نقوس المهدي
كاتب
تُعَدُّ الثقافةُ العربية الإسلامية التي نشأت في أعقاب الفتوحات العربية، خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، واحدة من الثقافات التي نجد عناصر الحسّيّة المعافاة فيها قويّة جداً. ففي عهد تلك الفتوحات انتشر الدين الإسلاميّ واللّغة العربية على مساحات واسعة امتدّت من الحدود الغربية للصّين حتى جبال البيرنيه. وقد استطاع العرب الذين اختلطوا بالشعوب المغلوبة أن يحقّقوا إنجازات كبيرة في مختلف مجالات النشاط البشريّ. وكانت الثقافة الجنسية المميَّزة من إنجازات الحضارة العربية الإسلامية التي لا تقبل الجدل.
فلئن كانت المسيحية في الشرق (في الإمبراطورية البيزنطية وفي الأراضي التي كانت تابعة لنفوذها الثقافيّ)، أو في أوروبا الغربية، تنظر إلى الجانب الجسديّ من الوجود البشريّ بوصفه شرّاً لا بدّ منه، انطلاقاً من اعتقادها بأنّ حالة الإنسان الملائكية، ونَبْذَ الحياة الزوجية أفضلُ بكثير وأَحَبُّ إلى الله من العلاقة السّليمة مع الجنس الآخر، فإنّ الدّين الإسلاميّ وضع العلاقة بين الجنسين في إطار محدَّد. إذ، وَفقاً للقرآن الذي يعلِّم المسلمين أصول الدين، يحقّ للرجل أن تكون له أربع زوجات وعددٌ من الإماء غيرُ محدود. هذه التعاليم التي ينطوي عليها الدّين الإسلامي تكشف حالاً عن طابعه الأبويّ (البطركي) الشديد الذكورية، وعن كونه يعطي الدّور الرّئيس لمصالح الرجال في المجتمعات التي انتشر فيها.
كما أنّ قواعد الطّلاق البسيطة أيضاً أعطت الرجال المسلمين قدْراً معلوماً من الحرّية الجنسية، إذ يكفي الرجلَ، إذا أراد أن يطلِّق زوجته، أن يقول لها ثلاث مرّات متتالية: أنتِ طالق. وبعد ذلك يستطيع الزواج مرّة أخرى، إذا ما توفّر له المال الكافي. <BR>وفي المجتمعات الإسلامية التقليدية أنيط دور كبير بالإماء الجواري اللاتي كنَّ في بادئ الأمر أسيرات، ثم جرى نقلُهنّ فيما بعدُ من بلدان بعيدة كإماء. فكانوا يعلِّمون الجميلات والذكيَّات منهنَّ في مدارسَ خاصّة بهنّ الغناءَ، والرقصَ، والعزفَ على الآلات الموسيقية، ونَظْمَ الشعر، من أجل إمتاع الرجل ليس جسدياً فقط، بل وروحياً أيضاً. فقد كانت الإماء يُبَعْنَ ويُشترَيْن بأعداد كبيرة في أسواق النخاسة، حيث يستطيع من يتوفّر من الرجال على قدْر كاف من المال أن يتمتّع ما طاب له، ثم أن يبدِّل ما عنده من حريم بالتدريج.
هذا الوضع في مجالات العلاقات الجسدية هو ما أثمر عدداً كبيراً من النكات والأقوال المأثورة والدعابات ذات الطابع الجنسيّ، المبثوثة هنا وهناك، في مختلف مؤلَّفات القرون الوسطى. وإلى جانب ذلك، فإنّ كثيراً من الشعراء كانوا يكتبون أشعاراً إيروسية. فالمَشاهد الإيروسية موجودة في الروايات والقصص الشعبية (وإن كان نصيبها ليس بالقدْر الذي قد نظنّه للوهلة الأولى).
أما كتب الأدب الإيروسيّ الذي ينتمي إليه كتاب النفزاوي “الروض العاطر في نزهة الخاطر” ، فإنها، كما يتبيَّن، قليلة العدد للغاية. ذلك أنّ المستعرب الألمانيّ العظيم كارل بروكلمان (1868- 1956)، الذي كرّس معظم سنوات حياته لوضع دليل كلاسيكيّ بأسماء الكتّاب العرب ومؤلَّفاتهم، لا يشير إلاّ إلى ثمانية كتّاب، غير النفزاوي، كتبوا في هذا الباب. والطريف أنّ بلاد شمال أفريقيا، موطنَ النفزاوي نفسه، أنجبت أربعة منهم. وينبغي القول في هذا الخصوص إنّ من كتبوا في مواضيع أخرى يُعَدّون بالعشرات، إن لم نقل بالمئات. على أن ما وصلنا من مخطوطات إيروسية ليس كبيراً، ولم يحظََ بشرف النشر منه إلا واحدٌ من موطن النفزاوي هو أبو علي محمد بن أحمد التِّجاني (عاش في القرنين 7 و8 الميلاديين) الأكثرُ شهرة بفضل كتاب له يصف فيه رحلاته في بلدان شمال أفريقيا. (بل صدرت كتب تراثية إيروسية أخرى، لكنّ السيّد ميكولسكي لم يكن قد وصله منها شيء وهو يكتب هذا الموضوع.- ن.ن.). وقد صدرت عام 1848 مقتطفات من كتابه “تحفة العروس وبهجة النفوس” مترجمة إلى الفرنسية
(آهٍ منكم، أيّها الفرنسيون!)، وفي عام 1317هـ. (1899- 1900) صدرت في مدينة فاس المغربية طبعة حجرية، هي أوّل طبعة للنص الكامل من هذا الكتاب.
أما أبو علي عمر بن محمد النفزاوي فنكاد لا نعرف عن حياته شيئاً. إلا أن نسبتَه تشير إلى أنه ينحدر من أسرة نفزاوة البربرية التي كان جزء منها يعيش في الأصل على أراضي الجزائر اليوم، وجزء آخر في ليبيا المعاصرة. فالبربر شعب عريق يعيش في شمال أفريقيا منذ أقدم العصور. وأوّل آثار مكتوبة ورد فيها ذِكر للبربر تعود إلى مصر القديمة. وعندما جاء العرب المسلمون إلى بلدان المغرب في القرن السابع الميلادي قاومهم البربر مقاومة ضارية قبل أن يعتنقوا الإسلام ويختلطوا بالقادمين. ثم تشكَّلت في القبائل البربرية شريحة مثقفة لم تكتف بهضم الثقافة العربية الإسلامية، بل أعطت إبداعات ثقافية جديدة. وعاش أبناء القبائل البربربية المتعلِّمون، مثلهم مثل إخوانهم العرب، في مختلف مدن المغرب، فكانوا كثيراً ما يعملون في خدمة الحكّام المحليِّين، ومؤلِّف كتاب “الروض العاطر في نزهة الخاطر” واحد منهم. لقد امتدّت حياته ما بين القرنين 14 و15 الميلاديين، أيام كان موطنه تونس تحت حكم سلالة الحفصيِّين (1228-1534) المنحدرين من أصول بربرية محلية. وينظر التوانسة اليوم إليهم بوصفهم زعماء وطنيين حقيقيين ازدهرت بلادهم في ظلّ حكمهم. ومن أبرز زعماء الحفصيين السلطان أبو الفارس عبد العزيز (1394- 1433)، وكان يساعده في إدارة شؤون دولته وزيره الحكيم (رئيس الحكومة في أيامنا) محمد بن عوان الزواوي الذي كان، كما ينبغي لمسؤول بارز، راعياً حقيقياً للآداب أحاط نفسه بالمثقفين من أبناء زمانه. وقد وضع النفزاوي كتابه “الروض العاطر...” يوم كان يعمل في خدمة هذا الوزير، تلبية لطلب منه.
وبصرف النظر عمّا في “الروض العاطر” من حسنات أكيدة، فهيهات أن يكون الكتاب لاقى انتشاراً يتعدّى حدود دائرة ضيِّقة جدّاً من الحاشية. ذلك أن الكتب كانت، في العادة، تُنسَخ مرّات عديدة، فوصلنا قسم كبير منها مخطوطاً. أمّا “الروض العاطر...” فلا نعرف إلا نسختين منه، إحداهما موجودة في باريس اليوم، والأخرى في مدينة غوتا الألمانية. وكانت النسخة الباريسية وقعت في أيدي الجيش الفرنسي أيام حربه الاستعمارية في الجزائر. وفي عام 1850 قام مستعرب فرنسيّ، رغب في التخفّي وراء اسم مستعار، هو البارون ر.، النقيب في قيادة الأركان الفرنسية، فنشر في مدينة الجزائر ترجمة “الروض العاطر” بالفرنسية. على أن اختيار هذا القناع الأدبيّ لم يأتِ مصادفة على الإطلاق، إذ جرت العادة أن يخدم قيادات الأركان في جميع الجيوش في العالم ضبّاط مثقفون. وربما كان البارون ر. هو نفسه المستعرب الفرنسي، الإيطالي الأصل، البارون ب ـ ر سانغينيتّي (1811 – 1883) أحد المشاركين في الترجمة الفرنسية لمؤلَّف الرحَّالة المغربي الشهير ابن بطوطة الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. وكانت مخطوطة هذا الكتاب أيضاً، شأنها شأن مخطوطة “الروض العاطر...”، وقعت في أيدي الفرنسيين كغنيمة حرب في الجزائر.
هكذا عرفت أوروبا رسالة النفزاوي في ترجمة حظيت بشعبية معيَّنة في أوساط النخبة الفرنسية البوهيمية المثقفة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ثم أعيد نشرها ثلاث مرات. فقد قام المستعرب الإنكليزي الرحّالة المعروف، مترجم “ألف ليلة وليلة” والمتبحِّر فيها روبرت بيرتون (1821-1890) بترجمة كتاب النفزاوي إلى الإنكليزية عام 1886، ولكنْ ليس عن الأصل (فلعلّ المخطوطة العربية لم تكن في متناول يده)، بل عن الترجمة الفرنسية. ثم صدرت الطبعة الثانية من هذه الترجمة الإنكليزية عام 1934.
وفي بداية القرن العشرين تذكّر المغاربة، ربَّما تحت تأثير الفرنسيين، تراثهم في مجال الأدب الإيروسي. فقد سبق أن أشرنا إلى أن كتاباً مشابهاً من كتب التِّجاني صدر في فاس. وسرعان ما تبعته طبعة حجرية أخرى من “الروض العاطر ونزهة الخاطر” عام 1318 هـ. (1900-1901) في فاس أيضاً. أما أول طبعة حديثة من رسالة النفزاوي فظهرت في تونس عام 1928، ثم توالى نشرها مراراً. وفي العامين 1926 و 1929 ظهرت الترجمة الألمانية لهذا الكتاب الإيروسي من اللغة العربية بقلم مستعرب اسمه فون ريتوكس.
وعندما كان كاتب هذه السطور، أواخر نيسان/أبريل 1986، ينعم بفيء نخيل تونس قدَّم الشاعر التونسي عبد الله القاسمي إلى ضيفه الروسيّ هديَّة هي نسخة من إحدى طبعات “الروض العاطر في نزهة الخاطر”. وقال القاسمي باعتزاز إنّ هذا الكتاب ساهم بقسط وافر في تطوير ثقافة العالَم الإيروسية. وحين عاد كاتب هذه السطور إلى بلاده لم يرفع عينيه عن الكتاب حتى فرغ من قراءته، فاقتنع بأنه أصبح مالكَ نصٍّّ ثمين بحقّ. وفي عام 1994 أصدر الترجمة الروسية الأولى لكتاب النفزاوي، ثم صدرت الطبعة الثانية من الكتاب عام 1997. أما هذه الطبعة الثالثة (عام 2008) التي بين أيدينا، فهي منقّحة ومدقَّقة، وهذا الموضوع، “ما بعد المقدمة”، موسّع قليلاً.
لقد أسعد الحظ كاتب هذه السطور بأن يجد نفسه عام 2003 تحت سماء تونس مرّة أخرى. غير أنه، للأسف، لم يجد عند باعة الكتب هناك رسالة النفزاوي، ولا الكتب القديمة الأخرى، ولا الطبعات الرخيصة التي كانت تتوجّه لدائرة واسعة من القراء. بينما كانت فيما مضى وافرة وفرة كبيرة. ليس في اليد حيلة، فكل شيء إلى زوال. ولكنّ هذا لا يعني أنّ “الروض العاطر...” انقضى زمانه.فما الذي يمثِّله هذا الكتاب البديع؟
إن آداب العصر الوسيط ، والأدبُ العربي الإسلامي واحد منها، لا تقيم بين النثر العلميّ والنثر الفنيّ تلك الحدود الفاصلة التي نحسُّها اليوم بوضوح كامل. على أنّ رسالة النفزاوي تندرج في إطار الكتابة العلمية الميسَّرة. فلم تكن غاية النفزاوي تنحصر في “تنوير” قارئه الأوّل، الرفيعِ المنصب، بخصوص العلاقات الجنسية، بل هي تتعدّى ذلك إلى تسليته والترويح عنه. لهذا السبب تبرز في نص الرسالة طبقتان مختلفتان مضمونياً وأسلوبياً. الطبقة الأولى التي يبدأ منها الكتاب وتضمَنُ وحدتَه هي طبقة أحكام النفزاوي “النظرية”. أما الطبقة الثانية المضمونية والأسلوبية فتتألَّف من قصص ونكات أحسن المؤلِّف جمعَها وتوطينها في النسيج السّرديّ من كتابه، ولا شكَّ أنّها أكثر لفتاً للأنظار من الأحكام “النظرية”، لأنها مسلّية. غير أنّ الجزء الأدبيّ من هذا الكتاب كان يرمي، وَفقاً لقصد مؤلِّفه، إلى إسداء خدمة إضافية هي تقديم أمثلة تطبيقية على ما يدور الحديث حوله في الأحكام “النظرية”.
إنّ توزيع القصص في الكتاب ليس متساوياً تماماً، ويعتوره شيء من الخلل، ولكن يظهر أنّ النفزاوي حاول أن يمزج تعاليمه النظرية مع قصصه المضحكة لكي يجنِّب القارئ الملل. فالقصص التي ضمّنها النفزاوي كتابه تستمدُّ جذورها من الفولكلور، وتعود إلى التصوُّرات الميثولوجية الملحمية القديمة. ويخيَّل إليّ أنّ الموضوعة الأساسية في المادة القصصية من “الروض العاطر...” هي موضوعة نيل البطلِ المرأةَ، فهذه الموضوعة حاضرة في القصص التي تتحدّث عن الملك علي بن السيقي والحكيمة بدر البدور، وعن الجُوَيْد وفاطمة، وأبي الهيجاء وزهرة بنت الملك، وكذلك في نكتة عن الرجل ذي القضيب الصغير. فلكي ينال البطل غرضه يلجا أحياناً إلى ما يقدِّمه له مساعده من خِدْمات، وكذلك يتصرَّف الجويد حين يطلب النصيحة من أبي نُوَاس.
يستخدم النفزاوي متون بعض القصص المنتشرة عالمياً. ومنها، مثلاً، متن قصة عن مقالب المهرِّج بهلول (الشبيهة بقصّة في السيرة الخرافية الإغريقية القديمة لكاتب الحكايات الشهير إيسوب)، وحكاية العجوز القوّادة التي تمكَّنت من إغواء امرأة حسناء عن طريق كلب. وهي قصة تلفت النظر على نحو خاصّ. ذلك أنّ هذه القصّة التي اقتبسها من المخزون القصصي العربيّ مؤلِّفٌ لاتينيّ كان يعيش في إسبانيا، هو بيتر ألفونسي، أُدرِجت في كتاب قصص لاتينيّ، عنوانه “مآثر رومانية”، يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، ويُعَدُّ كتاباً تعليمياً مميزاً عند دُعاة الكنائس الكاثوليكية، وكان واسع الانتشار ليس بين المتعلمين وحدهم، بل بين فئات شعبية عريضة من الأوروبيين الغربيين في العصور
كما ينطوي كتاب النفزاوي على تصوّرٍ مّا للعلاقات بين الجنسين. وأعتقد أنّ القارئ يوافقني على أنّ هذا التصور ذكوريّ حتماً. فالحديث عن الملذّات الجنسيّة هنا يدور دوماً من منظور الرجل. وأبواب ممارسة الجنس مشروحة أيضاً من وجهة نظر ذكوريَّة. ثمّ إنّ المرأة في القصص التي يتضمَّنها كتاب النفزاوي تظهر أكثر ما تظهر مخلوقةً لا تشبع من الجنس، ماكرةً وقاسية. وجعلُها تلتزم حدودَها يقتضي من الرجل اتِّباعَ شتّى الحيل معها، أو اللجوءَ إلى إجراءات قاسية. ويشبه النساءَ في هذا الأمر العبيدُ السود الماكرون الذين يقترح المؤلِّف أن يتعامل الناس معهم على غرار ما عاملهم به الملك العادل علي بن السيقي. ومهما يكن من أمر، فإنّ وجهة النظر هذه تعبِّر عمَّا كان قائماً بين الناس من علاقات سائدة في المجتمع العربيّ الإسلاميّ البطركيّ، وهي علاقات ما تزال، جزئيّاً وبكيفيّة تغيّرت كثيراً، موجودة حتى الآن في البلدان العربية، وفي الأجزاء الأخرى من العالم الإسلاميّ جملة.
.
فلئن كانت المسيحية في الشرق (في الإمبراطورية البيزنطية وفي الأراضي التي كانت تابعة لنفوذها الثقافيّ)، أو في أوروبا الغربية، تنظر إلى الجانب الجسديّ من الوجود البشريّ بوصفه شرّاً لا بدّ منه، انطلاقاً من اعتقادها بأنّ حالة الإنسان الملائكية، ونَبْذَ الحياة الزوجية أفضلُ بكثير وأَحَبُّ إلى الله من العلاقة السّليمة مع الجنس الآخر، فإنّ الدّين الإسلاميّ وضع العلاقة بين الجنسين في إطار محدَّد. إذ، وَفقاً للقرآن الذي يعلِّم المسلمين أصول الدين، يحقّ للرجل أن تكون له أربع زوجات وعددٌ من الإماء غيرُ محدود. هذه التعاليم التي ينطوي عليها الدّين الإسلامي تكشف حالاً عن طابعه الأبويّ (البطركي) الشديد الذكورية، وعن كونه يعطي الدّور الرّئيس لمصالح الرجال في المجتمعات التي انتشر فيها.
كما أنّ قواعد الطّلاق البسيطة أيضاً أعطت الرجال المسلمين قدْراً معلوماً من الحرّية الجنسية، إذ يكفي الرجلَ، إذا أراد أن يطلِّق زوجته، أن يقول لها ثلاث مرّات متتالية: أنتِ طالق. وبعد ذلك يستطيع الزواج مرّة أخرى، إذا ما توفّر له المال الكافي. <BR>وفي المجتمعات الإسلامية التقليدية أنيط دور كبير بالإماء الجواري اللاتي كنَّ في بادئ الأمر أسيرات، ثم جرى نقلُهنّ فيما بعدُ من بلدان بعيدة كإماء. فكانوا يعلِّمون الجميلات والذكيَّات منهنَّ في مدارسَ خاصّة بهنّ الغناءَ، والرقصَ، والعزفَ على الآلات الموسيقية، ونَظْمَ الشعر، من أجل إمتاع الرجل ليس جسدياً فقط، بل وروحياً أيضاً. فقد كانت الإماء يُبَعْنَ ويُشترَيْن بأعداد كبيرة في أسواق النخاسة، حيث يستطيع من يتوفّر من الرجال على قدْر كاف من المال أن يتمتّع ما طاب له، ثم أن يبدِّل ما عنده من حريم بالتدريج.
هذا الوضع في مجالات العلاقات الجسدية هو ما أثمر عدداً كبيراً من النكات والأقوال المأثورة والدعابات ذات الطابع الجنسيّ، المبثوثة هنا وهناك، في مختلف مؤلَّفات القرون الوسطى. وإلى جانب ذلك، فإنّ كثيراً من الشعراء كانوا يكتبون أشعاراً إيروسية. فالمَشاهد الإيروسية موجودة في الروايات والقصص الشعبية (وإن كان نصيبها ليس بالقدْر الذي قد نظنّه للوهلة الأولى).
أما كتب الأدب الإيروسيّ الذي ينتمي إليه كتاب النفزاوي “الروض العاطر في نزهة الخاطر” ، فإنها، كما يتبيَّن، قليلة العدد للغاية. ذلك أنّ المستعرب الألمانيّ العظيم كارل بروكلمان (1868- 1956)، الذي كرّس معظم سنوات حياته لوضع دليل كلاسيكيّ بأسماء الكتّاب العرب ومؤلَّفاتهم، لا يشير إلاّ إلى ثمانية كتّاب، غير النفزاوي، كتبوا في هذا الباب. والطريف أنّ بلاد شمال أفريقيا، موطنَ النفزاوي نفسه، أنجبت أربعة منهم. وينبغي القول في هذا الخصوص إنّ من كتبوا في مواضيع أخرى يُعَدّون بالعشرات، إن لم نقل بالمئات. على أن ما وصلنا من مخطوطات إيروسية ليس كبيراً، ولم يحظََ بشرف النشر منه إلا واحدٌ من موطن النفزاوي هو أبو علي محمد بن أحمد التِّجاني (عاش في القرنين 7 و8 الميلاديين) الأكثرُ شهرة بفضل كتاب له يصف فيه رحلاته في بلدان شمال أفريقيا. (بل صدرت كتب تراثية إيروسية أخرى، لكنّ السيّد ميكولسكي لم يكن قد وصله منها شيء وهو يكتب هذا الموضوع.- ن.ن.). وقد صدرت عام 1848 مقتطفات من كتابه “تحفة العروس وبهجة النفوس” مترجمة إلى الفرنسية
(آهٍ منكم، أيّها الفرنسيون!)، وفي عام 1317هـ. (1899- 1900) صدرت في مدينة فاس المغربية طبعة حجرية، هي أوّل طبعة للنص الكامل من هذا الكتاب.
أما أبو علي عمر بن محمد النفزاوي فنكاد لا نعرف عن حياته شيئاً. إلا أن نسبتَه تشير إلى أنه ينحدر من أسرة نفزاوة البربرية التي كان جزء منها يعيش في الأصل على أراضي الجزائر اليوم، وجزء آخر في ليبيا المعاصرة. فالبربر شعب عريق يعيش في شمال أفريقيا منذ أقدم العصور. وأوّل آثار مكتوبة ورد فيها ذِكر للبربر تعود إلى مصر القديمة. وعندما جاء العرب المسلمون إلى بلدان المغرب في القرن السابع الميلادي قاومهم البربر مقاومة ضارية قبل أن يعتنقوا الإسلام ويختلطوا بالقادمين. ثم تشكَّلت في القبائل البربرية شريحة مثقفة لم تكتف بهضم الثقافة العربية الإسلامية، بل أعطت إبداعات ثقافية جديدة. وعاش أبناء القبائل البربربية المتعلِّمون، مثلهم مثل إخوانهم العرب، في مختلف مدن المغرب، فكانوا كثيراً ما يعملون في خدمة الحكّام المحليِّين، ومؤلِّف كتاب “الروض العاطر في نزهة الخاطر” واحد منهم. لقد امتدّت حياته ما بين القرنين 14 و15 الميلاديين، أيام كان موطنه تونس تحت حكم سلالة الحفصيِّين (1228-1534) المنحدرين من أصول بربرية محلية. وينظر التوانسة اليوم إليهم بوصفهم زعماء وطنيين حقيقيين ازدهرت بلادهم في ظلّ حكمهم. ومن أبرز زعماء الحفصيين السلطان أبو الفارس عبد العزيز (1394- 1433)، وكان يساعده في إدارة شؤون دولته وزيره الحكيم (رئيس الحكومة في أيامنا) محمد بن عوان الزواوي الذي كان، كما ينبغي لمسؤول بارز، راعياً حقيقياً للآداب أحاط نفسه بالمثقفين من أبناء زمانه. وقد وضع النفزاوي كتابه “الروض العاطر...” يوم كان يعمل في خدمة هذا الوزير، تلبية لطلب منه.
وبصرف النظر عمّا في “الروض العاطر” من حسنات أكيدة، فهيهات أن يكون الكتاب لاقى انتشاراً يتعدّى حدود دائرة ضيِّقة جدّاً من الحاشية. ذلك أن الكتب كانت، في العادة، تُنسَخ مرّات عديدة، فوصلنا قسم كبير منها مخطوطاً. أمّا “الروض العاطر...” فلا نعرف إلا نسختين منه، إحداهما موجودة في باريس اليوم، والأخرى في مدينة غوتا الألمانية. وكانت النسخة الباريسية وقعت في أيدي الجيش الفرنسي أيام حربه الاستعمارية في الجزائر. وفي عام 1850 قام مستعرب فرنسيّ، رغب في التخفّي وراء اسم مستعار، هو البارون ر.، النقيب في قيادة الأركان الفرنسية، فنشر في مدينة الجزائر ترجمة “الروض العاطر” بالفرنسية. على أن اختيار هذا القناع الأدبيّ لم يأتِ مصادفة على الإطلاق، إذ جرت العادة أن يخدم قيادات الأركان في جميع الجيوش في العالم ضبّاط مثقفون. وربما كان البارون ر. هو نفسه المستعرب الفرنسي، الإيطالي الأصل، البارون ب ـ ر سانغينيتّي (1811 – 1883) أحد المشاركين في الترجمة الفرنسية لمؤلَّف الرحَّالة المغربي الشهير ابن بطوطة الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. وكانت مخطوطة هذا الكتاب أيضاً، شأنها شأن مخطوطة “الروض العاطر...”، وقعت في أيدي الفرنسيين كغنيمة حرب في الجزائر.
هكذا عرفت أوروبا رسالة النفزاوي في ترجمة حظيت بشعبية معيَّنة في أوساط النخبة الفرنسية البوهيمية المثقفة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ثم أعيد نشرها ثلاث مرات. فقد قام المستعرب الإنكليزي الرحّالة المعروف، مترجم “ألف ليلة وليلة” والمتبحِّر فيها روبرت بيرتون (1821-1890) بترجمة كتاب النفزاوي إلى الإنكليزية عام 1886، ولكنْ ليس عن الأصل (فلعلّ المخطوطة العربية لم تكن في متناول يده)، بل عن الترجمة الفرنسية. ثم صدرت الطبعة الثانية من هذه الترجمة الإنكليزية عام 1934.
وفي بداية القرن العشرين تذكّر المغاربة، ربَّما تحت تأثير الفرنسيين، تراثهم في مجال الأدب الإيروسي. فقد سبق أن أشرنا إلى أن كتاباً مشابهاً من كتب التِّجاني صدر في فاس. وسرعان ما تبعته طبعة حجرية أخرى من “الروض العاطر ونزهة الخاطر” عام 1318 هـ. (1900-1901) في فاس أيضاً. أما أول طبعة حديثة من رسالة النفزاوي فظهرت في تونس عام 1928، ثم توالى نشرها مراراً. وفي العامين 1926 و 1929 ظهرت الترجمة الألمانية لهذا الكتاب الإيروسي من اللغة العربية بقلم مستعرب اسمه فون ريتوكس.
وعندما كان كاتب هذه السطور، أواخر نيسان/أبريل 1986، ينعم بفيء نخيل تونس قدَّم الشاعر التونسي عبد الله القاسمي إلى ضيفه الروسيّ هديَّة هي نسخة من إحدى طبعات “الروض العاطر في نزهة الخاطر”. وقال القاسمي باعتزاز إنّ هذا الكتاب ساهم بقسط وافر في تطوير ثقافة العالَم الإيروسية. وحين عاد كاتب هذه السطور إلى بلاده لم يرفع عينيه عن الكتاب حتى فرغ من قراءته، فاقتنع بأنه أصبح مالكَ نصٍّّ ثمين بحقّ. وفي عام 1994 أصدر الترجمة الروسية الأولى لكتاب النفزاوي، ثم صدرت الطبعة الثانية من الكتاب عام 1997. أما هذه الطبعة الثالثة (عام 2008) التي بين أيدينا، فهي منقّحة ومدقَّقة، وهذا الموضوع، “ما بعد المقدمة”، موسّع قليلاً.
لقد أسعد الحظ كاتب هذه السطور بأن يجد نفسه عام 2003 تحت سماء تونس مرّة أخرى. غير أنه، للأسف، لم يجد عند باعة الكتب هناك رسالة النفزاوي، ولا الكتب القديمة الأخرى، ولا الطبعات الرخيصة التي كانت تتوجّه لدائرة واسعة من القراء. بينما كانت فيما مضى وافرة وفرة كبيرة. ليس في اليد حيلة، فكل شيء إلى زوال. ولكنّ هذا لا يعني أنّ “الروض العاطر...” انقضى زمانه.فما الذي يمثِّله هذا الكتاب البديع؟
إن آداب العصر الوسيط ، والأدبُ العربي الإسلامي واحد منها، لا تقيم بين النثر العلميّ والنثر الفنيّ تلك الحدود الفاصلة التي نحسُّها اليوم بوضوح كامل. على أنّ رسالة النفزاوي تندرج في إطار الكتابة العلمية الميسَّرة. فلم تكن غاية النفزاوي تنحصر في “تنوير” قارئه الأوّل، الرفيعِ المنصب، بخصوص العلاقات الجنسية، بل هي تتعدّى ذلك إلى تسليته والترويح عنه. لهذا السبب تبرز في نص الرسالة طبقتان مختلفتان مضمونياً وأسلوبياً. الطبقة الأولى التي يبدأ منها الكتاب وتضمَنُ وحدتَه هي طبقة أحكام النفزاوي “النظرية”. أما الطبقة الثانية المضمونية والأسلوبية فتتألَّف من قصص ونكات أحسن المؤلِّف جمعَها وتوطينها في النسيج السّرديّ من كتابه، ولا شكَّ أنّها أكثر لفتاً للأنظار من الأحكام “النظرية”، لأنها مسلّية. غير أنّ الجزء الأدبيّ من هذا الكتاب كان يرمي، وَفقاً لقصد مؤلِّفه، إلى إسداء خدمة إضافية هي تقديم أمثلة تطبيقية على ما يدور الحديث حوله في الأحكام “النظرية”.
إنّ توزيع القصص في الكتاب ليس متساوياً تماماً، ويعتوره شيء من الخلل، ولكن يظهر أنّ النفزاوي حاول أن يمزج تعاليمه النظرية مع قصصه المضحكة لكي يجنِّب القارئ الملل. فالقصص التي ضمّنها النفزاوي كتابه تستمدُّ جذورها من الفولكلور، وتعود إلى التصوُّرات الميثولوجية الملحمية القديمة. ويخيَّل إليّ أنّ الموضوعة الأساسية في المادة القصصية من “الروض العاطر...” هي موضوعة نيل البطلِ المرأةَ، فهذه الموضوعة حاضرة في القصص التي تتحدّث عن الملك علي بن السيقي والحكيمة بدر البدور، وعن الجُوَيْد وفاطمة، وأبي الهيجاء وزهرة بنت الملك، وكذلك في نكتة عن الرجل ذي القضيب الصغير. فلكي ينال البطل غرضه يلجا أحياناً إلى ما يقدِّمه له مساعده من خِدْمات، وكذلك يتصرَّف الجويد حين يطلب النصيحة من أبي نُوَاس.
يستخدم النفزاوي متون بعض القصص المنتشرة عالمياً. ومنها، مثلاً، متن قصة عن مقالب المهرِّج بهلول (الشبيهة بقصّة في السيرة الخرافية الإغريقية القديمة لكاتب الحكايات الشهير إيسوب)، وحكاية العجوز القوّادة التي تمكَّنت من إغواء امرأة حسناء عن طريق كلب. وهي قصة تلفت النظر على نحو خاصّ. ذلك أنّ هذه القصّة التي اقتبسها من المخزون القصصي العربيّ مؤلِّفٌ لاتينيّ كان يعيش في إسبانيا، هو بيتر ألفونسي، أُدرِجت في كتاب قصص لاتينيّ، عنوانه “مآثر رومانية”، يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، ويُعَدُّ كتاباً تعليمياً مميزاً عند دُعاة الكنائس الكاثوليكية، وكان واسع الانتشار ليس بين المتعلمين وحدهم، بل بين فئات شعبية عريضة من الأوروبيين الغربيين في العصور
كما ينطوي كتاب النفزاوي على تصوّرٍ مّا للعلاقات بين الجنسين. وأعتقد أنّ القارئ يوافقني على أنّ هذا التصور ذكوريّ حتماً. فالحديث عن الملذّات الجنسيّة هنا يدور دوماً من منظور الرجل. وأبواب ممارسة الجنس مشروحة أيضاً من وجهة نظر ذكوريَّة. ثمّ إنّ المرأة في القصص التي يتضمَّنها كتاب النفزاوي تظهر أكثر ما تظهر مخلوقةً لا تشبع من الجنس، ماكرةً وقاسية. وجعلُها تلتزم حدودَها يقتضي من الرجل اتِّباعَ شتّى الحيل معها، أو اللجوءَ إلى إجراءات قاسية. ويشبه النساءَ في هذا الأمر العبيدُ السود الماكرون الذين يقترح المؤلِّف أن يتعامل الناس معهم على غرار ما عاملهم به الملك العادل علي بن السيقي. ومهما يكن من أمر، فإنّ وجهة النظر هذه تعبِّر عمَّا كان قائماً بين الناس من علاقات سائدة في المجتمع العربيّ الإسلاميّ البطركيّ، وهي علاقات ما تزال، جزئيّاً وبكيفيّة تغيّرت كثيراً، موجودة حتى الآن في البلدان العربية، وفي الأجزاء الأخرى من العالم الإسلاميّ جملة.
.