أحمد إبراهيم أحمد

الميلاد
May 13, 1950 (العمر: 74)
نموذج من كتاباتك
التاريخ المعلن للسنعوسي بو سحيم
قصة قصيرة
بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

فتح عينيه مندهشاً لوجوده في هذا المكان... بذل جهداً كبيراً ليتذكر ما الذي جاء به إلى مكان لا يعرفه... اكتشف أن ساعديه وكاحليه مقيدان بالفراش حين حاول النهوض... تململ صارخاً... جاءته أجنبية تركض مرتدية ثياباً زُرقاً مما زاد استغرابه... جاهد ليستجمع وعيه... أحس بغثيان... دار رأسه، وراح في غيبوبة، طاردته فيها أشباح وأضغاث أحلام، وبقى يهذي.
**********
شاهد فيما يرى النائم شاطيء دجلة وحوله أصدقاءه، يُدخنون النارجيلة، وتعلو أصوات ضحكهم مجلجلة... جري شريط أحداث غير مرتبط أمام عيناه... حاول أن يجمع بعضه ببعض؛ لكن توالت المشاهد مُسرعة ليجد نفسه في موقع بناء، يرتدي سروالاً أمريكياً، ويحيط رقبته بشماغ ليس بالأحمر... يصرخ في وجه هذا، ويوجه ذاك، ثم اختفت المشاهد ليجد نفسه جالساً على كومة رمل وسط العمال وأمامهم كميات وافرة من الكباب العراقي مع الطماطم والبصل المشوي على الفحم... يمد يده بثقة ويملأ فمه... يأكل بشهية... عقله يسأله "من أنت؟" ولا إجابة ويرى نفسه في البصرة واقفاً على شاطئها، يداعب فتاة تشوي السمك المسكوف... يحس بطعمه بفمه، ورائحته في أنفه، ثم يجد نفسه يقود سيارة نقل صغيرة وبجانبه لفافة من الحلويات يأكل منها ويغني... أدهشه أنه انتقل لدار عرض يشاهد فيلماً مصرياً.
فقد القدرة على الرؤية والسمع والشم فجأة كما لو كان جهازاً كهربائياً قُطعت عنه الكهرباء، وفتح عينيه مندهشاً فوجد نفسه في نفس المكان ملقى على ظهره كحيوان معد للذبح... ذات المكان الذي كان فيه قبل أن يرى كل ما رأى، فعاود الصراخ.
**********
دخلت الممرضة خلف طبيب يبتسم وهو يقول:
- الحمد الله على السلامة.
- أنت من؟
- أنا الطبيب المسئول عنك.
- طبيب؟ لماذا؟
- أنت في غيبوبة من شهر ونصف.
- غيبوبة؟ أي غيبوبة؟
- ألا تذكر؟ أنت خرجت من تجربة موت... أنجاك الله بمعجزة.
- أنجاني الله؟ مما أنجاني؟
- أنت جئت لنا شبه ميت يا حمد.
- حمد؟ حمد من؟
- أنت حمد... حمد بو سحيم... جئت لنا بعد انقلاب سيارتك في طريق الخطة.
- انقلاب؟ سيارة؟ أنا لا أذكر شيئاً.
- سوف تتذكر كل شيء... المهم الآن أنك أفقت من الغيبوبة... استرح.
**********
خرج الطبيب والممرضة من الغرفة وخرجت معهما الإفاقة العابرة، وانتقل السنعوسي حمد بو سحيم من عالم الوعي إلى زمن ومكان آخرين... هناك في الكويت حيث يحتفل به أبناء عمومته القبليين... جالسٌ في صدر وليمة في أحضان ضلع جبل، يسمح للهواء بالدوران، ليصنع نسيماً بارداً، يضفي على الجلسة مزيداً من الود والطمأنينة.
غاية في الكرم والحفاوة هم أبناء عمومته من أسلم من شمر... أوليس من الأصول في حائل؟ أو لا يعود للجذور؟ ألم يصنع تاريخاً ومالاً في العراق دون أن ينسى أصله؟
أثارت رمال البادية في روحه حنين الانتماء لتلك الصحارى التي تتصل بالسماء لا يحدها، فاختار النوم في بيت من بيوت الشعر رغم وفرة البيوت الحديثة التي عرضها عليه ابناء العمومة... استلقى على الفراش مسترخياً ممتلئاً بإحساس الرضا والأمان، فغفت عيناه حتى استيقظ على بقع الضوء، تتسلل من نسيج صوف الماعز المنسوج منه بيت الشعر الذي تمدد بفعل شمس الصحراء اللاهبة، ليسمح لنسمات أن تلطف قيظ الصحراء القاسي.
نهض نشيطاً نفسه مليئة بالنشاط، ويملأ كيانه إحساس غامر بالحيوية، فخرج يجول بديار أحس بروحه تذوب عشقاً فيها... لمح من بعيد راعية تقود قطيعاً من (الحلال) فغز السير في اتجاهها... اقرأها السلام حين وصل، فردت عليه بحياء باسمه... سألها:
- تعرفيني؟
- نعم... أنت السنعوسي ولد العم.
- ما شاء الله... ومن تكون المزيونة؟
- بنت عمك سالم.
- العنود؟
- نعم.
- ما شاء الله... ما عرفتك.
- أنا عرفتك.
- كنت صغيرة آخر مره واجهتك.
- الصغير يكبر.
- والنعم.
- أفطرت؟
- لا.
- معي حليب نياق طازج.
- اسقيني.
**********
أفاق حين أحس بيد تلمس جبينه... لكن وجدانه لم يغادر البيد... عادت به ذاكرته لتلك الأيام المبهجة حين بني بابنة العم البعيدة بعد صراع مع الرفض... رأى نفسه يرفع الكلاشنكوف، ويهدد وهو يرى نظرات الغضب في عيون أبناء العم... سمع عم أبيه يأمره بإنزال سلاحه، وسيتم ما أراد لكن بشروط... أحس بذراعه يرتخي بالرشاش، وسمع صوته يوافق على كل الشروط دون أن يعرفها... كان مستعداً للتضحية بكل ما يملك لقاء غادة البر؛ لكن الشرط بسيط صاعق... لن تغادر البنت مضارب الأسرة مهما حدث، وإن أنجبت فأولادها ملحقون بها؛ لا حق له في أخذهم لو غادر لأي سبب... وافق سعيداً... تدحرجت دمعة من عين استعصت على الدمع عمراً حيث تذكر سنيناً مضت، لم ير فيها أبناءه الثلاثة ولا أمهم... أم البنين... كما كان يحب أن يسميها... لابد أنهم شباب الآن... هل هناك أمل؟ وعاد لغيبوبته.
**********
أفاق على صوت يعرفه جيداً... صوت مألوف يحيه... تذكره... الشيخ المطرود... انطبعت صورته المضببة على عينيه... ما الذي جاء به؟ هذا شخص لا أحبه... هكذا حدثته نفسه وهو يتظاهر أنه غير واع... اضطرب جسده حين أحس بكفه فوق جبينه وصوته يعلو بتمتمة من كلمات الرقية... تقلصت عضلات جسده كلها وبدا كما لو كان في نوبة صرع... ركضت الممرضة وأخرجت الشيخ... ارتخى وهدأ لحظة تخلص من ملمس اليد الكريه، وعاد لعالم اللا وعي تروضه أفكاره ويراودها.
**********
تراءت أخته الصغيرة نورا لعينيه وهي تضحك وتركض في البر سعيدة... كانت كابنة له من بعد موت والديهما وما شهدته من قسوة الأخ الأكير... الجربوع... مرت الصور أمام عينيه متعاقبة يراها تركض وتكبر وتتعلم ضد رغبة الجربوع... رأى نفسه يواجهه والكلاشينكوف بيده ويتحداه أن يمنعها من دخول كلية الطب بعد تفوقها في الشهادة الثانوية... احس بمتعته بملامح وجهها المليئة بالفرح والبشر وهي جالسة بجانبه في السيارة وحقيبتها ملقاة في (حوض) السيارة في طريقهما للرياض... غمرت عيناه دموعٌ معلقة وهو يودعها عند سكن طالبات الجامعة حين شاهد لحظها الممتن يحدق في عينيه... تنفس بعمق هواءً نقياً لا يلوثه بشر، ورأى نفسه يقود سيارته في طريق الرياض بريدة الصحراوي وحيداً... أفاق لهنيهة، فوجدها تضع كفها الحنون على جبهته... ارتخت عضلات وجهه وطفت ابتسامة شاحبة على شفتيه وهو يرى وجه نورا المنير وغفا مرة أخرى.
**********
صك ولاية شرعي
"أنا موسى المطرود المطرود- قاضي محكمة الخطة الشرعية - أحكم بولاية الجربوع بن سحيم الشمري – شرعاً - على أملاك أخيه فاقد الأهلية حمد بو سحيم الشمري؛ بعد معاينتنا له في المستشفى، والتأكد من فقدانه الوعي، وعدم قدرته على التحكم في أموره وإدارة أمواله، وهذا صك شرعي صادر من محكمة الخطة الشرعية بتاريخ أول رمضان من العام الهجري، واجب النفاذ، وعليه جرى التوقيع والله سبحانه من وراء القصد."
قاضي محكمة الخطة الشرعية
موسى المطرود المطرود
البلد
مصر
أعلى