نقوس المهدي
كاتب
[SIZE=6]رامي زيدان[/SIZE]
لغة الشيوخ الماجنة
يمكن قارئ أو عاشق الكتب التراثية الاسلامية والعربية التي تطرقت إلى مواضيع تخص الجنس واللذة والمتعة، أن يلاحظ جملة أمور مشتركة بين معظم هذه الكتب، سواء في اللغة العارية و"الماجنة" التي تتخطى كل محظور وتسمّي الأشياء بأسمائها، أو المواضيع "الفاحشة" التي تمزج الدنيا بالدين، والواقع بالحور العين. الأغرب من اللغة والمواضيع، أن معظم أصحاب هذه الكتب كانوا من رجال الدين والأئمة أو القضاة وآيات الله، وكتبهم إمّا موجهة إلى العوام وإما إلى السلاطين والأمراء والحكام. عدا الكتب المخصصة لـ"اللذات والمتع"، يندر ان يخلو كتاب تراثي، تاريخي أو أدبي، من مواضيع جنسية، وألفاظ نادراً ما تقال اليوم، وسنركز في هذه المقالة على الكتب الجنسية النثرية دون الشعرية.
حملت غالبية الكتب التراثية – الاسلامية التي تطرقت إلى ما يسمّى "الباه" باللغة القديمة، أو الجنس والإيروتيكا بلغة اليوم، عناوين تختزن دلالات على الربيع والتجدد والحياة والإنبعاث والولادة، مثل "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للعلاّمة الشيخ محمد النفزاوي و"تحفة العروس ومتعة النفوس" لمحمد بن أحمد التجاني، و"رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه" لابن كمال باشا، و"زهر الربيع" للشيخ الجزائري، و"نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب" لشهاب الدين أحمد التيفاشي، و"بستان الراغبين" لمحمد مصطفى العدوي، ومؤلفات جلال الدين السيوطي، مثل "الوشاح في فوائد النكاح"، و"شقائق الاترنج في رقائق الغنج" (معظم هذه الكتب صادرة لدى "دار الريس" ومنشورات "الجمل" ودور اخرى ومنتشرة على مواقع الإنترنت بنسخ مقرصنة).
شيوخ وسلاطين
صحيح أن هذه الكتب والمؤلفات تحمل تواقيع رجال دين وشيوخ وقضاة أنكحة، وأن بعضها كان موجهاً إلى السلطان او الحاكم، أو هي وُضعت بطلب منه، إلا أنها تعكس واقع التحولات الثقافية والاجتماعية في المجتمع الاسلامي، وصعود موجة الرقابة والمنع مع صعود موجة الانحطاط والترهل الثقافي، وربما صعود العقلية "الابن تيمية" المتصحرة وصولا الى الحداثة الأوروبية المهذبة. فالكتب التراثية الجنسية، التي كُتبت باللغة العربية، صرنا نكتشف ان مخطوطاتها طُبعت باللغات الأوروبية قبل العربية بسبب التغير في مزاجية السلاطين، وثمة جانب لافت في أن الكثير من هذه الكتب أتت من تونس، أو من التابعين للسلاطين العثمانيين حتى بلاد النيل وإيران وبلاد الرافدين. بمعنى آخر كانت لغة الجنس وآدابه منتشرة في مختلف الأمصار ولها روادها وعشاقها، وربما يتعاملون معها كأنها من ضمن اللغة المتداولة ولا يكتنفها التحريم والتابو اللذان سادا في زمننا بفعل التحولات وتمدد زعم العيب والعار في المجتمع.
لا شك في ان كل كتاب من الكتب التراثية يحتاج إلى دراسة مخصصة، نظرا إلى ما يحمله من دلالات وأفكار، وما يعكسه من ثقافات وانماط اجتماعية وجنسية قد تصدم المرء في هذه الأيام، من حيث اللغة أو من حيث الثقافة الجنسية التي كانت متبعة، سواء في زمن الجاهلية او في صدر الاسلام او في القصور او الأمكنة الحضارية والبدوية، وصولا الى ثقافة الجمال ومحاسن المرأة المرغوبة وسيئاتها.
ثمة معايير محددة في تصنيف جمال المرأة، وثمة عقلية محددة في النظرة الى شهوة المرأة أيضاً، وهي لا تنفصل عن منطق الذكورة الشرقية او الفحولة الجنسية التي تعتبر "عقل المرأة في فرجها"، وتستشيط في الحديث عن "كيد النساء" وشهواتهن المستفحلة والجامحة والمتوحشة التي قد يحسبها المرء عواصف، من شدة المبالغة في الحديث عنها. الجميل في الكتب التراثية الجنسية هي تلك اللغة التي تشكل مادة خاماً لإعادة تصنيعها أو التأسيس عليها في كتب جديدة وروايات، وخصوصا في وصف النساء وحكايتهن وحواراتهن وأشعارهن، وهي لغة مسلية بقدر ما هي فاتنة، وإن تضمنت في الكثير من المرات لغة سوقية أو لغة العالم السفلي الصادمة اليوم، التي لا يتجرأ على كتابتها إلا بعض الصعاليك معتبرين أنفسهم شجعاناً ومتجرئين على كل التابوات.
تحفة العروس
لنتأمل قليلاً في كتاب "تحفة العروس ومتعة النفوس" الذي يعتبر موسوعة في المرأة العربية زجّ فيها أبو عبد الله التجاني بطائفة من الحكايات والأخبار والنوادر والأحاديث والأشعار، وبمعلومات دينية وتاريخية ولغوية تخص المرأة جسداً وروحاً، عقلاً وقلباً. فالكتاب يزودنا لمحة من لمحات الحضارة العربية خلال نحو ألف سنة، من العصر الجاهلي حتى أيام المؤلف، فيه الطرافة والعظة والدروس، وفيه أخبار عن الخلفاء والأمراء والسفهاء والقضاة والمحدثين، وكذلك عن الزهّاد والأعراب والجواري والحمقى في المشرق والمغرب، فهو مرآة تجسد الماضي. يقول محقق الكتاب جليل العطية ان التجاني لم يذكر سبب تأليفه الكتاب، ويبدو أنه وضعه لأحد الأمراء الحفصيين في تونس اوائل القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وجعله في خمسة وعشرين باباً، وذكر أن السبب الذي دفعه إلى تأليفه يعود إلى أن "التلذذ بالنساء اعظم اللذات، وأن الله قدّمهن على سائر الشهوات، ولهذا رأى ان يجمع كتاباً في اخبارهن يجمع بين افادة العلم وامتاع النفوس، لقد وضع التجاني كتابه هذا بعقل فقيه، وقلب أديب".
"تحفة العروس" بحسب العطية ليس نصا خليعاً يُقرأ في السهرات أو الخلوات، فمؤلفه من ائمة المالكية، ولقد اعتمد على اكثر من مئة مصدر، اغلبها مفقود اليوم، والعجيب ان الغربيين اكتشفوا هذا الكتاب قبلنا، فلقد ترجم الى الفرنسية في العام 1848، كما تُرجم إلى الانلكيزية وغيرها من اللغات، ولم تصدر منه في العربية إلا طبعة رديئة في مصر عام 1881 قبل ان يحققه العطية.
الروض العاطر
أما كتاب "الروض العاطر" فقد ألفه النفزاوي قاضي الانكحة بناءً على طلب من السلطان عبد العزيز الحفصي سلطان تونس، وذلك لإثراء الكتاب الصغير، "تنوير الوقاع في أسرار الجماع"، للمؤلف نفسه. وكان هذا الكتاب يخاطب السلطان، ليس لضعفه بل لأن السلطان هو من طلب كتابته، وذلك واضح من بداية كل باب، في "اعلم يرحمك الله".
يقال إن حاكم تونس في ذلك الوقت كان ينوي أن يعهد إلى الشيخ النفزاوي بمنصب رئيس القضاء، لكن الشيخ لم يكن راغباً في تولي الوظيفة، فعندما قرأ الباي كتاب الشيخ عدل عن رأيه وأذعن لمشيئة الشيخ بعدما توصّل إلى استنتاج مفاده أن الشيخ لا يصلح لتقلد وظيفة القضاء ولا لأي وظيفة عامة أخرى. يقول الشيخ شارحاً ردّ فعل الباي على الكتاب: "بعد مرور ثلاثة أيام أتاني مولانا الباي وبيده الكتاب، وعندما رآني متوتّراً وخجلاً بعض الشيء قال: لا يجب أن تشعر بأيّ خجل أو حرج فكلّ ما ذكرته في هذا الكتاب ذو قيمة، وليس في ما كتبته ما يصدم أحداً. لكن فاتك شيء ما". عندما استفسرتُ عن مراده قال: "لقد كنت أفضّل أن تضيف إلى الكتاب ملحقاً تخصّصه للحديث عن كل مرض من الأمراض والاختلالات التي ذكرتها".
يفتتح "الروض العاطر" بدعاء "الحمد لله الذي جعل اللذة القصوى للرجل في الاعضاء الطبيعية للمرأة، وقدر ان تمنح الاعضاء الطبيعية للرجل المتعة القصوى للمرأة". لكن الكتاب، في سياقه اللاحق، ينفي ان تكون المرأة قادرة على الشعور باللذة الا اذا طاف بها الذكر، ويؤكد ان الرجل لا يعرف الراحة والهدوء ما لم يتحد بالمرأة. يواصل الكتاب عرض موضوعاته وقصصه المشابهة لحكايات "ألف ليلة وليلة". وبعد بحث موجز للخصائص البدنية التي تتطلع النساء الى توافرها لدى الرجال، يروي حكاية مفعمة بالتصوير الحي للمضاجعات التي تتم بين مهرّج البلاط وزوجة الوزير حمدونة التي تطارحه المتعة بالكفاءة نفسها، ثم يلي ذلك وصف لامرأة فاتنة، وقصة زنجي يسعى الى إغواء زوجة الوزير وتنتهي به الحال الى بتر أوصاله وإعدامه.
يقول الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي ان كتاب "الروض العاطر" ليس بالضبط نصاً خليعاً، كما يفهم الغرب الخلاعة على الأقل، أي كلاماً قذراً، لا قداسة له. انه تركيب خاضع لتقاطع مكثف بثلاثة قوانين، هي القانون الحمدلي، والقانون الحكائي، ثم ثالثاً القانون الرمزي. القانون الحمدلي يفتتح النص ويختمه. القانون الحكائي هو قانون النادرة والطرفة والمكيدة، ومحدد الكلام المتعارف عليه اثناء التحادث وجريان الزمن الحكائي، وهو الذي يزيّن حكمه، أو يطور حجة شبقية بأسلوب وظيفي. أما القانون الرمزي فهو الذي يدل على بلاغة اللعب بالكلمات. لنص النفزاوي خاصية نادرة (وهذا ما جعله شعبيا) تستند الى لغته السهلة التي تقلص المسافة بين الأدب الشفوي والأدب المكتوب، كما ان معرفة النفزاوي تعتمد على الطب الشعبي. وقد ركزت على الجانب الحسي في الموضوع، عارضة أحواله وأبوابه، مطعَّمةً بنظرات اجتماعية، ووصفات طبية علاجية، ومسوّغات دينية، مدوّنة في كتاب.
يُظهر الكتاب قدرة النفزاوي على توظيف الكلام في وصف الجنس، بل انه يختم الحكاية الجنسية بالحكمة المقدسة. بلاغته هي في معنى آخر مشرعنة. الأرجح ان معظم كتب الجنس العربي والاسلامي تبحث عن الشرعنة من خلال حديث نبوي أو آية قرآنية، ويعتقد بعض الدارسين أن بعض النسّاخ كانوا يزيدون بعض القصص الجنسية على كتاب "الروض العاضر" وينسبونها إلى النفزاوي خوفاً من رد الفعل، على نحو ما كان ينسب بعضهم الشعر الماجن الى أبي نواس.
نزهة الألباب
يقدم كتاب "نزهة الألباب" للشيخ التيفاشي (تحقيق جمال جمعة) الذي كان عالماً جليلاً وأديباً مؤرّخاً تولى منصب القضاء في تونس ومصر، مسحاً شاملاً للظواهر الجنسية، المتخفية منها والظاهرة في المجتمع الإسلامي حتى نهاية منتصف القرن السابع الهجري، متناولاً طبقات القوّادين والزناة واللوطيين والسحاقيات وأساليب عملهم وأفعالهم، بتركيز دؤوب قلّ أن يوجد مثله حتى في كتب التاريخ التقليدية الأخرى، جامعاً قدر الإمكان، أهم النصوص الشعرية والفكاهية السائدة آنذاك، التي لا تزال تحتفظ برونقها حتى الآن، مما أسبغ على رصانته مناخاً من المرح والفكاهة ينقله من كتاب جاد ورصين مدوّن بأسلوب أكاديمي بحت إلى كتاب متعة وتفكهة.
يمهد التيفاشي لأسباب كتابته هذا الكتاب من خلال ايراد بضعة احاديث عن نبي الاسلام والصحابة تتناول إباحتهم للفكاهة وتحبيذهم لها في الأوقات المناسبة. ثم يورد أخباراً ونوادر وأشعاراً لشخصيات تاريخية معروفة تدور حول الشأن نفسه. ما ينطبق على "الروض العاطر" ينطبق على "نزهة الألباب" وإن اختلفت بعض المواضيع. في المقابل يبدو كتاب "رجوع الشيخ الى صباه" كأنه مثل الحبة الزرقاء (فياغرا) كتبه المولى أحمد سليمان الشهير بـابن كمال باشا المتوفى سنة 940 للهجرة بإشارة من السلطان سليم. في الكتاب يتحفظ المعدّ على الرغم من جرأته، ويكتب مبرئاً نفسه: "ولم أقصد بتأليفه كثرة الفساد، ولا طلب الإثم، ولا إعانة المتمتع الذي يرتكب المعاصي ويستحلّ ما حرّم الله تعالى، بل قصدت به إعانة من قصرت شهوته عن بلوغ أمنيته في الحلال الذي هو سبب لعمارة الدنيا بكثرة النسل، لقول الرسول الكريم: "تناكحوا، تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة". هكذا يتحول قول للنبي أو آية قرأنية مفتاحاً لتدوين الكثير من الأمور غير المتوقعة. حبذا لو يدرك "المتدينون الجدد" ذلك، ويلجأون الى التأويل الديني في البحث عن اجتهادات جديدة تخرج النص الديني من دائرة القوقعة والأقفال التي تجعله جامدا ومحنطا في ماضيه أو زمانه.
زهر الربيع
كتاب "زهر الربيع" المنسوب لآية الله نعمة الله الجزائري، هو كتاب جنسي بغلاف ديني، علّق الكثيرون بأنه لا يمكن أن يُنسب إلى السيد الجزائري لأنه كتاب إباحي، فهو، في رأي هؤلاء، تلفيق أدخله المدلسون لتشويه صورة هذا العالم الرباني. هناك رأي آخر مفاده أن أفكار المتصوفة انتشرت في قم بين الرجال، في زمن صاحب "زهر الربيع"، فأتت مجموعة من النسوة المتضررات من هجر أزواجهن لهن واشتكين الحال إلى آية الله، فما كان منه إلا أن جمع هذه الأخبار المغرية من كتب عدة وأضاف إليها بعض الأقوال التي تقدح في عقيدة المتصوفة.
أما السيوطي فكان إماماً وقد ألّف "الاتقان في علوم القرآن" و"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" وعشرات من كتب الفقه والسنة، وتحدث عن الغنج وهو الهمهمات والكلام الذي يصدر عن المرأة اثناء عملية الجماع فوضع كتاباً كاملا في ذلك عنوانه "شقائق الاترنج في رقائق الغنج" ولقد كتبه ردا على سؤال: هل الغنج جائز شرعاً؟ وقد استمد مادة كتابه من مؤلفات الذين سبقوه وعرض فيه الى جانب المختارات الشعرية لآراء الفقهاء عن الغنج، الغزالي في كتابه "احياء علوم الدين"، والتجاني في كتابه "تحفة العروس"، والزمخشري في "ربيع الابرار"، وأبي الفرج الأصفهاني في "الاغاني"، مركّزاً على رواياتهم واستشهاداتهم من كتب الحديث عن الغنج واهميته للرجل واستمتاع المرأة به في حالة الجماع.
ينسب إلى السيوطي تأليف كتاب "تفسير الجماع"، ومما فيه دعاء "الحمد لله الذي زيّن صدور العذارى بالنهود..." يذكر المؤلف ما قالته العرب من اسماء عضو الرجل وعضو المرأة، وهي تبدو مضحكة اذ ما قرأها المرء اليوم، وعلى رغم ان كتاب السيوطي عن الجنس بطرفيه، الرجل والمرأة، الا انه يركز كثيراً على المرأة الكاملة الأوصاف، ويذكر في كتابه "الكنز المدفون": "قال بعض العرب: أفضل النساء اطولهن اذا قامت وأعظمهن اذا نامت".
النافل ان كثيرين من الباحثين حاولوا إنكار مؤلفات السيوطي ومنهم من اعتبرها "تافهة" وصنّفها آخرون في باب "الفحش والمجون" واستخدمها البعض ضد الجلال لينزله من مرتبته كعالم من علماء الأمة. تزخر المواقع الالكترونية في التفسيرات والتأويلات حول شخصية السيوطي وكتبه وأفكاره، وهناك اتهامات موجهة إليه لا تُعدّ ولا تحصى.
تقدم النصوص التراثية العربية والاسلامية جوانب معرفية في الجنس والحياة والعلاقات الإنسانية، والمهم فيها ان كتّابها كانوا يدوّنونها من دون مواربة أو اللجوء الى الإيحاء، والملاحظ أن هذه اللغة غابت عن النصوص العربية الحديثة باستثناء بعض القصائد المحظورة وغير المنشورة، ويرجح أن يكون الكتّاب العرب قد توقفوا عن مثل هذه الكتابة بعدما تأثروا بالحداثة الأوروبية ولغتها التي ساهمت في تشذيب النصوص الجديدة من المواضيع الماجنة. وللحديث صلة...
.
لغة الشيوخ الماجنة
يمكن قارئ أو عاشق الكتب التراثية الاسلامية والعربية التي تطرقت إلى مواضيع تخص الجنس واللذة والمتعة، أن يلاحظ جملة أمور مشتركة بين معظم هذه الكتب، سواء في اللغة العارية و"الماجنة" التي تتخطى كل محظور وتسمّي الأشياء بأسمائها، أو المواضيع "الفاحشة" التي تمزج الدنيا بالدين، والواقع بالحور العين. الأغرب من اللغة والمواضيع، أن معظم أصحاب هذه الكتب كانوا من رجال الدين والأئمة أو القضاة وآيات الله، وكتبهم إمّا موجهة إلى العوام وإما إلى السلاطين والأمراء والحكام. عدا الكتب المخصصة لـ"اللذات والمتع"، يندر ان يخلو كتاب تراثي، تاريخي أو أدبي، من مواضيع جنسية، وألفاظ نادراً ما تقال اليوم، وسنركز في هذه المقالة على الكتب الجنسية النثرية دون الشعرية.
حملت غالبية الكتب التراثية – الاسلامية التي تطرقت إلى ما يسمّى "الباه" باللغة القديمة، أو الجنس والإيروتيكا بلغة اليوم، عناوين تختزن دلالات على الربيع والتجدد والحياة والإنبعاث والولادة، مثل "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للعلاّمة الشيخ محمد النفزاوي و"تحفة العروس ومتعة النفوس" لمحمد بن أحمد التجاني، و"رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه" لابن كمال باشا، و"زهر الربيع" للشيخ الجزائري، و"نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب" لشهاب الدين أحمد التيفاشي، و"بستان الراغبين" لمحمد مصطفى العدوي، ومؤلفات جلال الدين السيوطي، مثل "الوشاح في فوائد النكاح"، و"شقائق الاترنج في رقائق الغنج" (معظم هذه الكتب صادرة لدى "دار الريس" ومنشورات "الجمل" ودور اخرى ومنتشرة على مواقع الإنترنت بنسخ مقرصنة).
شيوخ وسلاطين
صحيح أن هذه الكتب والمؤلفات تحمل تواقيع رجال دين وشيوخ وقضاة أنكحة، وأن بعضها كان موجهاً إلى السلطان او الحاكم، أو هي وُضعت بطلب منه، إلا أنها تعكس واقع التحولات الثقافية والاجتماعية في المجتمع الاسلامي، وصعود موجة الرقابة والمنع مع صعود موجة الانحطاط والترهل الثقافي، وربما صعود العقلية "الابن تيمية" المتصحرة وصولا الى الحداثة الأوروبية المهذبة. فالكتب التراثية الجنسية، التي كُتبت باللغة العربية، صرنا نكتشف ان مخطوطاتها طُبعت باللغات الأوروبية قبل العربية بسبب التغير في مزاجية السلاطين، وثمة جانب لافت في أن الكثير من هذه الكتب أتت من تونس، أو من التابعين للسلاطين العثمانيين حتى بلاد النيل وإيران وبلاد الرافدين. بمعنى آخر كانت لغة الجنس وآدابه منتشرة في مختلف الأمصار ولها روادها وعشاقها، وربما يتعاملون معها كأنها من ضمن اللغة المتداولة ولا يكتنفها التحريم والتابو اللذان سادا في زمننا بفعل التحولات وتمدد زعم العيب والعار في المجتمع.
لا شك في ان كل كتاب من الكتب التراثية يحتاج إلى دراسة مخصصة، نظرا إلى ما يحمله من دلالات وأفكار، وما يعكسه من ثقافات وانماط اجتماعية وجنسية قد تصدم المرء في هذه الأيام، من حيث اللغة أو من حيث الثقافة الجنسية التي كانت متبعة، سواء في زمن الجاهلية او في صدر الاسلام او في القصور او الأمكنة الحضارية والبدوية، وصولا الى ثقافة الجمال ومحاسن المرأة المرغوبة وسيئاتها.
ثمة معايير محددة في تصنيف جمال المرأة، وثمة عقلية محددة في النظرة الى شهوة المرأة أيضاً، وهي لا تنفصل عن منطق الذكورة الشرقية او الفحولة الجنسية التي تعتبر "عقل المرأة في فرجها"، وتستشيط في الحديث عن "كيد النساء" وشهواتهن المستفحلة والجامحة والمتوحشة التي قد يحسبها المرء عواصف، من شدة المبالغة في الحديث عنها. الجميل في الكتب التراثية الجنسية هي تلك اللغة التي تشكل مادة خاماً لإعادة تصنيعها أو التأسيس عليها في كتب جديدة وروايات، وخصوصا في وصف النساء وحكايتهن وحواراتهن وأشعارهن، وهي لغة مسلية بقدر ما هي فاتنة، وإن تضمنت في الكثير من المرات لغة سوقية أو لغة العالم السفلي الصادمة اليوم، التي لا يتجرأ على كتابتها إلا بعض الصعاليك معتبرين أنفسهم شجعاناً ومتجرئين على كل التابوات.
تحفة العروس
لنتأمل قليلاً في كتاب "تحفة العروس ومتعة النفوس" الذي يعتبر موسوعة في المرأة العربية زجّ فيها أبو عبد الله التجاني بطائفة من الحكايات والأخبار والنوادر والأحاديث والأشعار، وبمعلومات دينية وتاريخية ولغوية تخص المرأة جسداً وروحاً، عقلاً وقلباً. فالكتاب يزودنا لمحة من لمحات الحضارة العربية خلال نحو ألف سنة، من العصر الجاهلي حتى أيام المؤلف، فيه الطرافة والعظة والدروس، وفيه أخبار عن الخلفاء والأمراء والسفهاء والقضاة والمحدثين، وكذلك عن الزهّاد والأعراب والجواري والحمقى في المشرق والمغرب، فهو مرآة تجسد الماضي. يقول محقق الكتاب جليل العطية ان التجاني لم يذكر سبب تأليفه الكتاب، ويبدو أنه وضعه لأحد الأمراء الحفصيين في تونس اوائل القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وجعله في خمسة وعشرين باباً، وذكر أن السبب الذي دفعه إلى تأليفه يعود إلى أن "التلذذ بالنساء اعظم اللذات، وأن الله قدّمهن على سائر الشهوات، ولهذا رأى ان يجمع كتاباً في اخبارهن يجمع بين افادة العلم وامتاع النفوس، لقد وضع التجاني كتابه هذا بعقل فقيه، وقلب أديب".
"تحفة العروس" بحسب العطية ليس نصا خليعاً يُقرأ في السهرات أو الخلوات، فمؤلفه من ائمة المالكية، ولقد اعتمد على اكثر من مئة مصدر، اغلبها مفقود اليوم، والعجيب ان الغربيين اكتشفوا هذا الكتاب قبلنا، فلقد ترجم الى الفرنسية في العام 1848، كما تُرجم إلى الانلكيزية وغيرها من اللغات، ولم تصدر منه في العربية إلا طبعة رديئة في مصر عام 1881 قبل ان يحققه العطية.
الروض العاطر
أما كتاب "الروض العاطر" فقد ألفه النفزاوي قاضي الانكحة بناءً على طلب من السلطان عبد العزيز الحفصي سلطان تونس، وذلك لإثراء الكتاب الصغير، "تنوير الوقاع في أسرار الجماع"، للمؤلف نفسه. وكان هذا الكتاب يخاطب السلطان، ليس لضعفه بل لأن السلطان هو من طلب كتابته، وذلك واضح من بداية كل باب، في "اعلم يرحمك الله".
يقال إن حاكم تونس في ذلك الوقت كان ينوي أن يعهد إلى الشيخ النفزاوي بمنصب رئيس القضاء، لكن الشيخ لم يكن راغباً في تولي الوظيفة، فعندما قرأ الباي كتاب الشيخ عدل عن رأيه وأذعن لمشيئة الشيخ بعدما توصّل إلى استنتاج مفاده أن الشيخ لا يصلح لتقلد وظيفة القضاء ولا لأي وظيفة عامة أخرى. يقول الشيخ شارحاً ردّ فعل الباي على الكتاب: "بعد مرور ثلاثة أيام أتاني مولانا الباي وبيده الكتاب، وعندما رآني متوتّراً وخجلاً بعض الشيء قال: لا يجب أن تشعر بأيّ خجل أو حرج فكلّ ما ذكرته في هذا الكتاب ذو قيمة، وليس في ما كتبته ما يصدم أحداً. لكن فاتك شيء ما". عندما استفسرتُ عن مراده قال: "لقد كنت أفضّل أن تضيف إلى الكتاب ملحقاً تخصّصه للحديث عن كل مرض من الأمراض والاختلالات التي ذكرتها".
يفتتح "الروض العاطر" بدعاء "الحمد لله الذي جعل اللذة القصوى للرجل في الاعضاء الطبيعية للمرأة، وقدر ان تمنح الاعضاء الطبيعية للرجل المتعة القصوى للمرأة". لكن الكتاب، في سياقه اللاحق، ينفي ان تكون المرأة قادرة على الشعور باللذة الا اذا طاف بها الذكر، ويؤكد ان الرجل لا يعرف الراحة والهدوء ما لم يتحد بالمرأة. يواصل الكتاب عرض موضوعاته وقصصه المشابهة لحكايات "ألف ليلة وليلة". وبعد بحث موجز للخصائص البدنية التي تتطلع النساء الى توافرها لدى الرجال، يروي حكاية مفعمة بالتصوير الحي للمضاجعات التي تتم بين مهرّج البلاط وزوجة الوزير حمدونة التي تطارحه المتعة بالكفاءة نفسها، ثم يلي ذلك وصف لامرأة فاتنة، وقصة زنجي يسعى الى إغواء زوجة الوزير وتنتهي به الحال الى بتر أوصاله وإعدامه.
يقول الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي ان كتاب "الروض العاطر" ليس بالضبط نصاً خليعاً، كما يفهم الغرب الخلاعة على الأقل، أي كلاماً قذراً، لا قداسة له. انه تركيب خاضع لتقاطع مكثف بثلاثة قوانين، هي القانون الحمدلي، والقانون الحكائي، ثم ثالثاً القانون الرمزي. القانون الحمدلي يفتتح النص ويختمه. القانون الحكائي هو قانون النادرة والطرفة والمكيدة، ومحدد الكلام المتعارف عليه اثناء التحادث وجريان الزمن الحكائي، وهو الذي يزيّن حكمه، أو يطور حجة شبقية بأسلوب وظيفي. أما القانون الرمزي فهو الذي يدل على بلاغة اللعب بالكلمات. لنص النفزاوي خاصية نادرة (وهذا ما جعله شعبيا) تستند الى لغته السهلة التي تقلص المسافة بين الأدب الشفوي والأدب المكتوب، كما ان معرفة النفزاوي تعتمد على الطب الشعبي. وقد ركزت على الجانب الحسي في الموضوع، عارضة أحواله وأبوابه، مطعَّمةً بنظرات اجتماعية، ووصفات طبية علاجية، ومسوّغات دينية، مدوّنة في كتاب.
يُظهر الكتاب قدرة النفزاوي على توظيف الكلام في وصف الجنس، بل انه يختم الحكاية الجنسية بالحكمة المقدسة. بلاغته هي في معنى آخر مشرعنة. الأرجح ان معظم كتب الجنس العربي والاسلامي تبحث عن الشرعنة من خلال حديث نبوي أو آية قرآنية، ويعتقد بعض الدارسين أن بعض النسّاخ كانوا يزيدون بعض القصص الجنسية على كتاب "الروض العاضر" وينسبونها إلى النفزاوي خوفاً من رد الفعل، على نحو ما كان ينسب بعضهم الشعر الماجن الى أبي نواس.
نزهة الألباب
يقدم كتاب "نزهة الألباب" للشيخ التيفاشي (تحقيق جمال جمعة) الذي كان عالماً جليلاً وأديباً مؤرّخاً تولى منصب القضاء في تونس ومصر، مسحاً شاملاً للظواهر الجنسية، المتخفية منها والظاهرة في المجتمع الإسلامي حتى نهاية منتصف القرن السابع الهجري، متناولاً طبقات القوّادين والزناة واللوطيين والسحاقيات وأساليب عملهم وأفعالهم، بتركيز دؤوب قلّ أن يوجد مثله حتى في كتب التاريخ التقليدية الأخرى، جامعاً قدر الإمكان، أهم النصوص الشعرية والفكاهية السائدة آنذاك، التي لا تزال تحتفظ برونقها حتى الآن، مما أسبغ على رصانته مناخاً من المرح والفكاهة ينقله من كتاب جاد ورصين مدوّن بأسلوب أكاديمي بحت إلى كتاب متعة وتفكهة.
يمهد التيفاشي لأسباب كتابته هذا الكتاب من خلال ايراد بضعة احاديث عن نبي الاسلام والصحابة تتناول إباحتهم للفكاهة وتحبيذهم لها في الأوقات المناسبة. ثم يورد أخباراً ونوادر وأشعاراً لشخصيات تاريخية معروفة تدور حول الشأن نفسه. ما ينطبق على "الروض العاطر" ينطبق على "نزهة الألباب" وإن اختلفت بعض المواضيع. في المقابل يبدو كتاب "رجوع الشيخ الى صباه" كأنه مثل الحبة الزرقاء (فياغرا) كتبه المولى أحمد سليمان الشهير بـابن كمال باشا المتوفى سنة 940 للهجرة بإشارة من السلطان سليم. في الكتاب يتحفظ المعدّ على الرغم من جرأته، ويكتب مبرئاً نفسه: "ولم أقصد بتأليفه كثرة الفساد، ولا طلب الإثم، ولا إعانة المتمتع الذي يرتكب المعاصي ويستحلّ ما حرّم الله تعالى، بل قصدت به إعانة من قصرت شهوته عن بلوغ أمنيته في الحلال الذي هو سبب لعمارة الدنيا بكثرة النسل، لقول الرسول الكريم: "تناكحوا، تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة". هكذا يتحول قول للنبي أو آية قرأنية مفتاحاً لتدوين الكثير من الأمور غير المتوقعة. حبذا لو يدرك "المتدينون الجدد" ذلك، ويلجأون الى التأويل الديني في البحث عن اجتهادات جديدة تخرج النص الديني من دائرة القوقعة والأقفال التي تجعله جامدا ومحنطا في ماضيه أو زمانه.
زهر الربيع
كتاب "زهر الربيع" المنسوب لآية الله نعمة الله الجزائري، هو كتاب جنسي بغلاف ديني، علّق الكثيرون بأنه لا يمكن أن يُنسب إلى السيد الجزائري لأنه كتاب إباحي، فهو، في رأي هؤلاء، تلفيق أدخله المدلسون لتشويه صورة هذا العالم الرباني. هناك رأي آخر مفاده أن أفكار المتصوفة انتشرت في قم بين الرجال، في زمن صاحب "زهر الربيع"، فأتت مجموعة من النسوة المتضررات من هجر أزواجهن لهن واشتكين الحال إلى آية الله، فما كان منه إلا أن جمع هذه الأخبار المغرية من كتب عدة وأضاف إليها بعض الأقوال التي تقدح في عقيدة المتصوفة.
أما السيوطي فكان إماماً وقد ألّف "الاتقان في علوم القرآن" و"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" وعشرات من كتب الفقه والسنة، وتحدث عن الغنج وهو الهمهمات والكلام الذي يصدر عن المرأة اثناء عملية الجماع فوضع كتاباً كاملا في ذلك عنوانه "شقائق الاترنج في رقائق الغنج" ولقد كتبه ردا على سؤال: هل الغنج جائز شرعاً؟ وقد استمد مادة كتابه من مؤلفات الذين سبقوه وعرض فيه الى جانب المختارات الشعرية لآراء الفقهاء عن الغنج، الغزالي في كتابه "احياء علوم الدين"، والتجاني في كتابه "تحفة العروس"، والزمخشري في "ربيع الابرار"، وأبي الفرج الأصفهاني في "الاغاني"، مركّزاً على رواياتهم واستشهاداتهم من كتب الحديث عن الغنج واهميته للرجل واستمتاع المرأة به في حالة الجماع.
ينسب إلى السيوطي تأليف كتاب "تفسير الجماع"، ومما فيه دعاء "الحمد لله الذي زيّن صدور العذارى بالنهود..." يذكر المؤلف ما قالته العرب من اسماء عضو الرجل وعضو المرأة، وهي تبدو مضحكة اذ ما قرأها المرء اليوم، وعلى رغم ان كتاب السيوطي عن الجنس بطرفيه، الرجل والمرأة، الا انه يركز كثيراً على المرأة الكاملة الأوصاف، ويذكر في كتابه "الكنز المدفون": "قال بعض العرب: أفضل النساء اطولهن اذا قامت وأعظمهن اذا نامت".
النافل ان كثيرين من الباحثين حاولوا إنكار مؤلفات السيوطي ومنهم من اعتبرها "تافهة" وصنّفها آخرون في باب "الفحش والمجون" واستخدمها البعض ضد الجلال لينزله من مرتبته كعالم من علماء الأمة. تزخر المواقع الالكترونية في التفسيرات والتأويلات حول شخصية السيوطي وكتبه وأفكاره، وهناك اتهامات موجهة إليه لا تُعدّ ولا تحصى.
تقدم النصوص التراثية العربية والاسلامية جوانب معرفية في الجنس والحياة والعلاقات الإنسانية، والمهم فيها ان كتّابها كانوا يدوّنونها من دون مواربة أو اللجوء الى الإيحاء، والملاحظ أن هذه اللغة غابت عن النصوص العربية الحديثة باستثناء بعض القصائد المحظورة وغير المنشورة، ويرجح أن يكون الكتّاب العرب قد توقفوا عن مثل هذه الكتابة بعدما تأثروا بالحداثة الأوروبية ولغتها التي ساهمت في تشذيب النصوص الجديدة من المواضيع الماجنة. وللحديث صلة...
.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: