نقوس المهدي
كاتب
نبذة قصيرة عن الكاتب و الكتاب
ولد ابن حزم الأندلسي في قرطبة و ترعرع منذ نعومة أظافره حتى بلغ ريعان شبابه بين يدى الجوارى و من ثم هاجر إلى إحدى مدن الأندلس تدعى شاطبة ـ هناك عانى من الغربة و الشوق الى مسقط راسه . كان شاعراً و أديباً و مثقفاً وملماً بعلوم الدين الإسلامي لذلك صار واحداً من كبار المفكرين و فقهاء الدين المعروفين فى العصر الأندلسى . أضف الى ذلك أنه تبين لي من كتابه بأنه كان مرهَف الحّس و عاطفياً و ذكياً و فطناً و ذا أفكارٍ سامية . يمتاز كتابه الذى سماه طوق الحمامة بالذوق السليم و الواقعية الصادقة و الوضوح و السلاسة . رسم بن حزم صورة واقعية عن حياته و حياة الناس حول الحب و المعاناة التى تواجه المحبين و العشاق فى كيفية تعاملهم مع الحب لذلك يجعل القارئ يتشوق إلى قراءة باب تلو الآخر دون توقف . استخدم بن حزم جماليات الفن الأدبى كالشعر و النثر و تناول كتابه منهجاً فلسفيًا جميلاً عن الحب . صنف ابن حزم كتابه طوق الحمامة إلى ثلاثين باباً حيث خصص الأبواب العشرة الأوائل لأصول الحب ، ثم اثني عشر باباً عن أعراض الحب و صفاته المحمودة و المذمومة و الوفاء و الطاعة في الحب ، جعل ستة أبواب عن الآفات التي تدخل على الحب ، و جعل البابين الأخيرين عن قبح المعصية و فضل التعفف فى الحب. بالرغم مِن أنني قرأت كتاب طوق الحمامة بمجمله ، سوف أركز فى بحثى هذا على باب كلام فى ماهية الحب و باب علامات الحب و باب من أحب و باب من أحب فى النوم و باب من أحب بالوصف و باب من أحب من نظرة واحدة بالإضافة إلى باب الوفاء و باب فضل التعفف. باب الكلام في ماهية الحب
راد ابن حزم في باب الكلام فى ماهية الحب القول عن للحب ضروباً مختلفةً و متنوعةً. القائمون على أعمال الدين و كبار رجالهم و دعائم دولتهم على سبيل المثال يعبرون عن حبهم فى طريقة حفظهم لحقوق و واجبات العباد عليهم. أما الشعراء فمن البديهى أن يستخدموا الأشعار للتعبير عن شغفهم و إفتنانهم بكل ما نال إعجابهم في ذلك الإنسان ـ قال أحد الشعراء:
ولاشك عندى أنك الرّوح ساقه = إلينا مثال فى النفوس اتصالى
عدمنا دليلاً فى حدوثك شاهداً = نفيس عليه غير أنك مرى
و لولا وقوع العين فى الكون لم نقل = سوى أنك العقل الرفيع الحقيقى
لم يقف ابن حزم عند ذلك فحسب بل تحدث عن الحب عند الصالحين و الفقهاء و الأنبياء في الدهور الماضية و الأزمان القديمة، كما تطرق أيضاً الى قصة الملك و أفلاطون عندما أدرك أحد الملوك أن أفلاطون وُضع فى السجن ظلماً ذلك بعد أن بحث فى نفسه عن حلقة الوصل بينه و بين أفلاطون فوجد أن منبع الحب الوحيد هو أنّ كليهما محبان للعدل و كارهان للظلم.
أوافق ابن حزم الرأي في قوله أن الحب هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع. تشاكل الطباع هو من أهم صفات التي تؤدى إلى المحبة الحقيقية بينما تنافرها تقود ـ فى أغلب الأحيان ـ الى الكراهية. أضف الى ذلك قوله ان سر التمازج و التباين في المخلوقات هو الاتصال و الإنفصال. أؤمن بأن هذين الخاصيتين " الاتصال و الانفصال" مربوطتان بالحب و البغض ـ الإنسان لا يحب إلا ما يلذه ويسِرّه، ولا يبغض إلا ما ينافر طبعه ـ كلما كان الشخص ذا طبائع حسنة أوجب التآلف و التوافق وكل ما كان سيئاً كان التباغض و الابتعاد. هذا بالطبع يختلف من شخص إلى آخر حسب التنشئة و البئة و المحيط.
لا ريب في أن ابن حزم يحب النساء الجميلات لكنه فى الوقت نفسه لا يؤمن أن الصورة الجسدية هي أهم الأشياء في الحب حين قال "و لو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص من الصورة. " الجدير بالذكر تشبيه ابن حزم قوة الحب بالقوة الهائلة الكامنة فى المغناطيس و الحديد من جانب و قوة النار فى الحجر من ناحية اخرى. تشبيه ابن حزم هذا إن دل على شيْ إنما يدل على إيمانه الأكيد بشدة القوة الجاذبة الحارقة في الحب . معلوم أن القوة المغناطيسية لا تتولد إلا بتقارب أو تلامس الأقطاب المغطيسية المختلفة و بنفس القدر الحب عند بني البشر يصل إلى ذروته عند اقتراب أو تلامس أجساد المحبين كما يرى بعض المفكرين أن الحب يعنى الشوق إلى الاتحاد الروحي بالمحبوب عن طريق الاتصال الجسدي. الحب المقصود هنا هو ذلك الشعور المنبثق من أعماق القلب ، الشعور الذي ينشأ نتيجة الاندماج الروحي بين المتحابَين فيشعران بارتياح لبعضهما البعض و تتوافق أرواحهم و أفكارهم و كل النواحى تقريباً.
علامات الحب
ليس من المغالاة القول أن علامات الحب الحقيقية واضحة كالشمس الساطعة في نهار الصيف لكن لا يدرك هذه العلامات المتبلورة إلا العاشق الذكى المنتبه الى الأحاسيس. يقول ابن حزم أن للحب علامات يقفوها الفطن ، و يهتدى اليها الذكى . فأولها إدمان النظر . النظر الممزوج بازدياد خفقان القلب و باضطرابات داخلية ـ ذلك النظرة الطاهرة الغير مشّوب بأية نوع من الغرائز هي النظرة المقصودة هنا ، عندها يشعر الشخصان بإحساس غريب و عميق و دافئ تجاه بعضهم البعض ، و حينها تسيطر عليهما القوة العاطفية الجياشة الخارقة و الإحساس الجميل الممتع الغير موصوف ، حتى و لو حاولوا التغلب و السيطرة على أحاسيسهم و عواطفهم فلن يستطيعوا . تفضيل المحبوب على أناس آخرون بحيث ينظر المحب إلى سائر البشر سواسية سِوى المحبوب أيضاً من علامات الحب. التشبع بالحب يجعل العاشق يراود المكان الذي يجلس فيه/يراوده المحبوب بشكل دائم و مستمر و غالباً يمشى إليه بسرعة ملحوظة - هذا أيضاً يثبت وجود حب. في هذا الصدد يقول بن حزم ابيات شعر التالية واصفاً حال العاشق الذي يتسم ببطْ السير عند مغادرة المحبوب و بسرعة فائقة عند مجيئه إليه .
و إذا قُمت عنك لم امش إلا = مشى عانٍ يُقاد نحو الفناء
في مجييء إليك أحتث كالبدر = إذا كان قاطعاً للسماء
و من علامات الحب الاضطراب و زيادة خفقان القلب عند رؤية من يحب فجأة و أحياناً يشعر المحب بعجز عن الكلام و تشتت في الأفكار في لحظة اللقاء ، إلا أن المحب يحاول جاهداً لإيجاد موضوع ما من أجل ملْ الفراغ . استعداد و رغبة شديد لتضحية بأغلى الأشياء عند المحب و محاولة تجنب سوء الظن من علامات الحب المميزة. من أحب حباً حقيقياً يتشوق لسماع شيْ جميل أو أسم المحبوب فى كل زمان و مكان و في ذلك يقول ابن حزم " و من علاماته أنك تجد المحب يستدعي سماع أسم من يحب ، و يستلذ الكلام في أخباره." إضافة إلى ذلك ، يقول ابن جزم أن بعض العشاق يحبون الجلوس بمفردهم أو الإنفراد بالمحبوب إلى مكان منعزل عن الناس و السهر عادة مهمة لدى العشاق.
أتفق مع ابن حزم في قوله أن شدة الحب أحياناً تدفع المحب لحب كل من يمد محبوبة بصلة لان هذا حاصل معي و أهل زوجتي. لا أبالغ إن قلت بأنني أحب كل أقارب زوجتي و كل ما يمدها بصلة. طبيعة الحال مع أهل زوجتي تطابق هذه العبارة التي قالها ابن حزم "و من علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبة و قرابته و خاصته ، حتى يكونوا أحظى لديه من بعض أهله و نفسه و جميع خاصته." أخيراً أود القول أن هناك علامات كثيرة للحب لا تحصى و لا تعد و كل شخص يختلف عن الآخر فى فهم علامات الحب حسب الصفات الموجودة فى خيال كل واحد منا. باب من أحب فى النوم
الحلم فى بعض الأحيان ما هو إلا ترجمة "لا إرادية" فيما يفكر فيه الشخص أو ما ينوي فعله ، و في أحيان أخرى تكون قصة غير معروفة المنبع ـ غالباً يتسم بالتشويش و الضبابية و التقطع و لا يستطيع الشخص فك رموزه و معانيه بسهولة . من زاوية ثانية ، الحب فى النوم وارد لكنه غير واقعي و لا أساس له من الصحة . ما يثير إستغرابى فى هذا الصدد هو لماذا ينشغل العالم بأـحلام غير ملموسة و يجعلوها الشغل الشاغل في أذهانهم ليلاً و نهاراً؟
ورد في طوق الحمامة أن ابن حزم سبق أن ذهب إلى أبي السري عمار بن زياد فوجده منشغلاً بجارية رآها في المنام فذهب قلبه فيها دون أن يعرف من هي أو أي شيْ عنها ، قال له ابن حزم " إنك لقليل الرأي ، مصاب البصيرة ، إذ تحب من لم تره قط ، لا خُلق و لا هى فى الدنيا ، و لو عشقت صورة من صور الحمام لكنت عندى أعذر ، فما زلت به حتى سلا و ما كاد." بالرغم من أن ابن حزم بالغ قليلاً بتفضيله عشق الصورة على شخص في الحلم إلا أنه على حق ، لو كنت فى مقامه لما قلت شيئاً مختلفاً عما قاله ابن حزم لأن الإدراك و المعرفة شرطان اساسيان و يجب أن يسبقا الحب .
باب من أحب بالوصف
بالرغم من أنه في طريقه إلى الزوال رويداً رويداً ، الحب بالوصف مازال شائعاً في الوطن العربي و بلدان العالم الثالث ـ فى المجتمعات المقيدة بالعادات و التقاليد التي لا تعطي الأفراد حق تقرير مسيرة حياتهم مع من أحبوا . علماً بأن بعض الأشخاص يوافقون على علاقة الحب عن طريق الوصف كوسيلة التخلص أو الهروب من الكبت الذي فرضه عليهم المجتمع ، فحينما يجدون بريقاً من الأمل يوافقون بلا تردد . فى هذا النوع من انواع الحب ، يتعرف اثنين على بعضهم البعض عن طريق الوصف أو فى أفضل الحالات من خلال الصور بحيث يكوّن كل واحد منهم صورة ذهنية غير مكتملة عن الآخر . الزواج الذى يتم على هذا المنوال ، في رأيي الخاص ، أشبه بأوراق اليانصيب لان الاثنين ـ النجاح في الزواج و ربح المال ـ يعتمدان على الحظ وحده لا غير .
فى حسن الحظ يقول ابن حزم:
لقد وصفوك لى حتى التقينا = فصار الظّن حقّا فى العيان
فأوصاف الجنان مقصرات = على التحقيق عن قدر الجنان
و فى سوء الحظ يقول:
وصفوك لى حتى إذا أبصرت ما = وصفوا علمت بأنه هذيان
فالطبل جلد فارغ وطنية = يرتاع منه و يفرق الإنسان
في هذا الصدد يقول ابن حزم " من غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون معاينة ، و هذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب ، فتكون المراسلة و المكاتبة ، الهم و الوجد ، و السهر على غير الإبصار ." هذا القول ينطبق على عصرنا هذا أيضاً ، عصر الإنترنت ، حيث أن معظم الشباب مولوعون بالإنترنت خاصةً بمواقع المراسلة و الدردشة . هذه العادة تندرج تحت الحب بالوصف لأن مجايلينا و الجيل الجديد يمكثون ساعات و ليالٍ من غير ملل أو كلل أمام شاشات الإنترنت متحدثين إلى أشخاص شبه وهمين . غالباً تصل هذه العلاقة الى ذروتها حيث الثقة العمياء و الإعجاب يبدأان بالنمو فيهم نسبة للسلوك الحميد و الأدب الجم و الأفكار الذكية التي يبرزها كل واحد منهم . الخطورة فى هذه العادة تكمن فى عدم معرفة مصداقية الشخص الآخر أو بالأحرى منهم يتغافلون عن الحقائق عمداً جملةً و تفصيل
أحياناً الآباء يغرسون روح الكراهية في أبنائهم ضد كل من يبغضونه ، ما في ذلك الأقرباء أو المعارف أو المجتمعات الأخرى ، فيترعرع الطفل و فى داخله ضغينة كبيرة متجذرة ضد أشخاص أو مجموعات لا يعرف عنهم شيئاً . أسوأ عندما يكره الطفل من يِمُتُّ له بصلة ـ أيّاً كان نوع الصلة ـ دون سبب قوى أو مقنع . فى ذلك يقول ابن حزم هذه الابيات عن أبى عامر بن أبي عامر مع من كان يكره كرهاً شديداً دون أن يعرفوا بعض لكنهما تصالحا:
أخ لى كسّبنية اللقاء = و أوجدنى فيه علقاً شريفاً
و قد كنت أكره منه الجوار = و ما كنت أرغبه لى أليفاً
و كان البغيض فصار الحبيب = و كان الثقيل فصار الخفيفا
و قد كنت أدمن عنه الوجيف = فصرت أديم أليه الوجيا
ما نال إعجابي في هذه القصة هو التحول الكبير بعد أن كانت قلوبهم تشق من الكراهية هرعوا الى الود و السلام كما يهرول الظمآن لشرب الماء . أهم شيْ هو أن كليهما مقتنعان أن ما فعلا هو الصواب بعينه!
باب من أحب من نظرة واحدة
من نافل القول أن قصة حبى مع زوجتى بدأت من أول نظرة و ظلت مترسخة فى وجداننا الى يومنا هذا . ما زلت أتذكر جلياً إحساسي عند اللمحة الأولى ، كان إحساساً قوياً و جاذباً ، حينها شعرت بأنني عثرت على حلم حياتي . لاحقا علمت من زوجتي بأنها شعرت بنفس الإحساس ويمكن أقوى من الإحساس الذي أنتابنى آنذاك ، على حسب قولها . بالرغم من أنني أؤمن أحياناً بأن ذلك الإحساس كان مجرد إعجاب ليس إلا ، ثم تحول الى حب بمرور الوقت ، إلا أننا ظللنا و ما زلنا نشعر بنفس الإحساس في الوقت الراهن . السؤال الذى يطرح نفسه بشدة هو ، إن بقيت أحاسيسنا إزاء بعضنا البعض على مستوى نفسه دون تغير كبير يذكر ، هل كان ذلك أعجاباً أم حباً؟
ذكر بن حزم قسمين للحب من نظرة واحدة، أولهما هو العشق المبني على صورة فقط دون أن يعرف المرء أي شيْ عنها حتى الأشياء المهمة كالاسم و مكان الإقامة. أما القسم الثاني فالعاشق يعرف اسم المحبوب و الإقامة و المنشأ، إلا أن معرفة هذه المعلومات غير كافية لبناء أساس متين للحب، لذلك تفنى العلاقة بسرعة. يريد ابن حزم القول أن الحب الحقيقي لا يرتكز فقط على النظرة الأولى و لا على الخيال و معرفة الاسم و مكان الإقامة و منشأ الشخص فحسب و إنما على الإقتناع الكامل بجوانب أخرى كطريقة التفكير و العواطف المتبادلة و الشعور بالسعادة و الراحة و الطمأنينة و الاهتمام بالآخر بالإضافة إلى الوفاء و الصدقٍ و الاحترام و الأمانة .
لاشك أن أول نظرة تشكل إحساساً و انجذاباً سريعين نحو شخص لم تسبق مقابلته ، خاصة عندما تنطبق على هذا الشخص صفات أصلاً موجودة فى الخيال كالمظهر و قامة الجسد أو ملامح الوجه أو الابتسامة أو طريقة الكلام أو نبرات الصوت أو تصرفات و كل ما شابه ذلك من الصفات . جدير بالذكر أن هذه الأحاسيس قد تزداد أو تنقص و قد تتلاشى بعد لقاء أو عدة لقاءات على حسب مدى الانسجام بين الشخصين أو لا إنسجام قط . يصف بعض الناس هذا الانطباع القوى ، أعني الحب من أول نظرة ، بالحب الخداع لأنه ناتج عن محاولة تجسيد الصفات الموجودة أصلاً فى الخيال ـ كما أسلفت ـ فى الشخص الآخر . ليس من المغالاة القول هنا أن الإعجاب القائم على المظهر الخارجي وليس الجوهر الداخلي سرعان ما يتلاشى. و فيه يقول ابن حزم " فمن أحب من نظرة واحدة ، و أسرع العلاقة من لمحة خاطرة ، فهو دليل على قلة الصبر ، و مُخبرٌ بسرعة السلو ، و شاهد الظرافة و الملل ، و هكذا فى جميع الأشياء أسرعها نمواً أسرعها فناء ، و أبطؤها حدوثاً أبطؤها نفاداً." حتى ابن حزم نفسه ينصح بالتأني و التريث لأن في ذلك سلامة و إنقاذ من الإحباط و الحزن و الغضب الذي يلازم الشعور بالفشل عندما يختلف الواقع عن الخيال. باب الوفاء
بدأ بن حزم الحديث عن الوفاء في الحب بقوله " و من حميد الغرائز ، و كريم الشيم ، و فاضل الأخلاق فى الحب و غيره الوفاء و إنه لمن أقوى الدلائل ، على طيب الأصل ، و شرف العنصر." لا يقتصر الوفاء فقط في الحب ، بل فى كل عمل يقوم به الإنسان على وجه الأرض لأنه فرض من الفرائض المهمة في كل الديانات السماوية و سمة من السمات الأخلاقية بالإضافة إلى أنه حق من الحقوق التي يطالب بها الأشخاص بشدة و واجب طبيعي يجب أن يوفره أي شخص للآخر/ين .
لأن طوق الحمامة كتاب عن الحب ، سوف أركز فقط فى الوفاء فى الحب بعيداً عن الأشياء الدنيوية الأخرى التي يتوجب فيها الوفاء . باختصار شديد الحب ما هو إلا أخذ و عطاء و رغبة متبادلة فى إسعاد الآخر . أحد أركان هذه السعادة هي الوفاء بكل ما تعنيه الكلمة و الخروج عن هذا الإطار يعنى خيانة و غدر. لا ريب أن هناك بعض الأشياء تساهم بشكل أو بآخر في عدم التزام الشخص بالوفاء كاليأس والكلل و الملل و الفُتور بأنواعها المختلفة. فى هذا أقول أن من سعى لإيجاد حل مناسب وجده و من استسلم خان المحبوب .
أية علاقة عاطفية غرامية بين جنسين هي عهد و يجب الحفاظ عليها كما يحافظ الإنسان على الأشياء المهمة و القيّمة حتى فى غياب أو بعُد المحبوب ، أضف إلى ذلك عدم إفشاء الأسرار و عيوب المحبوب بأية حال من الأحوال و فى المقابل يمكن الحديث عن فضائل و محاسن و جماليات المحبوب متى سنحت الفرصة . يقول ابن حزم أن الوفاء واجبٌ أساسيٌ على المحب وليس المحبوب فى قوله " و أعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب ، و شرطه له ألزم ، لأن المحب هو البادئ بالملصوق و التعريض لعرض الأذمة ..... و المحبوب إنما هو مجلوب إليه ، و مقصود نحوه ، و مخير فى القبول أو الترك." هذا رأى ابن حزم لكن لي رأى مخالف لرأيه ، إذ أؤمن أن الوفاء ينطبق في الشخصين دون فصل بينهما . انسجمت الأحاسيس و العواطف و المشاعر عند الاثنين فوقعا في الحب، بذلك كلاهما تعاهدا على الحب ِبغَضّ النظر عن البادئ و المخير.
باب فضل التعفف
ختم ابن جزم أبواب كتابه الثلاثين بهذا الباب، فضل التعفف، و كأنه يريد أن يقول للعالم أن ضبط النفس يكون من خلال التعفف، كذلك نوع من أنواع الحب لله و الدين و الجسد. هو ينصح الناس خاصة المؤمنين منهم ألا يكونوا عُبّاداً للشهوات و ألا يتبعوا الهوى و يطيعوا كل رغبات النفس لأن النفس إذا غلبت على العقل عميت البصيرة فيبدأ الشخص بالمنكرات و الأشياء المثيرة للغرائز. للشهوة أنواع عدة منها شهوة الجنس و شهوة المال و شهوة القوة و شهوة السلطة و هلّم جر ـ إذا سمح شخص لإحدى أو لكل هذه الشهوات الدخول إلي نفسه فحتماً ستتجذر و تحدث خللاً في النفس مما يؤدي إلى الشهوة الدائمة ـ ضعف اليقين و اللامبالاة في كيفية تحقيق المبتغى هو المحصلة. الإسستسلام لشهوات الجسدية يؤدى إلى طاعة كل رغبات النفس و تبطيل العقل و إتبّاع الهوى . متى تغلبت النفس على العقل يعمى البصر و هذا يكون أول نعش في طريق الضياع و ركض وراء الهوى و المنكرات و الشهوات . يقول بن حزم " لو لم يكن جزاء و لا عقاب و لا ثواب لوجب علينا إفناء الاعمار ، و إتعاب الأبدان ، و إجهاد الطاقة ، و استفراغ القوة في شكر الخالق" هذه العبارة إن دلَ على شيء إنما يَدل على أنّ الخوف الشديد من عذاب الآخرة هو السبب الأساسي للتعفف و ليس لأنه مبدأ من المبادئ الإنسانية والأخلاقية ـ بات جلياً في هذا الباب أن ابن حزم ليس فقط كاتباً و شاعراً أنما أيضاً كان علماً من أعلام الملمين بأصول الدين.
الخاتمة
في الختام بودي القول أن كتاب طوق الحمامة كتاب ممتع و شيّق و سلس في بعض جوانبه. لاشك أن هذا الكتاب سيكون رفيقي الحميم من الآن فصاعداً !
.
ولد ابن حزم الأندلسي في قرطبة و ترعرع منذ نعومة أظافره حتى بلغ ريعان شبابه بين يدى الجوارى و من ثم هاجر إلى إحدى مدن الأندلس تدعى شاطبة ـ هناك عانى من الغربة و الشوق الى مسقط راسه . كان شاعراً و أديباً و مثقفاً وملماً بعلوم الدين الإسلامي لذلك صار واحداً من كبار المفكرين و فقهاء الدين المعروفين فى العصر الأندلسى . أضف الى ذلك أنه تبين لي من كتابه بأنه كان مرهَف الحّس و عاطفياً و ذكياً و فطناً و ذا أفكارٍ سامية . يمتاز كتابه الذى سماه طوق الحمامة بالذوق السليم و الواقعية الصادقة و الوضوح و السلاسة . رسم بن حزم صورة واقعية عن حياته و حياة الناس حول الحب و المعاناة التى تواجه المحبين و العشاق فى كيفية تعاملهم مع الحب لذلك يجعل القارئ يتشوق إلى قراءة باب تلو الآخر دون توقف . استخدم بن حزم جماليات الفن الأدبى كالشعر و النثر و تناول كتابه منهجاً فلسفيًا جميلاً عن الحب . صنف ابن حزم كتابه طوق الحمامة إلى ثلاثين باباً حيث خصص الأبواب العشرة الأوائل لأصول الحب ، ثم اثني عشر باباً عن أعراض الحب و صفاته المحمودة و المذمومة و الوفاء و الطاعة في الحب ، جعل ستة أبواب عن الآفات التي تدخل على الحب ، و جعل البابين الأخيرين عن قبح المعصية و فضل التعفف فى الحب. بالرغم مِن أنني قرأت كتاب طوق الحمامة بمجمله ، سوف أركز فى بحثى هذا على باب كلام فى ماهية الحب و باب علامات الحب و باب من أحب و باب من أحب فى النوم و باب من أحب بالوصف و باب من أحب من نظرة واحدة بالإضافة إلى باب الوفاء و باب فضل التعفف. باب الكلام في ماهية الحب
راد ابن حزم في باب الكلام فى ماهية الحب القول عن للحب ضروباً مختلفةً و متنوعةً. القائمون على أعمال الدين و كبار رجالهم و دعائم دولتهم على سبيل المثال يعبرون عن حبهم فى طريقة حفظهم لحقوق و واجبات العباد عليهم. أما الشعراء فمن البديهى أن يستخدموا الأشعار للتعبير عن شغفهم و إفتنانهم بكل ما نال إعجابهم في ذلك الإنسان ـ قال أحد الشعراء:
ولاشك عندى أنك الرّوح ساقه = إلينا مثال فى النفوس اتصالى
عدمنا دليلاً فى حدوثك شاهداً = نفيس عليه غير أنك مرى
و لولا وقوع العين فى الكون لم نقل = سوى أنك العقل الرفيع الحقيقى
لم يقف ابن حزم عند ذلك فحسب بل تحدث عن الحب عند الصالحين و الفقهاء و الأنبياء في الدهور الماضية و الأزمان القديمة، كما تطرق أيضاً الى قصة الملك و أفلاطون عندما أدرك أحد الملوك أن أفلاطون وُضع فى السجن ظلماً ذلك بعد أن بحث فى نفسه عن حلقة الوصل بينه و بين أفلاطون فوجد أن منبع الحب الوحيد هو أنّ كليهما محبان للعدل و كارهان للظلم.
أوافق ابن حزم الرأي في قوله أن الحب هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع. تشاكل الطباع هو من أهم صفات التي تؤدى إلى المحبة الحقيقية بينما تنافرها تقود ـ فى أغلب الأحيان ـ الى الكراهية. أضف الى ذلك قوله ان سر التمازج و التباين في المخلوقات هو الاتصال و الإنفصال. أؤمن بأن هذين الخاصيتين " الاتصال و الانفصال" مربوطتان بالحب و البغض ـ الإنسان لا يحب إلا ما يلذه ويسِرّه، ولا يبغض إلا ما ينافر طبعه ـ كلما كان الشخص ذا طبائع حسنة أوجب التآلف و التوافق وكل ما كان سيئاً كان التباغض و الابتعاد. هذا بالطبع يختلف من شخص إلى آخر حسب التنشئة و البئة و المحيط.
لا ريب في أن ابن حزم يحب النساء الجميلات لكنه فى الوقت نفسه لا يؤمن أن الصورة الجسدية هي أهم الأشياء في الحب حين قال "و لو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص من الصورة. " الجدير بالذكر تشبيه ابن حزم قوة الحب بالقوة الهائلة الكامنة فى المغناطيس و الحديد من جانب و قوة النار فى الحجر من ناحية اخرى. تشبيه ابن حزم هذا إن دل على شيْ إنما يدل على إيمانه الأكيد بشدة القوة الجاذبة الحارقة في الحب . معلوم أن القوة المغناطيسية لا تتولد إلا بتقارب أو تلامس الأقطاب المغطيسية المختلفة و بنفس القدر الحب عند بني البشر يصل إلى ذروته عند اقتراب أو تلامس أجساد المحبين كما يرى بعض المفكرين أن الحب يعنى الشوق إلى الاتحاد الروحي بالمحبوب عن طريق الاتصال الجسدي. الحب المقصود هنا هو ذلك الشعور المنبثق من أعماق القلب ، الشعور الذي ينشأ نتيجة الاندماج الروحي بين المتحابَين فيشعران بارتياح لبعضهما البعض و تتوافق أرواحهم و أفكارهم و كل النواحى تقريباً.
علامات الحب
ليس من المغالاة القول أن علامات الحب الحقيقية واضحة كالشمس الساطعة في نهار الصيف لكن لا يدرك هذه العلامات المتبلورة إلا العاشق الذكى المنتبه الى الأحاسيس. يقول ابن حزم أن للحب علامات يقفوها الفطن ، و يهتدى اليها الذكى . فأولها إدمان النظر . النظر الممزوج بازدياد خفقان القلب و باضطرابات داخلية ـ ذلك النظرة الطاهرة الغير مشّوب بأية نوع من الغرائز هي النظرة المقصودة هنا ، عندها يشعر الشخصان بإحساس غريب و عميق و دافئ تجاه بعضهم البعض ، و حينها تسيطر عليهما القوة العاطفية الجياشة الخارقة و الإحساس الجميل الممتع الغير موصوف ، حتى و لو حاولوا التغلب و السيطرة على أحاسيسهم و عواطفهم فلن يستطيعوا . تفضيل المحبوب على أناس آخرون بحيث ينظر المحب إلى سائر البشر سواسية سِوى المحبوب أيضاً من علامات الحب. التشبع بالحب يجعل العاشق يراود المكان الذي يجلس فيه/يراوده المحبوب بشكل دائم و مستمر و غالباً يمشى إليه بسرعة ملحوظة - هذا أيضاً يثبت وجود حب. في هذا الصدد يقول بن حزم ابيات شعر التالية واصفاً حال العاشق الذي يتسم ببطْ السير عند مغادرة المحبوب و بسرعة فائقة عند مجيئه إليه .
و إذا قُمت عنك لم امش إلا = مشى عانٍ يُقاد نحو الفناء
في مجييء إليك أحتث كالبدر = إذا كان قاطعاً للسماء
و من علامات الحب الاضطراب و زيادة خفقان القلب عند رؤية من يحب فجأة و أحياناً يشعر المحب بعجز عن الكلام و تشتت في الأفكار في لحظة اللقاء ، إلا أن المحب يحاول جاهداً لإيجاد موضوع ما من أجل ملْ الفراغ . استعداد و رغبة شديد لتضحية بأغلى الأشياء عند المحب و محاولة تجنب سوء الظن من علامات الحب المميزة. من أحب حباً حقيقياً يتشوق لسماع شيْ جميل أو أسم المحبوب فى كل زمان و مكان و في ذلك يقول ابن حزم " و من علاماته أنك تجد المحب يستدعي سماع أسم من يحب ، و يستلذ الكلام في أخباره." إضافة إلى ذلك ، يقول ابن جزم أن بعض العشاق يحبون الجلوس بمفردهم أو الإنفراد بالمحبوب إلى مكان منعزل عن الناس و السهر عادة مهمة لدى العشاق.
أتفق مع ابن حزم في قوله أن شدة الحب أحياناً تدفع المحب لحب كل من يمد محبوبة بصلة لان هذا حاصل معي و أهل زوجتي. لا أبالغ إن قلت بأنني أحب كل أقارب زوجتي و كل ما يمدها بصلة. طبيعة الحال مع أهل زوجتي تطابق هذه العبارة التي قالها ابن حزم "و من علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبة و قرابته و خاصته ، حتى يكونوا أحظى لديه من بعض أهله و نفسه و جميع خاصته." أخيراً أود القول أن هناك علامات كثيرة للحب لا تحصى و لا تعد و كل شخص يختلف عن الآخر فى فهم علامات الحب حسب الصفات الموجودة فى خيال كل واحد منا. باب من أحب فى النوم
الحلم فى بعض الأحيان ما هو إلا ترجمة "لا إرادية" فيما يفكر فيه الشخص أو ما ينوي فعله ، و في أحيان أخرى تكون قصة غير معروفة المنبع ـ غالباً يتسم بالتشويش و الضبابية و التقطع و لا يستطيع الشخص فك رموزه و معانيه بسهولة . من زاوية ثانية ، الحب فى النوم وارد لكنه غير واقعي و لا أساس له من الصحة . ما يثير إستغرابى فى هذا الصدد هو لماذا ينشغل العالم بأـحلام غير ملموسة و يجعلوها الشغل الشاغل في أذهانهم ليلاً و نهاراً؟
ورد في طوق الحمامة أن ابن حزم سبق أن ذهب إلى أبي السري عمار بن زياد فوجده منشغلاً بجارية رآها في المنام فذهب قلبه فيها دون أن يعرف من هي أو أي شيْ عنها ، قال له ابن حزم " إنك لقليل الرأي ، مصاب البصيرة ، إذ تحب من لم تره قط ، لا خُلق و لا هى فى الدنيا ، و لو عشقت صورة من صور الحمام لكنت عندى أعذر ، فما زلت به حتى سلا و ما كاد." بالرغم من أن ابن حزم بالغ قليلاً بتفضيله عشق الصورة على شخص في الحلم إلا أنه على حق ، لو كنت فى مقامه لما قلت شيئاً مختلفاً عما قاله ابن حزم لأن الإدراك و المعرفة شرطان اساسيان و يجب أن يسبقا الحب .
باب من أحب بالوصف
بالرغم من أنه في طريقه إلى الزوال رويداً رويداً ، الحب بالوصف مازال شائعاً في الوطن العربي و بلدان العالم الثالث ـ فى المجتمعات المقيدة بالعادات و التقاليد التي لا تعطي الأفراد حق تقرير مسيرة حياتهم مع من أحبوا . علماً بأن بعض الأشخاص يوافقون على علاقة الحب عن طريق الوصف كوسيلة التخلص أو الهروب من الكبت الذي فرضه عليهم المجتمع ، فحينما يجدون بريقاً من الأمل يوافقون بلا تردد . فى هذا النوع من انواع الحب ، يتعرف اثنين على بعضهم البعض عن طريق الوصف أو فى أفضل الحالات من خلال الصور بحيث يكوّن كل واحد منهم صورة ذهنية غير مكتملة عن الآخر . الزواج الذى يتم على هذا المنوال ، في رأيي الخاص ، أشبه بأوراق اليانصيب لان الاثنين ـ النجاح في الزواج و ربح المال ـ يعتمدان على الحظ وحده لا غير .
فى حسن الحظ يقول ابن حزم:
لقد وصفوك لى حتى التقينا = فصار الظّن حقّا فى العيان
فأوصاف الجنان مقصرات = على التحقيق عن قدر الجنان
و فى سوء الحظ يقول:
وصفوك لى حتى إذا أبصرت ما = وصفوا علمت بأنه هذيان
فالطبل جلد فارغ وطنية = يرتاع منه و يفرق الإنسان
في هذا الصدد يقول ابن حزم " من غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون معاينة ، و هذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب ، فتكون المراسلة و المكاتبة ، الهم و الوجد ، و السهر على غير الإبصار ." هذا القول ينطبق على عصرنا هذا أيضاً ، عصر الإنترنت ، حيث أن معظم الشباب مولوعون بالإنترنت خاصةً بمواقع المراسلة و الدردشة . هذه العادة تندرج تحت الحب بالوصف لأن مجايلينا و الجيل الجديد يمكثون ساعات و ليالٍ من غير ملل أو كلل أمام شاشات الإنترنت متحدثين إلى أشخاص شبه وهمين . غالباً تصل هذه العلاقة الى ذروتها حيث الثقة العمياء و الإعجاب يبدأان بالنمو فيهم نسبة للسلوك الحميد و الأدب الجم و الأفكار الذكية التي يبرزها كل واحد منهم . الخطورة فى هذه العادة تكمن فى عدم معرفة مصداقية الشخص الآخر أو بالأحرى منهم يتغافلون عن الحقائق عمداً جملةً و تفصيل
أحياناً الآباء يغرسون روح الكراهية في أبنائهم ضد كل من يبغضونه ، ما في ذلك الأقرباء أو المعارف أو المجتمعات الأخرى ، فيترعرع الطفل و فى داخله ضغينة كبيرة متجذرة ضد أشخاص أو مجموعات لا يعرف عنهم شيئاً . أسوأ عندما يكره الطفل من يِمُتُّ له بصلة ـ أيّاً كان نوع الصلة ـ دون سبب قوى أو مقنع . فى ذلك يقول ابن حزم هذه الابيات عن أبى عامر بن أبي عامر مع من كان يكره كرهاً شديداً دون أن يعرفوا بعض لكنهما تصالحا:
أخ لى كسّبنية اللقاء = و أوجدنى فيه علقاً شريفاً
و قد كنت أكره منه الجوار = و ما كنت أرغبه لى أليفاً
و كان البغيض فصار الحبيب = و كان الثقيل فصار الخفيفا
و قد كنت أدمن عنه الوجيف = فصرت أديم أليه الوجيا
ما نال إعجابي في هذه القصة هو التحول الكبير بعد أن كانت قلوبهم تشق من الكراهية هرعوا الى الود و السلام كما يهرول الظمآن لشرب الماء . أهم شيْ هو أن كليهما مقتنعان أن ما فعلا هو الصواب بعينه!
باب من أحب من نظرة واحدة
من نافل القول أن قصة حبى مع زوجتى بدأت من أول نظرة و ظلت مترسخة فى وجداننا الى يومنا هذا . ما زلت أتذكر جلياً إحساسي عند اللمحة الأولى ، كان إحساساً قوياً و جاذباً ، حينها شعرت بأنني عثرت على حلم حياتي . لاحقا علمت من زوجتي بأنها شعرت بنفس الإحساس ويمكن أقوى من الإحساس الذي أنتابنى آنذاك ، على حسب قولها . بالرغم من أنني أؤمن أحياناً بأن ذلك الإحساس كان مجرد إعجاب ليس إلا ، ثم تحول الى حب بمرور الوقت ، إلا أننا ظللنا و ما زلنا نشعر بنفس الإحساس في الوقت الراهن . السؤال الذى يطرح نفسه بشدة هو ، إن بقيت أحاسيسنا إزاء بعضنا البعض على مستوى نفسه دون تغير كبير يذكر ، هل كان ذلك أعجاباً أم حباً؟
ذكر بن حزم قسمين للحب من نظرة واحدة، أولهما هو العشق المبني على صورة فقط دون أن يعرف المرء أي شيْ عنها حتى الأشياء المهمة كالاسم و مكان الإقامة. أما القسم الثاني فالعاشق يعرف اسم المحبوب و الإقامة و المنشأ، إلا أن معرفة هذه المعلومات غير كافية لبناء أساس متين للحب، لذلك تفنى العلاقة بسرعة. يريد ابن حزم القول أن الحب الحقيقي لا يرتكز فقط على النظرة الأولى و لا على الخيال و معرفة الاسم و مكان الإقامة و منشأ الشخص فحسب و إنما على الإقتناع الكامل بجوانب أخرى كطريقة التفكير و العواطف المتبادلة و الشعور بالسعادة و الراحة و الطمأنينة و الاهتمام بالآخر بالإضافة إلى الوفاء و الصدقٍ و الاحترام و الأمانة .
لاشك أن أول نظرة تشكل إحساساً و انجذاباً سريعين نحو شخص لم تسبق مقابلته ، خاصة عندما تنطبق على هذا الشخص صفات أصلاً موجودة فى الخيال كالمظهر و قامة الجسد أو ملامح الوجه أو الابتسامة أو طريقة الكلام أو نبرات الصوت أو تصرفات و كل ما شابه ذلك من الصفات . جدير بالذكر أن هذه الأحاسيس قد تزداد أو تنقص و قد تتلاشى بعد لقاء أو عدة لقاءات على حسب مدى الانسجام بين الشخصين أو لا إنسجام قط . يصف بعض الناس هذا الانطباع القوى ، أعني الحب من أول نظرة ، بالحب الخداع لأنه ناتج عن محاولة تجسيد الصفات الموجودة أصلاً فى الخيال ـ كما أسلفت ـ فى الشخص الآخر . ليس من المغالاة القول هنا أن الإعجاب القائم على المظهر الخارجي وليس الجوهر الداخلي سرعان ما يتلاشى. و فيه يقول ابن حزم " فمن أحب من نظرة واحدة ، و أسرع العلاقة من لمحة خاطرة ، فهو دليل على قلة الصبر ، و مُخبرٌ بسرعة السلو ، و شاهد الظرافة و الملل ، و هكذا فى جميع الأشياء أسرعها نمواً أسرعها فناء ، و أبطؤها حدوثاً أبطؤها نفاداً." حتى ابن حزم نفسه ينصح بالتأني و التريث لأن في ذلك سلامة و إنقاذ من الإحباط و الحزن و الغضب الذي يلازم الشعور بالفشل عندما يختلف الواقع عن الخيال. باب الوفاء
بدأ بن حزم الحديث عن الوفاء في الحب بقوله " و من حميد الغرائز ، و كريم الشيم ، و فاضل الأخلاق فى الحب و غيره الوفاء و إنه لمن أقوى الدلائل ، على طيب الأصل ، و شرف العنصر." لا يقتصر الوفاء فقط في الحب ، بل فى كل عمل يقوم به الإنسان على وجه الأرض لأنه فرض من الفرائض المهمة في كل الديانات السماوية و سمة من السمات الأخلاقية بالإضافة إلى أنه حق من الحقوق التي يطالب بها الأشخاص بشدة و واجب طبيعي يجب أن يوفره أي شخص للآخر/ين .
لأن طوق الحمامة كتاب عن الحب ، سوف أركز فقط فى الوفاء فى الحب بعيداً عن الأشياء الدنيوية الأخرى التي يتوجب فيها الوفاء . باختصار شديد الحب ما هو إلا أخذ و عطاء و رغبة متبادلة فى إسعاد الآخر . أحد أركان هذه السعادة هي الوفاء بكل ما تعنيه الكلمة و الخروج عن هذا الإطار يعنى خيانة و غدر. لا ريب أن هناك بعض الأشياء تساهم بشكل أو بآخر في عدم التزام الشخص بالوفاء كاليأس والكلل و الملل و الفُتور بأنواعها المختلفة. فى هذا أقول أن من سعى لإيجاد حل مناسب وجده و من استسلم خان المحبوب .
أية علاقة عاطفية غرامية بين جنسين هي عهد و يجب الحفاظ عليها كما يحافظ الإنسان على الأشياء المهمة و القيّمة حتى فى غياب أو بعُد المحبوب ، أضف إلى ذلك عدم إفشاء الأسرار و عيوب المحبوب بأية حال من الأحوال و فى المقابل يمكن الحديث عن فضائل و محاسن و جماليات المحبوب متى سنحت الفرصة . يقول ابن حزم أن الوفاء واجبٌ أساسيٌ على المحب وليس المحبوب فى قوله " و أعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب ، و شرطه له ألزم ، لأن المحب هو البادئ بالملصوق و التعريض لعرض الأذمة ..... و المحبوب إنما هو مجلوب إليه ، و مقصود نحوه ، و مخير فى القبول أو الترك." هذا رأى ابن حزم لكن لي رأى مخالف لرأيه ، إذ أؤمن أن الوفاء ينطبق في الشخصين دون فصل بينهما . انسجمت الأحاسيس و العواطف و المشاعر عند الاثنين فوقعا في الحب، بذلك كلاهما تعاهدا على الحب ِبغَضّ النظر عن البادئ و المخير.
باب فضل التعفف
ختم ابن جزم أبواب كتابه الثلاثين بهذا الباب، فضل التعفف، و كأنه يريد أن يقول للعالم أن ضبط النفس يكون من خلال التعفف، كذلك نوع من أنواع الحب لله و الدين و الجسد. هو ينصح الناس خاصة المؤمنين منهم ألا يكونوا عُبّاداً للشهوات و ألا يتبعوا الهوى و يطيعوا كل رغبات النفس لأن النفس إذا غلبت على العقل عميت البصيرة فيبدأ الشخص بالمنكرات و الأشياء المثيرة للغرائز. للشهوة أنواع عدة منها شهوة الجنس و شهوة المال و شهوة القوة و شهوة السلطة و هلّم جر ـ إذا سمح شخص لإحدى أو لكل هذه الشهوات الدخول إلي نفسه فحتماً ستتجذر و تحدث خللاً في النفس مما يؤدي إلى الشهوة الدائمة ـ ضعف اليقين و اللامبالاة في كيفية تحقيق المبتغى هو المحصلة. الإسستسلام لشهوات الجسدية يؤدى إلى طاعة كل رغبات النفس و تبطيل العقل و إتبّاع الهوى . متى تغلبت النفس على العقل يعمى البصر و هذا يكون أول نعش في طريق الضياع و ركض وراء الهوى و المنكرات و الشهوات . يقول بن حزم " لو لم يكن جزاء و لا عقاب و لا ثواب لوجب علينا إفناء الاعمار ، و إتعاب الأبدان ، و إجهاد الطاقة ، و استفراغ القوة في شكر الخالق" هذه العبارة إن دلَ على شيء إنما يَدل على أنّ الخوف الشديد من عذاب الآخرة هو السبب الأساسي للتعفف و ليس لأنه مبدأ من المبادئ الإنسانية والأخلاقية ـ بات جلياً في هذا الباب أن ابن حزم ليس فقط كاتباً و شاعراً أنما أيضاً كان علماً من أعلام الملمين بأصول الدين.
الخاتمة
في الختام بودي القول أن كتاب طوق الحمامة كتاب ممتع و شيّق و سلس في بعض جوانبه. لاشك أن هذا الكتاب سيكون رفيقي الحميم من الآن فصاعداً !
.