء أثرا داكنا من النمش، لطخة من التبغ، كما تفعل كمأة برائحتها الحيوانية المهيجة.
في غضون ذلك، ساد المجون. البائع، منهكا جرّاء إلحاحه اللجوج، انسحب ببطء إلى حالة خمود أنثوي. يستلقي الآن على إحدى الأرائك الكثيرة التي تتموضع بين أرفف الكتب، يلبس بجامة حريرية ضيقة. بعض البنات استعرضن لبعضهن الوضعيات والوقفات التي في رسومات أغلفة الكتب، بينما استقرت الأخريات لينمن على أسرة من الكراسي. الإلحاح على الزبون قد هدأ، يقف الآن متحررا من دائرة الانتهازيين الطماعين متروكا لوحده. البائعات، منشغلات بالكلام، توقفن عن الاهتمام به تماما. بظهورهن المدارة نحوه، إتبعن وضعيات متغطرسة، يراوحن اتكاء ثِـقلهن من قدم إلى قدم، يتلاعبن بأحذيتهن الخليعة، يطلقن أجسادهن النحيلة لحركات أطرافهن الأفعوانية، وبذلك يطوّقن حصارا على المتفرج المنفعل الذي يتصنّعن تجاهله خلف ادعاء وهمي من اللامبالاة. التنحّي كان مدبّرا لتوريط الضيف بطريقة أعمق، في حين يبدو وكأنهم تركوا له حرية التصرف ليبادر بنفسه.
ولكن دعُونا نستغل لحظة الغفلة تلك لنهرب من هذه النتائج اللامتوقعة لزيارة بريئة للخياط، ونتسلل عائدين إلى الشارع. لا أحد يوقفنا. من خلال أروقة الكتب، من بين الأرفف الطويلة الممتلئة بالمجلات والمطبوعات، نشق طريقنا لنخرج من المتجر ونجد أنفسنا في ناصية شارع التماسيح، حيث من خلال زاوية أعلى يستطيع أحدٌ رؤية امتداد الشارع بأكمله إلى المباني البعيدة لسكة القطار التي لم ينتهي بناؤها بعد. لقد كان، كما العادة، يوما رماديا، والمشهد بأكمله بدا كصورة فوتوغرافية في مجلة مصورة، رمادي جدا، المنازل والناس والمركبات أحاديةُ الأبعاد جدا. الواقع نحيلٌ مثل الورق، يفضح بكل فجواته شخصيته المزوّرة.
أحيانا يتكون انطباع لدى أحد أن الجزء المساريّ من الشارع قبالتنا تماما هو فقط الذي يهبط في اللوحة التنقيطية المفترضة لممر طريق مدني، بينما على جانبي الممر، قد بدأت الحفلة التنكرية الارتجالية من الآن بالتفسخ، غير قادرة على الصمود، تتقوّض خلفنا في كتلة جص ونشارة، في عنابر مسرحٍ ضخم فارغ. توتُّـر وضعية مصطنعة، جدّيةٌ متكلفة لقناع، مفارقة مثيرة للشفقة ترتجف في هذه الواجهة الشكلية.
ولكن مستبعدٌ منا أن نفضح هذا الزيف. فعلى الرغم من حكمنا القاطع، نظل متعلقين بالجاذبية الرخيصة لهذا القسم. وعلاوة على ذلك، هذا التظاهر المدني يحمل بعض صفاتِ محاكاةٍ ساخرة للنفس. صفوفٌ من بيوت الضواحي ذات الطابق الواحد تتناوب مع بيوت الطوابق المتعددة، حيث تبدو وكأنها مصنوعة من الكرتون، تُشكل مزيجا من نوافذ مكاتب معتمة، وزجاج واجهات رمادي، ولوحات إعلانات وعناوين. ضمن المنازل يتدفق الحشد. الشارع فسيح مثل جادّة مدينة، ولكنه معبّد مثل ساحات القرى بالطين المدكوك، مليء بالنقاع والعشب المتنامي. حركةُ سير الشارع مأثرة في المدينة، يتباهى بها جميع قاطنيه بكبرياء ونظرة فخورة. ذلك الحشد اللاذاتي الرمادي يبدو بالأحرى واعيا على نحو مفرط بدوره، متلهف ليرقى إلى حد طموحاته العاصمية. ومع ذلك، رغم العنفوان والإحساس بالقيمة، يتكون انطباع لدى أحد بأنه أمام حيوانات رتيبة تجول، قافلةُ دمىً ناعسة. هالةُ تفاهةٍ تغشى المشهد. ينضح الحشد بكسل، ومن الغريب القول أن أحدا لا يستطيع رؤيته إلا بضبابية، تعبر الهيئات بتشوش مرتخ، لا تقبض أبدا حوافّ المعالم. أحيانا فقط، نتلقف من بين لَجَب الرؤوس الكثيرة نظرة داكنة جذلة، قبعةَ بولنج سوداء ممالة إلى الجانب، نصف وجه منفرج بابتسامة على شفاه أنهت حديثها للتو، لكْزة قدم تخطو إلى الأمام وترسخ إلى الأبد في تلك الوضعية.
خصوصية ذلك القسم تتضح في مركبات الأجرة، بلا حوذيين، منقادة بلا قائد. لم يكن ذلك بسبب عدم وجود سائقي أجرة، ولكنهم مختلطون بالحشد ومنشغلون بآلاف الأعمال الخاصة بهم، لا يبالون بعرباتهم. في تلك المنطقة من الإيماءات الصورية الفارغة لا أحد يلقي بالا للقصد المحدد لجولة مركبة الأجرة، والركاب يُودِعون أنفسهم في عهدة تلك النقليات الجانحة باللااكتراث الذي يشخصن كل شيء هنا. من وقت لآخر، يستطيع أحد أن يراهم في زاوية خطرة، يتكئون بعيدا تحت السقف المحطم، ممسكين بالزمام في أيديهم، ويؤدون بشيء من الصعوبة مناورات معقدة لاستعادة السيطرة.
هنالك أيضا خطوط ترام هنا. تمثل أعظم انتصار لطموحات أعضاء المجالس الإدارية، رغم أن مظهر هذه الترامات بائس، بحكم أنها مصنوعة من الورق المعجّن بجوانب معوجّة بسبب سوء الاستخدام الطويل. لا تحتوي في الغالب على واجهة، لذا أثناء مرورها يستطيع أحد أن يرى الركاب، يجلسون بتصلب ويلُوحون بقدر كبير من الاحتشام. يدفع هذه الترامات حاجبوا المدينة. ومع ذلك، الشيء الأغرب من كل هذا، هو نظام سكة الحديد في شارع التماسيح. أحيانا، في أوقات مختلفة من اليوم باتجاه نهاية الأسبوع، يستطيع أحد أن يرى مجموعة من الناس ينتظرون قطارا في تقاطع طرق. لا أحد متأكدٌ مما إذا كان القطار سيأتي أساسا أو أين سيتوقف إن هو أتى. ولهذا، يحدث غالبا، أن الناس يقفون في مكانين مختلفين، عاجزين عن الاتفاق على أين سيقف القطار. ينتظرون لمدة طويلة، واقفين في حزمة سوداء صامتة بجانب خط السكة المرئي بالكاد، أوجههم جانبيا: صف من هيئات كرتونية شاحبة، مثبّـتة بتعبير من التطلع القلق.
أخيرا، يظهر القطار فجأة: يستطيع أحد أن يراه قادما من جهة الشارع المتوقعة، مسطّح مثل ثعبان، قطارٌ منمنم بقاطرة بخار رابضة فحيحيّة. يلِـجُ الدهليز الأسود فيكفهر الشارع بغبار الفحم المتناثر من صف العربات. لَهَثان المحرك الثقيل وتلويحات الجدية الغريبة الحزينة، التعجل والانفعال المكبوح يحوّل الشارع للحظة إلى ساحة محطة قطار، أثناء الهبوط السريع للغسق الشتائي.
السوق السوداء لتذاكر القطار، والرشوة، هما – بشكل عام – الوباءات الخاصة لمدينتنا.
في اللحظة الأخيرة، أثناء تواجد القطار في المحطة، مفاوضاتٌ تُعقد بعجلة عصبية مع مأموري السكة الفاسدين. قبل أن تكتمل هذه المفاوضات، يتحرك القطار، يتبعه ببطء حشدُ المسافرين المحبطين، يرافقونه طويلا على امتداد الخط قبل أن يتبددوا أخيرا.
الشارع، مقلَّصاً للحظة كي يشكّل محطة افتراضية مليئة بالقتامة وأنفاس السفر الطويل، يتمدد من جديد، يتخفف ليسمح للحشد الرخِيّ من المارة المهمهمين أن يعاودوا التمشّي، يعبرون أمام نوافذ الحوانيت – تلك المربعات الرمادية القذرة المليئة بسلع رثة، عرائس، دمى شمعية طويلة.
عاهرات، بفساتين مبهرجة من الدانتيل المقلم، بدأن بالحَوم. من الممكن أن يكنّ أزواج مصففي الشعر أو عازفي الموسيقى في المطاعم. يتقدمن بخطوة مشحونة شرهة، كل واحدة منهن بعيب صغير في وجهها الشيطاني المنحل: حَوَلٌ أسود منعقف في أعينهن، أو شفاه مشرمة، أو أرنبة أنف مفقودة.
قاطنوا المدينة فخورون تماما بنتانة الفساد المنبعثة من شارع التماسيح. “لا حاجة لأن ينقصنا شيء” يقولون بفخر لأنفسهم “حتى أن لدينا رذائلُ عاصمية بحق”. يصادقون على أن كل امرأة في ذلك القسم هي داعرة. في الواقع، يكفي أن تحدق في أي واحدة منهن، وفورا ستقابل نظرة ملحة متشبثة تُجمدك بتحقق الإشباع. حتى الطالبات الصغيرات يربطن بكلات الشعر بطريقة مشخصنة ويسرن على سيقانهن الهيفاء بخطوة مميزة، تعبيرٌ ملوث في أعينهن يكشف الظل عن مستقبلهن المنحل.
ورغم ذلك، ورغم ذلك – هل نحن على وشك أن نكشف آخر أسرار ذلك القسم، سر شارع التماسيح المخبأ بحذر؟
لعدة مرات خلال روايتنا، بعثنا إشارات تحذير، ألمحنا بحساسية إلى احتياطاتنا. ولذا فإن قارئا منتبها لن يكون غير مستعد لما سيتبع. تحدثنا عن شخصية المنطقة المزوِّرة الموهِمة، ولكن هذه الكلمات تحوي معنى أكثر دقة وقطعية من أن يصف واقعها المعلق اللاناضج.
لغتنا لا تحتوي تعريفات تزنُ، إن جاز التعبير، درجة الواقعية، أو تؤطر مرونتها. لنقلها بصراحة: آفة تلك المنطقة أنّ لا شيء ينجح فيها أبدا، لا شيء يستطيع أبدا أن يصل إلى نتيجة قطعية. إيماءات تتدلى في الهواء، حركات منهكة قبل الأوان لا تستطيع تجاوز نقطة محددة من الانطفاء. لقد لاحظنا من قبل عظمة الإتقان والخصب في المقاصد، والمشاريع، والترقب، التي هي إحدى خصال هذا القسم. إنه في الحقيقة ليس أكثر من أن يكون تخمّر رغباتٍ فار قبل أوانه، ولذا جاء عنّينا وخاويا. إنه مناخ من السلاسة المتطرفة، كل نزوة تحلق عاليا، اهتياجٌ عابر يتورّم إلى انتفاخ طفيلي فارغ، كساء نباتي رماديُّ اللون لأعشاب زغباء، بخشخاش عديم اللون يتبرعم صعدا، مصنوع من نسيجِ كوابيسٍ وحشيش لا وزن له.
على امتداد المنطقة كلها هناك، تطفو رائحة الخطيئة الخاملة الفاجرة، بينما المنازل، الحوانيت، الناس، تبدو أحيانا لا أكثر من ارتعاشة على جسدها المحموم، قشعريرة حمّى أحلامها. لا مكان أكثر من هناك سنشعر فيه أننا مهددون بالاحتمالات، مزعزعون بدنوّ الإشباع، شاحبٌ وواهن بالجمود العذب للإدراك. وهكذا سيظل إلى أبعد مُضيّه.
بتجاوزه نقطة معينة من التوتر، يتوقف المدّ ويبدأ بالانحسار، المناخ يصير مبهما ومشوشا، الاحتمالات تذوي وتنحلّ إلى الفراغ، خشخاش الإثارة المجنون الرمادي يتبدد إلى رماد.
سوف نندم دائما، في لحظة قادمة، على أننا تركنا حانوت الخياط الأقل إرابة. سوف لن نتمكن أبدا من العثور عليه مرة أخرى. سوف نطوف من لوحة حانوت إلى لوحة حانوت ونقترف آلاف الأخطاء. سوف نلج مداخل المتاجر ونرى أوجه الشبه. سوف نطوف بمحاذاة أرفف فوق أرفف من الكتب، نتصفح المجلات والمطبوعات، نتباحث طويلا على نحو حميمي مع شابة منقوصة الجمال باختضاب مفرط، ولن تكون قادرة رغم ذلك على فهم متطلباتنا. سوف نتورط في خلافاتِ سوء فهم إلى أن يستنزف اتقادُنا وانفعالنا نفسه في مثابرة غير ضرورية، في ملاحقة مهدرة.
آمالنا كانت مغالطة خاتلة، المظهر المشبوه للصرْح وطاقمه كان زيفا، الملابس كانت ملابس حقيقية، والبائعون لم يكن لديهم دوافع مخفية. نساء شارع التماسيح فاسدات إلى مدى معتدل، مختنقات بطبقات غليظة من التحامل الأخلاقي والتفاهات الاعتيادية. في تلك المدينة المكونة من مادة بشرية رخيصة لا يمكن لغريزة أن تزدهر، لا يمكن لشغف استثنائي مبهم أن يُثار.
شارع التماسيح كان ترخيص مدينتنا للحداثة والفساد العاصمي. بالتأكيد، لم نكن قادرين على تحمل تكاليف أي شيء أفضل من محاكاة ورقية، مونتاج من الرسوم التصويرية المقصوصة من جريدة العام الماضي المتفسخة.
***********
* تقديم
برونو شولتز: بولندي يهودي. وُلد عام 1892 وتوفي مقتولا 1942. قاص ورسام ومنظر. كان حاضرا في المشهد الأدبي البولندي، الذي كان وقتها يضج بأسماء مهمة، تشتت كثير منها إلى الخارج جراء الحرب العالمية الثانية واحتلال الألمان.
كثُر الاهتمام به تحديدا في النصف الثاني من القرن العشرين، رغم أنه لم يكتب سوى مجموعتين قصصيتين منشورتين، مع الحديث عن رواية بعنوان “المسيح” لم توجد لها نسخة، ويقال أنه أرسلها إلى توماس مان، كاتبه المفضل.
وفاته
هي مأساة ساخرة .. نوعا ما.
أثناء سيطرة الألمان على مدينة دروغوبيتش حيث يعيش شولتز (التي هي جزء من أوكرانيا حاليا)، كان اليهود يعيشون في خوف دائم. وشولتز ليس استثناء. ولكن بحكم موهبته في الرسم، فقد تكفل شرطي من الجستابو بحمايته نظير أن يقوم شولتز برسم جدارية لغرفة طفله، وهو المشروع الذي بدأه بالتوازي مع التخطيط السري للهرب. ما حدث هو أن الشرطي الذي تكفل بحمايته قتل يهوديا آخر يقع تحت حماية شرطي آخر في الجستابو، وهو الذي قرر منطلقا من عقلية انتقام قبلي أن يقتل شولتز في الشارع برصاصة في رأسه، ردا على مقتل يهوديّه، في ذات اليوم الذي كان شولتز قد قرر فيه الهرب أخيرا.
في عام 2001، قام المخرج الألماني الوثائقي Benjamin Geissler بالبحث عن الجدار. وبعد رحلة شاقة في مدينة دروغوبيتش، وفيما يشبه الخرافة السحرية وجد البيت الذي تحول إلى شقق سكنية، وبدأ يمسح الغبار المتراكم عن الجدار الذي ظل كما هو لتظهر جدارية شولتز اللامنتهية.
DSC_0005_male_0 Wand II – Zusammenführung aller Fragmente 2011
ولسبب ما شاطح تم نقل الجدرايات لتعرض في متحف في إسرائيل مخصص لضحايا الهولوكوست، بدل أن تبقى في أوكرانيا أو تنقل إلى وطن شولتز الأصلي بولندا.
أدبه
الروائي والمنظر والرسام البولندي المعروف بـ Witkacy له نظرية مثيرة للاهتمام بعد الحرب العالمية الأولى: الشعر والرسم والدراما (مسرح/سينما) تنتج شكلا نقيا، بينما النثر (سرد/قصة) يقدم التجربة الفردية على أنها شكل نقي. ويستثني نثر صديقه برونو شولتز الشعري. ويقصد بالشعر ليس جانبه اللغوي فقط وإنما الكوني، التركيب المتناغم بين اللغة والدلالة والصورة، التي تعيد سلخ الواقع من قشرة الفردية وتعيد تقديمه من جديد. وهي من هذه الزاوية قد تبدو شبيهة بنظرية إضفاء الغرابة لدى مدرسة الشكلانيين الروس. ولذا فإن شولتز يدعم هذه الفكرة بنظريته المهمة “أسْـطَرة الواقع”. تلك الشبكة الأسطورية حيث تشتبك اللغة كأحرف وموسيقى بتركيبات صورية وانفعالية خاصة، فالواقع يجب إعادة خلقه من جديد، عبر اللغة والصورة، الصوت والشكل. ولذا قد يعتبر شولتز تطورا لغويا لكافكا، الذي أعاد خلق الواقع كتصور ومنطق. هذا التطبيق المتنوع للغة، الذي يحاول أن ينقذها من هذا اللانقاء، هي فكرة حداثية بامتياز. تي اس اليوت في الشعر ونظريته حول موسيقية اللفظ الصوتي بغض النظر عن دلالة الكلمة (وهي على فكرة نظرية لها نظير مقارب في الأدب العربي عند ابن جني). جويس وبروست وفوكنر وحتى كافكا، وقبلهم هنري جيمس في الرواية، يحتوي نثرهم قدرا كبيرا من هذا الشعر الميثولوجي، وإن كان بأشكال مختلفة. ما بعد الحداثيين، من بيكيت تحديدا، وبورخيس بشكل أقل، أعادوا السرد إلى تحرره اللغوي الأول، اعترافا بذلك اللانقاء والخلل في الوسيط اللغوي. ولذا بورخيس كان يرفض كتابة روايات لأنه لا يرى فائدتها، فالقصة القائمة على الفكرة تكفي. وبيكيت ظل يكرر أن اللغة الروائية وصلت إلى طريق مسدود، حيث أن حالة التعبير ورطةٌ من الدلالات والمفردات المعقدة. مدارس مابعد حداثية لاحقة احتفلت بهذا اللانقاء، وحولت الرواية لنوع من الدراسة. بيرنهارد وجاديس وبينشون وبيريك وكونديرا كروايات تحليلية هندسية. ومدارس أخرى كتبت روايات تسجيلية، بل أحدثت نوعا من الشعر في هذه التسجيلية، هاندكه وسيبالد كأمثلة. ولكن في المجمل، ظلت مسحة هذا النوع من الشعر التي استحدثتها الحداثة باقية في الأدب بقوة، روايات لكتاب مثل نابوكوف وتارجي فيساس وباتريك موديانو تعتمد في كثير من تراكيبها على الشعر، الشعر بمعناه المقارب للشعر الميثولوجي الذي قصده شولتز. ستلاحظ في هذا النص أن اللغة محرك أساسي في الشكل الصوتي واللفظي. العبارة لها مسار سمعي مهم جدا يوازي معناها الدلالي وتمتزج مع الصور الاستعارية مشكلة ذلك المناخ الغرائبي المكهرب، ولهذا ترجمته تبدو صعبة إلى حد بعيد، لا يكفي أن تنقل المعنى، ولكن أيضا الإيقاع والحركة الداخلية للنص. ومن هنا تكمن صعوبة قراءته أيضا.
شولتز والمازوخية
الكثير من النقاد يشير إلى أن سطوة المرأة في قصص ورسومات شولتز تتكون من منطلق رمزي. ولكنني أرى أن المسألة ببساطة تنبع من دافع جنسي أولا، وقد يكون مرمّزا. رجال شولتز مازوخيون بامتياز. المرأة لديه ليست مسيطرة فقط، ولكنها عنصر إهانة، عنصر تقديس. في أدبه ورسوماته يُقبّـل الرجال أقدام المرأة ليس عن اشتهاء فقط ولكن عن تذلل، يخضعون لسيطرتها، تضربهم أحيانا بالسياط، تطؤهم حيث يتم رسمهم كأقزام مشوهة. شولتز يرمز للمرأة كعنصر ميثولوجي متجلي، حيث الجمال والقدسية الطبيعية المؤلّهة، بينما الرجال أقرب إلى الحيوانات الممسوخة التي تستمتع بإهانة المرأة لهم، تجد لذة في التذلل والخضوع. ربما يرمز إلى أسطرة المرأة كنوع من القدسية. ولكن منبع الحالة له عمق جنسي حاد جدا، لا يمكن إنكاره أو تجاوزه.
الترجمة
عن طريق الترجمة الإنجليزية الممتازة للمتخصصة في أدب شولتز Celina Wieniewska
احتفظ أبي في الدُّرج الأسفل من مكتبه الكبير بخارطة قديمة وجميلة لمدينتنا. كانت حزمة من ورق المخطوطات المعقود بشرائط كتان أصلية، شكّلت خريطة جدارية هائلة، تتبدى بمنظور عين الطائر البانورامية.
غطّت الخارطةُ المعلقةُ الجدارَ بالكامل تقريبا وكشفت المشهد الواسع لوادي نهر “التيشمينتسا-Tysmienica” الذي اجترح نفسه مثل وشاح متموج من الذهب الشاحب، على متاهة البَـحْرات والمستنقعات المنبسطة باتساعٍ فوق الهضبة الصاعدة باتجاه الجنوب، بتمهل في أولها، ثم في نطاقات متضامّة أكثر، في لوحة شطرنجية من التلال المكورة، تبدو أصغر وأشحب إذ تنحسر باتجاه ضباب الأفق المغشّى في صفرته. من هذا البُعد الباهت للهامش، أزهرت المدينة ونَـمَت باتجاه مركز الخارطة، كتلةٌ لامتمايزة أولا، مركّبٌ متراصٌّ من الأحياء المخططة والمنازل، مخدّدة بوديانِ شوارعَ عميقة، لتصبح في المخطط الأول مجموعة بيوت منفردة، منحوتة بالوضوح الحاد لمنظر يُرى عبر الدربيل. في هذا القسم من الخارطة، ركَّز النقاش على التعقيد والغزارة المتشعبة للشوارع والأزقة، الخطوط الحادة للأفاريز، والأُسْكُفَّات، ونقوش البوابات المقوسة، والأعمدة، موقدةٌ بالعتمة الذهبية لأصيلٍ غائم نقع كل الزوايا والارتدادات بكَـدْرةِ فيءٍ عميقة. الصُّلب والموشور الزجاجي لذلك الفيء شَـكَّل بعتمةٍ خلية نحل للشوارع الوديانية المخددة، حيث يغرق هنا في لونٍ دافئٍ نصفُ شارع، وهناك يغرق فراغٌ آخر بين المنازل. جميعها تُمسرِح وتلحن في تباين الضوء/الظل التعقيدَ المعماري البوليفوني.
على هذه الخارطة المصنوعة على طريقة الاستعراضات الباروكية، شعّت منطقة شارع التماسيح بالبياض المفرغ الذي يسِـمُ المناطق القطبية، أو الدول اللامكتشفة حيث لا يُعرف شيء منها. خطوطُ شوارع معدودة فقط كانت مرسومة بالسواد ومكتوبةً أسماؤها بحروف بسيطة لامزخرفة، مختلفة عن الخط الفخم في التعليقات الأخرى. لابدّ أن رسام الخارطة كان مشمئزا من إدراج هذا القطاع في المدينة، لتجد تحفظاتُه تعبيرا مناسبا في التطبيق الطباعي.
من أجل أن تُـفهم هذه التحفظات، لابد أن نلفت الانتباه إلى الشخصية المبهمة المريبة لتلك المنطقة الخصوصية، المختلفة كثيرا عن بقية المدينة.
لقد كانت منطقة صناعية وتجارية، جديةُ شخصيتها النفعية مُبرَزة بابتذال. روح العصر، ميكانيكية الاقتصاد، لم تنتشر في مدينتنا وإنما تجذرت في قطاعٍ من هامشها الذي تطور حينها إلى حارة دخيلة.
بينما سادت في المدينة القديمة تجارة ليلية متخفية، موسومة بتحفظ رسمي؛ ازدهرت دفعةً واحدة في المقاطعة الجديدة أشكالُ حداثة جدية من همة تجارية، الأمركة المزيفة، ملقحة في اللُّبّ القديم المنهار للمدينة، متعالية فيه بغابة حذلقة سوقية، ثرية ولكن خاويةٌ عديمة اللون. يستطيع أحدٌ أن يرى البيوت المشيدة على نحو رخيص بواجهات متنافرة، مغطّاة بزخرفةٍ جصية مشوهة فوق جبص متصدع. بيوتُ الضواحي القديمة المتزعزعة لها بوابات هائلة مركبة بعُجالةٍ مرقعة تكشف في حالة الفحص المقرب عن نفسها كتقليد تعيس لفخامة عاصمية. ألواحٌ زجاجية مختلة، رتيبة، قذرة، تنعكس فيها صور قاتمة متموجة للشارع، خشب الأبواب المركب على نحو رديء، هالة الهواء الداكنة في الداخل المقفر حيث الرفوف العالية مكسرة والجدران المتداعية مغطاة بخيوط عنكبوت وقشرة تراب كثيفة، صَبغت هذه الحوانيت بمسحة من براري الكلوندايك. صفٌّ تلو صف، تنتثر حوانيت خياطة، تجار ملابس، محلات خزف، صيدليات، صوالين حلاقة. نوافذ واجهاتها الرمادية جَـوّفت نقشا مائلا هلاليا بحروف مذهبة:
سكاكر، مانيكير، ملك إنجلترا.
سكان المدينة القدماءُ المؤسسون تنحّوا بعيدا عن المنطقة التي استقر بها الرعاع والطبقة المتدنية، مخلوقات بلا شخصية، بلا مرجعية، حثالة أخلاقية، ذلك الجنس السافل من البشر الذي ينشأ في مثل هذه المجتمعات سريعة الزوال. ولكن في أيام الرضوخ، في ساعات الأخلاق الواهنة، يحدث أن أحد قاطني المدينة سيتجاسر مدفوعا بنصف صدفة على ارتياد ذلك القسم المشبوه. أفضلهم لم يكونوا متحررين بالكامل من إغراء التهتك الاختياري، بتحطيم حواجز الهرمية، بالانغمار في ذلك الوحل السطحيّ للمخادنة، بالحميمية السهلة، بالاختلاط البذيء. القسم كان بمثابة “El Dorado” للمارقين أخلاقيا. كل شيء بدا مبهما وظنيا هناك، كل شيء موعود بغمزات سرية، إيماءات ساخرة مبرزة، حواجب مرفوعة، الشبع بآمال دنسة، كل شيء مهيأ ليطلق أرذل الغرائز من أصفادها.
مجموعة قليلة من الناس فقط لاحظت الخصوصية النوعية لذلك القسم: الافتقار المهلك للون، وكأن هذه المنطقة الرثة المتنامية لا تتحمل تكاليف رفاهية الألوان. كل شيء كان رماديا هناك، كصورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود أو كاتالوج مصور رخيص. هذا التشبيه كان حقيقيا أكثر من كونه مجازيا، لأنه في أوقات ما، أثناء التَّجوال في تلك الأماكن، يحدس الشخص انطباعا بأن أحدا يقلب صفحات نشرة، يعاين أعمدة الإعلانات التجارية المملة، حيث تعشعش وسطها أخبار مريبة كالطفيليات، مع ملاحظات ملتبسة ورسوم إيضاحية تحمل معنى مزدوج، تُـثبت أن تجوال الشخص عقيمٌ وتافه بقدر الانفعال الذي تحدثه مطالعة مقربة لأولبومات إباحية.
إذا دخل أحد، على سبيل المثال، حانوت خياطة ليطلب بدلة – بدلةُ طابع الأناقة الرخيصة لهذه المنطقة – سيجد أن الواجهة كبيرة وفارغة، وأن الغرف فارعة وعديمة اللون. رفوفٌ ضخمة حلقت في طبقات نحو الارتفاع المُـطلق للغرفة لتسحب نظرة الشخص إلى السقف الذي قد يكون السماء – السماء الرثة المتلاشية في هذا المكان. في الجانب الآخر، المخازنُ التي يمكن رؤيتها من الباب المفتوح، كانت مكدسة عاليا بالصناديق والكراتين – خزانة تضبير ضخمة تصعد إلى العُـلّية لتتفتت في هندسة الفراغ، في تخشيبات خواء. النافذة الرمادية الكبيرة، مخططة مثل صفحة من سجل حسابات، لم تُـدخل ضوء النهار بعد، الحانوت كان مليئا بضوء رمادي رطب مجهول لم يرمي ظلالا أو يُبرز شيئا. بعد قليل، ظهر البائع، شاب نحيل، متذلل على نحو مدهش، حَرِك، متعلل، ليرضي بهذا متطلبات ذلك الأحد ويغرقه بالتدفق اللطيف لأحاديث تسويق بضاعته. وأثناء حديثه طوال الوقت، بَسَط قطعة قماش ضخمة، يلائم ويطوي ويلف مجراها، يشكّلها على جسده إلى سترات وبناطيل متخيلة. كل هذا التلاعب بدا فجأة لاحقيقيا، كوميديا متكلفة، شاشةٌ مثبتة بمفارقة ساخرة لتخفي حقيقة معنى الأشياء.
البائعات الطويلات السمراوات، في كل واحدة منهن عيب في جمالها (على نحو ملائم لهذه المنطقة المكونة من فضْلة الموجودات) جئن وذهبن، وقفن عند المداخل ليراقبن إن كان العمل المنوط بالبائع الخبير قد بلغ نقطة ملائمة. تكلف البائع الابتسام واختال مثل متخنث. أراد الأحد أن يرفع ذقنه المنكفئ أو يقرص خده الباهت الممكيج بينما أشار هو بتروٍّ ونظرة مبطّنة جادة إلى العلامة التجارية على القماش، علامةُ رمزية واضحة.
اختيار البدلة أخيرا أفسح المجال للمرحلة الثانية من الخطة. الشاب المتأنث المنحل، محتوٍ لأكثر هيجانات الزبون الحميمية، توضع الآن أمامه تشكيلة من أكثر العلامات التجارية فرادة، مكتبة كاملة من ملصقات التصنيف، خزانة تعرض مختاراتِ متذوقٍ راقي. ففي حينها اتضح أن حانوت الأقمشة المستوردة هذا كان مجرد واجهة يوجد خلفها حانوت تراثٍ بمختاراتٍ من كتب مشبوهة وطبعات خاصة. فتح البائع المتذلل مخازن إضافية، ممتلئة حتى السقف بكتب، رسومات، صور فوتوغرافية، هذه النقوش والمنحوتات كانت تتجاوز أكثر توقعاتنا جرأة: لم نترقب ولو في أحلامنا هذا القدر من عمق الفساد، هذا القدر من تنوع الفجور.
البائعات الآن سرن صعودا وهبوطا بين طوابير الكتب، أوجههن، مثل الرِّق الرمادي، موسوم ببقع السَّـحْنة الداكنة الدهنية للسمراوات، أعينهن السوداء اللامعة تقذف فجأة نظرات حَـشَرية متعرجة. ولكن تورّدهن الداكن، بقع جمالهن اللاذع، آثار الزغَب على شفاههن الفوقية، تفضح دمهن الأسود الكث. انفعالهن المتلون، مثل قهوة فواحة، بدا أنه ينطبع في الكتب التي تلقفنها في أيديهن الزيتونية. لمستُهنَّ بدا أنها تمر على الصفحات وتترك في الهواء أثرا داكنا من النمش، لطخة من التبغ، كما تفعل كمأة برائحتها الحيوانية المهيجة.
في غضون ذلك، ساد المجون. البائع، منهكا جرّاء إلحاحه اللجوج، انسحب ببطء إلى حالة خمود أنثوي. يستلقي الآن على إحدى الأرائك الكثيرة التي تتموضع بين أرفف الكتب، يلبس بجامة حريرية ضيقة. بعض البنات استعرضن لبعضهن الوضعيات والوقفات التي في رسومات أغلفة الكتب، بينما استقرت الأخريات لينمن على أسرة من الكراسي. الإلحاح على الزبون قد هدأ، يقف الآن متحررا من دائرة الانتهازيين الطماعين متروكا لوحده. البائعات، منشغلات بالكلام، توقفن عن الاهتمام به تماما. بظهورهن المدارة نحوه، إتبعن وضعيات متغطرسة، يراوحن اتكاء ثِـقلهن من قدم إلى قدم، يتلاعبن بأحذيتهن الخليعة، يطلقن أجسادهن النحيلة لحركات أطرافهن الأفعوانية، وبذلك يطوّقن حصارا على المتفرج المنفعل الذي يتصنّعن تجاهله خلف ادعاء وهمي من اللامبالاة. التنحّي كان مدبّرا لتوريط الضيف بطريقة أعمق، في حين يبدو وكأنهم تركوا له حرية التصرف ليبادر بنفسه.
ولكن دعُونا نستغل لحظة الغفلة تلك لنهرب من هذه النتائج اللامتوقعة لزيارة بريئة للخياط، ونتسلل عائدين إلى الشارع. لا أحد يوقفنا. من خلال أروقة الكتب، من بين الأرفف الطويلة الممتلئة بالمجلات والمطبوعات، نشق طريقنا لنخرج من المتجر ونجد أنفسنا في ناصية شارع التماسيح، حيث من خلال زاوية أعلى يستطيع أحدٌ رؤية امتداد الشارع بأكمله إلى المباني البعيدة لسكة القطار التي لم ينتهي بناؤها بعد. لقد كان، كما العادة، يوما رماديا، والمشهد بأكمله بدا كصورة فوتوغرافية في مجلة مصورة، رمادي جدا، المنازل والناس والمركبات أحاديةُ الأبعاد جدا. الواقع نحيلٌ مثل الورق، يفضح بكل فجواته شخصيته المزوّرة.
أحيانا يتكون انطباع لدى أحد أن الجزء المساريّ من الشارع قبالتنا تماما هو فقط الذي يهبط في اللوحة التنقيطية المفترضة لممر طريق مدني، بينما على جانبي الممر، قد بدأت الحفلة التنكرية الارتجالية من الآن بالتفسخ، غير قادرة على الصمود، تتقوّض خلفنا في كتلة جص ونشارة، في عنابر مسرحٍ ضخم فارغ. توتُّـر وضعية مصطنعة، جدّيةٌ متكلفة لقناع، مفارقة مثيرة للشفقة ترتجف في هذه الواجهة الشكلية.
ولكن مستبعدٌ منا أن نفضح هذا الزيف. فعلى الرغم من حكمنا القاطع، نظل متعلقين بالجاذبية الرخيصة لهذا القسم. وعلاوة على ذلك، هذا التظاهر المدني يحمل بعض صفاتِ محاكاةٍ ساخرة للنفس. صفوفٌ من بيوت الضواحي ذات الطابق الواحد تتناوب مع بيوت الطوابق المتعددة، حيث تبدو وكأنها مصنوعة من الكرتون، تُشكل مزيجا من نوافذ مكاتب معتمة، وزجاج واجهات رمادي، ولوحات إعلانات وعناوين. ضمن المنازل يتدفق الحشد. الشارع فسيح مثل جادّة مدينة، ولكنه معبّد مثل ساحات القرى بالطين المدكوك، مليء بالنقاع والعشب المتنامي. حركةُ سير الشارع مأثرة في المدينة، يتباهى بها جميع قاطنيه بكبرياء ونظرة فخورة. ذلك الحشد اللاذاتي الرمادي يبدو بالأحرى واعيا على نحو مفرط بدوره، متلهف ليرقى إلى حد طموحاته العاصمية. ومع ذلك، رغم العنفوان والإحساس بالقيمة، يتكون انطباع لدى أحد بأنه أمام حيوانات رتيبة تجول، قافلةُ دمىً ناعسة. هالةُ تفاهةٍ تغشى المشهد. ينضح الحشد بكسل، ومن الغريب القول أن أحدا لا يستطيع رؤيته إلا بضبابية، تعبر الهيئات بتشوش مرتخ، لا تقبض أبدا حوافّ المعالم. أحيانا فقط، نتلقف من بين لَجَب الرؤوس الكثيرة نظرة داكنة جذلة، قبعةَ بولنج سوداء ممالة إلى الجانب، نصف وجه منفرج بابتسامة على شفاه أنهت حديثها للتو، لكْزة قدم تخطو إلى الأمام وترسخ إلى الأبد في تلك الوضعية.
خصوصية ذلك القسم تتضح في مركبات الأجرة، بلا حوذيين، منقادة بلا قائد. لم يكن ذلك بسبب عدم وجود سائقي أجرة، ولكنهم مختلطون بالحشد ومنشغلون بآلاف الأعمال الخاصة بهم، لا يبالون بعرباتهم. في تلك المنطقة من الإيماءات الصورية الفارغة لا أحد يلقي بالا للقصد المحدد لجولة مركبة الأجرة، والركاب يُودِعون أنفسهم في عهدة تلك النقليات الجانحة باللااكتراث الذي يشخصن كل شيء هنا. من وقت لآخر، يستطيع أحد أن يراهم في زاوية خطرة، يتكئون بعيدا تحت السقف المحطم، ممسكين بالزمام في أيديهم، ويؤدون بشيء من الصعوبة مناورات معقدة لاستعادة السيطرة.
هنالك أيضا خطوط ترام هنا. تمثل أعظم انتصار لطموحات أعضاء المجالس الإدارية، رغم أن مظهر هذه الترامات بائس، بحكم أنها مصنوعة من الورق المعجّن بجوانب معوجّة بسبب سوء الاستخدام الطويل. لا تحتوي في الغالب على واجهة، لذا أثناء مرورها يستطيع أحد أن يرى الركاب، يجلسون بتصلب ويلُوحون بقدر كبير من الاحتشام. يدفع هذه الترامات حاجبوا المدينة. ومع ذلك، الشيء الأغرب من كل هذا، هو نظام سكة الحديد في شارع التماسيح. أحيانا، في أوقات مختلفة من اليوم باتجاه نهاية الأسبوع، يستطيع أحد أن يرى مجموعة من الناس ينتظرون قطارا في تقاطع طرق. لا أحد متأكدٌ مما إذا كان القطار سيأتي أساسا أو أين سيتوقف إن هو أتى. ولهذا، يحدث غالبا، أن الناس يقفون في مكانين مختلفين، عاجزين عن الاتفاق على أين سيقف القطار. ينتظرون لمدة طويلة، واقفين في حزمة سوداء صامتة بجانب خط السكة المرئي بالكاد، أوجههم جانبيا: صف من هيئات كرتونية شاحبة، مثبّـتة بتعبير من التطلع القلق.
أخيرا، يظهر القطار فجأة: يستطيع أحد أن يراه قادما من جهة الشارع المتوقعة، مسطّح مثل ثعبان، قطارٌ منمنم بقاطرة بخار رابضة فحيحيّة. يلِـجُ الدهليز الأسود فيكفهر الشارع بغبار الفحم المتناثر من صف العربات. لَهَثان المحرك الثقيل وتلويحات الجدية الغريبة الحزينة، التعجل والانفعال المكبوح يحوّل الشارع للحظة إلى ساحة محطة قطار، أثناء الهبوط السريع للغسق الشتائي.
السوق السوداء لتذاكر القطار، والرشوة، هما – بشكل عام – الوباءات الخاصة لمدينتنا.
في اللحظة الأخيرة، أثناء تواجد القطار في المحطة، مفاوضاتٌ تُعقد بعجلة عصبية مع مأموري السكة الفاسدين. قبل أن تكتمل هذه المفاوضات، يتحرك القطار، يتبعه ببطء حشدُ المسافرين المحبطين، يرافقونه طويلا على امتداد الخط قبل أن يتبددوا أخيرا.
الشارع، مقلَّصاً للحظة كي يشكّل محطة افتراضية مليئة بالقتامة وأنفاس السفر الطويل، يتمدد من جديد، يتخفف ليسمح للحشد الرخِيّ من المارة المهمهمين أن يعاودوا التمشّي، يعبرون أمام نوافذ الحوانيت – تلك المربعات الرمادية القذرة المليئة بسلع رثة، عرائس، دمى شمعية طويلة.
عاهرات، بفساتين مبهرجة من الدانتيل المقلم، بدأن بالحَوم. من الممكن أن يكنّ أزواج مصففي الشعر أو عازفي الموسيقى في المطاعم. يتقدمن بخطوة مشحونة شرهة، كل واحدة منهن بعيب صغير في وجهها الشيطاني المنحل: حَوَلٌ أسود منعقف في أعينهن، أو شفاه مشرمة، أو أرنبة أنف مفقودة.
قاطنوا المدينة فخورون تماما بنتانة الفساد المنبعثة من شارع التماسيح. “لا حاجة لأن ينقصنا شيء” يقولون بفخر لأنفسهم “حتى أن لدينا رذائلُ عاصمية بحق”. يصادقون على أن كل امرأة في ذلك القسم هي داعرة. في الواقع، يكفي أن تحدق في أي واحدة منهن، وفورا ستقابل نظرة ملحة متشبثة تُجمدك بتحقق الإشباع. حتى الطالبات الصغيرات يربطن بكلات الشعر بطريقة مشخصنة ويسرن على سيقانهن الهيفاء بخطوة مميزة، تعبيرٌ ملوث في أعينهن يكشف الظل عن مستقبلهن المنحل.
ورغم ذلك، ورغم ذلك – هل نحن على وشك أن نكشف آخر أسرار ذلك القسم، سر شارع التماسيح المخبأ بحذر؟
لعدة مرات خلال روايتنا، بعثنا إشارات تحذير، ألمحنا بحساسية إلى احتياطاتنا. ولذا فإن قارئا منتبها لن يكون غير مستعد لما سيتبع. تحدثنا عن شخصية المنطقة المزوِّرة الموهِمة، ولكن هذه الكلمات تحوي معنى أكثر دقة وقطعية من أن يصف واقعها المعلق اللاناضج.
لغتنا لا تحتوي تعريفات تزنُ، إن جاز التعبير، درجة الواقعية، أو تؤطر مرونتها. لنقلها بصراحة: آفة تلك المنطقة أنّ لا شيء ينجح فيها أبدا، لا شيء يستطيع أبدا أن يصل إلى نتيجة قطعية. إيماءات تتدلى في الهواء، حركات منهكة قبل الأوان لا تستطيع تجاوز نقطة محددة من الانطفاء. لقد لاحظنا من قبل عظمة الإتقان والخصب في المقاصد، والمشاريع، والترقب، التي هي إحدى خصال هذا القسم. إنه في الحقيقة ليس أكثر من أن يكون تخمّر رغباتٍ فار قبل أوانه، ولذا جاء عنّينا وخاويا. إنه مناخ من السلاسة المتطرفة، كل نزوة تحلق عاليا، اهتياجٌ عابر يتورّم إلى انتفاخ طفيلي فارغ، كساء نباتي رماديُّ اللون لأعشاب زغباء، بخشخاش عديم اللون يتبرعم صعدا، مصنوع من نسيجِ كوابيسٍ وحشيش لا وزن له.
على امتداد المنطقة كلها هناك، تطفو رائحة الخطيئة الخاملة الفاجرة، بينما المنازل، الحوانيت، الناس، تبدو أحيانا لا أكثر من ارتعاشة على جسدها المحموم، قشعريرة حمّى أحلامها. لا مكان أكثر من هناك سنشعر فيه أننا مهددون بالاحتمالات، مزعزعون بدنوّ الإشباع، شاحبٌ وواهن بالجمود العذب للإدراك. وهكذا سيظل إلى أبعد مُضيّه.
بتجاوزه نقطة معينة من التوتر، يتوقف المدّ ويبدأ بالانحسار، المناخ يصير مبهما ومشوشا، الاحتمالات تذوي وتنحلّ إلى الفراغ، خشخاش الإثارة المجنون الرمادي يتبدد إلى رماد.
سوف نندم دائما، في لحظة قادمة، على أننا تركنا حانوت الخياط الأقل إرابة. سوف لن نتمكن أبدا من العثور عليه مرة أخرى. سوف نطوف من لوحة حانوت إلى لوحة حانوت ونقترف آلاف الأخطاء. سوف نلج مداخل المتاجر ونرى أوجه الشبه. سوف نطوف بمحاذاة أرفف فوق أرفف من الكتب، نتصفح المجلات والمطبوعات، نتباحث طويلا على نحو حميمي مع شابة منقوصة الجمال باختضاب مفرط، ولن تكون قادرة رغم ذلك على فهم متطلباتنا. سوف نتورط في خلافاتِ سوء فهم إلى أن يستنزف اتقادُنا وانفعالنا نفسه في مثابرة غير ضرورية، في ملاحقة مهدرة.
آمالنا كانت مغالطة خاتلة، المظهر المشبوه للصرْح وطاقمه كان زيفا، الملابس كانت ملابس حقيقية، والبائعون لم يكن لديهم دوافع مخفية. نساء شارع التماسيح فاسدات إلى مدى معتدل، مختنقات بطبقات غليظة من التحامل الأخلاقي والتفاهات الاعتيادية. في تلك المدينة المكونة من مادة بشرية رخيصة لا يمكن لغريزة أن تزدهر، لا يمكن لشغف استثنائي مبهم أن يُثار.
شارع التماسيح كان ترخيص مدينتنا للحداثة والفساد العاصمي. بالتأكيد، لم نكن قادرين على تحمل تكاليف أي شيء أفضل من محاكاة ورقية، مونتاج من الرسوم التصويرية المقصوصة من جريدة العام الماضي المتفسخة.
***********
* تقديم
برونو شولتز: بولندي يهودي. وُلد عام 1892 وتوفي مقتولا 1942. قاص ورسام ومنظر. كان حاضرا في المشهد الأدبي البولندي، الذي كان وقتها يضج بأسماء مهمة، تشتت كثير منها إلى الخارج جراء الحرب العالمية الثانية واحتلال الألمان.
كثُر الاهتمام به تحديدا في النصف الثاني من القرن العشرين، رغم أنه لم يكتب سوى مجموعتين قصصيتين منشورتين، مع الحديث عن رواية بعنوان “المسيح” لم توجد لها نسخة، ويقال أنه أرسلها إلى توماس مان، كاتبه المفضل.
وفاته
هي مأساة ساخرة .. نوعا ما.
أثناء سيطرة الألمان على مدينة دروغوبيتش حيث يعيش شولتز (التي هي جزء من أوكرانيا حاليا)، كان اليهود يعيشون في خوف دائم. وشولتز ليس استثناء. ولكن بحكم موهبته في الرسم، فقد تكفل شرطي من الجستابو بحمايته نظير أن يقوم شولتز برسم جدارية لغرفة طفله، وهو المشروع الذي بدأه بالتوازي مع التخطيط السري للهرب. ما حدث هو أن الشرطي الذي تكفل بحمايته قتل يهوديا آخر يقع تحت حماية شرطي آخر في الجستابو، وهو الذي قرر منطلقا من عقلية انتقام قبلي أن يقتل شولتز في الشارع برصاصة في رأسه، ردا على مقتل يهوديّه، في ذات اليوم الذي كان شولتز قد قرر فيه الهرب أخيرا.
في عام 2001، قام المخرج الألماني الوثائقي Benjamin Geissler بالبحث عن الجدار. وبعد رحلة شاقة في مدينة دروغوبيتش، وفيما يشبه الخرافة السحرية وجد البيت الذي تحول إلى شقق سكنية، وبدأ يمسح الغبار المتراكم عن الجدار الذي ظل كما هو لتظهر جدارية شولتز اللامنتهية.
DSC_0005_male_0 Wand II – Zusammenführung aller Fragmente 2011
ولسبب ما شاطح تم نقل الجدرايات لتعرض في متحف في إسرائيل مخصص لضحايا الهولوكوست، بدل أن تبقى في أوكرانيا أو تنقل إلى وطن شولتز الأصلي بولندا.
أدبه
الروائي والمنظر والرسام البولندي المعروف بـ Witkacy له نظرية مثيرة للاهتمام بعد الحرب العالمية الأولى: الشعر والرسم والدراما (مسرح/سينما) تنتج شكلا نقيا، بينما النثر (سرد/قصة) يقدم التجربة الفردية على أنها شكل نقي. ويستثني نثر صديقه برونو شولتز الشعري. ويقصد بالشعر ليس جانبه اللغوي فقط وإنما الكوني، التركيب المتناغم بين اللغة والدلالة والصورة، التي تعيد سلخ الواقع من قشرة الفردية وتعيد تقديمه من جديد. وهي من هذه الزاوية قد تبدو شبيهة بنظرية إضفاء الغرابة لدى مدرسة الشكلانيين الروس. ولذا فإن شولتز يدعم هذه الفكرة بنظريته المهمة “أسْـطَرة الواقع”. تلك الشبكة الأسطورية حيث تشتبك اللغة كأحرف وموسيقى بتركيبات صورية وانفعالية خاصة، فالواقع يجب إعادة خلقه من جديد، عبر اللغة والصورة، الصوت والشكل. ولذا قد يعتبر شولتز تطورا لغويا لكافكا، الذي أعاد خلق الواقع كتصور ومنطق. هذا التطبيق المتنوع للغة، الذي يحاول أن ينقذها من هذا اللانقاء، هي فكرة حداثية بامتياز. تي اس اليوت في الشعر ونظريته حول موسيقية اللفظ الصوتي بغض النظر عن دلالة الكلمة (وهي على فكرة نظرية لها نظير مقارب في الأدب العربي عند ابن جني). جويس وبروست وفوكنر وحتى كافكا، وقبلهم هنري جيمس في الرواية، يحتوي نثرهم قدرا كبيرا من هذا الشعر الميثولوجي، وإن كان بأشكال مختلفة. ما بعد الحداثيين، من بيكيت تحديدا، وبورخيس بشكل أقل، أعادوا السرد إلى تحرره اللغوي الأول، اعترافا بذلك اللانقاء والخلل في الوسيط اللغوي. ولذا بورخيس كان يرفض كتابة روايات لأنه لا يرى فائدتها، فالقصة القائمة على الفكرة تكفي. وبيكيت ظل يكرر أن اللغة الروائية وصلت إلى طريق مسدود، حيث أن حالة التعبير ورطةٌ من الدلالات والمفردات المعقدة. مدارس مابعد حداثية لاحقة احتفلت بهذا اللانقاء، وحولت الرواية لنوع من الدراسة. بيرنهارد وجاديس وبينشون وبيريك وكونديرا كروايات تحليلية هندسية. ومدارس أخرى كتبت روايات تسجيلية، بل أحدثت نوعا من الشعر في هذه التسجيلية، هاندكه وسيبالد كأمثلة. ولكن في المجمل، ظلت مسحة هذا النوع من الشعر التي استحدثتها الحداثة باقية في الأدب بقوة، روايات لكتاب مثل نابوكوف وتارجي فيساس وباتريك موديانو تعتمد في كثير من تراكيبها على الشعر، الشعر بمعناه المقارب للشعر الميثولوجي الذي قصده شولتز. ستلاحظ في هذا النص أن اللغة محرك أساسي في الشكل الصوتي واللفظي. العبارة لها مسار سمعي مهم جدا يوازي معناها الدلالي وتمتزج مع الصور الاستعارية مشكلة ذلك المناخ الغرائبي المكهرب، ولهذا ترجمته تبدو صعبة إلى حد بعيد، لا يكفي أن تنقل المعنى، ولكن أيضا الإيقاع والحركة الداخلية للنص. ومن هنا تكمن صعوبة قراءته أيضا.
شولتز والمازوخية
الكثير من النقاد يشير إلى أن سطوة المرأة في قصص ورسومات شولتز تتكون من منطلق رمزي. ولكنني أرى أن المسألة ببساطة تنبع من دافع جنسي أولا، وقد يكون مرمّزا. رجال شولتز مازوخيون بامتياز. المرأة لديه ليست مسيطرة فقط، ولكنها عنصر إهانة، عنصر تقديس. في أدبه ورسوماته يُقبّـل الرجال أقدام المرأة ليس عن اشتهاء فقط ولكن عن تذلل، يخضعون لسيطرتها، تضربهم أحيانا بالسياط، تطؤهم حيث يتم رسمهم كأقزام مشوهة. شولتز يرمز للمرأة كعنصر ميثولوجي متجلي، حيث الجمال والقدسية الطبيعية المؤلّهة، بينما الرجال أقرب إلى الحيوانات الممسوخة التي تستمتع بإهانة المرأة لهم، تجد لذة في التذلل والخضوع. ربما يرمز إلى أسطرة المرأة كنوع من القدسية. ولكن منبع الحالة له عمق جنسي حاد جدا، لا يمكن إنكاره أو تجاوزه.
الترجمة
عن طريق الترجمة الإنجليزية الممتازة للمتخصصة في أدب شولتز Celina Wieniewska