جمال جمعة - الشعر الايروتيكي والرسول

يُروى أنّ عمر بن الخطاب (رض) عنه مرّ بحسّان بن ثابت وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله (ص)، ثمّ قال "أرُغاءً كرُغاءِ البعير؟"، فقال حسّان "دعني عنكَ يا عُمَر!، فواللهِ إنكَ لتعلمَ أنّي كنتُ أنشدُ في هذا المسجد مَن هو خيرٌ منكَ، فما يغيّر عليَّ ذلك؟"، فقال عُمَر "صدقت". [العمدة في الشعر وآدابه ـ إبن رشيق القيروانيّ]
مرّت هذا الرواية بذهني اليوم وأنا أطالع خبراً بمانشيت عريض في موقع إخباريّ يقول: (قصائد غزل تثير أزمة بين هيئة الأمر بالمعروف ونادٍ أدبيّ بالسعودية بسبب تضمّنها وصفاً دقيقاً لجسد المرأة).
وليس في الأمر ما يثير الإستغراب. فالكثير من المسلمين، خصوصاً أولئك الذين ينصّبون أنفسهم أوصياءً على الأخلاق، لا يعرفون أنّ النبيّ كان مستمعاً جيّداً للشعر والإيروتيكيّ منه بشكل خاصّ.
*
كانت أوّل قصيدة إيروتيكيّة في الإسلام قصيدة كعب بن زهير المشهورة بقصيدة "البُردة" والتي إستمع اليها الرسول الكريم وهو في المسجد، ولأنّ النبيّ لم يجد من كلمة استحسان للشعر فيها خيراً من إلقاء بُردته الشخصيّة على كتفيّ شاعر كبير مثل كعب بن زهير، فقد عرفت بقصيدة "البُردة" أكثر ممّا عرفت بإسم شاعرها أو مطلعها، كما كان متعارف عليه ثقافيّاً آنذاك. وقبيل الولوج الى نصّها الإيروتيكي دعونا نعد قليلاً الى فترة ما قبل القصيدة.
كانت المنازلات الشعريّة بين المشركين والمسلمين جزءاً من الصراع العسكريّ قبل فتح مكّة، حيث كان شعراء الجانبين يمارسون هجو المعسكر المعادي والنيل من أعراضهم والتشبيب بنسائهم، كجزء من الحرب النفسيّة والإعلاميّة، آنذاك. ولمّا كان كعب بن زهير في معسكر قريش المعادي للنبيّ فقد هجاهم وشببّ بنسائهم، وكانت ـ لسوء حظّ بن زهير ـ إحدى هاته النساء، اللواتي شبّب بهنّ، أمّ هانئ بنت أبي طالب، وهي أخت عليّ بن أبي طالب إبن عمّ الرسول، فأمرَ الرسول بقتله وقطع لسانه عقاباً له على ذلك [ الكامل في التاريخ ـ إبن الاثير]
ويروي صاحب "الأغاني": أنّه لمّا سمع ذلك ضاقت به الأرض، فقرّر القدوم على الرسول بنفسه وطلب العفو منه شخصيّاً، فأقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله (ص)، وكان مجلسه من أصحابه مكان المائدة من القوم حلقةً ثمّ حلقة ثمّ حلقة، وهو وسطهم، فيقبل على هؤلاء يحدّثهم، ثمّ على هؤلاء، ثم على هؤلاء، فأقبل كعب حتى دخل المسجد، فتخطّى حتى جلس إلى رسول الله (ص) ، فقال "يا رسول الله، الأمان!"، ثمّ أنشده قصيدته الشهيرة، والتي سيهمّنا منها الآن مطلعها الإيروتيكيّ:

بانتْ سُعاد فقلبي اليومَ مَتْبولُ = مُتَيَّمٌ إثرَها، لمْ يُفْد، مَكبولُ
[البين: الفراق، وبانت: ذهبت وفارقت، وسعاد، إسم امرأة، ومتبول: هالك، من التَّبْل، وهو الهلاك وطلب الثأر، والمتيّم: المُستعبَدٌ المُذلَّل أو الذاهب العقل من العشق ، مكبول: مُقيَّد]

وما سُعادُ غَداةَ البَيْنِ إذْ رَحَلوا = إلاّ أغَنَّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ
[الأغنّ: الصبيّ الصغير الذي في صوته غُنّة، والغُنّة: الصوت الذي يخرج من الخياشيم، غضيض الطرف: فاتر الجفن]
هَيفاءُ مُقبِلةً، عَجزاءُ مُدبِرَةً = لا يُشتكى قِصرٌ منها، ولا طُولُ
[الهيفاء: الضامرة البطن والخصر، العجزاء: العظيمة العجيزة، وهي الرّدف]

تجلو عَوارِضَ ذِي ظَلْمِ إذا ابتسمتْ = كأنّه مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلولُ
[تجلو: تصقل، العوارض: الأسنان، و"ذي ظلم": هو الفم، والظَّلم" ماء الأسنان وبريقها، منهل: إسم مفعول من "أنهله" إذا سقاه نهلاً، الرّاح: من أسماء الخمر، معلول: أسم مفعول من "علّه" إذا سقاه عللاً]

شُجَّتْ بذي شَبَمٍ من ماءِ مَحْنِيَةٍ = صافٍ بأبطَحَ أضحى وهو مَشمولُ
[شجّت: مُزجت، ذو شبم: الماء البارد، الشبم، البَرَد، المحنية: منتهى الوادي، الأبطح: الموضع السهل، مشمول: هبّت عليه رياح الشمال الباردة]

تَنفي الرياحُ القَذى عنهُ وأفْرَطهُ = مِن صَوْبِ غاديةٍ بِيضٌ يَعاليلُ
[تنفي: تزيل، القذى: ما يقع في الماء من تبن أو عود أو غيره، وأفرطه: سبق إليه وملأه، الصوب: المطر، الغادية: السحابة التي تمطر بالغدو، اليعاليل: الحباب الذي يعلو وجه الماء، وهو رغوة الماء]

فيالَها خُلَّةً لو أنّها صَدقتْ بوعدِها = أو لو انّ النُّصْحَ مقبولُ
الى بقيّة القصيدة ...
*
ميّز الإسلام بين الغزل والرَّفَث، فالتغزّل الإيروتيكي بجمال المرأة ووصف محاسن جسدها يختلف كثيراً عن الرَّفَث، الذي هو الفحش في ذكر النساء بحضورهنّ، أي خلط الجنس بالبذاءة، والرّفث غير مقبول أجتماعيّاً حتى في أعراف الدول الغربيّة التي تعتبره بعضها بمثابة تحرّش جنسيّ غير مباشر وتعاقب عليه. لكن حتى هذا فجائز قوله شرعاً، في عِرف الإسلام، ولو كان في الحَرَم المكّي، شريطة عدم تواجد النساء آنذاك.

يروي إبن الأثير المحدِّث في كتابه (النهاية في غريب الأثر) أنّ حصين بن قيس سأل إبن عباس وكان مُحْرِماً: "هل الشِّعرُ من رفث القولِ؟"، فأنشد إبن عبّاس:

وهُنَّ يَمشِينَ بنا هَمِيسَا = إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَميسَا

فقال له صاحبه حصين بن قيس: "أترفثُ وأنتُ مُحْرِم؟!" فقال له: "إنّ الرّفث ما قيل عند النساء"، ثمّ أحرَمَ للصّلاة
انتهى الموضوع

ويقول أمية ابن ابي الصلت:
وفي دينكـم من ربى مريـم آية منبئة والعبـد عيسى بن مريم.... أنـابت لوجـه الله ثـم تبتـلت فسـبح عنهـا لومـة المتلـوم... فـلا هي همت بالنكـاح ولا دنت إلى بشـر منها بفـرج ولا فم... ولطت حجاب البيت من دون أهلها تغيب عنهم في صحارى دمدم... يحـار بها الساري إذا جن ليله وليس وإن كـان النهـار بمغلـم... فقـال ألا لا تجزعـي ولا تكذبي ملائكة من رب عـاد وجـرهم.. أنيبـي وأعطي ما سئلت فإنني رسـول من الرحمـن يأتيـك بابنم... فقـالت له أنى يكـون ولـم أكن بغيـا ولا حبـلى ولا ذات قيـم .. أأخـرج بالرحمـن إن كنت مسلمـا كلامي فأقعـد ما بدا لك أو قم... فسبح ثـم اغترها فالتقيت به غلامـا سـوى الخـلق وليس بتـوأم... بنفخته في الصدر من جيب درعها وما يصرم الرحمن مل أمر بصرم...... فلمـا أتمتـه وجاءت لوضعـه فآوى لهـم مـن لومهـم والتنـدم... وقال من حولهـا جئت منكـرا فحـق بأن يلجى عليـه وتـرجمي.. فأدركهـا من ربها ثـم رحمة بصـدق حـديث مـن نبي مكلم... فقـال لهـا أنـي من اللـه آيـة وعلمـني والله خـير معلـم... وأرسلت ولم أرسل غويا ولم أكن شقيا ولـم أبعث بفحش ومأث....


وجاء في بلوغ الأرب للألوسي عن امرؤ القيس بن حجر الكندي قال هو أمير الشعراء بشهادة خير الأنبياء وسيد البطحاء صلعم وذلك أنه ذكر عنده يوما فقال صلعم ذلك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة يجئ يوم القيامة وبيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار فيروى أن كلا من لبيد وحسان بن ثابت قال ليت هذه المقولة فيّ . (*) بلوغ الأرب في أحوال العرب للألوسي باب امرؤ القيس بن حجر الكندي. قبيلة كندة التي ينتمي لها امرؤ القيس كانت من أكبر قبائل العرب وكان دورها بارزا في الحياة الإسلامية ولقب مثل هذا كان من قبيل استمالتها فلقب أمير الشعراء وقائدهم إلى النار لقب عظيم في قلب البدوي حتى أن حسان بن ثابت فضل وتمني هذا اللقب عن النساء الكواعب والحور العين وأنهار الخمرة واللبن التي وعد بها. قال امرئ القيس : دنت الساعةُ وانشقَّ القمـر عن غزالٍ صاد قلبي ونفر. أحور قد حرتُ في أوصافه ناعس الطرف بعينيه حَوَر. مرَّ يوم العيد في زينتــه فـرماني فتعاطى فعقــر . بسهامٍ من لحـاظٍ فاتــكِ فتَرَكـْني كهشيمِ المُحتظِر. وإذا ما غـاب عني ساعةً كانت الساعـةُ أدهى وأمرّ. كُتب الحسنُ على وجنته بسَحيق المِسْك سطـراً مُختصَر. عادةُ الأقمارِ تسري في الدجى فرأيتُ الليلَ يسري بالقمر. بالضحى والليلِ من طُرَّته فَرْقه ذا النور كم شيء زَهَـر. قلتُ إذ شقَّ العِذارُ خدَّه دنت الساعةُ وانشقَّ القمـر

في موقعة أحد قتل وحشي حمزة أبن عبد المطلب رضى الله عنه أسد الله وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلت هند بنت أبي سفيان كبد حمزة وقالت أبيات تقرع بها المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم هاجها يا حسان وجبريل على لسانك فقال حسان : لعن الاله وزوجها معها * هند الهنود طويلة البظر ـ ـ ـ أخرجت مرقصة إلى أحد * في القوم مقتبة على بكر ـ ـ ـ بكر ثفال لا حراك به * لا عن معاتبة ولا زجر ـ ـ ـ وعصاك إستك تتقين به * دقي العجاية هند بالفهر ـ ـ ـ قرحت عجيزتها ومشرجها * من دأبها نصا على القتر ـ ـ ـ ضلت تداويها زميلتها * بالماء تنضحه وبالسدر ـ ـ ـ أخرجت ثائرة مبادرة * بأبيك وابنك يوم ذي بدر ـ ـ ـ وبعمك المسلوب بزته * وأخيك منعفرين في الجفر ـ ـ ـ ونسيت فاحشة أتيت بها * يا هند ويحك سبة الدهر ـ ـ ـ فرجعت صاغرة بلا ترة * منا ظفرت به ولا نصر ـ ـ ـ زعم الولائد أنها ولدت * ولدا صغيرا كان من عهر. هكذا ذكره الطبري في تاريخ الأمم والملوك والنبي صلى الله عليه يستمع وجبريل والروح القدس ينطق على لسان حسان اللفاظ الأيروتيكا مثل طويلة البظر وإستك وقرحت عجيوتها ومشرجها وعهر ولا أحد أنكر ذلك وما جاء في كتاب الخلفاء للسيوطي عن الخلفاء ربما لا يصدق ما يقرأ أما ما جاء على لسان العارف بالله الإمام النفزاوي في كتابه الروض العاطر في نزهة الخاطر.

كان حسّان بن ثابت ـ كأيّ شاعرٍ ـ جباناً، سيفه لسانه وميدانه كلماته، يطاعن في منامه ويفخر ببطولاته التي اجترحها في أوهامه، أمّا حين يجدّ الجدّ فله في القعود ألف مخرج،

وعند الهروب مائة باب. وكان الجميع على علمٍ بصفته هذه، بمَن فيهم الرّسول، ويروي الأصفهانيّ أنّه أنشدَ النبيَّ شعراً في شجاعته فضحك منه.
قال الزّبير أنّه سمع أنّ حسّان بن ثابت أنشدَ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم:
وقد أروحُ أمامَ الحيِّ مُنتطِقاً = بصارمٍ مثل لون الملح قطّاعِ
يدفعُ عنّي ذبابَ السيف سابغةٌ = موّارةٌ مثل مور النّهي بالقاعِ
في فتيةٍ كسيوفِ الهند أوجُههمْ = لا ينْكُلون إذا ما ثوَّبَ الدّاعي
قال: فضحك رسولُ الله، صلّى الله عليه وسلّم؛ فظنّ حسّانُ أنّه ضحكَ من صفتهِ نفسه مع جُبنه. [ معاهد التنصيص في شواهد التلخيص ـ عبد الرحيم بن أحمد العباسيّ ]
أمّا ابن الأثير المؤرَّخ فيقول عنه بالحرف الواحد "كان حسّان من أجبن الناس، حتى أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، جعله مع النساء في الآطام يوم الخندق"، (والأُطُم: هو الحصن المبنيّ من الحجارة)، ولهذه حكاية يرويها:
كانت صفيّة بنت عبد المطّلب في فارع، حصن حسّان بن ثابت، وكان حسّان بن ثابت مع النساء والصبيان، حيث خندق النبيّ (ص). قالت صفية: فمرّ بنا رجلٌ من يهود، فجعل يطيف بالحصن، فقالت له صفيّة: "إن هذا اليهوديّ يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدلّ على عورتنا مَن وراءنا مِن اليهود، وقد شُغِلَ عنّا رسول الله وأصحابه، فانزلْ إليه فاقتلْه"، فقال حسّان: "يغفر اللهُ لكِ يا بنتَ عبد المطّلب، لقد عرفتِ ما أنا بصاحبِ هذا". قالت صفيّة: فلمّا قال ذلك أخذتُ عموداً، ونزلتُ من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتله، ثم رجعتُ إلى الحصن، فقلت: "يا حسّان، إنزلْ فاسلبْه"، فقال: "ما لي بسلبهِ من حاجةٍ يا بنتَ عبد المطلب". [ أسد الغابة في معرفة الصحابة ]
وتبعاً لذلك لم يشهّد حسّان أيّ موقعة للمسلمين، باستثناء يوم الخندق، حيث خاض معركة طريفة يقصّها علينا ابن الزّبير ويقول:
"كان معنا حسّان بن ثابت ضارباً وَتَداً يوم الخندق، فإذا حملَ أصحابُ رسول الله على المشركين حملَ هو على الوتد فضربه بالسيف؛ وإذا أقبل المشركون انحازَ عن الوتد حتّى كأنّه يقاتل قِرْناً (مُناجزاً)، يتشبّه بهم كأنّه يُري أنّه مجاهدٌ حين جَبُن" [ الأغاني ـ أبو الفرج الأصفهاني ]
ومع كلّ هذا فقد كان حسّان بن ثابت يُكنى "أبو الحُسام" لمناضلته عن رسول الله ولتقطيعه أعراض المُشركين. [أسد الغابة]

الدلالة الإيروتكيّة للحسام
يرتبط الحسام (السيف) ثقافيّاً بالرجولة، خصوصاً وأنّ شكله يقترن برمز القضيب Phallic عند الإنتصاب، أو الفحولة. ومازال الرجال في اليمن يتباهون بتعليقهم السيوف الصغيرة في منتصف أحزمتهم لتبدو وكأنّها أعضاء جنسيّة منتصبة. كما حفل الشعر العربيّ بمثل هذه المقارنات كقول النابغة الذبيانيّ يصف عملية إدخال الذّكَر في فرْج المرأة بالطعان:
وإذا طعنتَ، طعنتَ في مُستهدَفٍ = رابي المَجسَّةٍ، بالعبيرِ مُقرمَدِ
ومثلما اقترنَ الذَّكَر بالسيف، إقترنَ فَرْجُ المرأة بالغِمْد، ومنه قول أبي ذؤيب في امرأةٍ أرادت أَن يُخالَّها خَليلان:
تريدين كيما تجمعيني وخالداً = وهل يُجمع السّيفان، ويحكِ، في غِمْدِ؟
والحسام أو السيف رمز قضيبيّ مشترك في جميع ثقافات الشعوب تقريباً، فمسرحيات شكسبير مثلاً حافلة بالتوريات والرموز التي تقرن السيف والخنجر بالفحولة أو الرجولة. وهنالك من الباحثين مَن يرى في خيار قتل عُطيل لزوجته ديزدمونة خنقاً باستعمال يديه بدلاً من استعمال السيف أو الخنجر كما هو معتاد، كنايةً عن العجز الجنسيّ أو العنّة التي أصابت عُطيل، فالصعوبة التي يلاقيها عطيل في رفع سكّينه لـ"طعن" ديزدمونة توازي عدم قدرته على الإنتصاب.

لسان حسّان
قال النبيّ لحسّان لمّا طلبه لهجو قريش "كيف تهجوهم وأنا منهم؟"، فقال حسّان "واللّه، لأسلنّكَ منهم سلَّ الشّعرة من العجين، فلي مِقْوَل (لسان) ما أحسب أنّه لأحد من العرب، وإنّه ليفري (يشقّ) ما لا تفري الحربة". ثمّ أخرجَ لسانه كأنّه لسان شِجاعٍ (أفعى)، بطرفهِ شامةٌ سوداء، فضربَ به أنفَه، ثمّ ضربَ به ذقنه وقال "لأفرينّهم فريَ الأديمِ (الجلد المدبوغ)، فصُبّ على قريش منه شآبيب شَرٍّ"، فقال له الرسول: "إهجهم كأنّكَ تنضحهم بالنّبْل" [ نكث الهميان ـ الصفديّ ]، وفي رواية الذهبيّ "إنّ روحَ القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله" [تاريخ الأسلام ]
كانت المشكلة الأساسيّة ليست في الهجاء وإنّما في طبيعة المهجو نفسه، فقد كان العلاقات الأسريّة متشابكة بين النبيّ وبين سادة قريش، فأبو سفيان هو إبن عمّ النبيّ وأبو لهب خاله، والنضر بن الحارث إبن خالته، وهكذا فإنّ كلّ تعريض بعرض هؤلاء قد يمسّ بشكل أو بآخر أهل النبيّ نفسه. فبعث به النبيّ الى أبي بكر، لعلمه بالأنساب، وقال له "إئت أبا بكر فإنّه أعلم بأنساب القوم منكَ"، فمضى إلى أبي بكر ليقفَ على أنسابهم فكان أبو بكر يقول له "كفّ عن فلانة وفلانة، واذكرْ فلانة وفلانة"، فجعل حسّان يهجوهم. ولمّا بلغ قريشاً شِعرُه اتّهموا أبا بكر قائلين: "إنّ هذا الشّتمَ ما غابَ عنه إبن أبي قحافة". [ الاستيعاب في معرفة ألأصحاب ـ إبن عبد البر ]

الهجاء الإيروتيكيّ
يتهيّأ لنا، من خلال وصيّة أبي بكر لحسّان بن ثابت وإرشاداته، أنّ التركيز في الهجاء سيكون متمركزاً حول نساء القرشيين، لكن قطعاً لن يكون هذا الهجاء محاورةً فكريّة معهنّ ولا دعوةً للبراز بل "تقطيع للأعراض"، على حدّ تعبير إبن الأثير، وما سيمكننا أن نطلق عليه مصطلح "الهجاء الإيروتيكيّ" الذي سيستعرض فيه الشاعر جسد المهجوّة، علاقاتها الجنسيّة، وأنماط الممارسات الجنسيّة التي تقوم بها. فكانت أوّل ضحايا التشهير الجنسيّ هند، زوج أبي سفيان، سيّد قريش وخصم النبيّ اللدود. أمّا المناسبة فكانت هزيمة المسلمين في معركة أحد.
أنشد حسّان في هجو هند بنت عتبة بن ربيعة ثلاث قصائد أسقطها إبن هشام معتذراً بأنه "تركها وأبياتاً أيضاً له على الدّال وأبياتًا أُخَر على الذّال، لأنّه أقذعَ فيها" [ سيرة إبن هشام ]

(المقطوعة الأولى)
لعنَ الإلهُ، وزوجَها معها = هندَ الهنودِ، طويلةَ البظرِ
أُخرجتِ مرقصةُ الى أُحُدٍ = في القوم مُقتبةً على بكرِ
بكر ثقال، لا حراكَ بهِ = لا عن مُعاتبةٍ ولا زَجرِ
وعصاكِ إسْتكِ تتّقين به = دقّي العجانةَ، هند، بالفهرِ
قرحتْ عجيزتُها ومَشرجُها = من دابها نصّاً على القترِ
ضلّتْ تداويها زميلتُها = بالماءِ تنضحهُ وبالسّدرِ
أخرجت ثائرةً مبادرةً = بأبيكِ وابنكِ يومَ ذي بَدرِ
وبعمّكِ المسلوب بزّته = وأخيكِ مُنعفرين في الجفرِ
ونسيتِ فاحشةً أتيتِ بها = يا هند، ويحكِ، سبّة الدّهرِ
فرجعتِ صاغرةً بلا ترةٍ = منّا، ظفرتِ به، ولا نصرِ
زعمَ الولائدُ أنّها ولدتْ = ولداً صغيراً كان من عُهْرِ

(المقطوعة الثانية)
لمَن الصبيّ بجانب البطحاءِ = في التُّرب ملقىً غير ذي مهدِ؟
نجلتْ به بيضاءُ آنسةٌ = مِن عبدِ شمسٍ، صلْتةُ الخدِّ
تسعى الى "الصَّياح" معولةً = يا هند، إنّك صلبة الحردِ
فإذا تشاءُ دعتْ بمقطرةٍ = تذكي لها بالوّة الهندِ
غلبتْ على شبهِ الغلامِ وقد = بانَ السوادُ لحالكٍ جعدِ
أشرتْ لكاع وكان عادتها = رقّ المشاش بناجذٍ جلدٍ

(المقطوعة الثالثة)
لمَن سواقطُ صبيانٍ منبّذة = أتتْ تفحّصُ في بطحاء أجيادِ؟
باتتْ تمخّض ما كانتْ قوابلها = إلا الوحوش وإلاّ جنّة الوادي
فيهم صبيٌّ له أمٌّ لها نسبٌ = في ذروةٍ من ذرى الأحسابِ أيّادِ
تقولُ وَهْناً، وقد جدَّ المخاضُ لها = يا ليتني كنتُ أرعى الشّولَ للغادي
قد غادروهُ لحرِّ الوجهِ مُنعفِراً = وخالها وأبوها سيّدا النادي

ويروي الصفديّ أنّ الرسول لمّا سمع هجاءه قال له: "لقد شَفيتَ، يا حسّان، وأشفَيت"! ‏[‏11498‏]‏ عمرة بنت رواحة الأنصارية المصدر: الاصابة في تمييز الصحابة
تقدم نسبها في ترجمة أخيها عبد الله بن رواحة هي امرأة بشير بن سعد والد النعمان وهي التي سألت بشيرا أن يخص ابنها منه بعطية دون إخوته فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك والحديث في الصحيحين وهي التي شبب بها قيس بن الخطيم في قصيدته التي يقول فيها‏:‏

وعمرة من سروات النساء = تنفح بالمسك أردانها

.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...