نقوس المهدي
كاتب
2
لم يكن للحكي والطرائف ولا حتى الشعر أن يستشكل موضوعة الحب والجنس والمتع، فلقد حافظ الحكي على سماته: لغة مشوقة، تلخيص، وتكثيف للموضوع ثم بعد ذلك تفصيل الحديث فيه، بالحرص على مصدر الخبر، والعمل على الإثارة رغم المبالغة التي قد تفسد حقيقة الحكي بل متعته، حيث لا تهم حقيقة الحدث بقدر ما يهم سرده وحكيه. يمكن أن نتلمس النموذج في «أبواب النيك» ص 607/611 لنعمة الله الموسوي وفي كتاب التيفاشي برمته حيث يبدأ كل باب من أبوابه الإثني عشر، بتحديد الموضوع وتفصيله ثم ينتقل إلى النوادر والأخبار، ثم الاشعار فيجمع بذلك بين العلم والمعرفة والطرافة والمدح، أما الشعر فهو حديث آخر.
مثل هذه الأير/وتيكا وهذه الهوموفيليا من حيث المفهوم والمصطلح لا تنحصر في البعد الجنساني بل تتعداه إلى مستويات جنيالويجية إنسانية وأنطولوجية فلسفية عامة...
بحيث يبدو أن الهومو/فيلو/صوفوص» لدى نيتشه، مرتبط بإنسانيته فهو «إنسان مفرط في إنسانيته1»يحطم الأصنام المختلفة التي لا تعير اهتماما للإنسان. يتكون هذا الكتاب من تسعة فصول، الأول يتحدث عن الإنسان كغاية ومبادئ، والثاني يركز على أخلاقه وسلوكاته والثالث يربط الإنسان بالدين، والرابع بالفن والكتابة، والخامس يموضع الإنسان homo في الحضارة، والسادس في المجتمع، السابع يتعلق بالمرأة والطفل، والثامن بالدولة والإنسان، والتاسع بالإنسان وحيدا أمام نفسه 1.
هذه التاسوعات تعلي من شأن الإنسان، وتضعه ضمن إنسانية العقول الحرة» حكماء النفس وأطباء الحضارة، الملتزمين الصمت، لأن في بعض الحالات، التزام الصمت هو الذي يجعل منهم فلاسفة. لكن الفلاسفة قد أخطأوا حين انطلقوا من الإنسان الحالي وكأنه حقيقة خالدة والحال أن الإنسان ليس سوى شهادة حول إنسان فترة محددة، فهم لا يريدون أن يفهموا بأن الإنسان (Homo) هو نتيجة صيرورة.... وما يلزمنا بهذا الصدد، من الآن فصاعدا، هي الفلسفة التاريخية وبمعيتها التواضع (ص18 نفسه).
أما العقول المستعبدة فتتحكم فيها العادة «والاعتياد على مبادئ فكرية مجردة من الحجج هو بالضبط ما نسميه الإيمان» (ص: 29، نفسه)، فحين يتصرف المرء تحت تأثير بواعث قليلة، لكنها لا تتغير أبدا، فإن فعاله تكتسب منها طاقة كبيرة، وإذا رافقت هذه الفعال مبادئ العقول المستبعدة فإنها تحظى بالقبول وبشكل عرضي تولد لدى من قام بها إحساسا براحة الضمير»(ص 130 نفسه). يتحكم فيها التقليد، بحيث لا تحتاج إلى حجج تبرر بها أفعالها، وتعتبر بالتالي العقول الحرة دائما ضعيفة، لأن لديها الكثير من البواعث ومن وجهات نظر التي سيرتها مترددة وغير متمرسة. «فكيف يولد العقل القوي؟ المسألة في حالة منفردة، هي مسألة إبراز العبقرية: (ص: 131) والعبقرية لا تبرز إلا في الحالات الإستثنائية كمحاولة الفرار من السجن ببرودة الدم والصبر الفائقين أو المكابدة في العثور على منبسط للسير وسط غابة كثيفة... هكذا تولد العبقرية! ويولد الفكر الحر «لاضطرام شديد للغاية في الإحساس» (ص132) ذلك الإحساس الذي يفوق كل الأحاسيس. لكن من يقدر على ذلك؟ وحده الشاعر بكل تأكيد. والشعراء يعرفون دوما كيف يواسون أنفسهم»(37).
الهومو إذن عند نيتشه هو ذاك الذي يتأمل نفسه: فيلو صوفوص. والتأمل الإنساني، المفرط في الإنسانية أو كما يقول المصطلح التقني: «الملاحظة النفسية» هي إحدى الوسائل التي تمكننا من تخفيف عبء الحياة. وأن ممارسة هذا الفن يجعلنا حاضري البديهة في بعض الحالات الحرجة ويسلينا وسط محيط مضجر...» (ص 39) لذا أصبحت الملاحظة النفسية ضرورية فهي منطلق ذلك «العلم الذي يتحرى أصل وتاريخ الأحاسيس الأخلاقية»، (جينالوجيا الأخلاق).
لمعرفة الإنسان لابد من أنثربولوجيا أخلاقية، يكون من مهامها، طرح المشاكل الاجتماعية المعقدة وحلها (ص 41) ،لم تكن الفلسفة القديمة في نظر نيتشه على علم تام بهذه المشاكل لذات انطلقت من تأويل خاطئ لها واعتمدت عليه كقاعدة لإرساء أخلاق خاطئة: «ألا يمكن قلب القيم والخير ألا يكون هو الشر؟ والإله مجرد ابتكار، مجرد خدعة شيطان؟ ألا يحتمل أن يكون كل شيء خطأ؟ وإن كان قد تم تضليلنا، ألا نكون نحن كذلك مضللين؟ ألسنا مرغمين على أن نكون كذلك (ص12).
إن مركز كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» من منظور تيمتنا، يوجد في الشذرات 259 و 260 وخاصة 261 (ص ص 144/148)،ليصف نيتشه في الشذرة الأولى، حضارة اليونان بالحضارة الرجولية (Homo )، ويقلل من شأن العلاقات بالنساء ليعلي شأن العلاقات الإيروسية بين الرجال والمراهقين «كل ما كان هناك من مثالية القوة في الطبع الإغريقي تم نقله إلى هذه العلاقات، وقد كان ما حظي به شباب القرنين السادس والخامس من العناية والحنان والاحترام المطلق من طرف أفاضلهم شيئا لا نظير له، مصداقا لحكمة هولدرين الرائعة: «حين يحب المرء فإنه يعطي أفضل ما لديه» (ص 144).
العلاقة بالنساء كانت تنبني على التناسل والشهوة، في حين أن العلاقة الأخرى كانت ثقافية وكان فيها حب حقيقي. أضف إلى ذلك أن النساء كن مقصيات من الألعاب والعروض والغذاء الروحي الوحيد المتبقي لهن هو العبادات الدينية: أنتيجون، إلكترا.. وهي أدوار كان الإغريق يسمحون بها في الفن لا في الحياة. لذا لا نطيق الحزن في الحياة ولكن نسمح به في الفن (المأساة).
يبدو أن هذه الهوموفيليا هي التي شجعت النساء على إنجاب أجساد جميلة وقوية تستمر من خلالها رجولة الحضارة الإغريقية، «إن عبقرية اليونان كانت دائما تجد في الأمهات الإغريقيات طريق الطبيعة (ص 145).
هل هذه الهوموفيليا أو الحضارة الرجولية هي السبب في طغيان العقل لدى الإغريق؟ طغاة العقل هؤلاء تنكروا للأسطورة ولشعاعها؟ وكأنهم استبدلوا الشمس بالعتمة، إلا أن الأسطورة في نظرهم لم تكن ساطعة بما فيه الكفاية، كان الصفاء عندهم جهة العقل والمعرفة والحقيقية التي تنبث دفعة واحدة بقفزة واحدة وتبلغ عمق الكينونة. لذا «كان لهؤلاء الفلاسفة إيمان راسخ بأنفسهم كما بحقيقتهم وكانوا يهزمون به جيرانهم والسابقين عليهم، كان كل واحد منهم محاربا وعنيفا. كان طاغية» (ص145)، محفز هذا الطغيان في نظر نيتشه هو وضع النواميس. لقد كان صولون طاغية رغم احتقاره للطغيان الشخصي لأن حبه لوضع التشريعات كان عارما، وكان بارمنيدس كذلك وفيتاغورس وإنبادوقليس وأناكسيماندر، أما أفلاطون فكان هو المشرع الأكبر ومؤسس الدولة الفلسفية. لكن فشله في تحقيق مشروعه جعل روحه في آخر حياته تمتلئ بالحقد الأشد سوادا. في ليلة واحدة دمر سقراط تطور العلوم الفلسفية المنتظم بشكل رائع، حتى ذلك الوقت في لحظة بات أفلاطون طاغية ولم يدرك عمق الما قبل السقراطيين ولا حتى أرسطو أدرك ذلك، و «كأنه لا يملك عيونا يرى بها حين يجد نفسه أمام هذه الشخصيات» (ص 147)، هكذا فكل مفكر عظيم تحول إلى طاغية بفعل اعتقاده أنه قد ملك الحقيقة المطلقة.
فهل الهومو صوفوص هو من نخبة أهل العقل أو ما اصطلح عليه نيتشه بأوليغارشيا العقل؟ النموذج الأقرب لهذه النخبة هو هومي/روس». كان أهم حدث في ثقافة العالم الهليني. كل الحرية الفكرية والإنسانية التي بلغها الإغريق ترجع إلى هذا الحدث. لكنه كان في الوقت نفسه نكبة الثقافة الإغريقية ،لأنه ونظرا لاستئثاره بكل شيء، قد نزع عنها عمقها وقضى على الجدية الكبيرة للغرائز الميالة نحو الاستقلال. كانت أعماق الروح الهيلنية من حين لآخر تجهر باحتجاجها ضد هوميروس، لكنه كان دائما ينتصر، وكل القوى الروحية الكبيرة تمارس إلى جانب تأثيرها التحريري، تأثيرا آخر، تأثيرا مضطهدا، لكن هناك فرق، بكل تأكيد، بحسب الذي يضطهد الناس، هوميروس أو الإنجيل، أو العلم» (ص 148 الترجمة)، ألم يكن هوميروس طاغ من الطغاة؟
ربما كان عبقريا؟ العبقرية لا تخلو من جنون. قال أفلاطون: «لقد جلب الجنون أكبر النعم للناس» لدى فإن الطبقات المثقفة في البلدان الأوروبية كلها عصابية، ومرد ذلك في نظر نيتشه هو طغيان العواطف والإحساسات وفيضها، وعدم التشبث بروح العلم التي تجعلنا إجمالا باردين شيئا ما. العبقرية تقدير مبالغ للذات، فهي ليست صدفة ولا نعمة، وإنما هي «حدس» بمعنى منظار صغير يسمح بالرؤية المباشرة «داخل الكينونة» مما يجعل العباقرة في صورة إنسان «سماوي» أو علنسان يتوفر على ملكات خارقة (Homo génie) شفافة هشيشة تكشف عن غضبه الجنوني حين ينتقد أو يقارن بالآخرين، وعن سخطه حين تكشف مواضع فشله... لنتذكر نابليون مثلا. (ص 104) إن مفارقة العبقرية لا تجد تأويلاتها إلا فيما يوحي به التاريخ من خلال صمته، فهو فيما يبدو يؤكد على سوء المعاملة للناس وعلى تعذيبهم ودفعهم إلى أقصى الإهانات (يصرخ التاريخ دائما في صمته بالأهواء والغيرة والحقد والحسد)، آنذاك تنبثق روح العبقرية فجأة. العبقري شرير وقاسي مثل الطبيعة «لكن ربما لا نكون قد سمعنا صوت التاريخ جيدا» (ص132).
يفيدنا نيتشه نفسه في «إكسي هومو» أن كتابه «إنسان مفرط في إنسانيته» هو شهادة على «أزمة»، أزمة «العقول الحرة» حين تريد أن تتخلص من «المثالية» لكي لا ترى إلا الإنسان المفرط في إنسانيته. شكل فولتير نموذجا صارخا في هذا الصدد بذكائه وإنسانيته، بمثل هذا الذكاء سيقطع نيتشه مع عروض بيروت ومع فاغنر وأمثلته، وسيستفيق من غفوته حاملا احتقاره وميناخولياه لكل ما هو ألماني كمرض، إلى أمكنه قصية لكتابة بل لإملاء كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» على بتيرغاصت Peter Gast . هذه القطيعة هي الواقع قطيعة مع فساد الغرائز والعودة إلى الذات، ساهم فيها المرض والألم بقدر كبير في الإيحاء والعزم، ويكفي يقول نيتشه، أن نعود إلى «الفجر»، أو إلى «المسافر وظله»، لندرك معنى هذه «العودة إلى الذات» (ص96)، إنها شهادة على الوعورة التي أدب بها نيتشه شخصيته، وحد بها نهائيا «كل الاستيهامات المقدسة» وكل «المثاليات» و»المشاعر الطيبة»، وكل الميولات الأنثوية، والهوموفيليا الأخرى.
في حديثه عن المواهب الدرامية الجرمانية، عن كوطزبي Kotzebue وعن شيلر schiller وعن غوته، يشير نيتشه إلى صوفيا باعتبارها «الذوق» (Le goût) رابطا بين الحكمة وبين الذوق حتى ولو كان هذا الأخير رديئا، معتبرا أن أصحاب الذوق سعداء وهم في نفس الوقت حكماء، لذا جمع اليونان في صوفيا بين الحكمة والذوق. فالفيلسوف أي الهومو صوفوص هو رجل الذوق، (ص 438 آراء وحكم مختلطة)، وهذا المعنى هو نفسه الذي قصده أرسطو في كتاب نيكوماخوس وحتى لا يبدو هذا الرجل باردا حذرا قلقا كما هو في طبيعته، يدفعه حبه للإنسان Philanthropie إلى أن يبدو... متأثرا قابلا للانفعال إن لم نقل مجنونا (ص 476)، وهذا هو الاستثناء الإغريقي، الذي نعثر عليه لدى العقول العميقة والجادة، تلك العقول التي تستعير الأشكال من الأجانب لا لتقليدها إنما لتحولها وتكسيها بمظاهر جديدة.
لقد أشارت أنجيل كرامر مرايتي في تقديمها لكتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، إلى أن هذا الكتاب يعد جنيالوجيا للعقل الحداثي، ربط فيها نيتشه بين الماضي المتوحش لإنسانيته بالمستقبل الما بعد حداثي لأوروبا (ص6) (وهو نفس الموقف الذي بدأنا به هذه الدراسة مع الأنتربولوجي إدغار موران. حداثة «ترنسندنثاليه» تريد القطع مع الميتافيزيقا الما بعد سقراطية، فهي لا تروم تجاوز الدوكسا Doxa «إنما نريد تجاوز ضرب من التفلسف لا يبتعد كثيرا عن الدوكسي Doxie ،فداخل الفلسفة المثالية مثلا وهي «فلسفة عقلانية» تختفي الدوكسا، دوكسا الانحطاط التي أفسدت غرائز الإنسان ولوثت العقول الحرة، تلك العقول التي تعتمد على منهجية حددتها ماريتي في أربع خطوات: 1- الانطباع أو الحدس (Impression) 2- الضرورة، 3- الاستعياب، Assimilation و 4- الخيال fiction (ص 7)، منهجية ما بعد حداثية لأنها تركز أيما تركيز على الوظيفة الرمزية»، الوظيفة الأساس في ميدان الإبداع والإبداع الفلسفي أساسا، لكن هل الهومو فيلو صوفوص عند نيتشه إنسان عدمي؟ أجل إنه كذلك إلا أنه ليس بالمعنى الحداثي الذي تدفعنا إليه التقانة والعقلانية، إنما بالمعنى المابعد حداثي الذي يشك في العقل «ويحلق عاليا فوق القمم»، ويعتبر الحقيقة امتدادا لحقائق أخرى أولية قد تكون اللاحقيقية... في شكل متاهة لا تنتهي من التأويلات...
ترى ما هي صورة الهوموفيلو صوفوص لدى اليونان، وبالضبط لدى أفلاطون وأرسطو؟ يبدو أن أفلاطون قد قارب مفهوم «الحب» في محاورة المأدبة وقارب مفهوم «الجمال» في محاورة فيدر وكذلك في محاورة تيتياطوس وإن كان الموضوع الرئيس في هذه الأخيرة هو «العلم». أما أرسطو فنعثر في كتابه «الإتيقا إلى نيكوماخوس» على فصلين حول «نظرية الصداقة» في الفصل الثامن والفصل التاسع.
هوامش
يقول نيتشه:qu’est ce que le génie? Vouloir un but élève et les moyens pour y parven
2- يمكن مراجعة الصفحات 144-145-146-147 من فيدر للتوسع في هذه الافكار، انظر قائمة المراجع
7/10/2010
إدريس كثير
لم يكن للحكي والطرائف ولا حتى الشعر أن يستشكل موضوعة الحب والجنس والمتع، فلقد حافظ الحكي على سماته: لغة مشوقة، تلخيص، وتكثيف للموضوع ثم بعد ذلك تفصيل الحديث فيه، بالحرص على مصدر الخبر، والعمل على الإثارة رغم المبالغة التي قد تفسد حقيقة الحكي بل متعته، حيث لا تهم حقيقة الحدث بقدر ما يهم سرده وحكيه. يمكن أن نتلمس النموذج في «أبواب النيك» ص 607/611 لنعمة الله الموسوي وفي كتاب التيفاشي برمته حيث يبدأ كل باب من أبوابه الإثني عشر، بتحديد الموضوع وتفصيله ثم ينتقل إلى النوادر والأخبار، ثم الاشعار فيجمع بذلك بين العلم والمعرفة والطرافة والمدح، أما الشعر فهو حديث آخر.
مثل هذه الأير/وتيكا وهذه الهوموفيليا من حيث المفهوم والمصطلح لا تنحصر في البعد الجنساني بل تتعداه إلى مستويات جنيالويجية إنسانية وأنطولوجية فلسفية عامة...
بحيث يبدو أن الهومو/فيلو/صوفوص» لدى نيتشه، مرتبط بإنسانيته فهو «إنسان مفرط في إنسانيته1»يحطم الأصنام المختلفة التي لا تعير اهتماما للإنسان. يتكون هذا الكتاب من تسعة فصول، الأول يتحدث عن الإنسان كغاية ومبادئ، والثاني يركز على أخلاقه وسلوكاته والثالث يربط الإنسان بالدين، والرابع بالفن والكتابة، والخامس يموضع الإنسان homo في الحضارة، والسادس في المجتمع، السابع يتعلق بالمرأة والطفل، والثامن بالدولة والإنسان، والتاسع بالإنسان وحيدا أمام نفسه 1.
هذه التاسوعات تعلي من شأن الإنسان، وتضعه ضمن إنسانية العقول الحرة» حكماء النفس وأطباء الحضارة، الملتزمين الصمت، لأن في بعض الحالات، التزام الصمت هو الذي يجعل منهم فلاسفة. لكن الفلاسفة قد أخطأوا حين انطلقوا من الإنسان الحالي وكأنه حقيقة خالدة والحال أن الإنسان ليس سوى شهادة حول إنسان فترة محددة، فهم لا يريدون أن يفهموا بأن الإنسان (Homo) هو نتيجة صيرورة.... وما يلزمنا بهذا الصدد، من الآن فصاعدا، هي الفلسفة التاريخية وبمعيتها التواضع (ص18 نفسه).
أما العقول المستعبدة فتتحكم فيها العادة «والاعتياد على مبادئ فكرية مجردة من الحجج هو بالضبط ما نسميه الإيمان» (ص: 29، نفسه)، فحين يتصرف المرء تحت تأثير بواعث قليلة، لكنها لا تتغير أبدا، فإن فعاله تكتسب منها طاقة كبيرة، وإذا رافقت هذه الفعال مبادئ العقول المستبعدة فإنها تحظى بالقبول وبشكل عرضي تولد لدى من قام بها إحساسا براحة الضمير»(ص 130 نفسه). يتحكم فيها التقليد، بحيث لا تحتاج إلى حجج تبرر بها أفعالها، وتعتبر بالتالي العقول الحرة دائما ضعيفة، لأن لديها الكثير من البواعث ومن وجهات نظر التي سيرتها مترددة وغير متمرسة. «فكيف يولد العقل القوي؟ المسألة في حالة منفردة، هي مسألة إبراز العبقرية: (ص: 131) والعبقرية لا تبرز إلا في الحالات الإستثنائية كمحاولة الفرار من السجن ببرودة الدم والصبر الفائقين أو المكابدة في العثور على منبسط للسير وسط غابة كثيفة... هكذا تولد العبقرية! ويولد الفكر الحر «لاضطرام شديد للغاية في الإحساس» (ص132) ذلك الإحساس الذي يفوق كل الأحاسيس. لكن من يقدر على ذلك؟ وحده الشاعر بكل تأكيد. والشعراء يعرفون دوما كيف يواسون أنفسهم»(37).
الهومو إذن عند نيتشه هو ذاك الذي يتأمل نفسه: فيلو صوفوص. والتأمل الإنساني، المفرط في الإنسانية أو كما يقول المصطلح التقني: «الملاحظة النفسية» هي إحدى الوسائل التي تمكننا من تخفيف عبء الحياة. وأن ممارسة هذا الفن يجعلنا حاضري البديهة في بعض الحالات الحرجة ويسلينا وسط محيط مضجر...» (ص 39) لذا أصبحت الملاحظة النفسية ضرورية فهي منطلق ذلك «العلم الذي يتحرى أصل وتاريخ الأحاسيس الأخلاقية»، (جينالوجيا الأخلاق).
لمعرفة الإنسان لابد من أنثربولوجيا أخلاقية، يكون من مهامها، طرح المشاكل الاجتماعية المعقدة وحلها (ص 41) ،لم تكن الفلسفة القديمة في نظر نيتشه على علم تام بهذه المشاكل لذات انطلقت من تأويل خاطئ لها واعتمدت عليه كقاعدة لإرساء أخلاق خاطئة: «ألا يمكن قلب القيم والخير ألا يكون هو الشر؟ والإله مجرد ابتكار، مجرد خدعة شيطان؟ ألا يحتمل أن يكون كل شيء خطأ؟ وإن كان قد تم تضليلنا، ألا نكون نحن كذلك مضللين؟ ألسنا مرغمين على أن نكون كذلك (ص12).
إن مركز كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» من منظور تيمتنا، يوجد في الشذرات 259 و 260 وخاصة 261 (ص ص 144/148)،ليصف نيتشه في الشذرة الأولى، حضارة اليونان بالحضارة الرجولية (Homo )، ويقلل من شأن العلاقات بالنساء ليعلي شأن العلاقات الإيروسية بين الرجال والمراهقين «كل ما كان هناك من مثالية القوة في الطبع الإغريقي تم نقله إلى هذه العلاقات، وقد كان ما حظي به شباب القرنين السادس والخامس من العناية والحنان والاحترام المطلق من طرف أفاضلهم شيئا لا نظير له، مصداقا لحكمة هولدرين الرائعة: «حين يحب المرء فإنه يعطي أفضل ما لديه» (ص 144).
العلاقة بالنساء كانت تنبني على التناسل والشهوة، في حين أن العلاقة الأخرى كانت ثقافية وكان فيها حب حقيقي. أضف إلى ذلك أن النساء كن مقصيات من الألعاب والعروض والغذاء الروحي الوحيد المتبقي لهن هو العبادات الدينية: أنتيجون، إلكترا.. وهي أدوار كان الإغريق يسمحون بها في الفن لا في الحياة. لذا لا نطيق الحزن في الحياة ولكن نسمح به في الفن (المأساة).
يبدو أن هذه الهوموفيليا هي التي شجعت النساء على إنجاب أجساد جميلة وقوية تستمر من خلالها رجولة الحضارة الإغريقية، «إن عبقرية اليونان كانت دائما تجد في الأمهات الإغريقيات طريق الطبيعة (ص 145).
هل هذه الهوموفيليا أو الحضارة الرجولية هي السبب في طغيان العقل لدى الإغريق؟ طغاة العقل هؤلاء تنكروا للأسطورة ولشعاعها؟ وكأنهم استبدلوا الشمس بالعتمة، إلا أن الأسطورة في نظرهم لم تكن ساطعة بما فيه الكفاية، كان الصفاء عندهم جهة العقل والمعرفة والحقيقية التي تنبث دفعة واحدة بقفزة واحدة وتبلغ عمق الكينونة. لذا «كان لهؤلاء الفلاسفة إيمان راسخ بأنفسهم كما بحقيقتهم وكانوا يهزمون به جيرانهم والسابقين عليهم، كان كل واحد منهم محاربا وعنيفا. كان طاغية» (ص145)، محفز هذا الطغيان في نظر نيتشه هو وضع النواميس. لقد كان صولون طاغية رغم احتقاره للطغيان الشخصي لأن حبه لوضع التشريعات كان عارما، وكان بارمنيدس كذلك وفيتاغورس وإنبادوقليس وأناكسيماندر، أما أفلاطون فكان هو المشرع الأكبر ومؤسس الدولة الفلسفية. لكن فشله في تحقيق مشروعه جعل روحه في آخر حياته تمتلئ بالحقد الأشد سوادا. في ليلة واحدة دمر سقراط تطور العلوم الفلسفية المنتظم بشكل رائع، حتى ذلك الوقت في لحظة بات أفلاطون طاغية ولم يدرك عمق الما قبل السقراطيين ولا حتى أرسطو أدرك ذلك، و «كأنه لا يملك عيونا يرى بها حين يجد نفسه أمام هذه الشخصيات» (ص 147)، هكذا فكل مفكر عظيم تحول إلى طاغية بفعل اعتقاده أنه قد ملك الحقيقة المطلقة.
فهل الهومو صوفوص هو من نخبة أهل العقل أو ما اصطلح عليه نيتشه بأوليغارشيا العقل؟ النموذج الأقرب لهذه النخبة هو هومي/روس». كان أهم حدث في ثقافة العالم الهليني. كل الحرية الفكرية والإنسانية التي بلغها الإغريق ترجع إلى هذا الحدث. لكنه كان في الوقت نفسه نكبة الثقافة الإغريقية ،لأنه ونظرا لاستئثاره بكل شيء، قد نزع عنها عمقها وقضى على الجدية الكبيرة للغرائز الميالة نحو الاستقلال. كانت أعماق الروح الهيلنية من حين لآخر تجهر باحتجاجها ضد هوميروس، لكنه كان دائما ينتصر، وكل القوى الروحية الكبيرة تمارس إلى جانب تأثيرها التحريري، تأثيرا آخر، تأثيرا مضطهدا، لكن هناك فرق، بكل تأكيد، بحسب الذي يضطهد الناس، هوميروس أو الإنجيل، أو العلم» (ص 148 الترجمة)، ألم يكن هوميروس طاغ من الطغاة؟
ربما كان عبقريا؟ العبقرية لا تخلو من جنون. قال أفلاطون: «لقد جلب الجنون أكبر النعم للناس» لدى فإن الطبقات المثقفة في البلدان الأوروبية كلها عصابية، ومرد ذلك في نظر نيتشه هو طغيان العواطف والإحساسات وفيضها، وعدم التشبث بروح العلم التي تجعلنا إجمالا باردين شيئا ما. العبقرية تقدير مبالغ للذات، فهي ليست صدفة ولا نعمة، وإنما هي «حدس» بمعنى منظار صغير يسمح بالرؤية المباشرة «داخل الكينونة» مما يجعل العباقرة في صورة إنسان «سماوي» أو علنسان يتوفر على ملكات خارقة (Homo génie) شفافة هشيشة تكشف عن غضبه الجنوني حين ينتقد أو يقارن بالآخرين، وعن سخطه حين تكشف مواضع فشله... لنتذكر نابليون مثلا. (ص 104) إن مفارقة العبقرية لا تجد تأويلاتها إلا فيما يوحي به التاريخ من خلال صمته، فهو فيما يبدو يؤكد على سوء المعاملة للناس وعلى تعذيبهم ودفعهم إلى أقصى الإهانات (يصرخ التاريخ دائما في صمته بالأهواء والغيرة والحقد والحسد)، آنذاك تنبثق روح العبقرية فجأة. العبقري شرير وقاسي مثل الطبيعة «لكن ربما لا نكون قد سمعنا صوت التاريخ جيدا» (ص132).
يفيدنا نيتشه نفسه في «إكسي هومو» أن كتابه «إنسان مفرط في إنسانيته» هو شهادة على «أزمة»، أزمة «العقول الحرة» حين تريد أن تتخلص من «المثالية» لكي لا ترى إلا الإنسان المفرط في إنسانيته. شكل فولتير نموذجا صارخا في هذا الصدد بذكائه وإنسانيته، بمثل هذا الذكاء سيقطع نيتشه مع عروض بيروت ومع فاغنر وأمثلته، وسيستفيق من غفوته حاملا احتقاره وميناخولياه لكل ما هو ألماني كمرض، إلى أمكنه قصية لكتابة بل لإملاء كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» على بتيرغاصت Peter Gast . هذه القطيعة هي الواقع قطيعة مع فساد الغرائز والعودة إلى الذات، ساهم فيها المرض والألم بقدر كبير في الإيحاء والعزم، ويكفي يقول نيتشه، أن نعود إلى «الفجر»، أو إلى «المسافر وظله»، لندرك معنى هذه «العودة إلى الذات» (ص96)، إنها شهادة على الوعورة التي أدب بها نيتشه شخصيته، وحد بها نهائيا «كل الاستيهامات المقدسة» وكل «المثاليات» و»المشاعر الطيبة»، وكل الميولات الأنثوية، والهوموفيليا الأخرى.
في حديثه عن المواهب الدرامية الجرمانية، عن كوطزبي Kotzebue وعن شيلر schiller وعن غوته، يشير نيتشه إلى صوفيا باعتبارها «الذوق» (Le goût) رابطا بين الحكمة وبين الذوق حتى ولو كان هذا الأخير رديئا، معتبرا أن أصحاب الذوق سعداء وهم في نفس الوقت حكماء، لذا جمع اليونان في صوفيا بين الحكمة والذوق. فالفيلسوف أي الهومو صوفوص هو رجل الذوق، (ص 438 آراء وحكم مختلطة)، وهذا المعنى هو نفسه الذي قصده أرسطو في كتاب نيكوماخوس وحتى لا يبدو هذا الرجل باردا حذرا قلقا كما هو في طبيعته، يدفعه حبه للإنسان Philanthropie إلى أن يبدو... متأثرا قابلا للانفعال إن لم نقل مجنونا (ص 476)، وهذا هو الاستثناء الإغريقي، الذي نعثر عليه لدى العقول العميقة والجادة، تلك العقول التي تستعير الأشكال من الأجانب لا لتقليدها إنما لتحولها وتكسيها بمظاهر جديدة.
لقد أشارت أنجيل كرامر مرايتي في تقديمها لكتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، إلى أن هذا الكتاب يعد جنيالوجيا للعقل الحداثي، ربط فيها نيتشه بين الماضي المتوحش لإنسانيته بالمستقبل الما بعد حداثي لأوروبا (ص6) (وهو نفس الموقف الذي بدأنا به هذه الدراسة مع الأنتربولوجي إدغار موران. حداثة «ترنسندنثاليه» تريد القطع مع الميتافيزيقا الما بعد سقراطية، فهي لا تروم تجاوز الدوكسا Doxa «إنما نريد تجاوز ضرب من التفلسف لا يبتعد كثيرا عن الدوكسي Doxie ،فداخل الفلسفة المثالية مثلا وهي «فلسفة عقلانية» تختفي الدوكسا، دوكسا الانحطاط التي أفسدت غرائز الإنسان ولوثت العقول الحرة، تلك العقول التي تعتمد على منهجية حددتها ماريتي في أربع خطوات: 1- الانطباع أو الحدس (Impression) 2- الضرورة، 3- الاستعياب، Assimilation و 4- الخيال fiction (ص 7)، منهجية ما بعد حداثية لأنها تركز أيما تركيز على الوظيفة الرمزية»، الوظيفة الأساس في ميدان الإبداع والإبداع الفلسفي أساسا، لكن هل الهومو فيلو صوفوص عند نيتشه إنسان عدمي؟ أجل إنه كذلك إلا أنه ليس بالمعنى الحداثي الذي تدفعنا إليه التقانة والعقلانية، إنما بالمعنى المابعد حداثي الذي يشك في العقل «ويحلق عاليا فوق القمم»، ويعتبر الحقيقة امتدادا لحقائق أخرى أولية قد تكون اللاحقيقية... في شكل متاهة لا تنتهي من التأويلات...
ترى ما هي صورة الهوموفيلو صوفوص لدى اليونان، وبالضبط لدى أفلاطون وأرسطو؟ يبدو أن أفلاطون قد قارب مفهوم «الحب» في محاورة المأدبة وقارب مفهوم «الجمال» في محاورة فيدر وكذلك في محاورة تيتياطوس وإن كان الموضوع الرئيس في هذه الأخيرة هو «العلم». أما أرسطو فنعثر في كتابه «الإتيقا إلى نيكوماخوس» على فصلين حول «نظرية الصداقة» في الفصل الثامن والفصل التاسع.
هوامش
يقول نيتشه:qu’est ce que le génie? Vouloir un but élève et les moyens pour y parven
2- يمكن مراجعة الصفحات 144-145-146-147 من فيدر للتوسع في هذه الافكار، انظر قائمة المراجع
7/10/2010
إدريس كثير