جواد كاظم غلوم - الغانية "شاماهات" وتأثير الجنس في نصوص ملحمة جلجامش

لا أحد يخامره الشكّ بان بلاد وادي الرافدين أول من وطأت ارض الادب الجميلة الممتعة بعد ان ظهر التدوين على الرُّقم الطينية بالخطوط المسمارية فكانت الرائدة في العالم القديم حتى قبل الحقبتين الفرعونية والإغريقية وماقبلهما
اذ عُرفت ملحمة جلجامش بانها اقدم اثر ادبي مكتوب قدّمته بلاد وادي الرافدين " اوروك " الى العالم واولى خطوات التحضر في مدارج الانسانية بعد دهور من البدائية التي استنفدت الانسان في معظم مراحل عصوره التاريخية وخاصة عصور ما قبل التاريخ وانعدام التدوين ؛ اذ اثبتت البحوث الأثرية انها كتبت قبل حوالي 3500 سنة ق.م مما يعني انها سبقت الالياذة والاوديسا وملحمة "الرج فيدا " لادب الهند القديم وادب " الابستاق " في بلاد فارس والادب العبراني الذي يمثل التوراة أساسه الاول فقد سبقت ملحمتنا تلك الآثار بأكثر من الفي سنة
وبعيدا عما يشغل الانسان العراقي القديم بشأن قضية قلق الحياة والموت والعمر المحدّد الذي يعيشه وهو محسوب بسنوات معدودة بدءا من ولادته حتى مماته وطموح الانسان الى الخلود والصراع مع قوى الخفاء للبقاء وقضايا كثيرة تطرّقت اليها الملحمة لكننا سنركّز على الجنس والمرأة والتي كانتا الشغل الشاغل ايضا في مضامين هذه الملحمة وأخذت حيزا واسعا في ألواحها المكتوبة البالغة اثنا عشر لوحاً
وتستعرض الملحمة بدءاً القدرات الجنسية الخارقة والسعار الشهواني لدى جلجامش راعي اوروك حيث نقرأ في احد ألواحها انه " لم يترك عذراء لحبيبها ( وفي ترجمة اخرى –لأمّها-) الاّ وفضّ بكارتها مع ان عشتار التي تخلب الالباب كانت تتمنى ان يدوس عتبة بيتها لترقص هذه العتَبة فرحا وحبورا تحت قدميه ابتهاجا بزيارته
أما الكائن الانساني الذي تلبّسته الوحشية صائد الضواري والمواشي انكيدو ذلك الخارق القوّة الذي سيكون الصديق والرفيق المقبل فقصته مع الداعرة " شاماهات " غانية المعبد التي غيّرت مجرى حياته من الشراسة الى الوداعة فكانت حالة فريدة تسترعي الانتباه والتأمل ، ففي اللوح الاول من المقاطع الشعرية للملحمة يلجأ احد الصيادين شاكيا لأبنهِ الحرمانَ من اقتناص الفرائس وفقدانها في ارض اوروك بسبب الوحش " أنكيدو " الذي أفرغ الغابة من الطرائد وامتلأت قحطا وأقفرت السهوب والفيافي من الفرائس نتيجة نهمه الشديد وجوعه وقوّته المفرطة وصيده الدائم حيث لم يُبقِ للآخرين حيوانا يمكن اصطياده فنصحَه بالذهاب الى جلجامش ليجد حلاً لاوضاع الصيادين المتردية بسبب اكتساح انكيدو للسهوب واقتناص كل الطرائد وهذا الحلّ هو المرأة فلا شيء غير الانوثة علاجا لكبح جماح نزواته الجنسية وانتزاع رداء الوحشية منه
ولكن لماذا استشير جلجامش دون بقية الالهة ؟
لااحد يعترض فالجميع يعترف بقدرة جلجامش على جسّ نبض البشر فالجنس هو البلسم الشافي للعنف والوحشية والمرأة ولاشيء غير المرأة من تكبح نزوات القوة وجبروتها فالنساء كما نعرف يصرعْن ذا اللب وذا العنف والقوّة حتى لاحراك له مع انهنّ اضعف خلق الله انسانا
وجلجامش اكثر رعية اوروك معرفة بالنساء والرجال ، أليس هو من تخافه عذراوات الدنيا وترتعب منه الامهات خوفا على بناتهن وتهابه الرجال لانه يسلب منهم حليلاتهم وزوجاتهم وجواريهم
وهذه المقاطع الشعرية التالية ( بترجمة الدكتور طه باقر ) أنقلها بنصّها من المترجم على لسان الاب الصياد موجّها الكلام لابنهِ :
اذهبْ الى اوروك ..توجه اليها
وانبيء جلجامش عن هذا الرجل
وليعْطك " بغيّاً " تصحبها معك
دع تلك البغيّ تغلبه وتروّضه
حينما يأتي ليسقي الحيوان من مورد الماء
دعها تخلع ثيابها وتكشف عن مفاتن جسدها
واذا ما رآها فانه سينجذب اليها
فاقبل الفتى وقابل جلجامش
قال جلجامش للفتى: انطلق ياصيادي
واصحب معك تلك البغي ودعها تخلع ثيابها
تكشف عن مفاتن جسدها
فاذا ما رآها ، اقترب منها وانجذب اليها
فانطلق الصياد واصطحبَ معه بغيّا
وسارا في الطريق قدما
يتضح من المقاطع الشعرية مدى قوة المرأة الناعمة على تفكيك اكثر القوى صلابة وترويض اكثر الوحوش شراسةً مثل انكيدو سيد الغابات التي تأتمر بأمره اعتى الحيوانات عنفا ورعبا فمثل هذه المرأة الداعرة تسلّحت بمفاتنها وكانت امضى من شفرات السهام وأنفذ من رؤوس الأسنّة اذ استطاعت في المقطع الشعري التالي من لوي ذراع انكيدو القويّ بمفاتنها كأنما خدّرته بأنوثتها وصار عبدا مطيعا لها تسيّره شهوته ورغبته الجامحة لها ،وفي الابيات التالية نلحظ مشاهد اللقاء الاول بين الداعرة " شاماهات " وانكيدو وكيف كشفت عن جسدها وابرزت صدرها العارم فاندفع ناهداها امامه فوقف مبهورا وأخذه الضعف والخدر امام امرأته فصار فريسة لها وهو في اضعف حالاته وهْناً وفتوراً :
فإنّ البغيَّ رأتْه ؛ رأت الرجل الوحش
ابصرت المارد الآتي من اعماق البراري
فأسرّ اليه الصيادُ هامسا :
هذا هو يابغيُّ فاكشفي عن نهديك
اكشفي عن عورتك لكي يتمتع بمفاتن جسمك
لاتحجمي بل راوديهِ وابعثي فيه الهيام
فانه متى رآك وقعَ في حبائلك
انضي عنك ثيابك لينجذب اليك
علّمي الوحش الغرَّ فن ( وظيفة المرأة )
ستنكرهُ حيواناته التي رُبّيتْ معه في البرية
اذا انعطف اليك وتعلّق بك
يا لهذا السحر الانثوي كيف يسلب الوحش اقرب مقربيه وينحو جانبا عن المحيطين به وينأى عن حيواناته ومن تآلف معه في حياته وتبقى المرأة عالمه الوحيد فلا يحتاج الى أليف آخر غيرها فهي المؤنس وهي القرين الذي يبدّد الوحشة والوحدة وقد تعزله عن عالمه الاول وتكون هي عالمه الجديد ورفيقة دربه في الحياة وتُذيب روحاهما معا فيعيشان بنفْس واحدة ولكن بجسدين اثنين ، ولنقرأ الابيات الشعرية اللاحقة ونرى كيف صيّرته بشرا سويّا يحسن فن المغازلة ويزيح صفات التوحّش من دواخله ويصقل نوازعه الحيوانية الشرسة ليبرز السمات الانسانية ويتحلّى بالحكمة حتى يصل الى منزلة الاله ويهجر البراري والغابات والصيد وحياة الوحوش ليستقر في اوروك ويعود الى مستقرّ الوطن الحِمى ويعيش في بيت آمنٍ تحفّه الوداعة والهناءة قريبا من الاله / آنو والالهة الخارقة الجمال عشتار في نفس البيئة التي يتكيف معها جلجامش الى ان يلتقيا صديقين حميمين لصيقين ببعضهما ومن ثمّ تبدأ مغامرتهما سوية بحثا عمّا يؤرق الانسان ويثير قلقه في هذا الوجود الغامض ومحاولة البحث عن الخلود والإصرار على البقاء والوجود كما عرفناها في قراءاتنا السابقة لهذه الملحمة الخالدة ( والمقطع الشعري مأخوذ من اللوح الثاني للملحمة ) :
فاسفرت البغيّ صدرها وكشفت عن عورتها
فتمتع انكيدو بمفاتن جسدها
نضت ثيابها فوقع عليها
علّمت الوحش فن المرأة بالفراش فانجذب اليها وتعلّق بها
ولبث انكيدو يتصل بالبغي ستة ايام وسبع ليالِ
وبعد ان قضى وطرَه منها
فما ان رأت الضباءُ انكيدو حتى ولّت هاربة
رجع وقعد عند قدمَي البغيّ صاغرا
وصار يطيل النظر الى وجهها وأصاخ السمع اليها
كلمت البغيُّ انكيدو قائلةً :
انت الان حكيمٌ يا أنكيدو ، انت مثل إله
فعلام تجول في البريّة مع الحيوان
تعال آخذْك الى اوروك ، الى الحمى والسور
والبيت المشرق مسكن آنو وعشتار
حيث يعيش جلجامش المكتمل القوة
كم كان الحب الذي يفضي الى الحوار الساخن بين جسدين حتى بين داعرة مثل " شاماهات " ووحش يزيل ماعلق من غوائل التوحش وسمات العدوانية وشراسة الطباع والعنف الذي اتسمت به شخصية انكيدو وبين امرأة تبيح لمن هبّ ودبّ نفسها وانوثتها مقابل عطاء وتلبية لحاجة مادية ما ؛ فكل ذلك قد حصل في غضون ستة ايام بين انكيدو وعاهرته وحصل الذي حصل من تبديل وانقلاب في اعماق هذا الوحش الكاسر، فكيف سيكون الامر بين حبيبين عاشقين تعلق احدهما بالآخر روحيا دون اية مطامح مادية وحاجات دنيوية رخيصةً كانت ام نفيسة
ويجدر بي ان اذكر بان بغايا المعبد البابلي كنّ يمتهنّ مقايضة أجسادهنّ للرجال طالبي المتعة الجنسية وغالبا ماتكون تلك المقايضة بصُرّةٍ مليئة بالصوف في اعياد جزّ المواشي او بآنية من الحليب او قطعٍ من اللحم في الاعياد او اية حاجة مادية او غذائية تريدها الغانية وكلّ هذه المعاملات كانت تجري بمباركة المعبد وبموافقة سدَنتهِ وعلى هذا الاساس تمّ اعتبار دعارة الجسد انها اقدم مهنةٍ في التاريخ
وفي ظني ان ملحمة جلجامش هي من اوحت للاغريق بإظهار الآلهة " إيروس " رمزا للجنس والحبّ والحوار الساخن بين جسدي المرأة والرجل، وان شعب وادي الرافدين كان سبّاقا في التطرّق لهذه الحاجة الاساسية والرغبة الجامحة ومعالجة وايجاد السبل اللازمة لتهدئتها ولو الى أَمَد محدد وان العالم القديم في كل ارثه الثقافي والملحمي كان يمتثل لما تقوله ملحمتنا ويسترشد بها ويسير على منوالها ويأخذ منها مضامينها وتراكيبها لتشكيل تراثه من اول نصوص شعرية عرفها البشر الا وهي ملحمة جلجامش
حقا ان الحب تطهيرٌ وتنقية للأرواح وإضاءة للنفوس المعتمة وتأنيس لدواخل الانسان الموحشة ، انه بمثابة المطر الذي يُحيي الارض بعد موتها ويعيد للوجه نضارته ولليد حنوّها وللعيون بهجتها وللقلب دفْقَه ونبضه الحيّ فصار المارد الشرس الطباع ، القويّ الشكيمة يستمع بعقله وبقلبه الى عاشقته صاغرا مطيعا ويطيل النظر الى محاسن وجهها مبهورا ويأخذ بما تقول محبوبته ويلبّي اوامرها على السمع والطاعة ويرحل معها الى اوروك بعد نجحت في ترويضه بالحب كأسمى علاج لقساوة القلب وجفاف الروح وعنَت العقل ليستقر سكَناً ونفْسا ردحا من الزمن ويعدّ العدّة لرفيق دربه وصديقه الجديد الحميم جلجامش ليواصلا رحلة البحث عن الخلود ، فالمرأة اولا لصقل الانسان من براثن الوحشية والإرضاع من الحبّ والنهل من ينابيعِ الانوثة وإشباع الجسد بالملذّات وسحر الجنس هو العتبة الاولى للتخطي والارتقاء لرحلة الخلود والنزوع الى البقاء لأجل أشياء عديدة وأوّلها ان يظلّ الانسان على قيد الحبّ


.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...