نقوس المهدي
كاتب
هناك إجماع على أن تحويل الجسد الأنثوي إلى بضاعة جنسية مبتذلة وتفاقم الانحطاط الأخلاقي، ناتج بالأساس عن الاستغلال والظلم الاجتماعي وانقسام الناس إلى أثرياء وفقراء، إلى ملاكين ومعدمين، إلى استغلاليين ومستغلين.
إن الاستغلال لا هوية ولا ملة له، وطبيعته القائمة على القهر والتجويع تجعل الخاضعين والراكعين بفعل متطلبات العيش يفقدون كل حس بالعفة والشرف. وهذا ما كرسه بعض الحكام المغاربة وكذلك الاستعمارين، الفرنسي والإسباني، من خلال إذلال الإنسان والدوس على كرامته.
فهناك من ألصق جميع النقائص والنكبات بالأجنبي، وفي هذا المضمار، قال محمد المختار السوسي:"لم تشع الأخلاق الفاسدة إلا بعد الاحتلال الذي جرّ كل وبال على المغرب (كتاب "المعسول").
الدعارة.. أقدم مهنة في العالم، وفي بلادنا كذلك. وهناك كتابات قديمة أكدت هذه الحقيقة.
ففي عشرينيات القرن الماضي وصف "محمد غريط" في كتابه "فواصل الجمان في أنباء وزراء الزمان"، الانحلال الخلقي في العاصمة العلمية، فاس، قائلا: "صار (الناس) يوم الجمعة، كما كان أهل الأندلس يوم السبت، يفعلون فعائل أصحاب الطاغوت.. من البروز إلى خارج المدينة.. ورفع الأصوات بالمواليات والأزجال واختلاط النساء بالرجال، متعطرات متبرجات كأنهن بكل ناظر متزوجات.. واستقصاء مرام من حرام ومعاطاة الكؤوس على المقابر كأنما أعيد لهم عصر الجاهلية الغابرة".
ويقول الكاتب عبد الله رشد في كتابه "كفاح المغاربة في سبيل الاستقلال والديمقراطية"، إن بعض الوقائع التاريخية تفيد أن بعض كبار المسؤولين تنازلوا عن أراضي مغربية مقابل الاستمتاع بما تحت حزام العاهرات الأوروبيات.
ففي أولى مراحل الاحتلال فضلت السلطات الاستعمارية تجميع العاهرات في أماكن محددة خاضعة للمراقبة خوفا من انتشار الأمراض الجنسية، وعلى رأسها داء الزهري (السيفيليس) الذي كان شائعا وقتئذ. وكانت أول خطوة قدم عليها الاستعمار تنظيم وتقنين الدعارة.
معالم الفساد
كان الفرنسيون كلما سيطروا على منطقة فتحوا فيها وكرا للدعارة وشجعوا الوسطاء على جمع النساء ومنحهن رخصة ممارسة العهارة بتعليمات المارشال ليوطي، الذي ظل اسمه مرتبطا بإحداث أحياء الدعارة في مختلف المراكز الحضرية، كما أنه هو الذي أقر بـ "الدعارة المتنقلة"، عبر تجنيد العشرات من العاهرات للسير وراء قوافل الجيش الفرنسي.
ظل المارشال ليوطي وفيا لنهج نابليون في تأسيس المواخير الرسمية، في وقت استخدم جنود الاستعمار الاغتصاب للانتقام وقهر القبائل المناهضة للاحتلال. وهذا ما فعلوه بتزنيت في أكتوبر 1612 والإسبان بتطوان في سنة 1913.. وقد جاء في كتاب "الإلغيات" للمختار السوسي، "كان الضابط "كوجي" رئيس بلدية مراكش سنة 1937، طاغية أشيب، مستهترا مولعا بهتك عفاف الأبكار [..] وكان أحد مساعدي باشا المدينة يخطب مغربيات مسلمات، وليلة الزفاف يسلمهن للفرنسي "كوجي"".
وجاء في كتاب "الضعيف الرباطي":"سيطر القائد الحبيب المالكي على قرية كاملة وجعلها خاصة به وليس فيها إلا النساء وممنوعة على الرجال ولا يدخلها إلا هو وحده. وكل النساء يأتي بهن بالإكراه. وقد اعتقله السلطان محمد بن عبد الله وسجنه بمكناس إلى وفاته".
مع النزول الأمريكي في نونبر 1942 في شواطئ المحمدية وآسفي والمهدية (بالقرب من القنيطرة)، ذاعت في أوساط الشباب مفردات الجنس الأمريكية الهجينة، وشاعت ثقافة مضغ العلك (شوينكوم) وانتشر العازل الطبي. آنذاك استسلم الفقراء لإغراءات الدولار، ولم يكن مشهدا نادرا رؤية جثة عارية لأمريكي شاب في ميناء الدار البيضاء، وكان المقتول دائما مقيد الأطراف (اليدين والقدمين) وقد بُتر عضوه الجنسي، وتلك إشارة إلى أن المعني بالأمر اغتصب إحدى النساء المسلمات.
بعد الحرب العالمية الثانية، استقر الجنود الأمريكيون في قواعد القنيطرة وسيدي سليمان وسيدي يحيى وبوقنادل والنواصر وبنكرير باتفاق مع فرنسا، آنذاك استفحلت التجارة في أعراض النساء وأجسادهن.
مواخير المغرب الأولى
منذ نهاية القرن التاسع عشر بدأت أشكال جديدة للدعارة تتسلل إلى المغرب.
ففي سنة 1894 فتح نادي أنفا أبوابه بالدار البيضاء، وكان عبارة عن ملهى جلب فرنسيات. آنذاك ظهرت عادات وطقوس غير مألوفة في مجال تسلية زبناء المتعة.
وفي هذا المضمار تكوّنت لجنة من ممثلي السفارات والقنصليات الموجودة بطنجة وقررّت تطبيق القانون الفرنسي حول البغاء على مدينة البوغاز دون استشارة أي مسؤول مغربي.
ومنذ هجوم القوات الفرنسية على مدينة الدار البيضاء بدأ تشييد أحياء الدعارة موازاة مع حملات الغزو، وذلك لتلبية إشباع الرغبة الجنسية لجنود الاحتلال.
ومنذ عام 1908، أي بعد أقل من سنة على هجوم البواخر الحربية، الفرنسية والإسبانية، لمدينة الدار البيضاء، في 5 غشت 1907، أُحدث مرقص "إيدن كونسير" (Eden Concert)، وهو ملهى خاص بالضباط وكبار الموظفين. كانت حسناوات فرنسيات تقدم فيه عروضا عارية (ستريبتيز) مقابل مبالغ مالية. وفي نفس السنة ذاع صيت مقهى "التجار" (NEGOCIANTS) بالقرب من ميناء الدار البيضاء، بفعل مفاتن الأوروبيات القلائل آنذاك اللواتي كنّ ينشطن به، في تلك المرحلة، كلما سيطرت القوات الفرنسية على منطقة إلا وتم إحداث بها أوكارا للدعارة بها وتشجيع الوسطاء.
ومن أولى المواخير بالعاصمة، "الرباط"، وأشهرها "قاصة" الذي كان يضم في الخمسينيات أزيد من ألف عاهرة. وكان باشا مراكش، التهامي الكلاوي، أكبر تاجر في أجساد النساء، وضمت المنازل التي كان يراقبها أكثر من ستة آلاف امرأة تدفع له كل واحدة منهن، إتاوة يومية قدرها مائة فرنك (أي ما يعادل 18 مليون فرنك شهريا). وكذلك الأمر بزاوية سيدي رحال حين كان يراقب الباشا عدة مساكن وأوكار للدعارة ويتقاضى نسبة مئوية من مداخيلها. ونفس الشيء حصل بزاوية سيدي عيسى بنسليمان.
عموما كانت مدينة مراكش تحتضن عدة مواخير، منها "عرصة موسى" الذي ضمّ مئات بائعات الهوى بأثمنة رخيصة. واستفرد الفرنسيون بمنازل وشقق بالحي الأوروبي "جيليز" وخصصوا ماخورا للجنود بالقرب من حي "تاركا".
لقد جعل الباشا التهامي الكلاوي من درب "ضباشي" و"القصيبة" وأحياء أخرى بالمدينة أوكارا للاتجار في الجسد الأنثوي، بعد جلب ـ كرها أحيانا كثيرة ـ فتيات من القبائل التابعة لنفوذه الترابي، وتمكن الباشا من جمع ثروة هائلة نفق جزءا كبيرا منها في مواخير ومراقص عاصمة الأنوار باريس. ورغم أنه لم يكن يفقه شيئا، فإن هذا الإقطاعي، الذي تآمر على الملك محمد الخامس، ظل يحاول تغطية نواقصه بالظهور بالهندام الغربي، وتبذير الأموال المنهوبة من الرعايا وإغداق هدايا وعطايا على المغنيات والراقصات الغربيات.
يقول المؤرخ الفرنسي "لو تورتو"، الذي عاش بفاس قبل الاحتلال، إن البغاء كان يشمل أغلب بيوت قصبة بوجلود وقصبة تامريرت وبالقرب من باب فتوح وكل الأحياء الفقيرة التي كانت تعج بالنساء القادمات من البادية، كن يقطن في منازل تكتريها "القوادات" ويتقاضى منهن ممثل السلطة مبالغ معينة.
وقد اشتهر حي مولاي عبد الله، ومواسم باشا المدينة عبد الله احماد، الذي وضع منازله رهن إشارة نساء وافدات على فاس مقابل مبالغ مالية يدفعنها بانتظام (أسبوعيا أو شهريا).
تؤكد الكتابات العسكرية أن زاوية "بجعد" كانت، في السنوات الأولى من الحماية، محاطة بدور البغاء، حيث تعرض على الراغبين مراهقات فائضات عن اللزوم.
وفي ضواحي بني ملال كان "ولي" يدعى الشيخ بوعنان يستمتع بحق الليلة الأولى، على غرار ما كان قائما عند إقطاعيي أوروبا خلال القرون الوسطى. ونفس الأمر كان يحدث بأيت عتاب ضواحي دمنات إلى حدود الستينيات.
ماخور "بوسبير"
قامت سلطات الاحتلال الفرنسي بتجميع عاهرات مدينة الدار البيضاء في دور شيدت على أراضي في ملكية "بروسبير فيريو"، وقد حمل هذا الحي اسمه رغما عنه، وهو ما أصبح يعرف بـ "بوسبير".
كان عبارة عن "ماخور" تّجمع فيه عاهرات يخضعن للمراقبة والمتابعة الطبيتين. لكن هذا الحي يقع في وسط المدينة التي عرفت نموا بوتيرة سريعة، الشيء الذي دفع السلطات الفرنسية في عهد المارشال ليوطي إلى تحويل "ماخور بوسبير" إلى درب السلطان.
ومن الحكايات التي ارتبطت بهذا الماخور أن "بوكاسا" اشتغل حارسا ببابه عندما كان جنديا في صفوف الجيش الفرنسي.
في بداية الثلاثينيات ضمّ ماخور "بوسبير" أكثر من 700 امرأة، وتصاعد هذا العدد إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة 1950 بعد توسيعه، إذ تأسس جناحان، واحد خاص بالأوروبيات والثاني باليهوديات المغربيات، فضلا عن الفنادق والشقق المفروشة.
وعندما تم الإقرار بإفراغ حي "بوسبير" من العاهرات قامت السلطات الاستعمارية بإعداد مشروع تكلفت به البلدية بأموال خاصة.
أُحدثت شركة "كروسو تير" في عشرينيات القرن الماضي للإشراف عليه. والمشروع عبارة عن ماخور شيّد على مساحة 24 ألف متر مربع خصص لما بين 600 و900 عاهرة يقطنّ في 150 مسكنا مستعملا خصيصا للدعارة، مع خلق خط للحافلات العمومية يربط بين وسط المدينة والماخور الذي ظل يحمل اسم "بوسبير".
كان هذا الماخور يتوفر على مدخل رئيسي محروس من طرف الجنود والشرطة، ولم تكن العاهرات تغادره إلا برخصة مرتين في الأسبوع، بعد تقدير طلب بهذا الخصوص لمفتش الشرطة الذي يعرضه على الطبيب.
في المعدل كانت كل قاطنة بالماخور تعرض نفسها على 15 زبونا يوميا، وفي المناسبات قد يرتفع هذا المعدل إلى 40 زبونا يوميا. وكانت العاهرات تابعة لقوادات (باطرونات) تراقبهن ويتكلفن بالمداخيل.
ظلت أبواب ماخور "بوسبير" مفتوحة إلى حدود سنة 1953، ثلاث سنوات قبل حصول المغرب على الاستقلال، آنذاك كان المغرب يحتضن أكثر من 30 ألف عاهرة حسب إحصائيات الكاتبين "ماتيو وموران".
كانت أزقة حي "بوسبير" تحمل أسماء من قبيل "المراكشية" و"الوجدية".
ماخور "سفانكس" بالمحمدية
كان "سفانكس" بمدينة المحمدية سنة 1951، أكبر ماخور في إفريقيا كلّف إحداثه 5000 دولار وقتئذ.
احتوى "سفانكس" على عشرات الغرف المفروشة وقاعات الرقص وخمارات ونادي لعرض الأفلام الخليعة ومصحة للفحوص الطبية، كانت نزيلاته الأوروبيات يتغيرن مرة في الشهر، وتكوّن زبناؤه من الجنود الأمريكيين وكبار الموظفين والأثرياء.
كان "بورديل" "سفانكس" يضاهي دور المتعة الفرنسية، وقد عرف شهرة عالمية بفضل أغنية "جاك بريل" الخاصة بمسيرة هذا الماخور الراقي، "مادام أندري" قبل أن يضطلع بتدبير شؤونه المجرم "جورج بوشيس" المتورط في اختطاف واغتيال المهدي بنبركة.
"البورديلات" العسكرية
فيما بين 1912 و1934 أقرت سلطات الاحتلال الفرنسي بتنظيم ماخورات عسكرية لتمكين جنودها من المتعة الجنسية للرفع من معنوياتهم. وقد وصل بهم الأمر إلى تهجير عاهرات مغربيات إلى الفيتنام لمرافقة فيالق الجنود الفرنسيين، وتحول العديد منهن إلى محاربات وممرضات في صفوف الثوار تحت إمرة "هو شي منه" في حرب "ديين بيين فو".
نظمت سلطات الاحتلال الفرنسية ثلاثة أنواع من "البورديلات" العسكرية:
1- "البورديل" المتنقل الذي كان يزور بانتظام الثكنات والتجمعات العسكرية، وكانت النساء تقيم بالقرب من الجنود وترافقهم طيلة السنة ما عدا فصل الشتاء.
2- "البورديل" المتجول، الذي يرافق التحركات الكبرى.
3- "البورديل" المستقر بالمدن، حيث يوجد عدد كبير من الجنود.
لتزويد "البورديلات" العسكرية، كانت السلطات الفرنسية تلجأ إلى القوادات، اللواتي يتكلفن بتجميع النساء وإقناعهن بتوقيع عقود لمدة عامين قابلة للتجديد.
كانت عاهرات "البورديل" العسكري يخضعن لنظام شبه عسكري، سيما فيما يخص توقيت العمل دون مغادرة المكان، وكان مفروض على الجنود مضاجعة العاهرات بمكان تواجدهن، أما الضباط فقد كان من حقهم أخذ العاهرات إلى حيث شاؤوا، وحسب رغبتهم. خلال المناسبات لم تكن العاهرة تتمكن من مغادرة السرير، حيث كان عليها تلبية رغبة ما بين 40 و80 جنديا في اليوم حسب الكاتبة "كرستيل طارو".
التصدي للدعارة
لما تفشت الدعارة بشكل مفضوح بالمجتمع المغربي في فجر الخمسينيات، قام "جان سيل" المستشار في مجلس الاتحاد الفرنسي سنة 1953 بتوجيه رسالة، باسم المجلس الوطني للمنظمات النسائية الفرنسية، إلى وزير الخارجية الفرنسي لمطالبته بمنع "القوادة" بشمال إفريقيا، وخاصة بالمغرب.
كما انكشفت فضيحة البرلماني الفرنسي "فالكوز" الذي كان يملك أسهما في بيوت الدعارة التي كان يشرف عليها التهامي الكلاوي. ومن المعلوم أن السلطات الاستعمارية، كانت قد أصدرت تقنينا للدعارة بواسطة مرسوم 16 فبراير 1924، الذي سمح بفتح دور رسمية وتحديد سن المرأة في 21 عاما، وحينما اشتدت المقاومة المسلحة سنة 1953 غيّرت السلطات الاستعمارية هذا المرسوم، إذ خفّضت من سن رشد الفتاة من 21 إلى 16 ليعطيها الحق في ممارسة البغاء، كما خففّت من العقوبات المتعلقة بالوسطاء.
وقد اضطرت المقاومة إلى القيام ببعض العمليات المحدودة للردع فقط، وفي هذا المضمار سبق لعلال الفاسي أن قال :"الذي يريد القضاء على الدعارة فليعمل على تغيير النظام الاقتصادي القائم في البلاد".
.
إن الاستغلال لا هوية ولا ملة له، وطبيعته القائمة على القهر والتجويع تجعل الخاضعين والراكعين بفعل متطلبات العيش يفقدون كل حس بالعفة والشرف. وهذا ما كرسه بعض الحكام المغاربة وكذلك الاستعمارين، الفرنسي والإسباني، من خلال إذلال الإنسان والدوس على كرامته.
فهناك من ألصق جميع النقائص والنكبات بالأجنبي، وفي هذا المضمار، قال محمد المختار السوسي:"لم تشع الأخلاق الفاسدة إلا بعد الاحتلال الذي جرّ كل وبال على المغرب (كتاب "المعسول").
الدعارة.. أقدم مهنة في العالم، وفي بلادنا كذلك. وهناك كتابات قديمة أكدت هذه الحقيقة.
ففي عشرينيات القرن الماضي وصف "محمد غريط" في كتابه "فواصل الجمان في أنباء وزراء الزمان"، الانحلال الخلقي في العاصمة العلمية، فاس، قائلا: "صار (الناس) يوم الجمعة، كما كان أهل الأندلس يوم السبت، يفعلون فعائل أصحاب الطاغوت.. من البروز إلى خارج المدينة.. ورفع الأصوات بالمواليات والأزجال واختلاط النساء بالرجال، متعطرات متبرجات كأنهن بكل ناظر متزوجات.. واستقصاء مرام من حرام ومعاطاة الكؤوس على المقابر كأنما أعيد لهم عصر الجاهلية الغابرة".
ويقول الكاتب عبد الله رشد في كتابه "كفاح المغاربة في سبيل الاستقلال والديمقراطية"، إن بعض الوقائع التاريخية تفيد أن بعض كبار المسؤولين تنازلوا عن أراضي مغربية مقابل الاستمتاع بما تحت حزام العاهرات الأوروبيات.
ففي أولى مراحل الاحتلال فضلت السلطات الاستعمارية تجميع العاهرات في أماكن محددة خاضعة للمراقبة خوفا من انتشار الأمراض الجنسية، وعلى رأسها داء الزهري (السيفيليس) الذي كان شائعا وقتئذ. وكانت أول خطوة قدم عليها الاستعمار تنظيم وتقنين الدعارة.
معالم الفساد
كان الفرنسيون كلما سيطروا على منطقة فتحوا فيها وكرا للدعارة وشجعوا الوسطاء على جمع النساء ومنحهن رخصة ممارسة العهارة بتعليمات المارشال ليوطي، الذي ظل اسمه مرتبطا بإحداث أحياء الدعارة في مختلف المراكز الحضرية، كما أنه هو الذي أقر بـ "الدعارة المتنقلة"، عبر تجنيد العشرات من العاهرات للسير وراء قوافل الجيش الفرنسي.
ظل المارشال ليوطي وفيا لنهج نابليون في تأسيس المواخير الرسمية، في وقت استخدم جنود الاستعمار الاغتصاب للانتقام وقهر القبائل المناهضة للاحتلال. وهذا ما فعلوه بتزنيت في أكتوبر 1612 والإسبان بتطوان في سنة 1913.. وقد جاء في كتاب "الإلغيات" للمختار السوسي، "كان الضابط "كوجي" رئيس بلدية مراكش سنة 1937، طاغية أشيب، مستهترا مولعا بهتك عفاف الأبكار [..] وكان أحد مساعدي باشا المدينة يخطب مغربيات مسلمات، وليلة الزفاف يسلمهن للفرنسي "كوجي"".
وجاء في كتاب "الضعيف الرباطي":"سيطر القائد الحبيب المالكي على قرية كاملة وجعلها خاصة به وليس فيها إلا النساء وممنوعة على الرجال ولا يدخلها إلا هو وحده. وكل النساء يأتي بهن بالإكراه. وقد اعتقله السلطان محمد بن عبد الله وسجنه بمكناس إلى وفاته".
مع النزول الأمريكي في نونبر 1942 في شواطئ المحمدية وآسفي والمهدية (بالقرب من القنيطرة)، ذاعت في أوساط الشباب مفردات الجنس الأمريكية الهجينة، وشاعت ثقافة مضغ العلك (شوينكوم) وانتشر العازل الطبي. آنذاك استسلم الفقراء لإغراءات الدولار، ولم يكن مشهدا نادرا رؤية جثة عارية لأمريكي شاب في ميناء الدار البيضاء، وكان المقتول دائما مقيد الأطراف (اليدين والقدمين) وقد بُتر عضوه الجنسي، وتلك إشارة إلى أن المعني بالأمر اغتصب إحدى النساء المسلمات.
بعد الحرب العالمية الثانية، استقر الجنود الأمريكيون في قواعد القنيطرة وسيدي سليمان وسيدي يحيى وبوقنادل والنواصر وبنكرير باتفاق مع فرنسا، آنذاك استفحلت التجارة في أعراض النساء وأجسادهن.
مواخير المغرب الأولى
منذ نهاية القرن التاسع عشر بدأت أشكال جديدة للدعارة تتسلل إلى المغرب.
ففي سنة 1894 فتح نادي أنفا أبوابه بالدار البيضاء، وكان عبارة عن ملهى جلب فرنسيات. آنذاك ظهرت عادات وطقوس غير مألوفة في مجال تسلية زبناء المتعة.
وفي هذا المضمار تكوّنت لجنة من ممثلي السفارات والقنصليات الموجودة بطنجة وقررّت تطبيق القانون الفرنسي حول البغاء على مدينة البوغاز دون استشارة أي مسؤول مغربي.
ومنذ هجوم القوات الفرنسية على مدينة الدار البيضاء بدأ تشييد أحياء الدعارة موازاة مع حملات الغزو، وذلك لتلبية إشباع الرغبة الجنسية لجنود الاحتلال.
ومنذ عام 1908، أي بعد أقل من سنة على هجوم البواخر الحربية، الفرنسية والإسبانية، لمدينة الدار البيضاء، في 5 غشت 1907، أُحدث مرقص "إيدن كونسير" (Eden Concert)، وهو ملهى خاص بالضباط وكبار الموظفين. كانت حسناوات فرنسيات تقدم فيه عروضا عارية (ستريبتيز) مقابل مبالغ مالية. وفي نفس السنة ذاع صيت مقهى "التجار" (NEGOCIANTS) بالقرب من ميناء الدار البيضاء، بفعل مفاتن الأوروبيات القلائل آنذاك اللواتي كنّ ينشطن به، في تلك المرحلة، كلما سيطرت القوات الفرنسية على منطقة إلا وتم إحداث بها أوكارا للدعارة بها وتشجيع الوسطاء.
ومن أولى المواخير بالعاصمة، "الرباط"، وأشهرها "قاصة" الذي كان يضم في الخمسينيات أزيد من ألف عاهرة. وكان باشا مراكش، التهامي الكلاوي، أكبر تاجر في أجساد النساء، وضمت المنازل التي كان يراقبها أكثر من ستة آلاف امرأة تدفع له كل واحدة منهن، إتاوة يومية قدرها مائة فرنك (أي ما يعادل 18 مليون فرنك شهريا). وكذلك الأمر بزاوية سيدي رحال حين كان يراقب الباشا عدة مساكن وأوكار للدعارة ويتقاضى نسبة مئوية من مداخيلها. ونفس الشيء حصل بزاوية سيدي عيسى بنسليمان.
عموما كانت مدينة مراكش تحتضن عدة مواخير، منها "عرصة موسى" الذي ضمّ مئات بائعات الهوى بأثمنة رخيصة. واستفرد الفرنسيون بمنازل وشقق بالحي الأوروبي "جيليز" وخصصوا ماخورا للجنود بالقرب من حي "تاركا".
لقد جعل الباشا التهامي الكلاوي من درب "ضباشي" و"القصيبة" وأحياء أخرى بالمدينة أوكارا للاتجار في الجسد الأنثوي، بعد جلب ـ كرها أحيانا كثيرة ـ فتيات من القبائل التابعة لنفوذه الترابي، وتمكن الباشا من جمع ثروة هائلة نفق جزءا كبيرا منها في مواخير ومراقص عاصمة الأنوار باريس. ورغم أنه لم يكن يفقه شيئا، فإن هذا الإقطاعي، الذي تآمر على الملك محمد الخامس، ظل يحاول تغطية نواقصه بالظهور بالهندام الغربي، وتبذير الأموال المنهوبة من الرعايا وإغداق هدايا وعطايا على المغنيات والراقصات الغربيات.
يقول المؤرخ الفرنسي "لو تورتو"، الذي عاش بفاس قبل الاحتلال، إن البغاء كان يشمل أغلب بيوت قصبة بوجلود وقصبة تامريرت وبالقرب من باب فتوح وكل الأحياء الفقيرة التي كانت تعج بالنساء القادمات من البادية، كن يقطن في منازل تكتريها "القوادات" ويتقاضى منهن ممثل السلطة مبالغ معينة.
وقد اشتهر حي مولاي عبد الله، ومواسم باشا المدينة عبد الله احماد، الذي وضع منازله رهن إشارة نساء وافدات على فاس مقابل مبالغ مالية يدفعنها بانتظام (أسبوعيا أو شهريا).
تؤكد الكتابات العسكرية أن زاوية "بجعد" كانت، في السنوات الأولى من الحماية، محاطة بدور البغاء، حيث تعرض على الراغبين مراهقات فائضات عن اللزوم.
وفي ضواحي بني ملال كان "ولي" يدعى الشيخ بوعنان يستمتع بحق الليلة الأولى، على غرار ما كان قائما عند إقطاعيي أوروبا خلال القرون الوسطى. ونفس الأمر كان يحدث بأيت عتاب ضواحي دمنات إلى حدود الستينيات.
ماخور "بوسبير"
قامت سلطات الاحتلال الفرنسي بتجميع عاهرات مدينة الدار البيضاء في دور شيدت على أراضي في ملكية "بروسبير فيريو"، وقد حمل هذا الحي اسمه رغما عنه، وهو ما أصبح يعرف بـ "بوسبير".
كان عبارة عن "ماخور" تّجمع فيه عاهرات يخضعن للمراقبة والمتابعة الطبيتين. لكن هذا الحي يقع في وسط المدينة التي عرفت نموا بوتيرة سريعة، الشيء الذي دفع السلطات الفرنسية في عهد المارشال ليوطي إلى تحويل "ماخور بوسبير" إلى درب السلطان.
ومن الحكايات التي ارتبطت بهذا الماخور أن "بوكاسا" اشتغل حارسا ببابه عندما كان جنديا في صفوف الجيش الفرنسي.
في بداية الثلاثينيات ضمّ ماخور "بوسبير" أكثر من 700 امرأة، وتصاعد هذا العدد إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة 1950 بعد توسيعه، إذ تأسس جناحان، واحد خاص بالأوروبيات والثاني باليهوديات المغربيات، فضلا عن الفنادق والشقق المفروشة.
وعندما تم الإقرار بإفراغ حي "بوسبير" من العاهرات قامت السلطات الاستعمارية بإعداد مشروع تكلفت به البلدية بأموال خاصة.
أُحدثت شركة "كروسو تير" في عشرينيات القرن الماضي للإشراف عليه. والمشروع عبارة عن ماخور شيّد على مساحة 24 ألف متر مربع خصص لما بين 600 و900 عاهرة يقطنّ في 150 مسكنا مستعملا خصيصا للدعارة، مع خلق خط للحافلات العمومية يربط بين وسط المدينة والماخور الذي ظل يحمل اسم "بوسبير".
كان هذا الماخور يتوفر على مدخل رئيسي محروس من طرف الجنود والشرطة، ولم تكن العاهرات تغادره إلا برخصة مرتين في الأسبوع، بعد تقدير طلب بهذا الخصوص لمفتش الشرطة الذي يعرضه على الطبيب.
في المعدل كانت كل قاطنة بالماخور تعرض نفسها على 15 زبونا يوميا، وفي المناسبات قد يرتفع هذا المعدل إلى 40 زبونا يوميا. وكانت العاهرات تابعة لقوادات (باطرونات) تراقبهن ويتكلفن بالمداخيل.
ظلت أبواب ماخور "بوسبير" مفتوحة إلى حدود سنة 1953، ثلاث سنوات قبل حصول المغرب على الاستقلال، آنذاك كان المغرب يحتضن أكثر من 30 ألف عاهرة حسب إحصائيات الكاتبين "ماتيو وموران".
كانت أزقة حي "بوسبير" تحمل أسماء من قبيل "المراكشية" و"الوجدية".
ماخور "سفانكس" بالمحمدية
كان "سفانكس" بمدينة المحمدية سنة 1951، أكبر ماخور في إفريقيا كلّف إحداثه 5000 دولار وقتئذ.
احتوى "سفانكس" على عشرات الغرف المفروشة وقاعات الرقص وخمارات ونادي لعرض الأفلام الخليعة ومصحة للفحوص الطبية، كانت نزيلاته الأوروبيات يتغيرن مرة في الشهر، وتكوّن زبناؤه من الجنود الأمريكيين وكبار الموظفين والأثرياء.
كان "بورديل" "سفانكس" يضاهي دور المتعة الفرنسية، وقد عرف شهرة عالمية بفضل أغنية "جاك بريل" الخاصة بمسيرة هذا الماخور الراقي، "مادام أندري" قبل أن يضطلع بتدبير شؤونه المجرم "جورج بوشيس" المتورط في اختطاف واغتيال المهدي بنبركة.
"البورديلات" العسكرية
فيما بين 1912 و1934 أقرت سلطات الاحتلال الفرنسي بتنظيم ماخورات عسكرية لتمكين جنودها من المتعة الجنسية للرفع من معنوياتهم. وقد وصل بهم الأمر إلى تهجير عاهرات مغربيات إلى الفيتنام لمرافقة فيالق الجنود الفرنسيين، وتحول العديد منهن إلى محاربات وممرضات في صفوف الثوار تحت إمرة "هو شي منه" في حرب "ديين بيين فو".
نظمت سلطات الاحتلال الفرنسية ثلاثة أنواع من "البورديلات" العسكرية:
1- "البورديل" المتنقل الذي كان يزور بانتظام الثكنات والتجمعات العسكرية، وكانت النساء تقيم بالقرب من الجنود وترافقهم طيلة السنة ما عدا فصل الشتاء.
2- "البورديل" المتجول، الذي يرافق التحركات الكبرى.
3- "البورديل" المستقر بالمدن، حيث يوجد عدد كبير من الجنود.
لتزويد "البورديلات" العسكرية، كانت السلطات الفرنسية تلجأ إلى القوادات، اللواتي يتكلفن بتجميع النساء وإقناعهن بتوقيع عقود لمدة عامين قابلة للتجديد.
كانت عاهرات "البورديل" العسكري يخضعن لنظام شبه عسكري، سيما فيما يخص توقيت العمل دون مغادرة المكان، وكان مفروض على الجنود مضاجعة العاهرات بمكان تواجدهن، أما الضباط فقد كان من حقهم أخذ العاهرات إلى حيث شاؤوا، وحسب رغبتهم. خلال المناسبات لم تكن العاهرة تتمكن من مغادرة السرير، حيث كان عليها تلبية رغبة ما بين 40 و80 جنديا في اليوم حسب الكاتبة "كرستيل طارو".
التصدي للدعارة
لما تفشت الدعارة بشكل مفضوح بالمجتمع المغربي في فجر الخمسينيات، قام "جان سيل" المستشار في مجلس الاتحاد الفرنسي سنة 1953 بتوجيه رسالة، باسم المجلس الوطني للمنظمات النسائية الفرنسية، إلى وزير الخارجية الفرنسي لمطالبته بمنع "القوادة" بشمال إفريقيا، وخاصة بالمغرب.
كما انكشفت فضيحة البرلماني الفرنسي "فالكوز" الذي كان يملك أسهما في بيوت الدعارة التي كان يشرف عليها التهامي الكلاوي. ومن المعلوم أن السلطات الاستعمارية، كانت قد أصدرت تقنينا للدعارة بواسطة مرسوم 16 فبراير 1924، الذي سمح بفتح دور رسمية وتحديد سن المرأة في 21 عاما، وحينما اشتدت المقاومة المسلحة سنة 1953 غيّرت السلطات الاستعمارية هذا المرسوم، إذ خفّضت من سن رشد الفتاة من 21 إلى 16 ليعطيها الحق في ممارسة البغاء، كما خففّت من العقوبات المتعلقة بالوسطاء.
وقد اضطرت المقاومة إلى القيام ببعض العمليات المحدودة للردع فقط، وفي هذا المضمار سبق لعلال الفاسي أن قال :"الذي يريد القضاء على الدعارة فليعمل على تغيير النظام الاقتصادي القائم في البلاد".
.