هالة البدري

الميلاد
Oct 15, 1954 (العمر: 69)
نموذج من كتاباتك
سحر الأمكنة

في انتظار الحكايات، واللُعَب وقطع الشيكولاتة، والملابس الملونة، وقصص الأفلام الجديدة والمسرحيات، ومغامرات الطائرات والسفن، والحافلات، والبشر، وشرائط الموسيقى والغناء، ورقصات الشعوب المختلفة، قضيت الوقت في طفولتي المبكرة وصباي أترقب عودة أبي من السفر، من بحثه الدائم وراء متعة الرحيل واكتشاف العالم.. تعلمت أن أرى المدن بعينيه، وأشم رائحتها، وأتذوق طعامها أحيانًا، إذ كثيرًا ما حمل في حقيبته أنواعًا مختلفة من الفاكهة الغريبة أو المعلبات غير المعروفة لنا، وبعض التوابل والأزهار. وكان يقول: «كل شيء ثقافة حتى الطعام. أريدك أن تعرفي». وحين مررت بالمدن ذاتها بعد سنوات رحت أبحث عن مسار حركته فيها، وأتذكر حكاياته عنها، وقلت لنفسي سأكتب ذات يوم عن هذه المسافة بين مدنه ومدني، لكنني لم أفعل، إذ استغرقتني اللحظة ذاتها، لحظة المعرفة بيني وبين المدينة والناس والزمن المتراكم فوق الجدران. ووجدت نفسي في لحظة رحيلي عن المدن أردد من دون أن أشعر مقولته الشهيرة ونحن نغادر أي مدينة «عودًا عودًا يا أولاد»، متمنية أن أعود إليها مرة أخرى. وقد كافأتني الكثير من المدن بدعوتي إليها مرات عديدة.
***
كتبت رسائل سفر صحفية من دون أن أفكر في جمعها، لكنني بعد ربع قرن أو يزيد، وبعد أن أصبح السفر جزءًا من عالمي، سألت نفسي:لماذا لا أضم كتاباتي هذه في كتاب أصحب فيه القارئ إلى تلك المناطق الرائعة من العالم الذي أحببت؟ لماذا لا أحكي له عن سحر الأمكنة التي زرتها وأقدم له البشر الرائعين الذين تعرفت عليهم والذين احتفظت بعلاقاتي بهم مدى الحياة؟ وكان هذا الكتاب. وقد تركت بعض المقالات كما نشرت في كل من «روز اليوسف»، و«صباح الخير»، و«الإذاعة والتليفزيون»، وجريدة «الخليج»، وجريدة «الجمهورية» العراقية، و«ألف باء»، وبعض الصحف العربية الأخرى، وبعضها كتبت عليه بعض الملاحظات لأربط بين أزمنة السفر المتقطعة إليها والتغييرات التي حدثت بها.
***
المدن مثل البشر، بعضها له قبول يفتح ذراعيه لك، وبعضها ينغلق عليك.. بعضها يسعى إليك وبعضها تسعى إليه، ويا بخت من كانت المدن هي التي تهرول نحوه. وقد حالفني الحظ الطيب مع مدن وقرى وربوع كثيرة قابلتني ببشاشة، وبادلتني حبًا بحب. في رحلاتي أماكن، وبشر، ومؤتمرات، وقضايا، ورياضة، وفنون، لأنه من الطبيعي أن تعكس حركتي اهتماماتي، وأن تعكس أيضا حركة المجتمعات في هذه البلاد. وقد شعرت بعد أن أنهيت إعداد هذا الكتاب بأنه يعكس نوعًا ما من السيرة، ليست سيرة الحركة فحسب، وإنما سيرة الانتقاء، فما ننتقيه يمثلنا على أي حال. وقد قمت بجمع كل ما يتعلق برحلات الولايات المتحدة الأمريكية في كتاب منفرد سميته «في بلاد الأمريكان»، فقد زرتها خمس مرات مدة كل زيارة تزيد على الشهرين، وشعرت بأنه من المستحيل أن أضمها داخل هذا الكتاب، لكني لا أعرف أيهما سيصدر قبل الآخر.
***
قررت أن أبدأ من إسبانيا، لأنها أول رحلة مهنية لي إلى الغرب، فقد سافرت قبلها مرات متعددة إلى دول كثيرة للسياحة منذ كنت طفلة أسافر مع عائلتي، ثم مع زوجي وأطفالي بعد ذلك. وسافرت إلى بغداد لأعمل مراسلة لمجلتي «روز اليوسف» و«صباح الخير» لسنوات، لكنني أعتبر بغداد جزءا من وطني العربي الكبير، ولهذا يأتي البيت في المرحلة التالية. وأذكر أن الرحلة كانت في رمضان، وأنها تركت في خيالي أثرًا لم ينمحي على الإطلاق. وبعد إسبانيا تأتي اليونان التي ستظل في وجداني حالة خاصة بتاريخها المشترك معنا وموسيقى البوزوكي آلتها الشهيرة، وزيوس وأفروديت وأبوللو آلهتها الذين حلمت بمعرفتهم عن قرب، وهذا الشيء الغامض في مياهها. ثم ألمانيا التي تذكرني بالصرامة والجدية وتجربة هتلر المرعبة وسورها الذي انهار بعد كفاح. هناك في برلين وجدت إجابات عن بعض الأسئلة، ووجدت مفاجأة عظيمة في انتظاري: صديقتي رمز الفن والجمال أخت آتون تجلس في ظل نفرتيتي مجهولة الهوية تحت اسم أميرة فرعونية. ومن ألمانيا إلى الدنمارك بلد هانز كريستيان أندرسون التي صادف أن تكون زيارتي لها بعد حادث الرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكانت العاصمة تعج بالصور الرائعة للحضارة الإسلامية. أما السنغال التي حلمت بزيارتها مع باقي الدول الأفريقية فقد اكتشفت أن نساءها من أجمل نساء الدنيا، وأنها مدينة ذات طقس رائع في عز صيف يوليو. كان من نصيبي أيضا زيارة سقف العالم فنلندا والسويد حيث الكايوس، والأيام التي بلا ليل والليالي التي بلا نهار، وحيث جائزة نوبل، وصناعة الزجاج الرفيعة الشفافة، والأيائل التي تجر عربة بابا نويل، وكلاب البحر والدببة البيضاء التي راحت تسبح بجوار المركب الذي يدور بنا والجميع مطمئن لحركتها. من بين رحلاتي أيضًا رحلة إلى صربيا، إلى بلجراد التي كانت يوما يوغوسلافيا، رحت أبحث فيها عن تيتو وأنا أتذكر عدم الانحياز مع عبد الناصر ونهرو، ومنها إلى المجر الإمبراطورية التي ضاعت بعد أن كانت من أكبر بلاد الدنيا لكنها الآن تختال بجمال عاصمتها بودابست على الدانوب. ومن أوروبا إلى آسيا الوسطى حيث أذربيجان الحضارة التي تمتزج فيها تركيا بروسيا بالفرس فتنتج خليطا يشبهنا إلى درجة لم أكن أتصورها أبدا.. ومنها إلى كوريا بلد الآلهة والروبوت والموسيقى الصاخبة.
***
كل هذه البلاد الجميلة عرفتني بأهلها وبكبار الكتاب في العالم أمثال نادين جورديمر، وروجيه جارودي، وليوبولد سنجور، وجان ماري لوكليزيو، وروبير سولييه، وجونتر جراس، وأورهان باموق، وباولو كويلو، وعبد الرحمن منيف، وحنا مينا، وسعدي يوسف، وسميح القاسم، ونزار قباني، والطيب صالح، ورشيد بوجدرة، وسحر خليفة، وواسيني الأعرج، وهدى بركات، وسعاد الصباح، وروبرت فيسك.. ومن الفنانين فانيسا ريدجريف، وأنيتا أكبرج، وناستازيا كينسكي.. وعشرات غيرهم.. حاورتهم وشاركتهم أنشطة كثيرة من خلال المؤتمرات، واقتربت من أفكارهم، وعرفت قيمة الجهد من خلف النجاح. كما أتاح لي السفر أيضا مقابلة شخصيات أثرت في العالم كله، مثل صدام حسين والقذافي وأوباما، وأدركت مع كل رحلة من رحلاتي كم أن العالم واسع ومتنوع، وكم هي الحياة رائعة.
البلد
مصر
أعلى