نقوس المهدي
كاتب
تستند شجرة الجنس إلى جذع متين يوزّع المتعة الجنسية بين النساء والرجال على أساس من التفاوت الواضح. يستمدّ هذا الجذع ديمومته من دوغما دينية ترفع من شأن الرجل "درجة" ثم تعطي، بناء عليها، حصة للنساء في المتعة الجنسية، تناظر ربع حصة الرجال: للرجل الحق في أن يقترن شرعيا بأربع نساء، أي أنّ للنساء، شرعياً، حقّا في ربع رجل. هذا إذا استثنينا "ما ملكت أيمانهم"، أي من كنّ في المتناول من النساء، وليس محدداً بالضبط من تكون أولئك النسوة: عبدات، خادمات، أسيرات...
هذا في الدنيا. أما في الآخرة، فتغيب النساء تماما عن مغريات اللذة الجنسية، عن "الأجر" الجنسي الذي يستحقّه المؤمن الذي كانت الجنّة نصيبه. هناك، في الحياة الأخرى، تحضر "الحواري" و"الكواعب" و"العذارى"، بأعداد لا تحصى وعلى استعداد أبدي لتلبية الرغبة الجنسية التي ستبقى متأججة، فيما المؤمنات المستحقات الجنة، غائبات عن المشهد.
هذا التفاوت الصارخ في توزيع اللذة الجنسية قائم في جذع قوي آمن، تتفرّع منه أوراق، سقتها مجتمعات بفقهها وتقاليدها وعاداتها وأمزجتها. فازدهرت تلك الأوراق، وأثمرت وروداً، لم يفلح عطرها، ولا ألوانها، في منع لسعة أشواكها، بعدما أمعن فقهاء الدوغما في تقليص حقوق النساء الجنسية، القليلة أصلاً: في سرقة شبابهنّ أولاً، حين نصّت قوانينهم على حقّ تزويج البنية، التي بلغت لتوّها "العمر الشرعي"، تسع سنوات في أقصى الحالات، الى رجل، لا مانع شرعيّاً أن يكون من عمر جدها. هذا مثل "متطرّف"، تراوح حوله الفروق المعتمدة بين العشرة والعشرين، بل الثلاثين سنة، أحياناً. لكن هذه الفروق هي مزيد من السرقة، ليس فقط للمتعة، إنما للحياة بأسرها. أما ترجماتها، حتى الأقلّ تطرفاً منها، فتجدها على طول مجتمعاتنا وعرضها، في العدد الهائل من النساء المترمِّلات، مقابل العدد شبه المعدوم من المترمِّلين. يكون هو عازباً، يبحث عن عروس، أحياناً بعدما بلغ الخمسين أو الستين؛ أو يكون متزوّجاً "متمكّناً"، تجاوز العمرين، يريد أن يجدّد شبابه، فيبحث عن عروس لم تتجاوز السادسة عشرة. ما المانع القانوني من فارق كهذا؟ من الذي سوف يستنكر المبدأ؟ من الذي سيتصدّى لفرصة كهذه؟ الفارق المطلوب في العمر هو كالفرق بين اللذّتين المتاحتين: للرجال دوام هذه اللذة، مهما طال عمرهم، مهما ضعفت طاقاتهم، بل رغبتهم، مهما انعدمت جاذبيّتهم. استمرار هذه اللذة، تجديدها وتجديد الرغبة فيها عبر قطف أصغر البنات وأنداهنّ، الأمتع، الأسهل جنسياً. اما البنت التي تفتّحت عيناها على رجل واحد، أو ربعه، أو نصفه بحسب اشياء كثيرة، هذه البنت، لا تتصوّر، لا تتخيل، لا تأمل أنها يوماً ما، قد تجد من يجدّد شباب رغبتها ولذّتها، بعد "عمر معيّن"، يبدأ من الثلاثين!
ورقة أخرى، خضراء أيضاً: العذرية. إنها ثمينة وثقيلة الى حدّ أن النساء اخترعن طرقاً وحيلاً شتى من أجل تفادي مواجهة حقيقتها، التي تكون مدمّرة لو تجاسرت واحدة منهن ولبّت نداء رغبتها العفوية. الرجل عندما لا يوافق على أقلّ من عذرية، والمجتمع عندما يوقّع طلبه هذا، أو يموّهه أو يرقّعه، ذاك لا يعني إلا شيئاً واحداً: من حقه أن يكون الأول، وطبعاً الأخير، أيضاً. إذ إن زناها يعاقَب بالموت، فيما زناه هو لا يتجاوز الجلد. ولا أسباب "تخفيفية" لها، أو استئناف، أو تفهّم لما تكون قد تعرضت له من إغراء طبيعي يحييه حرمان جنسي صارخ، في مقابل تفلّته الجنسي هو، ضمن أطر "تنظّمه" أو "تقوننه". بالعكس: الأسباب التخفيفية تُمنح لوالدها أو لأخيها أو لزوجها (وأحيانا لإبن عمّها) إذا قتلوها "إذا شكّوا في سلوكها"؛ و"السلوك" قد يكون ابتسامة أو غمزة أو سلاماً. وقد يكون في حالات نادرة، علاقة جنسية أنجبت "سفاحاً". ورقة أخرى، رسالة أخرى، استبطنتها النساء، فعزفن بسببها عن القيام بخيارات جنسية، أخرسن رغباتهنّ وعزفن عن كل مبادرة تلبّي حاجتهن الطبيعية هذه، فاندمجن تماما في آلية انتظار الصيّاد الذي سوف يختار واحدة منهن، فـ"تحبه".
ليست هذه وحدها حدود "الحقّ" الجنسي المقدّر لها أن تنظّم متعة النساء الجنسية. هناك شيء آخر، أكثر خطورة، يعيد النساء الى نوع من الانكفاء على أجسادهن، يتجاوزن رغباتهنّ، ومن بعدها لذتهنّ، ليرسين على استباحتهنّ الصارخة. قطعاً لدابر الرغبة من الاساس، تُختَن البنات منذ الصغر، في أنحاء واسعة؛ تُبتَر أجزاء من أعضائهن التناسلية المسؤولة عن إيقاظ الرغبة. ما يضمر أن الرجل الذي يرغب بامرأة لن يسأل عن رغبتها هي، اذ يفترض أنها غير موجودة، وإذا وجدت، فهذا هو العهر بذاته. الإغتصاب لا يقوم على منطق مختلف. لا تزال معظم قوانيننا تعفي المغتصب من العقوبة إذا تزوّج ضحيته: وإن أثمر هذا الزواج طفلاً بعد ذلك، فلن يكون "سفاحاً"، كما هي حال شابة حملت من شاب التقت به بمحض رغبتها أو إرادتها. المعنى واضح: من تنال لذّة جنسية سعت إليها، على الرغم من الرقابة، تحمل بـ"سفاح". ومن لم تنلها على الاطلاق، إنما كانت وعاء مكرهاً بالألم المعنوي والجسدي، للذة رجل غريب، فتحمل بابن شرعي، شرط أن تذعن لواقعة الاغتصاب وتعيش في كنف زوج، كانت أولى إطلالاته اغتصاباً. من النوافل بعد ذلك أن يُرفض الاعتراف بشيء اسمه "اغتصاب الزوجة"؛ فهي ملك زوجها، لعبته، يفعل بها ما يريد، لا دخل لأحد به. اغتصابه لزوجته من الكلمات الغريبة عليه.
تبلغ الاستباحة سطح المشهد بالتحرّش الجنسي. هي كلمة جديدة توطّنت في لغتنا الآن، لكن مضمونها عبَرَ العصور، واستقر الآن على ما نشاهده في الشارع وأماكن العمل والامكنة العامة: انه التحرّش الجنسي. كان يحصل وراء أسوار الحريم، وفي اللقاءات المغلقة للعائلات الموسعة. وهو الآن خرج الى العلن، وصار له اسم.
الاوراق الاخرى التي أثمرتها شجرة الحرمان الجنسي، لا تقل قدرة على إطفاء رغبة النساء بالجنس وتحريم لذتهن. أهمّها البغاء. نظام البغاء ليس فيه لبس: للرجال، مقابل مبالغ محدّدة من المال، الحقّ القانوني والاجتماعي في استعارة نساء يمتّعونهم جنسياً، لقاء مقابل مادي. نظام ضمني وشبه ضمني وشبه علني يقبض على مفاصل هذا النظام ويسهر على سيره، "ضمن القوانين المرعية". اللافت مثلاً أنه كلما كان الرجل الراغب بشراء هذه الخدمة الجنسية متمكناً، قادرا على دفع المبلغ عالياً، حصل على بنت هوى حلوة، وصغيرة، أصغر عمر ممكن. وكلما انخفضت إمكانات الرجل الباحث عن هذه اللذة، اقتنع بابنة هوى أقل جاذبية، أقل شباباً... إذا وجدها. كل من تابع أدبيّات البغاء لاحظ أن اللواتي يمارسنه لا يشعرن مع "زبائنهن" بأي لذة. خلف عبارات الحرارة الجنسية المفتعلة، تشعر المومس بالقرف، بالضياع او بالغربة، بالمسؤولية تجاه من تعيلهم. مع ذلك، تسمّى "عاهرة" من بحثت عن لذتها، من دون مقابل مادي، وغالبا بالطرق الشرعية. "عاهرة"، لأنها صاحبة رغبة. تتساوى مع العاهرة التي لم تبحث عن لذة، إنما عن مال مقابل بيع اللذة لطالبيها.
المصير نفسه تلاقيه كلمة "سفاح"، التي تنطبق على ثمرة علاقة مرغوبة، لكنها تغيب عن انتهاك جسد المرأة بالاغتصاب، على أنواعه. "العاهرة"، "السفاح": ازاحتهما عن المعاني المطابقة لهما قد تكون حيلة ذهنية بطلها الفقيه الدوغمائي. دوافعه؟ ربما الحرص على حماية ثوابته، تفادياً لرفع الغطاء عن ظلم واضح، وإخراجه الى حيّز الوعي حيث تظهر واضحة المكاييل الجنسية المتفاوتة. يقولون أشياء عظيمة عن حضارتنا، ولا يستطيعون بعد ذلك أن يقولوا عن السفاح والعاهرة، إن الاول هو نتيجة اغتصاب، وإن الثانية هي امرأة صاحبة رغبة جنسية. سنكون في هذه الحال كمن يضع إصبعه على الخلل، ولا أحد يريد ذلك الآن. لا احد، من بين القابضين على امور الدوغما والفقه.
¶¶¶
يصحّ القول بأن ما سبق هو عبارة عن مشهد بانورامي يراوح بين ذروتين:
الذروة الاولى هي الحريم الامبراطوري. ما أتيح من النساء للسلاطين والخلفاء يصل الى حدّ الأسطورة. متاهات بلاطاتهم تضجّ بكلّ اشكال النساء الجميلات والشابات، وبفنون من التلذذ بهنّ، بصوتهنّ، ورقصهنّ، وشعرهن. نساء جرى انتقاؤهنّ عاريات في أسواق العبودية، أو خُطفن، أو سُبين، أو وقعن تحت نظر السلطان أو دلاّليه. في قمة السلطة والعزّ تكون النساء متوافرات بصورة خرافية، بأعداد وأجيال لا تُحصى، قمة السلطة هي البيئة التي تتوافر على العدد الأكبر من النساء الجميلات الشابات.
كلما انحدرنا في السلّم الاجتماعي، انخفض عددهن ومستوى جمالهن. هكذا تكون حصّة التاجر الميسور الاقتران بأربع جميلات، واذا اقتضت الحاجة، يطلّق واحدة، ليقترن بجديدة، بحيث يمكن أن تسكن تحت سقفه الشابة التي لم تتجاوز الثامنة عشرة، مع ضرّتها الكهلة الأربعينية الباعثة على الملل، فيما هو شيخ في أواسط ستيناته؛ هذا من دون حساب "من ملك ايمانه"... ولكنه يتحسّر لانه لا يستطيع أكثر من ذلك؛ فالسلطان مثله الأعلى في الاخلاق والمعاملات والنساء... خصوصاً. أما من كان قصير الباع، يكسب عيشه يوميا بشقاء، فبالكاد يتيح للذّته إمرأة واحدة، قد تكون شابة، قد تكون مقبولة. قد يحبها، قد يألف العيش معها، قد يهنأ بها. لكن في قلبه حسرة، فعينه، هو أيضاً، على مثله الأعلى، السلطان الذي نال جميلات الدنيا وشاباتها.
هكذا ترتسم الطوبوغرافيا الجنسية وتوزّع خرائطها بين النساء والرجال: في القمة، أصحاب السلطة المطلقة، الى جوارهم نسبة خارقة من الشابات الجميلات. ثم انخفاض هذه النسبة حتى بلوغ القاعدة العريضة للهرم، حيث رجال محرومون، او يشعرون بالحرمان. النساء بدورهن، حيلتهنّ قليلة في التحرك ضمن الهرم. هنّ مثل أحجار لعبة، يحدد لاعبها حركتها. وحافز هذه الحركة هو توفير النسبة العليا من اللذة الى الرجال الاقوى، الذين هم على رأس الجميع. تتناغم هذه الطوبوغرافيا مع الشجرة الدوغما، وتنطق مثلها بحرمان جنسي عريق، بسكوت أكثر عراقة عن الحرمان الجنسي الذي يعبر أقدار نسائنا.
هل تغيّرت هذه الطوبوغرافيا؟
.
هذا في الدنيا. أما في الآخرة، فتغيب النساء تماما عن مغريات اللذة الجنسية، عن "الأجر" الجنسي الذي يستحقّه المؤمن الذي كانت الجنّة نصيبه. هناك، في الحياة الأخرى، تحضر "الحواري" و"الكواعب" و"العذارى"، بأعداد لا تحصى وعلى استعداد أبدي لتلبية الرغبة الجنسية التي ستبقى متأججة، فيما المؤمنات المستحقات الجنة، غائبات عن المشهد.
هذا التفاوت الصارخ في توزيع اللذة الجنسية قائم في جذع قوي آمن، تتفرّع منه أوراق، سقتها مجتمعات بفقهها وتقاليدها وعاداتها وأمزجتها. فازدهرت تلك الأوراق، وأثمرت وروداً، لم يفلح عطرها، ولا ألوانها، في منع لسعة أشواكها، بعدما أمعن فقهاء الدوغما في تقليص حقوق النساء الجنسية، القليلة أصلاً: في سرقة شبابهنّ أولاً، حين نصّت قوانينهم على حقّ تزويج البنية، التي بلغت لتوّها "العمر الشرعي"، تسع سنوات في أقصى الحالات، الى رجل، لا مانع شرعيّاً أن يكون من عمر جدها. هذا مثل "متطرّف"، تراوح حوله الفروق المعتمدة بين العشرة والعشرين، بل الثلاثين سنة، أحياناً. لكن هذه الفروق هي مزيد من السرقة، ليس فقط للمتعة، إنما للحياة بأسرها. أما ترجماتها، حتى الأقلّ تطرفاً منها، فتجدها على طول مجتمعاتنا وعرضها، في العدد الهائل من النساء المترمِّلات، مقابل العدد شبه المعدوم من المترمِّلين. يكون هو عازباً، يبحث عن عروس، أحياناً بعدما بلغ الخمسين أو الستين؛ أو يكون متزوّجاً "متمكّناً"، تجاوز العمرين، يريد أن يجدّد شبابه، فيبحث عن عروس لم تتجاوز السادسة عشرة. ما المانع القانوني من فارق كهذا؟ من الذي سوف يستنكر المبدأ؟ من الذي سيتصدّى لفرصة كهذه؟ الفارق المطلوب في العمر هو كالفرق بين اللذّتين المتاحتين: للرجال دوام هذه اللذة، مهما طال عمرهم، مهما ضعفت طاقاتهم، بل رغبتهم، مهما انعدمت جاذبيّتهم. استمرار هذه اللذة، تجديدها وتجديد الرغبة فيها عبر قطف أصغر البنات وأنداهنّ، الأمتع، الأسهل جنسياً. اما البنت التي تفتّحت عيناها على رجل واحد، أو ربعه، أو نصفه بحسب اشياء كثيرة، هذه البنت، لا تتصوّر، لا تتخيل، لا تأمل أنها يوماً ما، قد تجد من يجدّد شباب رغبتها ولذّتها، بعد "عمر معيّن"، يبدأ من الثلاثين!
ورقة أخرى، خضراء أيضاً: العذرية. إنها ثمينة وثقيلة الى حدّ أن النساء اخترعن طرقاً وحيلاً شتى من أجل تفادي مواجهة حقيقتها، التي تكون مدمّرة لو تجاسرت واحدة منهن ولبّت نداء رغبتها العفوية. الرجل عندما لا يوافق على أقلّ من عذرية، والمجتمع عندما يوقّع طلبه هذا، أو يموّهه أو يرقّعه، ذاك لا يعني إلا شيئاً واحداً: من حقه أن يكون الأول، وطبعاً الأخير، أيضاً. إذ إن زناها يعاقَب بالموت، فيما زناه هو لا يتجاوز الجلد. ولا أسباب "تخفيفية" لها، أو استئناف، أو تفهّم لما تكون قد تعرضت له من إغراء طبيعي يحييه حرمان جنسي صارخ، في مقابل تفلّته الجنسي هو، ضمن أطر "تنظّمه" أو "تقوننه". بالعكس: الأسباب التخفيفية تُمنح لوالدها أو لأخيها أو لزوجها (وأحيانا لإبن عمّها) إذا قتلوها "إذا شكّوا في سلوكها"؛ و"السلوك" قد يكون ابتسامة أو غمزة أو سلاماً. وقد يكون في حالات نادرة، علاقة جنسية أنجبت "سفاحاً". ورقة أخرى، رسالة أخرى، استبطنتها النساء، فعزفن بسببها عن القيام بخيارات جنسية، أخرسن رغباتهنّ وعزفن عن كل مبادرة تلبّي حاجتهن الطبيعية هذه، فاندمجن تماما في آلية انتظار الصيّاد الذي سوف يختار واحدة منهن، فـ"تحبه".
ليست هذه وحدها حدود "الحقّ" الجنسي المقدّر لها أن تنظّم متعة النساء الجنسية. هناك شيء آخر، أكثر خطورة، يعيد النساء الى نوع من الانكفاء على أجسادهن، يتجاوزن رغباتهنّ، ومن بعدها لذتهنّ، ليرسين على استباحتهنّ الصارخة. قطعاً لدابر الرغبة من الاساس، تُختَن البنات منذ الصغر، في أنحاء واسعة؛ تُبتَر أجزاء من أعضائهن التناسلية المسؤولة عن إيقاظ الرغبة. ما يضمر أن الرجل الذي يرغب بامرأة لن يسأل عن رغبتها هي، اذ يفترض أنها غير موجودة، وإذا وجدت، فهذا هو العهر بذاته. الإغتصاب لا يقوم على منطق مختلف. لا تزال معظم قوانيننا تعفي المغتصب من العقوبة إذا تزوّج ضحيته: وإن أثمر هذا الزواج طفلاً بعد ذلك، فلن يكون "سفاحاً"، كما هي حال شابة حملت من شاب التقت به بمحض رغبتها أو إرادتها. المعنى واضح: من تنال لذّة جنسية سعت إليها، على الرغم من الرقابة، تحمل بـ"سفاح". ومن لم تنلها على الاطلاق، إنما كانت وعاء مكرهاً بالألم المعنوي والجسدي، للذة رجل غريب، فتحمل بابن شرعي، شرط أن تذعن لواقعة الاغتصاب وتعيش في كنف زوج، كانت أولى إطلالاته اغتصاباً. من النوافل بعد ذلك أن يُرفض الاعتراف بشيء اسمه "اغتصاب الزوجة"؛ فهي ملك زوجها، لعبته، يفعل بها ما يريد، لا دخل لأحد به. اغتصابه لزوجته من الكلمات الغريبة عليه.
تبلغ الاستباحة سطح المشهد بالتحرّش الجنسي. هي كلمة جديدة توطّنت في لغتنا الآن، لكن مضمونها عبَرَ العصور، واستقر الآن على ما نشاهده في الشارع وأماكن العمل والامكنة العامة: انه التحرّش الجنسي. كان يحصل وراء أسوار الحريم، وفي اللقاءات المغلقة للعائلات الموسعة. وهو الآن خرج الى العلن، وصار له اسم.
الاوراق الاخرى التي أثمرتها شجرة الحرمان الجنسي، لا تقل قدرة على إطفاء رغبة النساء بالجنس وتحريم لذتهن. أهمّها البغاء. نظام البغاء ليس فيه لبس: للرجال، مقابل مبالغ محدّدة من المال، الحقّ القانوني والاجتماعي في استعارة نساء يمتّعونهم جنسياً، لقاء مقابل مادي. نظام ضمني وشبه ضمني وشبه علني يقبض على مفاصل هذا النظام ويسهر على سيره، "ضمن القوانين المرعية". اللافت مثلاً أنه كلما كان الرجل الراغب بشراء هذه الخدمة الجنسية متمكناً، قادرا على دفع المبلغ عالياً، حصل على بنت هوى حلوة، وصغيرة، أصغر عمر ممكن. وكلما انخفضت إمكانات الرجل الباحث عن هذه اللذة، اقتنع بابنة هوى أقل جاذبية، أقل شباباً... إذا وجدها. كل من تابع أدبيّات البغاء لاحظ أن اللواتي يمارسنه لا يشعرن مع "زبائنهن" بأي لذة. خلف عبارات الحرارة الجنسية المفتعلة، تشعر المومس بالقرف، بالضياع او بالغربة، بالمسؤولية تجاه من تعيلهم. مع ذلك، تسمّى "عاهرة" من بحثت عن لذتها، من دون مقابل مادي، وغالبا بالطرق الشرعية. "عاهرة"، لأنها صاحبة رغبة. تتساوى مع العاهرة التي لم تبحث عن لذة، إنما عن مال مقابل بيع اللذة لطالبيها.
المصير نفسه تلاقيه كلمة "سفاح"، التي تنطبق على ثمرة علاقة مرغوبة، لكنها تغيب عن انتهاك جسد المرأة بالاغتصاب، على أنواعه. "العاهرة"، "السفاح": ازاحتهما عن المعاني المطابقة لهما قد تكون حيلة ذهنية بطلها الفقيه الدوغمائي. دوافعه؟ ربما الحرص على حماية ثوابته، تفادياً لرفع الغطاء عن ظلم واضح، وإخراجه الى حيّز الوعي حيث تظهر واضحة المكاييل الجنسية المتفاوتة. يقولون أشياء عظيمة عن حضارتنا، ولا يستطيعون بعد ذلك أن يقولوا عن السفاح والعاهرة، إن الاول هو نتيجة اغتصاب، وإن الثانية هي امرأة صاحبة رغبة جنسية. سنكون في هذه الحال كمن يضع إصبعه على الخلل، ولا أحد يريد ذلك الآن. لا احد، من بين القابضين على امور الدوغما والفقه.
¶¶¶
يصحّ القول بأن ما سبق هو عبارة عن مشهد بانورامي يراوح بين ذروتين:
الذروة الاولى هي الحريم الامبراطوري. ما أتيح من النساء للسلاطين والخلفاء يصل الى حدّ الأسطورة. متاهات بلاطاتهم تضجّ بكلّ اشكال النساء الجميلات والشابات، وبفنون من التلذذ بهنّ، بصوتهنّ، ورقصهنّ، وشعرهن. نساء جرى انتقاؤهنّ عاريات في أسواق العبودية، أو خُطفن، أو سُبين، أو وقعن تحت نظر السلطان أو دلاّليه. في قمة السلطة والعزّ تكون النساء متوافرات بصورة خرافية، بأعداد وأجيال لا تُحصى، قمة السلطة هي البيئة التي تتوافر على العدد الأكبر من النساء الجميلات الشابات.
كلما انحدرنا في السلّم الاجتماعي، انخفض عددهن ومستوى جمالهن. هكذا تكون حصّة التاجر الميسور الاقتران بأربع جميلات، واذا اقتضت الحاجة، يطلّق واحدة، ليقترن بجديدة، بحيث يمكن أن تسكن تحت سقفه الشابة التي لم تتجاوز الثامنة عشرة، مع ضرّتها الكهلة الأربعينية الباعثة على الملل، فيما هو شيخ في أواسط ستيناته؛ هذا من دون حساب "من ملك ايمانه"... ولكنه يتحسّر لانه لا يستطيع أكثر من ذلك؛ فالسلطان مثله الأعلى في الاخلاق والمعاملات والنساء... خصوصاً. أما من كان قصير الباع، يكسب عيشه يوميا بشقاء، فبالكاد يتيح للذّته إمرأة واحدة، قد تكون شابة، قد تكون مقبولة. قد يحبها، قد يألف العيش معها، قد يهنأ بها. لكن في قلبه حسرة، فعينه، هو أيضاً، على مثله الأعلى، السلطان الذي نال جميلات الدنيا وشاباتها.
هكذا ترتسم الطوبوغرافيا الجنسية وتوزّع خرائطها بين النساء والرجال: في القمة، أصحاب السلطة المطلقة، الى جوارهم نسبة خارقة من الشابات الجميلات. ثم انخفاض هذه النسبة حتى بلوغ القاعدة العريضة للهرم، حيث رجال محرومون، او يشعرون بالحرمان. النساء بدورهن، حيلتهنّ قليلة في التحرك ضمن الهرم. هنّ مثل أحجار لعبة، يحدد لاعبها حركتها. وحافز هذه الحركة هو توفير النسبة العليا من اللذة الى الرجال الاقوى، الذين هم على رأس الجميع. تتناغم هذه الطوبوغرافيا مع الشجرة الدوغما، وتنطق مثلها بحرمان جنسي عريق، بسكوت أكثر عراقة عن الحرمان الجنسي الذي يعبر أقدار نسائنا.
هل تغيّرت هذه الطوبوغرافيا؟
.