جبران الشداني
كاتب
إذا كان تناول الجنس في بُعده اللغوي "أفضل مدخل لفهم المخيال الجنسي الإسلامي، على ما يقول ابن السَمْساني، وخاصة في ما يتعلق منه بفنّ الجماع، بصفته جزءاً لا يتجزأ من مسألة الحب"، فإن موسوعة "الجنس عند العرب"، التي تصدر أجزاؤها تباعاً لدى "منشورات الجمل"، تشكّل أحسن
النماذج لمؤلفات ضاع أكثرها، وبقي بعضها الآخر مخطوطاً، لا يعرف طريقاً الى النشر، بسبب حشمة زائفة، مارستها رقابة سوداء، لم تعرفها حتى تلك العصور التي اتفقنا على تسميتها "عصور الانحطاط"، والتي عاش فيها مولانا الشيخ جلال الدين السيوطي، مؤلف الكتاب الذي بين أيدينا، وهو الرابع في السلسلة، ويحمل اسم "في الجماع وآلاته" (حقّقه وعلّق عليه وقدّم له وصنع فهارسه فرج الحوار). هذا الكتاب، وهو المعجم الجنسي الوحيد من نوعه عربياً بعدما ضاعت كل الكتب التي في معناه، بما في ذلك الكتاب الذي صنّفه الفيروزابادي، مأخوذ من كتاب "الوشاح في فوائد النكاح"، الباب الثاني منه تحديداً، والموسوم بـ "فن اللغة"، ويحتوي على أقسام أربعة، هي على التوالي: في أسماء النكاح، في أسماء الذَكَر، في أسماء الفرج، في اللغات المتعلّقة بأفعال الجماع. تكمن قيمة هذا المصنَّف، إضافة إلى أنه حفظ لنا جزءاً مهماً من كتاب ابن القطّاع الضائع في أسماء الباه، في كونه معجماً مختصّاً بأتمّ معنى الكلمة، لجهة مزجه بين فنّين متمايزين من فنون التأليف اللغوي: خلق الإنسان والأفعال، بحيث جمع بين الفعل والآلة التي تضطلع بهذا الفعل. السيوطي هو من أبرز الذين عُرفوا بـ"فقهاء الحبّ"، ومنهم: الوشّاء صاحب "الموشّى"، وابن حزم واضع "طوق اليمامة"، والتيفاشي صاحب "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب"، و"رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه"، والشيخ النفزاوي صاحب "الروض العاطر في نزهة الخاطر".
عاش السيوطي في أواخر عصر المماليك البرجيّة، أو الجراكسة، وهو عهد غلب عليه الاضطراب من جرّاء الفتن والمؤامرات التي أودت بحياة سلاطين عدة. وقد تميّزت هذه الفترة بكثرة مصنّفي الموسوعات القيّمة: ابن منظور، القلقشندي، النويري...الخ. منذ سن الأربعين انقطع إلى العبادة والتأليف، تاركاً الإفتاء والتدريس، واضعاً ثلاثمئة كتاب في التفسير، والقراءات، والحديث، والفقه، والأجزاء المفردة، والعربية، والآداب سوى ما تاب عنها وغسلها (لله الحمد أنه لم يتب عن كتابه هذا). ويبدو أن هاتين الوفرة والغزارة في التأليف انطلقتا من إحدى قصائده (معظم شعره ظلّ في مجال الأحكام الشرعية والفائدة العلمية) التي يقول فيها: "أسرع أخا العلم في ثلاث:/ الأكل والمشي والكتابه". لقد أسرع شيخنا في الكتابة، فلم يترك أرضاً فيها لم تطأها قدماه. أما في خصوص مؤلفاته المتصلة بموضوع الجنس فهي أربعة عشر، نُشر بعضها، وبقي البعض الآخر مخطوطاً. نذكر منها: "الإفصاح في أسماء النكاح"، "الزنجبيل القاطع في وطء ذات البراقع"، "المُستظرَفة في أحكام دخول الحَشَفَة".
يقول السيوطي إن أسماء الجماع عددها أربعمئة، قبل أن يزيد، فينقل عن ابن القطاع أن عددها ثلاثة وثمانون وألف اسم. وما يعجب المرء له هذا الغنى في "إقامة" الأسماء لأبسط الحركات الجنسية، وأرهف الأصوات أثناء عملية الجماع. وهنا لا بدّ من ملاحظة ندرة صيغة المشاركة في أبنية الأفعال الدالة على الجماع، وتواتر التركيب المكوَّن من فعل وفاعل ومفعول، يضطلع فيها المذكّر دوماً بوظيفة الفاعل، حتى عندما يتعلّق الأمر بأفعال تقوم أساساً على المشاركة، كما هي الحال مثلاً مع التقبيل والترشّف والمداعبة والملاعبة. أيضاً، ارتباط دلالات أكثر الأفعال تردّداً بمفاهيم العنف والإيذاء والتسلط واختزال المرأة في وظيفة الإمتاع، وهو ما يُفسِّر غيابها ككائن يعي ويرغب. في هذا المعنى يقول أحد الباحثين، معلّقاً على المادة اللغوية المتصلة بموضوع المرأة في "لسان العرب"، إن المرأة فيه مجرّد طرف منفعل ومفعول به، وليس طرفاً فاعلاً. يتضح ذلك من خلال أكثر من أربعين فعلاً للعملية الجنسية يتصدّر فيها الرجل فحلاً بعلاً، وترقد فيها المرأة ممعوسة مداسة، مأكولة متعلَّلاً بها. بعد ذلك، يأتي "التفنن" الذكوري، ليس في فهم التمتّع بالمرأة فحسب، وإنما أيضاً في سبل تحقيق ذلك، سواء مع الإماء، أو السبايا، أو الزوجات العديدات.
الحاصل أن قارئاً لن يجد متعة في هذا الكتاب تضاهي قراءة الشواهد الشعرية (جزء مهم من هذه الشواهد، وخصوصاً ما قيل منها في وصف الهَنِ، منسوب إلى النساء)، والمقصود منها بالطبع توضيح اللفظ، وتوكيده. ومن هذه الشواهد الكثيرة، والطريفة، ما قيل في الكناية عن الجارية المشتهية للتحميض (أي أن يأتي الرجلُ المرأةَ في دبرها): هي مالكية، لما رُوي عن أنس بن مالك من إباحة ذلك. قال هُمام القاضي يمدح المالكية:
"ومذعورةٍ جاءت على غير موعدٍ = تقنَّصتُها، والنجم قد كاد يطلعُ
فقلتُ لها لمّا استمرّ حديثها = ونفسي إلى أشياء منها تطلَّعُ
أبيني لنا، هل تؤمنين بمالكٍ؟ = فإني بحبّ المالكية مولعُ
فقالت: نعم، إني أدين بدينه، = ومذهبه عدلٌ لديّ ومقنعُ
فبتنا إلى الإصباح ندعو لمالكٍ = ونؤثر فُتياه احتساباً، ونتبعُ".
النماذج لمؤلفات ضاع أكثرها، وبقي بعضها الآخر مخطوطاً، لا يعرف طريقاً الى النشر، بسبب حشمة زائفة، مارستها رقابة سوداء، لم تعرفها حتى تلك العصور التي اتفقنا على تسميتها "عصور الانحطاط"، والتي عاش فيها مولانا الشيخ جلال الدين السيوطي، مؤلف الكتاب الذي بين أيدينا، وهو الرابع في السلسلة، ويحمل اسم "في الجماع وآلاته" (حقّقه وعلّق عليه وقدّم له وصنع فهارسه فرج الحوار). هذا الكتاب، وهو المعجم الجنسي الوحيد من نوعه عربياً بعدما ضاعت كل الكتب التي في معناه، بما في ذلك الكتاب الذي صنّفه الفيروزابادي، مأخوذ من كتاب "الوشاح في فوائد النكاح"، الباب الثاني منه تحديداً، والموسوم بـ "فن اللغة"، ويحتوي على أقسام أربعة، هي على التوالي: في أسماء النكاح، في أسماء الذَكَر، في أسماء الفرج، في اللغات المتعلّقة بأفعال الجماع. تكمن قيمة هذا المصنَّف، إضافة إلى أنه حفظ لنا جزءاً مهماً من كتاب ابن القطّاع الضائع في أسماء الباه، في كونه معجماً مختصّاً بأتمّ معنى الكلمة، لجهة مزجه بين فنّين متمايزين من فنون التأليف اللغوي: خلق الإنسان والأفعال، بحيث جمع بين الفعل والآلة التي تضطلع بهذا الفعل. السيوطي هو من أبرز الذين عُرفوا بـ"فقهاء الحبّ"، ومنهم: الوشّاء صاحب "الموشّى"، وابن حزم واضع "طوق اليمامة"، والتيفاشي صاحب "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب"، و"رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه"، والشيخ النفزاوي صاحب "الروض العاطر في نزهة الخاطر".
عاش السيوطي في أواخر عصر المماليك البرجيّة، أو الجراكسة، وهو عهد غلب عليه الاضطراب من جرّاء الفتن والمؤامرات التي أودت بحياة سلاطين عدة. وقد تميّزت هذه الفترة بكثرة مصنّفي الموسوعات القيّمة: ابن منظور، القلقشندي، النويري...الخ. منذ سن الأربعين انقطع إلى العبادة والتأليف، تاركاً الإفتاء والتدريس، واضعاً ثلاثمئة كتاب في التفسير، والقراءات، والحديث، والفقه، والأجزاء المفردة، والعربية، والآداب سوى ما تاب عنها وغسلها (لله الحمد أنه لم يتب عن كتابه هذا). ويبدو أن هاتين الوفرة والغزارة في التأليف انطلقتا من إحدى قصائده (معظم شعره ظلّ في مجال الأحكام الشرعية والفائدة العلمية) التي يقول فيها: "أسرع أخا العلم في ثلاث:/ الأكل والمشي والكتابه". لقد أسرع شيخنا في الكتابة، فلم يترك أرضاً فيها لم تطأها قدماه. أما في خصوص مؤلفاته المتصلة بموضوع الجنس فهي أربعة عشر، نُشر بعضها، وبقي البعض الآخر مخطوطاً. نذكر منها: "الإفصاح في أسماء النكاح"، "الزنجبيل القاطع في وطء ذات البراقع"، "المُستظرَفة في أحكام دخول الحَشَفَة".
يقول السيوطي إن أسماء الجماع عددها أربعمئة، قبل أن يزيد، فينقل عن ابن القطاع أن عددها ثلاثة وثمانون وألف اسم. وما يعجب المرء له هذا الغنى في "إقامة" الأسماء لأبسط الحركات الجنسية، وأرهف الأصوات أثناء عملية الجماع. وهنا لا بدّ من ملاحظة ندرة صيغة المشاركة في أبنية الأفعال الدالة على الجماع، وتواتر التركيب المكوَّن من فعل وفاعل ومفعول، يضطلع فيها المذكّر دوماً بوظيفة الفاعل، حتى عندما يتعلّق الأمر بأفعال تقوم أساساً على المشاركة، كما هي الحال مثلاً مع التقبيل والترشّف والمداعبة والملاعبة. أيضاً، ارتباط دلالات أكثر الأفعال تردّداً بمفاهيم العنف والإيذاء والتسلط واختزال المرأة في وظيفة الإمتاع، وهو ما يُفسِّر غيابها ككائن يعي ويرغب. في هذا المعنى يقول أحد الباحثين، معلّقاً على المادة اللغوية المتصلة بموضوع المرأة في "لسان العرب"، إن المرأة فيه مجرّد طرف منفعل ومفعول به، وليس طرفاً فاعلاً. يتضح ذلك من خلال أكثر من أربعين فعلاً للعملية الجنسية يتصدّر فيها الرجل فحلاً بعلاً، وترقد فيها المرأة ممعوسة مداسة، مأكولة متعلَّلاً بها. بعد ذلك، يأتي "التفنن" الذكوري، ليس في فهم التمتّع بالمرأة فحسب، وإنما أيضاً في سبل تحقيق ذلك، سواء مع الإماء، أو السبايا، أو الزوجات العديدات.
الحاصل أن قارئاً لن يجد متعة في هذا الكتاب تضاهي قراءة الشواهد الشعرية (جزء مهم من هذه الشواهد، وخصوصاً ما قيل منها في وصف الهَنِ، منسوب إلى النساء)، والمقصود منها بالطبع توضيح اللفظ، وتوكيده. ومن هذه الشواهد الكثيرة، والطريفة، ما قيل في الكناية عن الجارية المشتهية للتحميض (أي أن يأتي الرجلُ المرأةَ في دبرها): هي مالكية، لما رُوي عن أنس بن مالك من إباحة ذلك. قال هُمام القاضي يمدح المالكية:
"ومذعورةٍ جاءت على غير موعدٍ = تقنَّصتُها، والنجم قد كاد يطلعُ
فقلتُ لها لمّا استمرّ حديثها = ونفسي إلى أشياء منها تطلَّعُ
أبيني لنا، هل تؤمنين بمالكٍ؟ = فإني بحبّ المالكية مولعُ
فقالت: نعم، إني أدين بدينه، = ومذهبه عدلٌ لديّ ومقنعُ
فبتنا إلى الإصباح ندعو لمالكٍ = ونؤثر فُتياه احتساباً، ونتبعُ".