أبو علي القالي - الأمالي

" مطلب ما وقع بين المأمون والجارية بحضرة هارون الرشيد "
وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدّثني أبي قال حدّثني عبد الله بن عمرو بن عبد الرحمن الورّاق قال حدّثنا المفضل بن حازم قال حدّثنا منصور البرمكي قال: كان لهارون الرشيد جارية غلاميّة، - يعني وصيفة على قدّ الغلام - وكان المأمون يميل إليها وهو إذ ذاك أمرد، فوقفت يوماً تصبّ على يد الرشيد من إبريق معها، والمأمون جالس خلف الرشيد؛ فأشار المأمون إليها كأنه يقبلّها، فأنكرت ذلك بعينيها، وأبطأت في الصبّ على مقدار نظرها إلى المأمون وإشارتها إليه؛ فقال الرشيد: ما هذا! ضعي الإبريق من يدك، ففعلت؛ فقال: والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك، فقالت: يا سيدي، أشار إليّ عبد الله كأنه يقبلني فأنكرت ذلك؛ فالتفت إلى المأمون ونظر إليه كأنه ميّت لما دخله من الجزع والخجل، فرحمه وضمّه إليه وقال: يا عبد الله، أتحبها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: هي لك، قم فادخل في تلك القبة، ففعل؛ ثم قال: هل قلت في هذا الأمر شعراً؟ قال: نعم يا سيدي، ثم أنشد:
ظبي كتبت بطرفي ... من الضمير إليه
قبلته من بعيد ... فاعتلّ من شفتيه
ورد أخبث رد ... بالكسر من حاجبيه
فما برح مكاني ... حتى قدرت عليه


" مطلب ما قيل في عناق الحبيب "
ومن أحسن ما قيل في العناق ما أنشدناه أبو بكر بن الأنباري قال أنشدنا عبد الله بن خلف قال: أنشدني أحمد بن يحيى بن أبي فنن:
خلوت فنادمتها ساعة ... على مثلها يحسد الحاسد
كأنّا وثوب الدجى مسبل ... علينا لمبصرنا واحد
قال أبو بكر: وسرق هذا المعنى ابن المعتز فقال:
ما أقصر الليل على الراقد ... وأهون السّقم على العائد
يفديك ما أبقيت من مهجتي ... لست لما أوليت بالجاحد
كأنني عاتقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبتنا من جسد واحد
وأحسن في هذا المعنى علي بن العباس الرومي وأنشدناه الناجم عنه:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاهاكي تموت حرارتي ... فيشتدّ ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الهوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحان يمتزجان
ولبعضهم في هذا المعنى:
رأيت شخصك في نومي يعانقني ... كما يعانق لام الكاتب الألفا
ولبشار:
فبتنا معاً لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجب وستور
أخذ منه علي بن الجهم فقال:
فبتنا جميعاً لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرّب


" ما قيل في وصف الشعر بفتح الشين "

وأحسن ما قيل في الشعر قول ابن الرومي أنشدناه الناجم عنه:
وفاحم وارد يقبّل مم ... شاه إذا اختال مرسلاً غدره
أقبل كالليل من مفارقه ... منحدراً لا يذم منحدره
حتى تناهى إلى مواطئه ... يلثم من كل موطئ عفره
كأنه عاشق دنا شغفاً ... حتى قضى من حبيبه وطره
وقرأت على أبي بكر بن دريد لبكر بن النطاح:
بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو وحف أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليل عليها مظلم
ولمسلم:
أجدك ما تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك تنشر
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله لعبد الله بن المعتز:
سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين بالشعر والدجى ... وشمسين من خمر وخدّ حبيب


" مطلب ما قيل في فتور الطرف "

ومن أحسن ما قيل في فتور الطّرف قول أبي النواس:
ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم
وقرأت على أبي بكر بن دريد لنفسه:
ليس السليم سليم أفعى حرة ... لكن سليم المقلة النجلاء
نظرت ولا وسن يخالط عينها ... نظر المريض بسورة الإغفاء
ولعبد الله بن المعتز:
وتجرح أحشائي بعين مريضة ... كما لان متن السيف والحدّ قاطع
عليم بما يخفى فؤادي من الهوى ... جواد يهجراني وللوصل مانع
وأنشدنا أبو بكر التاريخي قال أنشدني البحتري لنفسه:
وفي القهوة أشكال ... من الساقي وألوان
حباب مثل ما يض ... حك عنه وهو جذلان
وسكر مثل ما أسك ... ر طرف منه وسنان
وطعم الريق إذ جاد ... به الصّب هيمان
لنا من كفّه راح ... ومن ريّاه ريحان
وقرأت على أبي بكر بن دريد لعديّ بن الرّقاع:
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر طاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم


" مطلب ما قيل في الريق "

ومن أحسن ما قيل في الريق ما أنشدناه أبو بكر بن الأنباري لبشار:
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك
منّيتنا زورة في النوم واحدة ... فاثنى ولا تجعليها بيضة الديك
يا رحمة الله حلي في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك
ولعلي بن العباس الرومي أنشدناه الناجم عنه:
تعلّك ريقاً يطرد النوم برده ... ويشفي القلوب الحائمات الصواديا
وهل ثغب حصباؤه مثل ثغرها ... يصادف إلا طيب الطعم صافيا
وله أيضاً أنشدناه الناجم عنه:
يا ربّ ريق بات بدر الدجى ... يمجه بين ثناياكا
يروي ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا


" من أحسن ما قيل في طروق الخيال "

ومن أحسن ما قيل في طروق الخيال قول البحتري - وهو أحد المحسنين فيه حتى قيل: طيف البحتري - أنشدنيه التاريخي عنه:
ألمت بنا بعد الهدوء فسامحت ... بوصل متى تطلبه في الجد تمنع
وولت كأن البين يخلج شخصها ... أوان تولت من حشاي وأضلعي
وأنشدنا بعض أصحابنا للمؤمل:
أتاني الكرى ليلاً بشخص أحبه ... أضاءت له الآفاق والليل مظلم
فكلمني في النوم غير مغاضب ... وعهدي به يقظان لا يتكلم
وذكر العباس بن الأحنف ما العلة في طروق الخيال فقال:
خيالك حين أرقد نصب عيني ... إلى وقت انتباهي لا يزول
وليس يزورني صلة ولكن ... حديث النفس عنك به الوصول
وتبعه الطائي فقال:
زار الخيال لها لابل أزاركه ... فكر إذا نام فكر الخلق لم ينم
ظبي تقنّصته لما نصبت له ... في آخر الليل أشراكاً من الحلم
وأنشدنا علي بن هارون المنجم لعلي بن يحيى المنجم:
بأبي والله من طرقا ... كابتسام البرق إذ خفقا
زارني طيف الحبيب فما ... زاد أن أغرى بي الأرقا


" من أحسن ما قيل في مشي النساء "

ومن أحسن ما قيل في مشي النساء ما أنشدناه صاحبنا أبو علي بن الأعرابي:
شبهت مشيتها بمشية ظافر ... يختال بين أسنّة وسيوف
صلف تناهت نفسه في نفسه ... لمّا انثنى بسنانه المرعوف
وقرئ على أبي بكر بن الانباري في شعر ابن مقيل وأنا أسمع:
يززن للمشي أوصالاً منعمة ... هزّ الجنوب معاً عيدان يبرينا
أو كاهتزاز رديني تناوله ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا
يمشين هيل النقا مالت جوانبه ... ينهال حيناً وينهاه الثرى حينا
ولعمر بن أبي ربيعة قرأته على أبي عبد الله بن نفطويه:
أبصرتها غدوة ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر
بيضاً حساناً خرائدا قطفا ... يمشين هوناً كمشية البقر
قد فزن بالحسن والجمال معاً ... وفزن رسلاً بالدل والخفر
وللعباس بن الأحنف:
شمس مقدرة في خلق جارية ... كأنّما كشحها طيّ الطوامير
كأنها حين تمشي في وصائفها ... تمشي على البيض أو زرق القوارير


" مطلب ما قيل في الحسن " ومما قيل في الحسن:

إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
وأنشدنا الناجم لنفسه في غير هذا المعنى:
طالبت من شرد نومي وذعر ... بقبلة تحسن في القلب الأثر
فقال لي مستعجلاً وما انتظر ... ليس لغير العين حظ في القمر
أخذه من علي بن الجهم حيث يقول:
وقلن لنا نحن الأهلة غنما ... نضئ لمن يسري بليل ولا نقرى
فلا نيل إلا ما تزود ناظر ... ولا وصل إلا بالخيال الذي يسرى


" ما قيل في القيان والعود "

ومن أحسن ما قيل في قينة:
من كفّ جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرقت عنابا
وكأن يمناها إذا نطقت بها ... تلقى على يدها الشمال حسابا
وحدّثنا أبو عبد الله بن نفطويه قال حدّثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: سمع بعض العرب صوت العود، فقيل له: ما تسمع؟ فقال: حسناً، ولكن اقطع هذا الأبحّ فإني أشؤه - يريد البمّ - . ومن أحسن ما قيل في العود:
فكأنه في حجرها ولد لها ... ضمته بين ترائب ولبان
طوراً تدغدغ بطنه فإذا هفا ... عركت له أذناً من الآذان
ومن أحسن ما شبه به العود ما أنشدناه بعض أصحابنا:
كأن تثماله ساق إلى قدم ... نيطت إلى فخذ بانت عن الكفل
آذانه منه قد جمعن أربعة ... تجيب أربعة في كف معتمل
فذا إن وهذا فيه زمزمة ... وذاك صاف وهذا فيه كالصّحل
وللحمدوني:
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم
يبدي ضمير سواه في الحديث كما ... يبدي ضمير سواه الخط بالقلم
ومن احسن ما يقل في وصف مغنيات قول ابن الرومي، وأنشدناه الناجم عنه:
وقيان كأنها أمهات ... عاطفات على بنيها حواني
مطفلات وما حملن جنيناً ... مرضعات ولسن ذات لبان
ملقمات أطفالهنّ ثدياً ... ناهدات كأحسن الرمان
مفعمات كأنها حافلات ... وهي صفر من درة الألبان
كل طفل يدعى بأسماء شتى ... بين عود مزهر وكران
أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادي الغنى عن الترجمان


" وصية بعض الحكماء لابنه "

وحدّثنا أبو بكر دريد رحمه الله قال حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: قال بعض الحكماء لابنه: يا بني، اقبل وصيتي وعهدي، إن سرعة ائتلاف قلوب الأبرار، كسرعة اختلاط قطر الطر بماء الأنهار؛ وبعد قلوب الفجار من الائتلاف، كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على أرى واحد؛ كن يا بني بصالح الوزراء أغنى منك بكثرة عدتهم، فإن اللؤلؤة خفيف محملها كثير ثمنها، والحجر فادح حمله قليل غناؤه.


" حكمة من حكم الأحنف بن قيس "

وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي زيد قال حدّثنا هشام بن حسان الفردوسي عن الحسن قال: قال الأحنف بن قيس: الكذوب لا حيلة له؛ والحسود لا راحة له؛ والبخيل لا مروءة له؛ والملول لا وفاء له؛ ولا يسود سيء الأخلاق؛ ومن المروءة إذا كان الرجل بخيلاً أن يكتم ويتجمل.
وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم قال: قيل للأحنف: بم بلغت ما بلغت؟ قال: لو عاب الناس الماء ما شربته.
قال: وقال: من لم يسخ نفساً عن الحظ الجسيم للعيب الصغير، لم يعد سفيقاً على نفسه، ولاصائناً لعرضه. وقال الأصمعي: من أمثال العرب: " دع بنيات الطريق " أي اقصد لمعظم الشأن. ويقال: " لا توبس الثرى بيني وبينك " أي لا تقطع الودّ الذي بيننا. ويقال: " السعيد من اتعظ بغيره " يراد من رأى غيره فاتعظ سعد. ويقال: " طويته على بللته " يراد استبقيته قبل أن يبلغ فساده، وذلك أن السقاء إذا طويته وهو مبتل تثنى، وإذا طوي وهو يابس تكسر، أي فقد طلبت مصلحته.


.


 
وأنشد للعنبري شعراً في ترتيب أسنان النساء ع هو لضمرة بن ضمرة يخاطب النعمان، وقد سأله عن بعض النساء كما رواه الأخفش الأصغر قال وهو شعر ضعيف على حسنه، وهذه روايته:

متى تلق بنت العشر قد نص ثديها ... كلؤلؤة الغواص يهتز جيدها
تجد لذة منها لخفة روحها ... وغرتها والحسن بعد يزيدها
وصاحبة العشرين لا شيء مثلها ... فتلك التي تلهو بها وتريدها
وبنت الثلاثين الشفاء حديثها ... هي العيش ما رقت ولا رق عودها
وإن تلق بنت الأربعين فغبطة ... وخير النساء ودها وولودها
وصاحبة الخمسين فيها بقية ... من الباه واللذات صلب عمودها
وصاحبة الستين لا خير عندها ... وفيها ضياع والحريص يريدها
وصاحبة السبعين إن تلف معرسا ... عليكم خزية تستفيدها
وذات الثمانين التي قد تجللت ... من الكبر الفاني وقد وريدها
وصاحبة التسعين يرعش رأسها ... وبالليل مقلاق قليل هجودها
ومن طالع الأخرى فقد ضل عقلها ... وتحسب أن الناس طرا عبيدها


* سمط اللآلي في شرح أمالي القالي [هو كتاب شرح أمالي القالي
المؤلف: أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (المتوفى: 487هـ)
نسخه وصححه ونقحه وحقق ما فيه واستخرجه من بطون دواوين العلم: عبد العزيز الميمني
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...