أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح. يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام أحد المتصفحات البديلة.
جودت جالي
الميلاد
Jul 31, 1951
(العمر: 73)
نموذج من كتاباتك
فك الحزن
جلس هناك، في غرفة صغيرة جعلها مكتبا له في منزله، حيث وضع منضدته، ومذياعا، وجهاز تلفزيون صغيرا، وخزانة كتبه التي تضم مراجعه الهندسية، هناك حيث رتب منذ سنين ركنه الخاص لإنجاز تخطيطات هندسية كهربائية للشركات الصغيرة، ولقراءة مجلات علمية فيما يشغل التلفاز أو المذياع بصوت واطئ كعادته. لكنه هذه المرة جلس، دون قراءة أو مشاهدة لتلفاز أو استماع لمذياع، ينصت الى أصوات النسوة تأتيه من غرفة الاستقبال، منخفضة، مهمهمة. فهم، وهو في مكانه، ما يجري. كانت زوجته مع زائرتين من الجيران تحاولان إقناعها بأن تنزع ثوب الحداد على ولدها الذي قتل قبل حوالي عام. نظر من النافذة التي لا تطل، من حيث يجلس، على شيء سوى جدار الجيران العالي، الى الطابوق العاري الكالح، وهو يصغي الى الأصوات التي تتدافع بهمس.
تذكر اليوم الذي جلب فيه إبنه الوحيد الى البيت جثة هامدة وقد ثقب الرصاص رأسه وصدره إثناء معركة نشبت في شارع الحي بين جماعتين مسلحتين قتل فيها معه صاحب محل العطور الذي ذهب ولده ليشتري منه قنينة عطر. وضعه في تابوت عند استلامه من المستشفى وأوصى من معه من أولاد أقربائه أن يحولوا، عندما يوضع التابوت في البيت لتبكي عليه النساء، بين أمه وبين فتحه لكي لا ترى وجهه المشوه. لم يطل وقوفه مع الرجال أمام البيت وطلب حمل التابوت خارجا، وعندما شرعوا بتغسيله قبيل دفنه لم يسمح لها أن تنزل من السيارة الى أن تم تكفينه. لقد فاجأه وأضناه نواحها، وهي المرأة التي عرف فيها الهدوء والبكاء الأقرب الى الصمت.
في ذلك اليوم الذي طُرق فيه الباب على عجل وفتحه ليجد نفسه أمام جار له يخبره بارتباك بمقتل ولده، فتماسك وعاد الى الداخل ليجلب بطاقة الهوية ونقودا ويخرج ليتحقق من صحة الخبر، كانت هي في غرفة النوم ترتب الملابس التي جمعتها من على حبل الغسيل. نظرت اليه، تلاقت نظراتهما للحظة. كانت قد سمعت إطلاق الرصاص البعيد دون أن يقلقها سماعه، رغم ما تشعر به من أسف وخوف على الناس، لإنها اعتادت أن تسمعه بين الحين والآخر، وهي تعرف أن ما يحدث في الشارع من فوضى عند حدوث قتال لا يبلغ بيتهم الصغير، المنعزل في نهاية زقاق، إلا أصداؤه. لكن غياب الإبن ورغبة الأب المفاجئة في الخروج أثارا في نفسها التوجس. رأى كيف توترت ملامحها شيئا فشيئا، اتسعت عيناها، وإمتقع وجهها، وألقت بالملابس من يديها ولم تزد على أن سألته (ماذا حدث ياجليل!؟) صرخت بعدها دون أن تنتظر منه جوابا.
تصبح ذكرى مقتل ابنهما شريكتهما القاسية المحببة المدللة، مرشدة عواطفهما، ومدبرة أيامهما المتوحدة، قساوتها تعزز حلاوة الحزن، والأسى المتبادل، فيخدمانها بحرص الذي لا يملك في الدنيا تأمينا على حياته سوى رضا مخدومه. تحل بينهما كالسيدة في بيتها، وكأنها تقيم في غرفة ابنهما التي كانا قد رتباها في حياته لتكون عش زواجه فإذا بذكراه تصبح بعد موته، في عيونهما، أرملة يرعيانها إكراما له ووفاء. أمه تتحين الفرص لتصعد الى غرفته حيث زمن الحزن عصي على القياس والتنظيم، وحيث الماضي هو الجدران والأثاث، والذكريات تفاصيل تعاد ولمسات تستعاد دون انقطاع، وحيث المكان للإبن بديل عنيد تفخر الأم به وبعناده، تسوي فراشه مرارا وتكرارا، وتعدل صوره على جدرانه، وتتفقد ثيابه وتعيد كل يوم ترتيبها وحفظها في دولابه، وتداري مشاعره، وتلملم كلماته التي تنطق بها أشياؤه. تحرص أن لا تزعج قيلولته، وأن لا تنهره لكلمة متبرمة قالها يوما كما نهرته يومها، تعده أن لا ترد له طلبا بعد و لا تحول بينه وبين رغبة مهما شطت وغالت.
كان جليل يراقب توغلها في متاهة التوجع، ويخشى عليها من أن تغتال نفسها، من أن تبتلعها لحظة يحلو فيها للموجوع الاستسلام للنهاية فيجدها ميتة. هو أيضا يصعد الى الغرفة بين الحين والآخر لكن صعوده كتفقد الأمين لعهدة عزيزة لديه أكثر مما هو صعود الى المبكى. لا يستطيع أن يتقبل أن يكون الحزن شرطا للحياة و جوازا للموت، ويبدو له بقاء قامته منتصبة ورأسه مرفوعا نوعا من الوفاء لكرامة هي كل إرث ولده. يعيل صبره و يعاتبها بشيء من القسوة إذ يرى اصفرار وجهها و احمرار عينيها، وهي تفهم، تفهم أنه لفرط حبه لها لا يريدها أن تتحول الى شجرة للدموع ومثابة للنحيب، فتبكي، تبكي هذه المرة إشفاقا على عجزها و توسلا بإرادة فارقتها. كانت قد طلبت منه أن يسمح لها بالنوم في غرفة ابنها إذا أرادت ذلك ولم يعترض مقدرا أن هذا سيساعدها في التخفيف من الحزن الذي إكتض به صدرها، لكنه أدرك فيما بعد أنها ذهبت الى أبعد مما يجب مع الحزن بحيث أصبحت العودة الى الحياة الطبيعية أشق عليها من الحزن نفسه، بحيث غدا الحزن رفيقا مستبدا يدعي أنه الدليل الى الوفاء و لا دليل غيره. في الصباحات أو المساءات التي تجمعهما كان يحاول أن يجد لاجتماعهما مسرات لا تلقى من سطوة الحزن اعتراضا، مسرات كالاحتجاج المسالم... تعليق على مناسبة عند الجيران أو خبر عن الأهل، مديح لمهارتها في إعداد طبق شهي أو لترتيب شأن من شؤون المنزل، وكانت هي تبتسم، يفتر ثغرها عما هو شبيه بالسرور، سرور مجامل... هذا فقط..
لا تمل المرأتان، بكل ما أوتيتا من مهارة الجدل، من تجريد زوجته سعاد من كل عذر بصوتين أنثويين، يبدوان عبر إصغائه المتضامن معهما، كالشمس غير المرئية التي تخلع بلطف ذهبها على طابوق جدار أيامهما العالي الأجرد. لا تمل المرأتان من محاولة اقناعها بخلع الثوب الأسود ولبس الثوب الذي جاءتا به لفك حزنها، ولا تنيان عن الترديد
-حرام عليك لبس السواد كل هذه المدة... لا تعذبي ولدك... سيفرح لك وهو في قبره... كلنا فقدنا أعزاء.
ربما لمستا أخيرا منها لينا ووعدا بخير. انصرفتا بعد أن تبادلتا معها الكثير من القبل كأنهما بذلك تأخذان منها عهدا وموثقا. سمع الباب الخارجي يفتح ويغلق، وسمع صوت خطواتها وهي تعود الى غرفة الاستقبال. توقفت الخطوات للحظات ثم تواصلت مقتربة، ودخلت عليه سعاد وهي تحمل الثوب بين يديها مطويا. نظر الى قماش الثوب، أزرق بورود رمادية، اختيار موفق لإنتقالة محتشمة من حياة الحداد الى حياة واعدة بألوان أكثر بريقا وإنفتاحا. شعر بأن هذه هي اللحظة المناسبة ليأخذ بيدها، ليكسر قشرة التردد التي تزداد صلابة حولهما، ليتخطى معها حاجز الاستسلام اللا مرئي، السميك مع ذلك، لهموم تتقمص الذكرى، الى حقيقة الحياة، حقيقة أن لا أحد يعيش الى الأبد، ولا شيء يدوم، وعلى الأحياء أن يواصلوا ما كان الراحلون جديرين به، أن يواصلوا التمسك بالحياة. هي أيضا كانت بمجيئها إليه حاملة الثوب، تتوق لأن تخطو خطوة لا مسافة لها لو لم تكن باتجاهه وتقول كلمات لا معنى لها إن لم يسمعها هو. قالت له بخجل:
- أنظر يا جليل هذا الثوب الذي جلبتاه لي.
نهض وتناول الثوب منها. أرسله على طوله وقربه من جسمها، ألصقه بجسمها جاعلا يديه على كتفها حاجبا عن نظره السواد كله . قال لها بابتهاج:
- الله يا سعاد.. ثوب بمنتهى الجمال...ليست لديك فكرة كم سيكون رائعا عليك!
هزتها هذه الكلمات المأمولة، وإنطلق من فمها المبتسم صوت ككركرة الطفل، قصيرة وسريعة، ثم... فجأة... إستعاد وجهها وجومه، وكأنها لامت نفسها على التمادي في إظهار فرحتها الأنثوية، وجذلها لما إعتبرته إطراء. أخذت الثوب منه وأعادت طويه وهي مطرقة قليلا، ساهمة. انسحبت وتوجهت نحو غرفة ابنها صاعدة السلم بخطوات بطيئة ونظرات مصوبة الى الأعلى. لم تنزل من غرفة ابنها الى أن حل الليل. ذهب جليل الى المطبخ وأعد لنفسه عشاء خفيفا، وشرب قدحا من الشاي، وقضى بعض الوقت يروح ويجيء. فكر أن يصعد ليجلس معها ويحاول، من خلال أحاديث مسلية، أن يشرح لها أن العناد ليس هو كبرياء الحزن، لكنه عدل عن نيته، قائلا في نفسه أنها قد سمعت اليوم ما يكفي. بعد قليل انقطع التيار الكهربائي. شغل مصباحا كهربائيا يعمل على البطارية وضعه في فسحة السلم على منضدة وهو يتمتم "ستنزل بعد قليل... ستنزل.."، وأشعل مصباحا نفطيا ذهب به الى غرفة النوم، قلل ضوءه ووضعه على منضدة صغيرة، وإنطرح على جنبه في الفراش، موليا وجهه ناحية الجدار. فكر... "هل جرحت مشاعرها؟ هل كان علي أن أتصرف تصرفا آخر أكثر لياقة أو لباقة؟ أن أستعمل كلمات أخرى؟ أم أتركها لحالها؟ ولكنها هي التي جاءت الي طالبة رأيي ...". أسئلة كثيرة تترجرج في ذهنه المتماوج بين اليقظة والنعاس. انتبه الى صوت باب غرفة الابن يفتح، وأصغى الى الخطوات الأليفة تنزل السلم، ثم، انشدّ متوترا الى الصرير اللطيف لقبضة باب غرفتهما، وأحس بها تقترب، تنحني عليه، تصعد الى السرير، تتمدد خلفه، لصقه تقريبا، نحوه، أحس بيدها تستقر على زنده، وسمع صوتها المتهدج وهي تسأله:
- هل سيكون ابننا مسرورا يا جليل؟
- مسرور لأي شيء يا سعاد؟
- لأني فككت حزني؟
- ماذا يقول لك قلبك؟
-.... لا أدري ... قل لي أنت!
- ما الذي يتمناه إبن لأمه؟
- ..................
- لا تخجلي من نفسك يا سعاد ولا تخافي منها... هل يقبل ابننا أن يكون حزننا عليه بيتا بلا باب أو نوافذ؟
التصقت به. أحاطته بذراعها.
- هل ظهر لك في المنام يا جليل كما يظهر لي؟
- ربما كان الأب يختلف عن الأم لحكمة أرادها الله.. لم يفارقني في يقظتي يوما. أتصدقين يا سعاد أننا حين نريد مغادرة البيت لأمر ما... للتسوق أو لزيارة أهلنا.. أحيانا يخيل إلي أننا نسيناه وحده في البيت فتتوقف يدي للحظة وأنا أقفل الباب بالمفتاح مصدقا ما خيل إلي.
زادت من احتضانها له واضعة راحة يدها على صدره. تصاعدت نبضات قلبها على ظهره. نظر الى يدها التي استقرت على موضع قلبه، ورأى ردن الثوب الجديد يلتمع حول ساعدها المستقر على خصره، فأغمض عينيه وراح في اطمئنان عميق.
2009
البلد
العراق
هذا الموقع يعتمد على ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماته، الاستمرار في تصفح الموقع يعني موافقتك على استخدام هذه الملفات.