نقوس المهدي
كاتب
مثَّل موضوع البغاء واحداً من التابوهات المحرم الحديث عنها في مجتمعنا العربي، وفي بلدان الخليج تتضاعف شدة التحريم ويشتدّ الإمعان في الإنكار. لم يكن البغاء يوماً ما مسموحاً به اجتماعياً، لكنه كان دائماً يمارس على نطاق واسع لكنه سرّي في غالب الأحيان، موجود بكثافة لكنه غير مرئيّ، وبعيداً عن دائرة الرصد والمتابعة، ولم يكن قرار المستشار البريطاني لحكومة البحرين تشارلز بليغريف (1926 - 1957م) القاضي بإلزام «جميع العاهرات المجاهرات» بأن يسكنّ بالمحل المخصص للعاهرات المجاهرات وهو «فريج قبلة» في المنامة، في 8 فبراير/ شباط 1937م، إلا محطة سبقتها سنوات من الاحتراف غير المنضبط لأقدم مهنة في التاريخ عرفها مجتمع الجزيرة. نحاول في هذا التحقيق تقديم رؤية تاريخية لهذا الملف القديم الجديد، الشائك والمستفز، والصادم أيضاً، ساعين لرصد قصة البغاء من أزقة جراندول في الثلاثينيات إلى فضاء الإنترنت الفسيح والمترامي.
اكتسب «فريق جراندول» في ضواحي العاصمة أهمية خاصة بدءاً من نهاية الثلاثينات من القرن الماضي عندما قرر المستشار البريطاني لحكومة البحرين تشارلز بليغريف (1926 - 1957م) جمع كل العاهرات في منطقة واحدة قريبة من المنامة، وتحديداً في النعيم (جراندول)، على أن يكون جميع النساء فيها، مسجلات لدى الحكومة.
فقد أصدر المستشار بليغريف إعلاناً حكومياً يلزم فيه «جميع العاهرات المجاهرات» بأن يسكنّ بالمحل المخصص للعاهرات المجاهرات وهو «فريج قبلة» في المنامة. ونص الإعلان الحكومي الذي أعاد مستشار حكومة البحرين إصداره في 8 فبراير/ شباط 1937م والقاضي بالتالي:
1 - جميع العاهرات المجاهرات يؤمرن بأن يسكن بمحلات العاهرات ولا يجوز لهن أن يسكن المحلات الشريفة في المنامة أو في المحرق.
2 - المحل المخصص للعاهرات المجاهرات هو في فريق جبلة بالمنامة وفريق جراندول.
3 - أصحاب البيوت التي بالمحلات الشريفة يكونون مسئولين أمام المحكمة إذا أسكنوا في بيوتهم عاهرات مجاهرات أو لاعبي قمار.
4 - إلى بعد مرور شهر واحد من تاريخه أي عاهرة مجاهرة تبقى في محلة شريفة ولم تنتقل منها إلى محلات العاهرات تجازى أمام المحكمة.
5 - أي عاهرة أجنبية مجاهرة تعصي هذه الأوامر تنفى من البحرين.
ولعل هذا الإعلان الحكومي يشير إلى حجم انتشار ظاهرة تجارة الجنس في البلاد في ذلك الوقت، حتى تلجأ الحكومة لحصر هذه التجارة في مكان مخصص قيل إن الهدف منه هو ضمان الإشراف الصحي على هذا النشاط، ومن الناحية التاريخية فإن «أقدم قصة دعارة يمكن التأكد منها تعود إلى بداية القرن العشرين عندما خاطب القاضي الشيخ قاسم المهزع (ت 1941م) حاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن علي في خصوص امرأة تدعى «....» تمارس الدعارة في العاصمة المنامة وتغري فتيات بحرينيات للعمل في هذا المجال. وفي وثيقة أخرى تعود إلى الثلاثينات يمكن رصد قضية نادٍ أجنبي في عوالي كان يجلب بعض النساء لممارسة الدعارة ومنهن فتاة قاصر». كما أن الوثائق البريطانية تتحدث عن عاهرة أخرى اسمها «...» وكانت تقوم باستدراج شخصيات الى بيتها، ثم تعريضهم للابتزاز المالي مقابل عدم الكشف عن القضية.
يقول علي فخرو الذي أصبح وزيراً للصحة بعد خروج الإنجليز من البلاد بثلاث سنوات: «كان يجري على العاهرات فحص دوري من إدارة الصحة في ذلك الوقت؛ للتفتيش عن أمراض الزهري، ولم يكن مرض نقص المناعة المكتسبة «الايدز» قد ظهر في تلك الفترة، وبالتالي كانت المرأة التي يكتشف أنها مصابة بمرض ما، تعالج وتعود لممارسة مهنتها تحت سمع وبصر حكومة البحرين آنذاك، وهي في الواقع الحكومة البريطانية، إنما بعد الاستقلال، انتهى الأمر نهائياً».
استهدف تخصيص مكان مخصص للدعارة ضمان توفير «متعة آمنة» للجنود البريطانيين، فالجندي البريطاني أثناء وجوده في البحرين آنذاك، لم يكن يجد أساليب الحياة التي كان يعيشها في بلاده؛ لذلك كان الحل في وجود منطقة معروفة للجنود، يتجهون إليها، وحتى يتأكدون من حماية جنودهم من أي أمراض، وضعوا هذا النظام الواضح المعالم، لتكون منطقة للبغاء تشرف هي على الجانب الصحي فقط.
وفي الحقيقة فإن «أماكن البغاء كانت جزءاً من تاريخ المدن العربية بلا استثناء». وقد تحدثت الأديبة الكويتية ليلى العثمان عن هذه الحقيقة التاريخية عندما قالت: «إن كل المدن العربية كان بها كتاتيب ومساجد صغيرة وبيوت للبغاء».
الحاج ح ح (من مواليد 1928م)، وهو من أهالي قرية النعيم إحدى ضواحي العاصمة المنامة، يقول: «منذ أن وعيت وأنا طفل، كان حي «جراندول» هو حي الدعارة الأشهر في البحرين، ولم تكن الدعارة بالطبع محصورة بهذا الحي فقط، بل كان هناك في المنامة حي «المشبر» بالقرب مما كان سابقاً نخيل (مزارع) عائلة كانو بمحاذاة مبنى القلعة، كما كانت منطقة القضيبية وأحد أحياء جزيرة المحرق أيضاً تشهد نشاطاً من هذا النوع».
يقول ح ح الذي يبلغ من العمر 78 عاماً: «كانت بيوت الدعارة مبنية في السابق من سعف النخيل «برستج» ثم ومع تطور العمران أصبحت بيوتاً طينية، ثم بنيت بالطوب الحديث. كان في «حي جراندول» نحو 30 إلى 40 بيت دعارة، وكان في البيت الواحد تنشط من 3 إلى 5 نساء في هذه المهنة، وليس من الضروري أن يكن موجودات في بيت الدعارة في وقت واحد، وكان عدد النساء البغايا يتجاوز الـ 150 بغياً.
وغالباً ما يكون عمر البغي المحترفة 30 عاماً فما فوق، ونادراً ما تكون البغي أصغر سناً، وكلما زاد عمرها قلّ الراغبون فيها من الزبائن، وبالتالي انخفضت قيمتها السوقيّة، لذلك بعد مضي سنوات خدمة طويلة في بيع عرضها تتحول البغي إلى «قوادة» تدير بيت دعارة مع مجموعة من النساء، وعليه فالقوادة لابد أن تكون قد خاضت تجربة عمل في هذا المضمار.
كانت البحرين في أربعينات الى ستينات القرن الماضي تعيش تسامحاً ملحوظاً حيال هذه الظاهرة، حتى أنني لا أتذكر أن علماء الدين كانوا يتحدثون في مجالسهم وخطبهم أمام الناس عن خطورة هذه الظاهرة، كانوا لا يكترثون لها. لكأنهم كانوا يعتقدون أن مجرد الحديث عن هذه الظاهرة فيه إشاعة للفاحشة وتحريض للناس عليها».
«لقد كانت الدعارة المنظمة تمارس بشكل قانوني وفي العلن، كنا ونحن أطفال ندرك وجود هذا النوع من النشاط في هذه المنطقة (فريق أبوصرّة)، كنا نرى ونسمع، وكانت ذاكرتنا تلتقط الكثير من التفاصيل، ولقد ضاعف من رواج هذه التجارة عدم وجود فنادق توفر هذا النوع من «الخدمات» كما هي موجودة اليوم. بالطبع كان عدد من البيوت في هذه المنطقة عوائل محترمة وحسنة السمعة ولم تتورط في هذه الممارسات، لكنها كانت مجبرة على البقاء في هذه المنطقة نظراً لضيق ذات اليد، لذلك كان على الزبون الذي يرغب في دخول بيت الدعارة أن يكون على علم بمكان البيت الذي يقصده تماماً حتى لا يتعرض إلى (سخط الأهالي)».
يضيف ح ح: «كان القواد (أحياناً تكون امرأة) يقف عند باب البيت ليتفاهم مع الزبائن على السعر ويقبض المال، ثم يقوم باجتزاء قسم منه تاركاً الباقي للبغي. وكان ذلك يتم بشكل علني ويتم في وضح النهار، كانت هذه «الخدمات» تستمر بشكل متواصل في الليل والنهار، وكان هناك بغايا يفضلن العمل في النهار وأخريات يفضلن العمل ليلاً».
كان العدد الأكبر من القوادين بحرينيين، غير أن ذلك لم يمنع من وجود قوادين من بلدان خليجية أخرى، كنت تجد الكثير من القوادين الخليجيين أيضاً ممن يحترفون الشذوذ (تقديم المتعة للغير) في الوقت ذاته الذي ينشطون كسماسرة جنس.
أكثر البغايا كن بحرينيات، وكان قسم منهن قادمات أو مجلوبات (من قبل القوادين أو الأزواج) من شبه الجزيرة العربية، ومنهم من يرجع تأسيس الحي في الأصل إلى اللواتي يتميزن بالجمال الملفت،، وعجم (فُرس) غالبيتهن ممن ولدن في البحرين، ولم يكن هناك وجود لبغايا آسيويات أبداً في الفترة التي أتحدث عنها، وكان العدد الأكبر من بغايا حي أبوصرّة / جراندول بالمنامة هن من البحرينيات اللواتي يجئن من بيئات فقيرة ومعدمة من قرى ومدن البحرين المختلفة.
وهكذا شهد حي أبوصرّة بالمنامة توافداً للنساء اللواتي وقعن ضحايا لآفة الفقر، ودفعهن العوز والفاقة والجهل والحاجة إلى الارتماء في أحضان الرذيلة، سعياً الى تحقيق ربح سريع في مجتمع الطريق للعيش الكريم فيه تتم بمهنة الغوص أو الزراعة... كانت بعض النساء يأتين من الريف إلى حي جراندول لكسب رزقهن من بيع أجسادهن في بيوت الدعارة بشكل يومي.
معروف أن البغايا يواجهن ضغوطاً شديدة في مختلف جوانب حياتهن، في مقدمتها الضغوط الاقتصادية والفقر المدقع والاعتداءات الجنسية عليهن واضطهادهن، حتى في حالة تزوجن. فكثير منهن يتزوجن فيقوم الزوج بدور «القواد»، ما يزيد من الضغوط عليهن فيتضاءل الأمل بحياة كريمة خارج إطار هذا النشاط.
«بعض البغايا كن ينخرط في هذه المهنة، من علم زوجها، وحين يكشف الزوج حقيقة سلوك زوجته يقوم بضربها وايذائها، ولكن لم تحدث فيما أعلم، أن قتل الزوج زوجته بسبب سوء سمعتها أو اشتغالها بالدعارة، كانت الأسر تفضل التعامل بسرية تامة في حال وجود بنت من بناتها تسقط في براثن العمل في البغاء. كان أفضل وأسهل طريقة لاحتواء الأمر هو التكتم عليه».
«قد تحدث حالات قتل، حين يحدث خصام وتنشب مشكلات بين البغي وعشيقها، وهنا قد يعمد العشيق على إيذاء عشيقته انتقاماً وقد تصل الأمور إلى حد القتل. وقد يحدث أن يرتبط أحدهم بـ «بغي» ويمنعها من ممارسة الدعارة بدافع الغيرة، لكنه حين يعرف بأنها لازالت تمتهن الدعارة قد يبتعد عنها لأنه سيعتبرها «خائنة» وأنها «لن تستقيم أبداً».
من هنا يقرر بليغريف وهو يتحدث عن مجتمع البحرين: «الجنس عادة ما يكون هو الدافع وراء جرائم القتل، وأحياناً تكون الضحايا من النساء سيئات السمعة اللاتي يغتالهن العشاق بسبب الغيرة!! هؤلاء النساء كن يعرفن باسم «بنات الهوى»...
كانت البغي تحرص على عدم الكشف عن هويتها حين تخرج من بيت الدعارة، فلباسها في الغالب محتشم وتظهر ملتزمة بالحجاب التقليدي الذي ترتديه غالبية البحرينيات، والمتمثل في ارتداء العباية السوداء (الدفة) مع الالتزام بستر الوجه بالبوشية أو البرقع، وكن يمتنعن عن الحديث مع أي شخص في الطرقات. كان قسم كبير منهن محتاطات بحيث لم يكن يسمحن لأنفسهن بالبروز في بيت الدعارة لمن كان من الزبائن يعرفهن أو يعرف عائلاتهن مخافة الفضيحة.
يؤكد الحاج ح ح أن البغايا كن يشاركن «القوادين» في صناعة الخمور المحلية، كما كن يشاركن زبائنهن الرجال في احتسائها في بيوت الدعارة، «كانت صناعة الخمور تتم في النخيل (المزارع) وتمثل بيوت الدعارة أحد الأماكن الفضلى لعشاق الخمور واحتسائها مع البغايا».
«ليس عالم البغاء بالعالم المتجانس، بل تحكمه تراتبية اجتماعيّة صارمة كما هو الشأن في سائر بلدان العالم. ضمن هذه التراتبية تحتل المرأة السلعة موقعها بحسب مقاييس معينة، من أهمها صغر السن والجمال والقدرة على مسايرة مستويات الزبائن التي تختلف هي الأخرى.
وهذه التراتبية تجعل من البغاء مصدر ربح وافر لبعض البغايا ومصدر عيش لا يكاد يسدّ الرمق للبعض الآخر».
إذن تتفاوت أجرة البغيّ، ويتحدد الأجر على مستوى جمال وسن البغي، فكلما كانت في مقتبل العمر زاد ثمنها، ومع كبر السن تتناقص الأجرة التي تحصل عليها، كما يشكل الجمال أحد أهم معايير تحديد التسعيرة، فالمرأة الجميلة يرتفع سعرها عن تلك التي تتحلى بجمال أقل، وهكذا يقل السعر بالنسبة الى ذوات الجمال المحدود أو اللواتي بلغن من العمر سناً كبيراً، وبصفة عامة كانت الأسعار تبدأ من 200 فلس مروراً بـ 300 وانتهاء بـ 500 فلس أو عشر روبيات (دينار) إذا كانت البغي تتمتع بمزايا جمالية عالية.
ومن النساء من كن يبعن أجسادهن بشكل محدود وسري للغاية، وهذا الصنف من النساء يكن في الغالب ممن لا يقمن في الحي ذاته، إنما يترددن عليه فقط للبحث والتقاط زبائنهن في بيوت الحي بالتنسيق مع القوادين النشطين، إذ سرعان ما يعدن لحياتهن بشكل اعتيادي ما أن يفرغن من «عملهن» في منتصف النهار وكأن ذهابهن للمنامة هو زيارة اعتيادية للتبضع في أسواق العاصمة، ومنهن من تتزوج من «خارج السلك» فتكف عن بيع جسدها لطلاب المتعة، ومنهن من تتعرف على زوجها من بين «زبائنها» فتتوقف في الغالب عن عملها، مع الإقرار بوجود حالات لم يمنع فيها الزواج من استمرار النساء من بيع أجسادهن لطلاب اللذة؛ ورغم أن العديد من نساء حي جراندول كن يتحولن بشكل تلقائي بعد طول الخدمة إلى «قوادات» بحكم تقادم السن ورغبة الزبائن عنهن إلى من هن أصغر منهن وأجمل، إلا أن عدداً كبيرًا من نساء جراندول بدأن بعد زواجهن حياةً جديدةً ومختلفة بالكامل ونسين ماضيهن المخزي.
يقول (ع. ح) وهو أحد من واكب تلك المرحلة وهو من قرية النعيم إحدى ضواحي العاصمة: «لي من العمر الآن 60 عاماً، ومازلت أتذكر أنني منذ أن كنت في الثانية عشرة من العمر كنا نعي وندرك نشاط البغايا الرائج في هذه المنطقة، وهذا يعني أنه وقبل 48 عاماً ويزيد كانت تجارة الجنس هي أكثر السلع رواجاً في هذه المنطقة». يضيف «كنا نمر عبر أزقة هذا الحي السكني في طريقنا إلى ارتياد السينما. كانت غالبية النساء البغايا بحرينيات، وقسم كبير منهن نازحات من المنطقة الشرقية، فيما كان عدد الخليجيات الأخريات أقل نسبياً. كان هناك «قواد» يباشر عملية تنظيم تجارة الجنس هذه، وهو من يقبض الأموال ويشرف على سير عملية دخول وخروج الزبائن».
وكان من الطبيعي أن تفرز تجارة الجنس بعض الظواهر الاجتماعية المدمرة، وكان من أبرز هذه الظواهر العثور على أطفال لقطاء «مجهولي أبوين». ويشير بليغريف إلى ذلك بقوله: «في أحيان كثيرة نجد أطفالاً حديثي الولادة مرميين وهم أحياء في الأماكن المخصصة للقمامة «المزابل» الموجودة بزوايا الشوارع أو نجدهم أمام المستشفى. ولدى مستشفى الإرسالية الأميركية ملجأ، حيث يوضع بعض هؤلاء الأطفال «اللقطاء» وتتم رعايتهم... وعندما يبلغون السادسة يرسلون إلى المدرسة ثم يحصلون على عمل. البعض الآخر يتم الاعتناء بهم في المستشفى الحكومي وغالباً ما تتبناهم سيدات عاقرات أو ليست لديهم عائلة».
وحين سألت الحاج ح ح عن مصير أبناء البغايا المولودين سفاحاً أوضح بقوله: «لقد شهدنا حالات كثيرة من هذا النوع، ومصير هؤلاء الأولاد يتوقف على ما إذا كانت البغيّ مشهورة بحرفتها أم لا، فإذا كانت مشهور فهي في الغالب تحتفظ به وتقوم بتربيته وتنشئته في بيتها بشكل اعتيادي من دون أي إحساس بالحرج، وغالباً ما يكون أبناء الزنا مدللين من أمهاتهم بسبب الوفرة المالية التي يعيشونها مقارنة بأوضاع عامة الناس في ذلك الوقت، وكثير من هؤلاء البغايا يخبرن أولادهن بأن والدهم «مات» منذ زمن بعيد، أو أنهن يرتبطن بزوج وينشأ لدى الأولاد اعتقاد أن من يعيش مع أمهم هو أبوهم الذي لا يعرفون والداً غيره؛ أما إذا كانت البغي تمارس الدعارة بشكل سري فهي غالباً ما تلجأ إلى التخلص من مولودها ورميه في براميل القمامة أو تركه في مكان مهجور».
حين صدر قرار منع الدعارة (أو نظمها) في خمسينات القرن الماضي في المنامة، سافرت الكثير من البغايا خارج البلاد، بينما أقلعت بعضهن عن ممارسة المهنة، فيما تزوج الكثير منهن مكتفين بما كونوه من ثروة طيلة سني عملهن «المضني»، فبعض البغايا صار لديهن عقارات وأملاك وثروة طائلة، لذا قرر الكثير من البغايا المكوث في البلاد بعد قرار المنع وبعد حصولهن على ما يحقق لهن العيش الكريم لبقيّة العمر.
ويذكر رجل الدين وقاضي الشرع المرحوم الشيخ أحمد بن خلف العصفور أنه كان يتلقى العلوم الدينية في مدرسة الشيخ عبدالحسين الحلي (ت 1956) التي كانت تعطي دروسها في مسجد الخواجة الكائن بالمنامة، وكان أستاذه الشيخ محمد علي آل حميدان (ت 1954) يقوم بالتدريس، وفي أحد الأيام حضر الشيخ العصفور إلى الدرس لكنه لم يجد أستاذه، فسأل عنه فقالوا له: إن سوق العقود رائجة هذا اليوم، حيث إنه صدر قرار من المستشار بليغريف بمنع الدعارة في المنامة، وعلى كل فاجرة أن تختار فاجراً تتزوج منه، وهو مشغول الآن معهم في إيقاع العقود . من هنا، بدأت الحكومة بتنفيذ «حملات تطهيرية مستمرة للبلاد من الغانيات وتسفرهن إلى بلادهم التي أتين منها عن طريق البحر».
والذي يبدو أن هذه الحملات التطهيرية استهدفت النساء الأجنبيات المخالفات للقوانين الرسمية المنظمة لهذا النشاط، إذ ما إن خرج الإنجليز من البلاد «بدأ تفكيك هذا الحي، ولم يكن هناك قرار رسمي بذلك، ولكن جاء الأمر من تلقاء نفسه، وبدأ هؤلاء النسوة ينتشرن في كل مكان» حسبما يشير فخرو.
أحد الباحثين البحرينيين المختصين في الانثربولوجيا الثقافية في المجتمع البحريني يشير الى أن قرار المنع النهائي جاء بعد الإستقلال، وبعد أن طرح الموضع في المجلس الوطني في منتصف السبعينات من القرن الماضي.
ورغم أن خطاب المؤسسة الدينية ورجال الدين بدا متساهلاً مع بروز الظاهرة، ولم يبلور خطاب مناهض لوجودها بشكل واضح، إلا أن الخطيب والشاعر الحسيني الذائع الصيت المرحوم الملا عطية بن علي الجمري (ت 1981م) ضمّن واحدة من قصائده نقداً لتدهور الوضع الأخلاقي. كما يقال ان الشيخ ابراهيم المبارك كان قد ذكر انه كتب رسالة الى الحاكم الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في خمسينات القرن الماضي يشتكي فيها عن هذا الموضوع.
ويرى البعض أن التعليم والعمل هما أهم عنصرين غيَّرا من وضع المرأة في الخليج العربي. كما كان عامل الهجرة الوافدة واحداً من العوامل المحفزة لبروز هذه الظاهرة، فقد تعرضت البلاد إلى موجات من الوافدين من شبه الجزيرة العربية من البادية ومن سواحل عمان وسواحل فارس وأعداد من الغجر، ويمثل هؤلاء جميعاً خليطاً من البشر يدفعهم الفقر وشظف العيش إلى السقوط في مستنقع الرذيلة.
الجاليات الأجنبية
ولقد كان لظاهرة البغاء بنوعيه العلني والخفي أسباب اجتماعية معقدة ومتنوعة لعل أبرزها يتمثل في وجود الجاليات الأجنبية، ويتمثل بعضها في تناول الخمور وانتعاش تجارتها، والتهريب، وتعدد جرائم النصب والاحتيال، وبروز ظاهرة البغاء بشكل علني. وقد كانت الجاليات الأجنبية، ممن يتردد على بيوت الزنا، إذ كثيراً ما شوهدوا وهم يلهون ويعربدون ليلاً مع بنات الهوى.
يقول أحد شهود العيان من أهالي المنطقة: «كنا نشاهد الرعايا الأجانب (معظمهم إنجليز وأميركيون) يأتون لهذه المنطقة للحصول على المتعة المحرمة، وكان أفراد الجيش من هذه الجنسيات يشكلون الشريحة الأكبر من الزوار الأجانب، إضافة إلى ارتياد عدد من الأوروبيين من عمال المراكب التجارية التي تفد على البحرين لنقل البضائع والسلع، وبالطبع، كان البحرينيون يمثلون شريحة مهمة من الزبائن».
تحريم تجارة الرقيق والبغاء
وشهدت البحرين مطلع القرن العشرين تحريم تجارة الرقيق وكان الرق لايزال موجوداً آنذاك ومعظم الأرقاء كانوا يجلبون من شرق إفريقيا. ففي فبراير / شباط 1905 زار المقيم السياسي البريطاني في بوشهر (رئيس الخليج) الميجور بيرسي كوكس البحرين، وأصدر وأمر باعتاق الرقيق من العبودية وتأمين أوضاعهم بشكل مناسب.
ولاحقاً، في عشرينات القرن الماضي، صدرت قرارات أخرى لتحريم تجارة الرقيق ووضع أي شخص يقوم بذلك تحت طائلة القانون. وقد كان بإمكان الرقيق من النساء الانعتاق من العبودية بمجرد طلب ذلك من المعتمد السياسي. ولكن المشكلة تأتي بعد الانعتاق، حيث إن معظمهن لا يجدن عملاً أو رعاية من نوع أو آخر، ما دفع عدد منهن إلى ممارسة الدعارة. وقد أقيمت خلال الحرب العالمية الثانية بيوت للدعارة في البحرين، مع أن هذا الأمر كان غير قانوني وغير معروف من قبل على نطاق واسع. وقبل ظهور النظام المعيشي والاقتصادي الجديد، لم يكن هناك ما يمنع المرأة من التحول إلى الدعارة في ظل قيم آخذة في التلاشي. ولعل القيد الوحيد الذي يحد من أن تمارس الدعارة هو أن يتذمر أحد جيرانها فيجبرها البوليس على أن تلزم بيتاً للدعارة في المنطقة المخصصة لذلك. أما الإدارة الرسمية أو الحكومة فكانت تغض النظر عن وجود منطقة الدعارة هذه، إذا ما استثنينا عمليات التنظيف التي كانت تلجأ إليها من حين لآخر.
إضافة إلى عوامل أخرى ترتبط بارتخاء القبضة الأمنية عبر المنافذ البحرية، وشيوع الأمية ومحدودية التعليم، وشيوع الممارسات الأخلاقية الشاذة، ومحدودية الثقافة الدينية/ الفقهية، ناهيك عن العامل الأكثر حسماً والمتمثل بالفقر والعوز المادي الذي كان يرزح تحت وطأته المجتمع وقتها.
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 4546 -
اكتسب «فريق جراندول» في ضواحي العاصمة أهمية خاصة بدءاً من نهاية الثلاثينات من القرن الماضي عندما قرر المستشار البريطاني لحكومة البحرين تشارلز بليغريف (1926 - 1957م) جمع كل العاهرات في منطقة واحدة قريبة من المنامة، وتحديداً في النعيم (جراندول)، على أن يكون جميع النساء فيها، مسجلات لدى الحكومة.
فقد أصدر المستشار بليغريف إعلاناً حكومياً يلزم فيه «جميع العاهرات المجاهرات» بأن يسكنّ بالمحل المخصص للعاهرات المجاهرات وهو «فريج قبلة» في المنامة. ونص الإعلان الحكومي الذي أعاد مستشار حكومة البحرين إصداره في 8 فبراير/ شباط 1937م والقاضي بالتالي:
1 - جميع العاهرات المجاهرات يؤمرن بأن يسكن بمحلات العاهرات ولا يجوز لهن أن يسكن المحلات الشريفة في المنامة أو في المحرق.
2 - المحل المخصص للعاهرات المجاهرات هو في فريق جبلة بالمنامة وفريق جراندول.
3 - أصحاب البيوت التي بالمحلات الشريفة يكونون مسئولين أمام المحكمة إذا أسكنوا في بيوتهم عاهرات مجاهرات أو لاعبي قمار.
4 - إلى بعد مرور شهر واحد من تاريخه أي عاهرة مجاهرة تبقى في محلة شريفة ولم تنتقل منها إلى محلات العاهرات تجازى أمام المحكمة.
5 - أي عاهرة أجنبية مجاهرة تعصي هذه الأوامر تنفى من البحرين.
ولعل هذا الإعلان الحكومي يشير إلى حجم انتشار ظاهرة تجارة الجنس في البلاد في ذلك الوقت، حتى تلجأ الحكومة لحصر هذه التجارة في مكان مخصص قيل إن الهدف منه هو ضمان الإشراف الصحي على هذا النشاط، ومن الناحية التاريخية فإن «أقدم قصة دعارة يمكن التأكد منها تعود إلى بداية القرن العشرين عندما خاطب القاضي الشيخ قاسم المهزع (ت 1941م) حاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن علي في خصوص امرأة تدعى «....» تمارس الدعارة في العاصمة المنامة وتغري فتيات بحرينيات للعمل في هذا المجال. وفي وثيقة أخرى تعود إلى الثلاثينات يمكن رصد قضية نادٍ أجنبي في عوالي كان يجلب بعض النساء لممارسة الدعارة ومنهن فتاة قاصر». كما أن الوثائق البريطانية تتحدث عن عاهرة أخرى اسمها «...» وكانت تقوم باستدراج شخصيات الى بيتها، ثم تعريضهم للابتزاز المالي مقابل عدم الكشف عن القضية.
يقول علي فخرو الذي أصبح وزيراً للصحة بعد خروج الإنجليز من البلاد بثلاث سنوات: «كان يجري على العاهرات فحص دوري من إدارة الصحة في ذلك الوقت؛ للتفتيش عن أمراض الزهري، ولم يكن مرض نقص المناعة المكتسبة «الايدز» قد ظهر في تلك الفترة، وبالتالي كانت المرأة التي يكتشف أنها مصابة بمرض ما، تعالج وتعود لممارسة مهنتها تحت سمع وبصر حكومة البحرين آنذاك، وهي في الواقع الحكومة البريطانية، إنما بعد الاستقلال، انتهى الأمر نهائياً».
استهدف تخصيص مكان مخصص للدعارة ضمان توفير «متعة آمنة» للجنود البريطانيين، فالجندي البريطاني أثناء وجوده في البحرين آنذاك، لم يكن يجد أساليب الحياة التي كان يعيشها في بلاده؛ لذلك كان الحل في وجود منطقة معروفة للجنود، يتجهون إليها، وحتى يتأكدون من حماية جنودهم من أي أمراض، وضعوا هذا النظام الواضح المعالم، لتكون منطقة للبغاء تشرف هي على الجانب الصحي فقط.
وفي الحقيقة فإن «أماكن البغاء كانت جزءاً من تاريخ المدن العربية بلا استثناء». وقد تحدثت الأديبة الكويتية ليلى العثمان عن هذه الحقيقة التاريخية عندما قالت: «إن كل المدن العربية كان بها كتاتيب ومساجد صغيرة وبيوت للبغاء».
الحاج ح ح (من مواليد 1928م)، وهو من أهالي قرية النعيم إحدى ضواحي العاصمة المنامة، يقول: «منذ أن وعيت وأنا طفل، كان حي «جراندول» هو حي الدعارة الأشهر في البحرين، ولم تكن الدعارة بالطبع محصورة بهذا الحي فقط، بل كان هناك في المنامة حي «المشبر» بالقرب مما كان سابقاً نخيل (مزارع) عائلة كانو بمحاذاة مبنى القلعة، كما كانت منطقة القضيبية وأحد أحياء جزيرة المحرق أيضاً تشهد نشاطاً من هذا النوع».
يقول ح ح الذي يبلغ من العمر 78 عاماً: «كانت بيوت الدعارة مبنية في السابق من سعف النخيل «برستج» ثم ومع تطور العمران أصبحت بيوتاً طينية، ثم بنيت بالطوب الحديث. كان في «حي جراندول» نحو 30 إلى 40 بيت دعارة، وكان في البيت الواحد تنشط من 3 إلى 5 نساء في هذه المهنة، وليس من الضروري أن يكن موجودات في بيت الدعارة في وقت واحد، وكان عدد النساء البغايا يتجاوز الـ 150 بغياً.
وغالباً ما يكون عمر البغي المحترفة 30 عاماً فما فوق، ونادراً ما تكون البغي أصغر سناً، وكلما زاد عمرها قلّ الراغبون فيها من الزبائن، وبالتالي انخفضت قيمتها السوقيّة، لذلك بعد مضي سنوات خدمة طويلة في بيع عرضها تتحول البغي إلى «قوادة» تدير بيت دعارة مع مجموعة من النساء، وعليه فالقوادة لابد أن تكون قد خاضت تجربة عمل في هذا المضمار.
كانت البحرين في أربعينات الى ستينات القرن الماضي تعيش تسامحاً ملحوظاً حيال هذه الظاهرة، حتى أنني لا أتذكر أن علماء الدين كانوا يتحدثون في مجالسهم وخطبهم أمام الناس عن خطورة هذه الظاهرة، كانوا لا يكترثون لها. لكأنهم كانوا يعتقدون أن مجرد الحديث عن هذه الظاهرة فيه إشاعة للفاحشة وتحريض للناس عليها».
«لقد كانت الدعارة المنظمة تمارس بشكل قانوني وفي العلن، كنا ونحن أطفال ندرك وجود هذا النوع من النشاط في هذه المنطقة (فريق أبوصرّة)، كنا نرى ونسمع، وكانت ذاكرتنا تلتقط الكثير من التفاصيل، ولقد ضاعف من رواج هذه التجارة عدم وجود فنادق توفر هذا النوع من «الخدمات» كما هي موجودة اليوم. بالطبع كان عدد من البيوت في هذه المنطقة عوائل محترمة وحسنة السمعة ولم تتورط في هذه الممارسات، لكنها كانت مجبرة على البقاء في هذه المنطقة نظراً لضيق ذات اليد، لذلك كان على الزبون الذي يرغب في دخول بيت الدعارة أن يكون على علم بمكان البيت الذي يقصده تماماً حتى لا يتعرض إلى (سخط الأهالي)».
يضيف ح ح: «كان القواد (أحياناً تكون امرأة) يقف عند باب البيت ليتفاهم مع الزبائن على السعر ويقبض المال، ثم يقوم باجتزاء قسم منه تاركاً الباقي للبغي. وكان ذلك يتم بشكل علني ويتم في وضح النهار، كانت هذه «الخدمات» تستمر بشكل متواصل في الليل والنهار، وكان هناك بغايا يفضلن العمل في النهار وأخريات يفضلن العمل ليلاً».
كان العدد الأكبر من القوادين بحرينيين، غير أن ذلك لم يمنع من وجود قوادين من بلدان خليجية أخرى، كنت تجد الكثير من القوادين الخليجيين أيضاً ممن يحترفون الشذوذ (تقديم المتعة للغير) في الوقت ذاته الذي ينشطون كسماسرة جنس.
أكثر البغايا كن بحرينيات، وكان قسم منهن قادمات أو مجلوبات (من قبل القوادين أو الأزواج) من شبه الجزيرة العربية، ومنهم من يرجع تأسيس الحي في الأصل إلى اللواتي يتميزن بالجمال الملفت،، وعجم (فُرس) غالبيتهن ممن ولدن في البحرين، ولم يكن هناك وجود لبغايا آسيويات أبداً في الفترة التي أتحدث عنها، وكان العدد الأكبر من بغايا حي أبوصرّة / جراندول بالمنامة هن من البحرينيات اللواتي يجئن من بيئات فقيرة ومعدمة من قرى ومدن البحرين المختلفة.
وهكذا شهد حي أبوصرّة بالمنامة توافداً للنساء اللواتي وقعن ضحايا لآفة الفقر، ودفعهن العوز والفاقة والجهل والحاجة إلى الارتماء في أحضان الرذيلة، سعياً الى تحقيق ربح سريع في مجتمع الطريق للعيش الكريم فيه تتم بمهنة الغوص أو الزراعة... كانت بعض النساء يأتين من الريف إلى حي جراندول لكسب رزقهن من بيع أجسادهن في بيوت الدعارة بشكل يومي.
معروف أن البغايا يواجهن ضغوطاً شديدة في مختلف جوانب حياتهن، في مقدمتها الضغوط الاقتصادية والفقر المدقع والاعتداءات الجنسية عليهن واضطهادهن، حتى في حالة تزوجن. فكثير منهن يتزوجن فيقوم الزوج بدور «القواد»، ما يزيد من الضغوط عليهن فيتضاءل الأمل بحياة كريمة خارج إطار هذا النشاط.
«بعض البغايا كن ينخرط في هذه المهنة، من علم زوجها، وحين يكشف الزوج حقيقة سلوك زوجته يقوم بضربها وايذائها، ولكن لم تحدث فيما أعلم، أن قتل الزوج زوجته بسبب سوء سمعتها أو اشتغالها بالدعارة، كانت الأسر تفضل التعامل بسرية تامة في حال وجود بنت من بناتها تسقط في براثن العمل في البغاء. كان أفضل وأسهل طريقة لاحتواء الأمر هو التكتم عليه».
«قد تحدث حالات قتل، حين يحدث خصام وتنشب مشكلات بين البغي وعشيقها، وهنا قد يعمد العشيق على إيذاء عشيقته انتقاماً وقد تصل الأمور إلى حد القتل. وقد يحدث أن يرتبط أحدهم بـ «بغي» ويمنعها من ممارسة الدعارة بدافع الغيرة، لكنه حين يعرف بأنها لازالت تمتهن الدعارة قد يبتعد عنها لأنه سيعتبرها «خائنة» وأنها «لن تستقيم أبداً».
من هنا يقرر بليغريف وهو يتحدث عن مجتمع البحرين: «الجنس عادة ما يكون هو الدافع وراء جرائم القتل، وأحياناً تكون الضحايا من النساء سيئات السمعة اللاتي يغتالهن العشاق بسبب الغيرة!! هؤلاء النساء كن يعرفن باسم «بنات الهوى»...
كانت البغي تحرص على عدم الكشف عن هويتها حين تخرج من بيت الدعارة، فلباسها في الغالب محتشم وتظهر ملتزمة بالحجاب التقليدي الذي ترتديه غالبية البحرينيات، والمتمثل في ارتداء العباية السوداء (الدفة) مع الالتزام بستر الوجه بالبوشية أو البرقع، وكن يمتنعن عن الحديث مع أي شخص في الطرقات. كان قسم كبير منهن محتاطات بحيث لم يكن يسمحن لأنفسهن بالبروز في بيت الدعارة لمن كان من الزبائن يعرفهن أو يعرف عائلاتهن مخافة الفضيحة.
يؤكد الحاج ح ح أن البغايا كن يشاركن «القوادين» في صناعة الخمور المحلية، كما كن يشاركن زبائنهن الرجال في احتسائها في بيوت الدعارة، «كانت صناعة الخمور تتم في النخيل (المزارع) وتمثل بيوت الدعارة أحد الأماكن الفضلى لعشاق الخمور واحتسائها مع البغايا».
«ليس عالم البغاء بالعالم المتجانس، بل تحكمه تراتبية اجتماعيّة صارمة كما هو الشأن في سائر بلدان العالم. ضمن هذه التراتبية تحتل المرأة السلعة موقعها بحسب مقاييس معينة، من أهمها صغر السن والجمال والقدرة على مسايرة مستويات الزبائن التي تختلف هي الأخرى.
وهذه التراتبية تجعل من البغاء مصدر ربح وافر لبعض البغايا ومصدر عيش لا يكاد يسدّ الرمق للبعض الآخر».
إذن تتفاوت أجرة البغيّ، ويتحدد الأجر على مستوى جمال وسن البغي، فكلما كانت في مقتبل العمر زاد ثمنها، ومع كبر السن تتناقص الأجرة التي تحصل عليها، كما يشكل الجمال أحد أهم معايير تحديد التسعيرة، فالمرأة الجميلة يرتفع سعرها عن تلك التي تتحلى بجمال أقل، وهكذا يقل السعر بالنسبة الى ذوات الجمال المحدود أو اللواتي بلغن من العمر سناً كبيراً، وبصفة عامة كانت الأسعار تبدأ من 200 فلس مروراً بـ 300 وانتهاء بـ 500 فلس أو عشر روبيات (دينار) إذا كانت البغي تتمتع بمزايا جمالية عالية.
ومن النساء من كن يبعن أجسادهن بشكل محدود وسري للغاية، وهذا الصنف من النساء يكن في الغالب ممن لا يقمن في الحي ذاته، إنما يترددن عليه فقط للبحث والتقاط زبائنهن في بيوت الحي بالتنسيق مع القوادين النشطين، إذ سرعان ما يعدن لحياتهن بشكل اعتيادي ما أن يفرغن من «عملهن» في منتصف النهار وكأن ذهابهن للمنامة هو زيارة اعتيادية للتبضع في أسواق العاصمة، ومنهن من تتزوج من «خارج السلك» فتكف عن بيع جسدها لطلاب المتعة، ومنهن من تتعرف على زوجها من بين «زبائنها» فتتوقف في الغالب عن عملها، مع الإقرار بوجود حالات لم يمنع فيها الزواج من استمرار النساء من بيع أجسادهن لطلاب اللذة؛ ورغم أن العديد من نساء حي جراندول كن يتحولن بشكل تلقائي بعد طول الخدمة إلى «قوادات» بحكم تقادم السن ورغبة الزبائن عنهن إلى من هن أصغر منهن وأجمل، إلا أن عدداً كبيرًا من نساء جراندول بدأن بعد زواجهن حياةً جديدةً ومختلفة بالكامل ونسين ماضيهن المخزي.
يقول (ع. ح) وهو أحد من واكب تلك المرحلة وهو من قرية النعيم إحدى ضواحي العاصمة: «لي من العمر الآن 60 عاماً، ومازلت أتذكر أنني منذ أن كنت في الثانية عشرة من العمر كنا نعي وندرك نشاط البغايا الرائج في هذه المنطقة، وهذا يعني أنه وقبل 48 عاماً ويزيد كانت تجارة الجنس هي أكثر السلع رواجاً في هذه المنطقة». يضيف «كنا نمر عبر أزقة هذا الحي السكني في طريقنا إلى ارتياد السينما. كانت غالبية النساء البغايا بحرينيات، وقسم كبير منهن نازحات من المنطقة الشرقية، فيما كان عدد الخليجيات الأخريات أقل نسبياً. كان هناك «قواد» يباشر عملية تنظيم تجارة الجنس هذه، وهو من يقبض الأموال ويشرف على سير عملية دخول وخروج الزبائن».
وكان من الطبيعي أن تفرز تجارة الجنس بعض الظواهر الاجتماعية المدمرة، وكان من أبرز هذه الظواهر العثور على أطفال لقطاء «مجهولي أبوين». ويشير بليغريف إلى ذلك بقوله: «في أحيان كثيرة نجد أطفالاً حديثي الولادة مرميين وهم أحياء في الأماكن المخصصة للقمامة «المزابل» الموجودة بزوايا الشوارع أو نجدهم أمام المستشفى. ولدى مستشفى الإرسالية الأميركية ملجأ، حيث يوضع بعض هؤلاء الأطفال «اللقطاء» وتتم رعايتهم... وعندما يبلغون السادسة يرسلون إلى المدرسة ثم يحصلون على عمل. البعض الآخر يتم الاعتناء بهم في المستشفى الحكومي وغالباً ما تتبناهم سيدات عاقرات أو ليست لديهم عائلة».
وحين سألت الحاج ح ح عن مصير أبناء البغايا المولودين سفاحاً أوضح بقوله: «لقد شهدنا حالات كثيرة من هذا النوع، ومصير هؤلاء الأولاد يتوقف على ما إذا كانت البغيّ مشهورة بحرفتها أم لا، فإذا كانت مشهور فهي في الغالب تحتفظ به وتقوم بتربيته وتنشئته في بيتها بشكل اعتيادي من دون أي إحساس بالحرج، وغالباً ما يكون أبناء الزنا مدللين من أمهاتهم بسبب الوفرة المالية التي يعيشونها مقارنة بأوضاع عامة الناس في ذلك الوقت، وكثير من هؤلاء البغايا يخبرن أولادهن بأن والدهم «مات» منذ زمن بعيد، أو أنهن يرتبطن بزوج وينشأ لدى الأولاد اعتقاد أن من يعيش مع أمهم هو أبوهم الذي لا يعرفون والداً غيره؛ أما إذا كانت البغي تمارس الدعارة بشكل سري فهي غالباً ما تلجأ إلى التخلص من مولودها ورميه في براميل القمامة أو تركه في مكان مهجور».
حين صدر قرار منع الدعارة (أو نظمها) في خمسينات القرن الماضي في المنامة، سافرت الكثير من البغايا خارج البلاد، بينما أقلعت بعضهن عن ممارسة المهنة، فيما تزوج الكثير منهن مكتفين بما كونوه من ثروة طيلة سني عملهن «المضني»، فبعض البغايا صار لديهن عقارات وأملاك وثروة طائلة، لذا قرر الكثير من البغايا المكوث في البلاد بعد قرار المنع وبعد حصولهن على ما يحقق لهن العيش الكريم لبقيّة العمر.
ويذكر رجل الدين وقاضي الشرع المرحوم الشيخ أحمد بن خلف العصفور أنه كان يتلقى العلوم الدينية في مدرسة الشيخ عبدالحسين الحلي (ت 1956) التي كانت تعطي دروسها في مسجد الخواجة الكائن بالمنامة، وكان أستاذه الشيخ محمد علي آل حميدان (ت 1954) يقوم بالتدريس، وفي أحد الأيام حضر الشيخ العصفور إلى الدرس لكنه لم يجد أستاذه، فسأل عنه فقالوا له: إن سوق العقود رائجة هذا اليوم، حيث إنه صدر قرار من المستشار بليغريف بمنع الدعارة في المنامة، وعلى كل فاجرة أن تختار فاجراً تتزوج منه، وهو مشغول الآن معهم في إيقاع العقود . من هنا، بدأت الحكومة بتنفيذ «حملات تطهيرية مستمرة للبلاد من الغانيات وتسفرهن إلى بلادهم التي أتين منها عن طريق البحر».
والذي يبدو أن هذه الحملات التطهيرية استهدفت النساء الأجنبيات المخالفات للقوانين الرسمية المنظمة لهذا النشاط، إذ ما إن خرج الإنجليز من البلاد «بدأ تفكيك هذا الحي، ولم يكن هناك قرار رسمي بذلك، ولكن جاء الأمر من تلقاء نفسه، وبدأ هؤلاء النسوة ينتشرن في كل مكان» حسبما يشير فخرو.
أحد الباحثين البحرينيين المختصين في الانثربولوجيا الثقافية في المجتمع البحريني يشير الى أن قرار المنع النهائي جاء بعد الإستقلال، وبعد أن طرح الموضع في المجلس الوطني في منتصف السبعينات من القرن الماضي.
ورغم أن خطاب المؤسسة الدينية ورجال الدين بدا متساهلاً مع بروز الظاهرة، ولم يبلور خطاب مناهض لوجودها بشكل واضح، إلا أن الخطيب والشاعر الحسيني الذائع الصيت المرحوم الملا عطية بن علي الجمري (ت 1981م) ضمّن واحدة من قصائده نقداً لتدهور الوضع الأخلاقي. كما يقال ان الشيخ ابراهيم المبارك كان قد ذكر انه كتب رسالة الى الحاكم الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في خمسينات القرن الماضي يشتكي فيها عن هذا الموضوع.
ويرى البعض أن التعليم والعمل هما أهم عنصرين غيَّرا من وضع المرأة في الخليج العربي. كما كان عامل الهجرة الوافدة واحداً من العوامل المحفزة لبروز هذه الظاهرة، فقد تعرضت البلاد إلى موجات من الوافدين من شبه الجزيرة العربية من البادية ومن سواحل عمان وسواحل فارس وأعداد من الغجر، ويمثل هؤلاء جميعاً خليطاً من البشر يدفعهم الفقر وشظف العيش إلى السقوط في مستنقع الرذيلة.
الجاليات الأجنبية
ولقد كان لظاهرة البغاء بنوعيه العلني والخفي أسباب اجتماعية معقدة ومتنوعة لعل أبرزها يتمثل في وجود الجاليات الأجنبية، ويتمثل بعضها في تناول الخمور وانتعاش تجارتها، والتهريب، وتعدد جرائم النصب والاحتيال، وبروز ظاهرة البغاء بشكل علني. وقد كانت الجاليات الأجنبية، ممن يتردد على بيوت الزنا، إذ كثيراً ما شوهدوا وهم يلهون ويعربدون ليلاً مع بنات الهوى.
يقول أحد شهود العيان من أهالي المنطقة: «كنا نشاهد الرعايا الأجانب (معظمهم إنجليز وأميركيون) يأتون لهذه المنطقة للحصول على المتعة المحرمة، وكان أفراد الجيش من هذه الجنسيات يشكلون الشريحة الأكبر من الزوار الأجانب، إضافة إلى ارتياد عدد من الأوروبيين من عمال المراكب التجارية التي تفد على البحرين لنقل البضائع والسلع، وبالطبع، كان البحرينيون يمثلون شريحة مهمة من الزبائن».
تحريم تجارة الرقيق والبغاء
وشهدت البحرين مطلع القرن العشرين تحريم تجارة الرقيق وكان الرق لايزال موجوداً آنذاك ومعظم الأرقاء كانوا يجلبون من شرق إفريقيا. ففي فبراير / شباط 1905 زار المقيم السياسي البريطاني في بوشهر (رئيس الخليج) الميجور بيرسي كوكس البحرين، وأصدر وأمر باعتاق الرقيق من العبودية وتأمين أوضاعهم بشكل مناسب.
ولاحقاً، في عشرينات القرن الماضي، صدرت قرارات أخرى لتحريم تجارة الرقيق ووضع أي شخص يقوم بذلك تحت طائلة القانون. وقد كان بإمكان الرقيق من النساء الانعتاق من العبودية بمجرد طلب ذلك من المعتمد السياسي. ولكن المشكلة تأتي بعد الانعتاق، حيث إن معظمهن لا يجدن عملاً أو رعاية من نوع أو آخر، ما دفع عدد منهن إلى ممارسة الدعارة. وقد أقيمت خلال الحرب العالمية الثانية بيوت للدعارة في البحرين، مع أن هذا الأمر كان غير قانوني وغير معروف من قبل على نطاق واسع. وقبل ظهور النظام المعيشي والاقتصادي الجديد، لم يكن هناك ما يمنع المرأة من التحول إلى الدعارة في ظل قيم آخذة في التلاشي. ولعل القيد الوحيد الذي يحد من أن تمارس الدعارة هو أن يتذمر أحد جيرانها فيجبرها البوليس على أن تلزم بيتاً للدعارة في المنطقة المخصصة لذلك. أما الإدارة الرسمية أو الحكومة فكانت تغض النظر عن وجود منطقة الدعارة هذه، إذا ما استثنينا عمليات التنظيف التي كانت تلجأ إليها من حين لآخر.
إضافة إلى عوامل أخرى ترتبط بارتخاء القبضة الأمنية عبر المنافذ البحرية، وشيوع الأمية ومحدودية التعليم، وشيوع الممارسات الأخلاقية الشاذة، ومحدودية الثقافة الدينية/ الفقهية، ناهيك عن العامل الأكثر حسماً والمتمثل بالفقر والعوز المادي الذي كان يرزح تحت وطأته المجتمع وقتها.
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 4546 -