د. ابوالقاسم قور

نموذج من كتاباتك
المسرح والارهاب
ما بعد الحداثة : نظرية الدراما من التقليد إلي التحمل


د. أبوالقاسم قور حامد

مقدمة
ان كان هناك وصف مسرحى دقيق لعالمنا اليوم ، وما يعتوره من عنف ، وارهاب يصعب تخيله ، وما يتصف به من تطور فى مجالات علوم الاتصال ، وتكنلوجيا الحرب ،هو (انه عالم صغير يصعب تقليده ).سيظل التاريخ 11سبتمبر من عام 2001 م علامة فارقة في تاريخ عالمنا المعاصر وتاريخ كوكب الأرض،ليس على المستويات السياسية، أو العسكرية، أو الاقتصادية فحسب بل على المستوى الفلسفي (الجمالي / الخيال) أيضا.في ذلك اليوم وقع حدث فيه (تجاوز للخيال) البشرى بصورة لا يمكن تقليدها وهو انهيار مبنى التجارة الدولية بمدينة نيويورك الأمريكية اثر ضربة من قبل تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن.بانهيار برج التجارة الدولية انهار( خيال العالم).ذلك الخيال الذي أسسته نظرية المعرفه – الابستمولولجيا-الغربية ألحديثه. المهم في الأمر انه من ضمن تلك النظريات التى انهارت الى الابد نظرية التقليد Imitation للفيلسوف اليونانى ارسطوطاليس 384-322 ق.م التى تعتبر الجذر الفكرى للنظرية الغربية للدراما والمسرح الأوربى و التى سادت عالمنا نحو ثلاثة الف سنة " المأساة هى محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم ..." .لكل ذلك سيظل 11 سبتمبر هو تاريخ نهاية المسرح الغربي الذي قام على نظرية التقليد.فالنظرية الكلاسيكية تقول لا يمكن أن يكون هناك مسرحا بدون عنصر التقليد أو المحاكاة وبحدوث أفعال لا يمكن تقليدها اذن لم تعد نظرية التقليد سارية المفعول،.
لكن من الواضح انه ليس العنف وتكنولوجيا الحرب وحدهما الأصل في موت نظرية التقليد بل هناك عوامل كثيرة تضافرت تاريخيا وميكانيزمياً كي تفقد نظرية التطهير جدواها.لعل منتصف القرن العشرين وما شهده من بداية للثورة السبرنية وتطور تكنولوجي ، وثورات مطردة في مجالات علوم الحاسوب والوراثة كلها مؤشرات على انتقال عالمنا إلي مرحلة جديدة من مراحل المعرفة ، وموقف الكائن البشرى تجاه تلك المعارف وما يمكن تسميته ما بعد الحداثه. فالتطور والتقدم الذي أحرزهما العلم منذ نهاية القرن الماضي وبصورة كبيرة في مجالين هامين هما مجال الحاسوب وال DNA يشكلان نقطة فارقة فى تاريخ العالم " لقد كانت ثورة الكم أولى ثورات القرن العشرين وأكثرها أساسية وهى التى ساعدت بعد ذلك على زرع بذور الثورتين العالميتين الكبيرتين الاخريتيين وهما الثورة البيوجزيئية وثورة الكمبيوتر " . لكن هل ظلت النظرية القديمة للمسرح ( نظرية التطهير التى تعتمد على التقليد ) بعيدة عن هذا التطور؟ هل ظلت العملية المسرحية المعتمدة على المشاهدة والتقليد مساحة معزولة من هذا التطور؟ هل لا زال المسرح جزيرة معزولة من هذا التطور العلمى الذى يشهده عالمنا اليوم؟ فى تصورى ان المشاهدة المسرحية هى من أكثر الميادين التى تأثرت بالثورة السبرنية.
يرجع ذلك إلى سببين أساسيين هما :
1 – السبب الأول : التطور في مجال تقانة المعلومات ، والوسائط المتعددة ، والسبرنيات. وهو تطور وفر إمكانيات عالية من الادائيات التي تعتمد الإيهام Animation مثل الوسائط المتعددة والإنترنت والشوشال ميديا.والتي بمقدورها الوصول الى المشاهد بدلا من ذهاب المشاهد اليها.ايضا مقدراتها السبرنية الأدائية فهى مسألة لم تخطر على بال أرسطوطاليس
2- السبب الثانى: تكنلوجيا الحرب War Technology التى تسببت فى أحداث عنف ، وترجيديات تفوق التصور والتقليد ، مثل احداث 11 سبتمبر و العدوان الأطلسى الاميركى على العراق وما قامت به من تجارب متقدمة فى مجال تكنلوجيا الحرب مثل الليزر والريموت .العمليات الانتحارية وقطع الرؤوس أمام المشاهدين وتثبيت ذلك على صفحات الانترنت. ثم اخيرا مقتل الصحفى جمال خاشقجى وتقطيعه وبعثرت اشلائه بطريقة اهتز لها ضمير العالم. لكن بلاشك ربما كان هناك سؤال حول ماعلاقة كل ذلك بفن المسرح؟ فهو السؤال الذى سأجيب عليه من خلال توضيح أهداف هذا الكتيب.
المرتكزات الفلسفية للنظرية وفروضها :
أولا : هناك خطأ منشئي فى نظرية التطهير للفيلسوف اليونانى أرسطوطاليس ، تلك النظرية التى تقوم على التقليد ، كى يحس المشاهد بالخوف والرهبة والشفقة اذاء ابطال المسرحية ، فيتطهر المشاهد ، ويعلم ويرعوى حتى لا يرتكب مثل تلك الأخطاء. هذه النظرية هى نظرية التطهير للفيلسوف اليونانانى أرسطوطاليس وهى التى أسست للدراما الغربية ، وما تلتها من منذ القرن الثالث قبل الميلاد الى القرن العشرين ومطلع هذا القرن العشرين. أرى ان هذه النظرية ظلت تحمل بذور فنائها داخلها ، لأنها فرقت بين المشاهد بوصفه ذات وبين أحساسيسه التى تتم تأديتها خارج ذاته لتصبح موضوعا قائما بذاته.هذا التفريق بين الذات والموضوع خلق مساحة من بحث الذات عن موضوعها ، فكل ما كان الموضوع أكثر اثارة كلما تحمست له الذات ، مما قاد الى أن تتحول النظرية الأرسطية الى عكس هدفها فبدلا من أن تعمل على تقليص رغبة ولذة العنف زادت من شهوة العنف ، فأصبح العنف أصلا فى الدراما الغربية.
أما الفرضية الثانية : هى امتداد للفرضية الأولى فان كان الهدف من الدراما هو تهذيب الروح والبحث عن وسيلة لتجنب العنف ، وبما أن نظرية التطهير لم تعمل فى هذا الاتجاه ، بل عملت على نقيض ذلك ، ولأن عالمنا اليوم يعيش أحوج فتراته للبحث عن مكافحة العنف ولالارهاب ، فالتخلص من العنف يعنى البحث نظرية درامية تنتقل من النظرية الدرامية من خانة ( التطهير) الى خانة ا(لتحمل).لكل ذلك سأقوم بارساء المرتكزات الفكرية والادبية والتاريخية لهذه النظرية الجديدة.والتى تسعى الى ( مسرح التحمل) وهو مسرح ضد العنف والارهاب .
ان تطور الوسائط المتعددة ذات الادائيات العالية فى مجالات تقانة المعلومات سوف يؤدى الى تناقص وتقلص فضاء خشبة المسرح Theatre Stage بمعناه الغربى التقليدى الذى يقوم على المشاهدة الجماعية داخل مبنى المسرح ( Playhouse ) .ان التقدم العلمى المتمثل فى الثورة السبرنية سيكرس مستقبلا الى ما يمكن تسميته بالعروض الدراميه السبرنية وهو الاتجاه الذى يمثل مستقبل مسرح الملتميديا Multimedia theatre . وهى مرحلة فوضى الأدئيات حينها سيكون بمقدور أى شخص تصميم عرض كامل ثم بثه وهى مرحلة (حرب الصور). لعل فرضيات مثل هذه تتصادم مع رؤيتين :
الموقف الأول هو أن بعض المسرحيين الاكاديميين وغيرهم من الهواة ظلوا حبيسين للنمط الدرامى المسرحى الغربى الذى يقوم على الفرجة والتمثيل الذين صيرهما الزمان تراثا انسانيا رائعا فى ظل الثورة السبرنية.
الموقف الثانى يتجلى فى تزمت المؤسسة الاكاديمية وتعصبها للمنهج المسرحى الذى يقوم على التمثيل و التقليد Imitation .وهو المنهج الذى يتم تدريسه فى المؤسسات الأكاديمية المختصة. لكل ذلك سأتناول فى الفصل الأول نقد نظرية الدراما الغربية مبينا تناقض هذه النظرية ومقتفيا بذور العنف التي سادت هذه النظرية منذ القرن الثالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين كل ذلك أدى الى نهاية هذه نظرية التطهير. أما فى الفصل الثانى تناولت الأصول الفكرية والأدبية لنظرية التحمل وهى النظرية التى سأقدمها للمهتمين فى هذا المجال.فكما قال الفيلسوف البرت (اينشتاين ان بناء نظرية جديدة ليس عمل أشبه بهدم كوخ وبناء كوخ بدلا عنه بل هو عمل أشبه بالصعود من سفح الجبل الى قمته يكتشف في كل خطوة منظرا جديدا وعالما مختلف حتى يطل على فمضاءات جديدة)
ولا يفوتني هنا أن اشير الى القارئ الكريم أن هذا الكتاب يمتاح من مقاربات ما بعد الحداثة والنقد الفلسفى ، لذلك هناك عديد من المصطلحات تحتاج الى الاطلاع والمراجعة لغير المختصين فى هذا المجال .


الجزء الأول : نقد نظرية الدراما الغربية نظرية التطهير Catharsis للفيلسوف اليونانى أرسطوطاليس 384-322 ق.م
ليس العنف بعيدا عن الفلسفة الغربية وتاريخها كما يظن بعض الفلاسفة، بل لقد كان العنف دائما موجودا ومتفشيا تاريخيا فى جزئيات نظرية المعرفة الغربية. ذلك لخلل فى نظرية المعرفة الغربية وهوخلل منشئى تتبدى أشكاله فى مستوياته عديدة وتتجلى فى شتى المجالات.أن أكبر تناقض حملته نظرية المعرفة فى الفلسفة الغربية ، هو عنصر التفريق بين ( الذات) و( الموضوع) Subject/ Object .وهو ذات التناقض الذى شيد عليه الفيلسوف اليونانى أرسطوطاليس نظريته( التطهير ) فى كتابه فن الشعر،ويمكن النظر إلى نظرية التطهير Catharsis التي تقوم على التقليد (Imitation) للفيلسوف اليونانى أرسطو طاليس أول معالجة درامية ذات مرتكزات وأصول فلسفية تهدف لمناقشة قضية العنف وإجتنابه بواسطة (الخوف) (Fear) والشفقة (Pity) اللذين يقودان الى التطهير (Catharsis) .لكن على الرغم من السيادة التامة لهذه الرؤية فى الدراما عامة والدراما الغربية على وجه الخصوص لفترة ثلاثة آلاف سنه لكن ونسبة لتطور العنف وأساليبه، لم تعد عملية التطهير كفيلة بمعالجة ظاهرة العنف البشرى فى أبعادها السيكولوجية، والفلسفية العميقة علاجا رادعا كما هو الحال فى المجتمع اليونانى القديم كما قدر لها مؤسسها.لعل هذا هو السبب فى أن تفقد التراجيديا اليونانية أثرها وهدفها الذى كتبت من أجله طيلة كل هذه الفترة، بعد أن تبدلت، وتغيرت الحالة السيكولوجية والمفاهيم الفكرية للمشاهد عبر التاريخ. اذ لم يعد التطهير ممكنا بواسطة ( الشفقة) و ( الخوف). فالخوف على سبيل المثال فى مطلع القرن الحادى العشرين ليس هو الخوف فى القرن الثالث قبل الميلاد. أما أحساسيس مثل الشفقه لم تعد موجوده فى كثير من الأحايين ، واليوم لم يعد للمسرحية التراجيدية أثرا نفسيا على قرار ما كتبت من أجله فى فترة المسرح الكلاسيكى لتظل الروائع الإغريقية مثل ثلاثية أوديب ملكا لسوفكليس Sophocles (*) و ثلاثية الاروستيا لاسيخيلوسAeschylus تحتفظ ببريقها الأدبى، أما أثرهما السيكولوجى ( التطهير) والفلسفى سيتلاشيان الى أن يختفيا الى الأبد بتطور الوعى الإنسانى وتطور الحضارة الإنسانية والتعقيدات التى تصاحب هذا النوع من التطور مثل التقدم التكنلوجى .على سبيل المثال " فى عام 1981 م تم عرض مسرحية الاورستيا(*) Oresteia للكاتب اليونانى القديم اسخيلوس على المسرح القومى فى لندن ضمن عروض الموسم المسرحى لذلك العام.قال غالبية المشاهدين عند نهاية العرض المسرحى أنهم تعرضوا لمشاهدة تجربة أشد واقعية من الحياة نفسها"(1).لقد شاهد الجمهور الأنجليزى عام 1981م الملكة كلتمنسترا تقتل زوجها الملك أجاممنون وهو أكثر المشاهد أثارة لشعور المشاهد اليونانى القديم لكنه أحس بأن حدثا عاديا قد تم عرضه. يرجع هذا الامر إلى طبيعة النظرية التى اختطها أرسطوطاليس. فبعد ثلاثة وعشرين قرن من الزمان لم يعد المشاهد هو ذات المشاهد، وكذلك لم تعد الأحداث الفظيعة التى تسبب (التطهير) فى الفترة اليونانية القديمة هى نفسها فظيعة للمشاهد فى نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادى والعشرين،كذلك لم يعد الخوف هو نفس الخوف وكذ الشفقة. يستوجب الامر إقرار حقيقة أساسية وهى تطور المعارف الإنسانية، وتطور أسباب المدنية المادية،والثورة التكنلوجية مما تسبب فى تعرف الإنسان اليوم إلى أنواع أخرى من الفظاعة والعنف.فالانسان اليونانى القديم لم يهدده شبح الشتاء الذرى كما يحدث اليوم. كذلك لم يشهد ثورة الصواريخ ذات الرؤوس الذكية والعابرة للقارات هذا بالأضافة الى ما يمكن تسميته التطور (الفيزيوسيكلوجيا للعنف),هذا التطور التاريخى للعنف هو ما نعنيه بتفشى جزيئيان العنف فى الأبستمولوجيا الغربية الحديثه فهو تفشى تاريخى موضوعوى.
لكن هناك أسباب عديدة أدت إلى تطور نظرية التطهير (Catharsis) لأرسطوطاليس إلى عكس هدفها بمرور الزمان، حيث أضحت أعمق إلى وجدان المشاهد من حيث التحفز والاستعداد لمشاهدة المزيد من أعمال العنف وبغية إثبات هذه الفرضية وقبل كل ذلك سأقوم هنا بعرض نظرية التقليد التطهيرCatharsis للفيلسوف أرسطوطاليس حتى نقف على معناها الحقيقى بغية نقدها واثبات نهاية هذه النظرية بسبب العنف والتطور التكنلوجى.
يقول ارسطوطاليس " المأساة هى محاكاة فعل نبيل تام بطول معلوم بلغة مزودة بألوان التزيين تختلف وفقا لإختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة اشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية وتثير الرحمة والخوف فتؤدى إلى التطهير من الانفعالات(1)" والمأساة (التراجيديا) بهذا المعنى تتم بواسطة أشخاص يفعلون وليس عن طريق الحكاية أو الأسطورة فقط ولا الخبر وحده كما يرى أرسطوطاليس ليقود هذا الفعل إلى استثارة الرحمة (Pity) والخوف (Fear) لدى المشاهدين، وهذان الأخيران كفيلان باحداث التطهير (Catharsis) لدى المشاهدين. والتطهير بهذا المعنى نوع من أنواع التعاطف المشوب بالشفقة والاتعاظ من ارتكاب الافعال الفظيعة، ونوع من أنواع السياقات الفكرية والاحاسيس السيكولوجية. هذه نقطة حيوية وأساسية فى تناولنا لرؤية أرسطوطاليس بالبحث والتحليل ثم النقد. لكأن التطهير حالة من حالات (الخوف والتبجيل) فهو يرى إن الإحساس بالتطهير يكون عظيماً عندما يكون البطل الذى ارتكب الخطأ المعنى من النبلاء أوالعظماء. وقبل أن نبدأ فى بحث هذه الرؤية نورد فيما يلى دفوعات أرسطوطاليس التى شيد عليها بنيان نظريته (التطهير) Catharsis .
يعتمد الفيلسوف اليونانى أرسطوطاليس على منطق (الضرورة والاحتمال). فهو يرى إن الفعل الذى يقود الى الشفقة (Pity) أوالخوف (Fear) يؤدى إلى التطهير يجب أن يتبع فى تسلسله منطق (الضرورة) أو (الإحتمال).هذا بالطبع وفقا لمنهج الأستقراء وهو منهج به نظر. فالاستقراء ان كان موضوعيا أو تاريخيا ظل محل خلاف بين الفلاسفة ، لأن كثير من الأشياء تحدث دون التنبأ بها ، فان كانت الضرورة والطبيعه هما ظواهر منطق حدوث الاشياء فى الطبيعة ، فذلك لم يعد سوى نزر قليل.فالطبيعة نفسها غير ثابته قانونيا ( نموذج اعصار كانرينا).الاستقراء منهج مشكوك فيه فى ظل أحداث وفظائع سقط بفعلها خيال العالم. فاحداث الحادى عشر من سبتمبر تؤكد عدم مصاقية هذا المنهج فى كل الظروف.فالاستقراء الذى أفترضه أرسطوطاليس فى نظرية التطهير افتراض غير يقينيا "الاستقرائيون المحدثون، سلموا بمشكلة الاستقراء زفقد أكد رايشنباج فضل هيوم الكبير على الاستقراء بتأكيده استحالة وضع تبرير حاسم له لكنهم كانوا ليتركوا الاستقراء لو أنهم يبحثون به عن اليقين.لكن طالما أن جميع القوانين العلمية احتمالية،فلاباس أن يكون أساس الاحتمال ليس ثابتا" ، فمن الواضح ان نظرية أرسطوطاليس كانت جمالية خيالية أكثر من كونها واقعية لأنها نظرية فى الشعر الترجيدى فهو يقول " وواضح كذلك مما قلنا أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست فى رواية الأمور كما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع، لأن الأشياء ممكنة: أما بحسب الاحتمال، أو بحسب الضرورة، ذلك إن المؤرخ والشاعر لايختلفان بكون إحدهما يروى الأحداث شعراً والآخر يرويها نثرا فقد كان من الممكن تأليف تاريخ هيرودتس نظماً ولكنه سيظل مع ذلك تاريخا سواء كتب نظماً أو نثراً، وإنما يتميزان من حيث كون أحدهما يروى الأحداث التى يمكن أن تقع. ولهذا كان الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ، ولأن الشعر بالأحرى يروى الكلى بينما التاريخ يروى الجزئى. وأعنى (بالكلى) إن هذا الرجل أو ذاك سيفعل هذه الاشياء أو تلك على وجه الإحتمال أو بالضرورة وإلى هذا التصوير يرمى الشعراء"(1).
أكثر ما نورده من نقد لأرسطو هو قوله (الأشياء ممكنة إما بحسب الاحتمال أو بحسب الضرورة) فهذا الزعم لا يتفق وحدوث كل الأفعال والأشياء. فهو ينطبق على منطق تطور الطبيعة المحسوس. لأن كل ما حولنا من مفردات وكائنات تنمو وتكون وتفعل بالضرورة والاحتمال وفقا لمنطق الطبيعة، وهو الجانب التجريبى والجانب الانطلوجى. لكن ليس كل الاشياء والافكار (ميتافيزيقيا) أنواع المعاف وضروب الابيستمولجى هى أشياء ممكنة بالضرورة والاحتمال فقط، فحديث أرسطوطاليس به، تعميم لكن من الواضح إن أرسطوطاليس أراد للتراجيديا سيقا ونسقا يبع منطق تجريبى واضح وواقعى أقرب إلى الطبيعة. لأن أرسطوطاليس يفترض وقوع البطل فى خطأ مأساوى بالضرورة، دون تراجع وهو ما يسبب الاندماج لدى المشاهد لهذا البطل وهو يساق قسرا نحو حتفه وفقا للبنائ الدرامى للأحداث التى لاتحدث إلا بالضرورة او الاحتمال فيصاب المشاهد بأحاسيس (الشفقة) و (الخوف) بعد الاندماج النفسى مع تلك الأحداث فتقوده إلى التطهير والاتعاظ من ارتكاب مثل هذه الافعال.
هكذا نرى إن نظرية أرسطوطاليس إلى تصوير وتمثيل الخطأ حتى لايرتكبه المشاهدون بعد ان يكتشفوا مغبة مثل هذا الفعل وما قد يترتب عليه من نتائج. وهذا بالطبغ ما جرت عليه المسرحية عامة والدراما الأوروبية على وجه الخصوص.
لكن كما نرى لقد قادت نظرية التطهير إلى تطور مشروع المأساة عبر التاريخ فأضحت الدراما تعرض أبطالا، واحداثا فظيعة ، وعنيفة ، فانسرب هذا المفهوم وتطور فى الدراما الحديثة، ووسائلها مثل الدراما التلفازية والسينمائية مما أدى إلى تطور دراما العنف التى يمكن اعتبارها أحد عناصر ثقافة الحرب فى العالم.
هناك نقطة اخرى أوردها ارسطوطاليس فى نظريته الدرامية وهى الأخرى سوف نتناولها بالنقد بعد التحليل وهذه النقطة هى التحولا والانقلاب.
التحول والانقلاب
فى توضيحه لعملية التحول والانقلاب يستدل أرسطوطاليس على ذلك بمسرحية (أوديب ملكا)(*) للكاتب اليونانى سوفوكليس فيقول " التحول هو انقلاب افعل إلى ضده كما قلنا وهذا يقع أيضا تبعا للإحتمال أو الضرورة: ففى مسرحية أوديفوس قدم الرسول وفى تقديره أنه سيسر أوديفوس ويطمئنه من ناحية أمه، فلما أظهر حقيقة نفسه أحدث عكس الأثر"(1)
ويقول أرسطوطاليس" والتعرف كما يدل عليه أسمه، انتقال من الجهل إلى المعرفة يؤدى إلى الانتقال: إما من الكراهية إلى المحبة، أو من المحبة إلى الكراهية عند الأشخاص المقدر لهم السعادة أو الشقاوة. وأجمل أنواع التعرف المصحوب بالتحول، من نوع ما نجد فى مسرحية أوديفوى(1)(*). ونلاحظ فى هذا القول افتراض أرسطوطاليس لأبطال جهلاء ولايدرون سببا عن جهلهم ذلك، فيفعلون أفعالا ذات أخطاء كبيرة، تتسبب فى التأسى والحزن عليها فيندمون ندما شديدا. وغاية هذا القول لدى أرسطوطاليس هو افتراضه أن الافعال التى تبدأ خطأ تقود إلى نتيجة خطأ بل (تنقلب إلى ضدها). فهو يستوجب الجهل فى البطل ليرتكب أفعالا حمقاء فيندم ندماً شديداً مما يكسبه التعاطف من قبل المشاهدين فيحسوا بالشفقة والخوف ازائه، فبعد ان كان كريماً يعيش عيشة النبلاء، هاهو ينقلب إلى العكس تماما فيتحول لشخص ذليل يعيش عيشة الاشقياء والتعساء. إذاً فانقلاب الشخصية وتحولها من حالة السعادة إلى حالة الشقاء المصحوب بفعل مبنى على منطق الضرورة أو الاحتمال هو الآخر. ولما كانت هذه العملية تتم أمام أعين المشاهدين فهم ايضا (يتعلمون) منها حالة (التطهير) والاتعاظ. لأن أرسطوطاليس يرى إن ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات هو مقدرته على التعلم بالتميل، أى أنه يمكن أن يقلد حتى يعلم الآخرين رسالته، ويبلغ ما يريد قوله ويوصل معارفه بالتمثيل. كما يجد الناس عامة متعة فى التمثيل فيقول فى ذلك " فالمحاكاة غريزة فى الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة والانسان يختلف عن سائر الحيوان فى كونه أكثرها استعدادا للمحاكاة وبالمحاكاة يكتسب معارفة الأولى.وهنا نرى كيف جعل أرسطوطاليس من المحاكاة عنصرا متفرداً فى سجيه الإنسان لأنه بالمحاكاة يكتسب معارفه الأولية وهذا هو مايميزه عن بقية الحيوان وكأن المحاكاة خاصية أنثروبولوجية فى جنس البشر، "نحن لم نختر المحاكاة بل هى شئ طبيعى فى ذاتنا، إنها طبيعتنا، نحنكائنات محاكية منذ الطفولة لأننا ولدنا بها. وبعبارة أخرى نحن لانتعلم المحاكاة كما نتعلم السياسة والموسيقى(1)". وينظر أرسطوطاليس إلى المحاكاة بوصفها نوع من أنواع التعلم يجد فيها الناس عامة والفلاسفة خاصة لذة وإن لم يشاركوا فيها بصورة علمية فهم عندما يرون صورة ما أو مشهدا مما يتلذذون فى أمره ويستنبطون مقصده ويقول فى ذلك "وسبب آخر هو أن التعلم لذيذ: لا للفلاسفة وحدهم، بل وأيضاً لسائر الناس، وإن لم يشارك هؤلاء فيه إلا بقدر يسير، فنحن نسر برؤية الصور لأننا نفيد من مشاهدتها علما ونستند ما تدل عليه، كأن نقول أن هذه الصورة صورة فلان. فلان لم يكن رأينا موضوعها من قبل، فإنها تسرنا لا بوصفها محاكاة، ولكن لإتقان صناعتها أو ألوانها أو ماشاكل ذلك(2). ومفردة (اللذة) التى يجدها المشاهد كما يرى اسطوطاليس فى التطهير هى محور افتراضنا الذى يقول ان اللذة فى نهاية القرن العشرين لم تعد هى اللذة ذاتها فى القرن الثالث قبل الميلاد، فما يستمتع به إنسان القرن الثالث قبل الميلاد. مما جعل رواد الفكر الدرامى وكتاب المسرح يبحثون فى كل فترة عن مواضيع أكثر إثارة و (لذة) للمشاهد وإشباع رغبته فتطور مشهد العنف تدريجيا على خشبة المسرع ثم من بعد ذلك شاشة السينما والتلفاز. هنا يمكن القول هذا البحث عن اللذة هو نوع وشكل من أشكال العنف بالمعنى الاجتماعى والفلسفى العميق نعنى العنف فى شكله المتفشى. فالتلذذ بمشاهدة صور الابطال وهم يتعرضون للأحداث المأساوية قاد الى البحث عن دراما أخرى يقوم الابطال فيها بافعال عنيفة انتقايمة. حقيقة القول ماهو سبب رغبة المشاهد اليوم فى رؤية دراما اكثر إثارة ؟ ماهو نوع اللذة التى يجدها مشاهد لوحة (الجرونيكا) للرسام الاسبانى (بيكاسو) والتى تصور أشلاء مدنية (جرونيكا) الاسبانية بعد تحولت إلى أشلاء وأكوام من الخراب بعد ان قصفها النازيون فى الحرب العالمية الثانية مثلا ؟ هذه المتعة هى مايعنيها ارسطوطاليس فى قوله (لذة) ، وهذه المتعة هى نوع من أنواع العنف المتفشى.
الرحمة والخوف:
وعندما يتحدث ارسطوطاليس عن الرحمة والخوف اللذين يثيران التطهير، يفرق بين أنواع البشر الذين يتعرضون للحوادث، مما يوضح دراسة أرسطوطاليس العميقة النفس البشرية فيقول فى ذلك "والخوف والرحمة يمكن أن ينشأ عن المنظر المسرحى ويمكن ايضا ان ينشأ عن ترتيب الحوادث، والاخير ألإضل ومن عمل فحول الشعراء. ذلك إن الحكاية يجب أن تؤلف على نحو يجعل من يسمع وقائعها يفزع منها وتأخذه الرحمة بصراعها وإن لم يشهدها: كما يقع لمن تروى له قصة أوديفوس. أما إحداث هذا الاثر عن طريق المنظر المسرحى وحده فأمر بعيد عن الفن ولايقتضى غير وسائل مادية. أما أولئك الذين يرومون عن طريق المنظر المسرحى أن يثيروا الرعب الشديد لا الخوف ، فلا شأن لهم بالمأساة، لا تستهدف جلب أية لذة كانت، بل اللذة الخاصة بها. فلما كان الشاعر يجب عليه ان يجتلب اللذة التى تهيؤها الرحمة والخوف بفضل المحاكاة، فمن البين ان هذا التأثير يجب أن يصدر عن تاليف الاحداث. فاللنظر الان فى الحوادث التى تقع: أيها يثير بطبيعته الخوف، وأيها يثير بطبيعته الرحمة. إن هذه الحوادث تقع بالضرورة بين أشخاص أصدقاء أو أعداء، أو لا هؤلاء. فإن كان الامر بين عدو وعدو، سواء التحما فى النزاع فعلا أو وقفاً عند النوايا، فإنه لا يثير الرحمة، اللهم الا فيما يتصل لوقوع المصيبة فحسب. والامر كذلك اذ تعلق باشخاص ليسوا اصدقاء ولا أعداء. أما فى جميع الاحوال التى تنشأ فيها الاحداث الدامية بين الاصدقاء، كأن يقتل أخ أخاه أو يوشك أن يقتله، أو يرتكب فى حقه شناعة من هذا النوع، أو كمثل ولد يرتكب الإثم فى حق أبيه أو الأم فى حق أبنها، أو الابن فى حق أمه – نقول ان هذه هى الاحوال التى يجب البحث عنها(1)
نستنتج من قول أرسطوطاليس (أما إحداث هذا الاثر عن طريق المنظر المسرحى وحده فأمر بعيد عن الفن ولايقتضى غير وسائل مادية) فيه مداركه لعدم البحث عن وسائل متقدمة تساعد فى تصوير العنف والحرب، دون ما تلجأ إلى المأساة فى شكلها المكتوب. ولكأن أرطوطاليس كان يدرك تطور آله المسرح، والدراما مثل السينما والتلفاز لكفيل بإحداث هذا الأمر لكنه ليس من باب فن المأشاة بشئ. لذلك يقول (فلما كان الشاعر يجب عليه أن يجتلب اللذة التى تهيؤها الرحمة والخوف بفضل المحاكاة ، فمن البين ان هذا التأثير يجب ان يصدر عن تأليف الأحداث). وربما كان أرسطوطاليس قد خشى التطور فى الآلة والأداة التى بمقدورها إحداث وتكوين مناظر تثير الرعب. لأن تطور الوسيلة يؤدى إلى تطور الرسالة نفسها.والرحمة والخوف بهذا الشكل والمعنى هما الأصل فى الإحساس بالتطهير (Catharsis) ويريد أرسطوطاليس بالتطهير تحول آخر فى المشاهد والجمهور، وهذه نقطة اخرى هامة فى مجال بحثنا عن طبيعة نظرية التطهير، فهى لا تكتف بالتحول على مستوى البطل أو الأحداث التراجيدية التى يتعرض لها الأبطال، بل تتطلب تحولا آخر لدى القارئ أو المشاهد لهذه المأساة تحولا فى ذاته. داخل نفسه يحس فيه بالخوف من الاقتراب من هذه الأفعال لذلك يجتنبها ويحذرها.
هنا نقول إن التحول (Transformation) الذى يحدث للجمهور والقراء الذى جاء باسم التطهير فى نظرية التطهير لأرسطوطاليس، هو إحساس سيكولوجى وفردى أما التحول المطلوب اليوم هو تحول جمعى ثقافى (Scio-Cultural Transformation) . ومن هنا يمكن أن ننظر إلى طبيعة التصميم الفلسفى (Philosophical Design) الذى صاغه أرسطوطاليس فى منظومة التطهير بوصفه تصميم ذو أثر نفسى، ويكرس للتعاطف الفردى مع الحديث بالتفريق (Separation) وهو ما قاد لاحقا إلى الإحساس بالسعادة واللذة فى مشاهدة الأحداث العنيفة. ويبدو واضحاً إن الفيلسوف اليونانى أرسطوطاليس لم يؤسس رؤيته على قواعد أنثروبولوجيه – ثقافية على الرغم من قوله (الإنسان يختف عن سائر الحيوان بوصفه أكثرها مقدرة على المحاكاة)، وهو قول به شئ من الأنثروبولوجيا المعاصرة. وربما كان أرسطوطاليس يضع نصب عينيه المجتمع اليونانى فى القرن الثالث قبل الميلاد، لذا لم يكن يضع حسابا لتطور هذه النظرية واستفحالها عبر التاريخ وتحولها إلى منظومة عالمية، ومنظورا نقدياً للظاهرة الدرامية، ولما كانت منظومة التطهير قد ارتبطت ببراعة الكتاب فى اكتشاف وسائل الإحساس باللذة والتشويق لدى المشاهد نجد أن ثمة تطور كبير قد جرأ على هذه النظرية، ونسبة لتطور أجهزة الاتصال ووسائل البث، نقف اليوم على حقيقة (أفلام العنف) والحرب) بما وفر وكثف ثقافة الحرب فى المجتمع المعاصر.
إمتداد أثر أرسطوطاليس فى الدراما:
أمتد أثر ارسطوطاليس فى البناء المسرحى والدرامى عبر التاريخ المسرحى والفكر الدرامى فكتبت المسرحية فى كافة أنحاء العالم على الطريقة التراجيدية والارسطية. بل هناك عدد من النقاد والمفكرين من أسهموا إسهاما كبيرا فى إنعاش ودراسة كتاب (فن الشعراء) لأرسطوطاليس وإحياء الأسس الفلسفية التى أرساها أرسطوطاليس. فبالاضافة إلى كتاب (فن الشعر) لهوراس (*) 224 ق.م فى فترة الامبراطورية الرومانية نجد فى بداية عصر النهضة عودة أخرى إلى الكلاسيكية التى امتدت فى الفترة 1460 – 1700 م ومن النقاد الذين اشتهروا فى تلك الفترة الناقد الإيطالى كاستلفترو Castelvtro Lodouic 1505 – 1575 م. الذى ترجم وعلق على كتاب (فن الشعر) لأرسطوطاليس. ولقد كتبت المسرحية التراجيدية فى المسرح الإليزبيثى (Elizabethan) على النمط التراجيدى، فأشتهرت مسرحيات وتراجيديات الكاتب الإنجليزى ويليام شكسبير (Shakespeare) بإمكاننا مشاهدة المآسى والعنف، والدماء تسيل فى مسرحية ماكبث (Macbeth) التى يقتل فيها (ماكبث) ضيفة (الملك دنكان) فى مشهد فظيع ثم يتركه سابحا فى دمائه أثر طعنة بخنجر ماكبث، ولازال (منلوج الخنجر) – وهو الحديث الذى ردده ماكبث ممسكا بالخنجر ومقدما على الحدث ومشهد الخنجر يعتبر من المشاهد ذات الأثر الكبير فى الآداء الدرامى ولازال يحظى بالتمثيل من قبل طلاب الدراما فى كافة أنحاء العالم وهو مشهد عنيف وفظيع. وفى مسرحية عطيل (Othello) نرى العنف والقتل بسبب الغيرة. القتل والذبح من أجل الكرامة " والعنف فى مسرحية عطيل هو فى الغالب عنف وتحطيم من أجل الكرامة"(1) فى مسرحية عطيل يقتل عطيل ديدمونة، ثم يقتل نفسه فى صورة مرعبة، وهو مشهد يفضله أساتذة الأداء الدرامى فى تدريب الطلاب على الآداء المسرحى.
هذا القتل والعنف والحروب الذى نشاهده فى الدراما العالمية عبر شاشات التلفاز والسينما وصالات العرض المسرحى الحديثة عميق الأثر والجذور فى الدراما اليونانية وترتكز على مبدأ (التطهير) كوسيلة للتحول نحو الأفضل. فالفرق بين التراجيديا اليونانية فى فترة ما قبل الميلاد كان الابطال فيها من أنصاف الآلهة، أو الأساطير أو أبطال خرافيون، أما فى مسرح شكسبير أصبح الأبطال من النبلاء والملوك أى صاروا أكثر قربا إلى الجمهور والمتلقى، وفى القرن التاسع عشر وبعد ظهور تيار الواقعية(*) فى المسرح، حيث انتقل العنف إلى داخل المجتمع على يد الكاتب النرويجى جوهانك هنرك ابسن والسويدى استراندبيرج. وعصر الدراما الواقعية بدأ ينذر عن أزمة الإنسان الغربى، أزمة الوجود والإحساس بالحياة والتاريخ بصورة أعمق وأكثر فلسفة وهو عصر المنظومة To feel is to exist (1). ثم جاء القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الأولى والثانية وقف إنسان القارة الأوروبية على حقيقة العنف والفوضى والموت والدمار الذى بسبب الحرب فطغى الانسان لدى المفكرين والفانيين الغربيين بالخيبة واليأس " العنف الذى يمثل اليوم على خشبة المسرح هو عنف من أجل التطهير وأحيانا هو بحث عن الإحساس بالعصر. أو الكذب الذى يخترعه الانسان نفسه ليتجنب واقعية الحقيقة"(2) ، ومن هذا الإرث المتراكم والإحساس بالعدم وأزمة الإنسان الأوروبى ظهرت فى النصف الأول من القرن العشرين بوادر مسرح القسوة (Theater of Cruelty) وهو إمتداد للتطهير بصورة أعنف ومنطق أقوى، التطهير من الحياة عامة. لكل ذلك سأقوم فيما يلى بتحليل هذا التيار الذى يهدف إلى (العنف للتخلف من العنف)، وهو ذات الأسلوب الذى يؤكد لنا وقوف المسرح الأوروبى على حقيقة البحث عن وسيلة للسلم عن طريق التحول والتغيير وان قاد كل ذلك إلى مزيد من العنف.
القسوة لانتونين آرتو (1896 – 1948 )(*)
لم يمر على تاريخ القارة الاوروبية ناقد مسرحى ومنظر بمرارة انتوين آرتو. بل لم يكن أنتونين أرتو منظرا مسرحيا أو ناقداً أو شاعراً فحسب بل كان حالة من حالات تعرى الحضارة الغربية. ولقد ثار انتونين آرتو على الثقافة والحضارة الأوروبية وتمرد على أسبابها بصورة واضحة يقول " لم يكثر الحديث عن الحضارة والثقافة أبداً كما يكثر الآن، حتى عندما تذهب الحياة ذاتها، وهناك توازى غريب بين هذا الانهيار العام للحياة، الذى هو أساس فقدان الروح المعنوية حاليا وهو الاهتمام بثقافة لم تطابق الحياة أبدا، بل جعلت لكى تحكمها. قبل ان اعود الى الحديث عن الثقافة، أرى ان العالم جائع، وانه لا يهتم بالثقافة، وان الرغبة فى إرجاع الافكار التى لا تلتفت الا إلى الجوع إلى الثقافة، لايمكن ان تتحقق إلا بطريقة مفتعلة. لا أظن أعجل الامور هو الدفاع عن ثقافة لم ينقذ وجودها أبدا إنسانا من الاهتمام بالجوع وحياة أفضل. الأمر العاجل هو أن نستخلص بما يسمى ثقافة أفكارا قوتها الحية قوة الجوع. نحن فى حاجة إلى أن نحيا، وإلى الإيمان مما يجعلنا نحيا. ولا ينبغى أن يعود إلينا مايخرج من داخلنا الغامض باستمرار فى صورة اهتمام فقط بالهضم(1).
بمثل هذا الحديث ينتقد آرتو الحياة الثقافية فى أوربا، رادا أزمة الإنسان الغربى إلى طبيعة العصر وعدم توفر الإنسان الأوروبى على ثقافة وإنتاج إبداعى كفعل يخلق التواؤم بين الإنسان وبيئته. يرى آرتو إن الثقافة الاوروبية ثقافة زائفة، والانسان الاوربى هو الآخر مزيف وهو إنسان بلا إيمان وبلا إحساس حقيقى بالحياة ويرى آرتو قد اصبحت الثقافة الغربية ثقافة للأشياء ، أى بمعنى ان نظم الحياة ودلالات الاشياء والتكنولوجيا لقد صارت هى الاساس مما جعلها تفرض نظما على الحياة والتفكير وهو ماقاده الى دعوة فحواها التفريق بين الاشياء والافكار فيقول فى هذا الصدد " إذا كان الخلط سمة العصر، فإنا أرى فى أساسه انقطاع بين الاشياء والكلمات، والافكار والعلامات الدالة عليها. لا تنقصنا نظم التفكير طبعا، فعددها ، وتفاقمها ، يميزان ثقافتنا العتيقة فى أوروبا وفرنسا، لكن ، فيما نرى أن الحياة – حياتنا – تأثرت بهذه النظم. أقول إن النظم الفلسفية شئ يمكن أن يطبق حالا ومباشرة. فأما ان هذه النظم فينا وتشبعنا بها لدرجة العيش منها، وعندئذ نقول: ما أهمية الكتب ؟ وإما إننا لم نشبع بها، ومن ثم لم تكن لتستحق حملنا على الحياة، ما أهمية زوالها على كل حال"(1)
هذا هو ما يعنيه آرتو بالثقافة الزائفة أو مايمكن أن نطلق عليه التعبير (تشيؤ) من شئ وأشياء. فثقافة الأشياء هى التى خلقت (متحضرا ومثقف زائفا) فى رأى آرتو وهو كائن غير أصيل لأن كل ما تعلمه هو ثقافة الأشياء التى تخلق انفصالا بين الإنسان وطبيعة حياته، لأن آرتو يرى الإنسان المتحضر هو الذى ينطبق سلوكه بما فى داخله من وعى حضارى، غير أن نظم الحياة والتطور فى الآلة خلق نوعا آخر من المثقف والمتحضر فيقول فى هذا الصدد " نحكم على الإنسان المتحضر فى سلوكه، وتفكيره. لكن الآراء لا تتفق على كلمة متحضر نفسها. الإنسان المتحضر المثقف فى نظر الجميع هو ذلك الإنسان الذى يعرف النظم، ويفكر من خلال النظم، والاشكال ، والعلامات ، والصور إنه وحش نمت عند إلى درجة لا معقولة، قدرتنا على استخلاص بعض الأفكار من أفعالنا ، بدلا من مطابقة أفعالنا لأفكارنا(1).
وينظر آرتوا إلى العنف اليومى والدمار والحروب. كنتاج لانتقام الأشياء، ثم يدعو دعوة صريحة إلى ضرورة مراجعة الأفكار "يجب أن نعيد النظر فى افكارنا عن الحياة، فى زمان لم يعد شئ فيه يلتحم بالحياة، وهذا الانفصال الأليم هو سبب انتقام الأشياء. ويظهر الشعر الذى لم يعد فينا، والذى لم نعد نعثر عليه فى الأشياء ثانية، يظهر فجأة من الجانب الردئ للأشياء. أن نرى هذا القدر من الجرائم أبدا، ولايفسر غرابتها المجانية إلا عجزنا عن امتلاك الحياة"(2) هنا يدعو آرتوا إلى شكل آخر يجعل الإنسان أكثر موائمة مع الطبيعة، شئ يعيده إلى حضارته وروحها، ويخلصه من هذه الثقافة الزائفة، فيصبح متوائما مع الطبيعة، ولكان آرتو يدعو إلى تطهير آخر، تطهير أشد قوة من التطهير الذى دعى إليه أرسطوطاليس، فبعد مرور ثلاثة وعشرين قرن على الإنسان الأوروبى، لم يعد التطهير الأرسطى قادرا على إحداث سحره السيكولوجى والفلسفى، فلا بد من عنف فى التطهير وهو ما أطلق عليه مسرح القسوة (Theatre of Cruelty) . فالقسوة (Cruelty) هى دعوة أخرى للتطهير، إمتداد آخر أكثر عنفا، وليس ذلك بغريب إن قلنا ما أنتونين آرتو إلا امتداد آخر لأرسطوطاليس فىدعوته إلى تجنب (إنتقام الأشياء) ، والبحث عن منطق للطبيعة يوفر ضربا من الموائمة مع الطبيعة، فالقسوة فى المسرح كما يدعو لها آرتو هى الوسيلة التى تعيد الإنسان إلى الطبيعة، وسيلة إلى التحول الإيجابى بما يشمل التخلى عن الجرائم الفظيعة، والحروب والاقتتال.
لكن كما نرى لاحقا لقد اتخذت الدعوة للقسوة عرض القسوة على الجمهور مما كثف وعمق الحب للقسوة ذاتها. شئ أشبه بعرض البطل المأساوى من اجل التطهير، فأصبحت أفعال البطل هذه أساس للذة، كذلك أصبحت القسوة تأخذ لذة نفسية.
مسرح القسوة:
يشكل مسرح القسوة الأسس الفلسفية والمرتكزات الفكرية للمسرح الأوروبى فى نهاية القرن العشرين وتياراته المعاصرة بالتحديد مثل تيار (مسرح العبث)(*)، (مسلاح اللا معقول)(*) (ومسرح العدم)(*). لكن أول من دعى إلى القسوة فى المسرح برؤية فلسفية هو الشاعر والناقد الفرنسى (أنتونين آرتو)، ذلك بعد اصداره أول منفستو يقول فيه " لايمكن الاستمرار فى تحقير فكره المسرح، ولا قيمة له إلا بالارتباط السحرى الوثيق بالواقع والخطر على قضية المسرح، اذا طرحت بهذه الطريقة أن تثير الانتباه العام، مادام معروفا ضمنا أن المسرح ، بجانبه المادى، ولأنه يتطلب التعبير فى الفضاء – وهو التعبير الوحيد الحقيقى ، فى الواقع – يمكن الوسائل السحرية للكلمة والفن من أن تمارس ممارسة عضوية تامة"(1). وتمثل الجملة الأخيرة فى هذا الطرح (ممارسة عضوية تامة) الأصل فى فلسفة آرتو وعرض العنف على خشبة المسرح بغرض التخلص من العنف. عرض القسوة للتخلص من القسوة. وهو أسلوب غير ذى جدوى فى طلب التحول إلى الأفضل، فالدعوة إلى القيم الفاضلة يمكن أن تتم بعرض الفعل الخير وحث الناس على المشاركة فيه ويمكن أن تنبئ على شكل التصميمات الثقافية الدرامية التى تعتمد على منهج التحول الثقافى والاجتماعى ذى الأصول الفلسفية وهو ما نلاحظه لاحقا فى المسرح التنموى ويدعو آرتو إلى ما أطلق عليه التعبير (ميتافيزيقا الكلمة) ويوضح ذلك بقوله " ليست المشكلة هنا أن نخلق نوعا من الإغراء، والجاذبية، حول هذه الافكار لتعطينا كل من السخرية الفوضوية، والشعر الرمزى المصور، فكرة أولى عن الطريقة التى يجب أن يوجه به إغراء تلك الأفكار"(1) وعلى الرغم من غموض حديث آرتو لكن يمكن استبانة مفهوم الإغراء والجاذبية اللتين يدعو لهما صراحة أما قوله الشعر الرمزى المصور فهو قمة الغموض والتناقض فتصوير الرمز مسألة تصب فى فك الرمز، لكن من الواضح إن آرتو يسعى إلى حيلة مادية تمكنه من عرض الأفكار العنيفة والأخيلة الفظيعة على خشبة المسرح على الجمهور، وهى اللغة التى يريد لها أن تحل محل لغة النص المسرحى المقروء. فآرتو يذهب إلى خلق مسرح محسوس، يقوم على الحركة، والرقص، والملامسة الفيزيولوجية للجمهور ليطرح بعض الأفكار والسياقات والأخيلة ويقول فى ذلك " ولنتحدث الآن عن الجانب المادى لهذه اللغة، أى عن الوسائل وكل الطرق التى تؤثر بها فى الإحساس. عبثا نقول إنها تلجأ إلى الموسيقى، والرقص، والبانتوميم (التمثيل الصامت)، والإيماءات. من الواضح أنها تستخدم الحركات، والموسيقى، والإيقاع، لكن الدرجة التى تستطيع بها الإسهام فى نوع من التعبير المركزى فقط، دون أن يفيد منها فن بعينه، ولا يعنى هذا أيضا إنها لا تستخدم الأهواء والوقائع العادية، لكنها تستخدمها كويلة كما إن السخرية الهدامة قادرة على استمالة عادات العقل بالضحك. تستخدم هذه اللغة المسرحية الموضوعية المحسوسة فى الإحاطة بالأعضاء وتثبيتها، إحساس شرقى بحت بالتعبير. فهى تجرى فى الإحساس وإذ تتخلى عن الاستخدام الغربى للكلمة، تجعل من الكلمات تعزيما، وتدفع الصوت"(1).
ويكون ذلك المعنى واضح، عندما يدعو آرتو إلى لغة مسرحية موضوعية تحيط بالأعضاء الإنسانية وتثبيتها، وقول آرتو فى التخلى عن الاستعمال الغربى للكلمة فى المسرح والبحث عن إحساس شرقى بحت التعبير، يوضح لنا مدى تأثر آنتونين آرتو بالطقوس والاحتفالات الدينية الشرقية، فهو مثل غيره من الدراميين الغربيين لقد أعجب آرتو بالفلسفة البوذية، بل قدم بعض التعويذات والابتهالات للإله بوذا وكان لهذه الفلسفات والثقافة الشرقية أثر كبير على صناع المسرح الغربى أمثال جيرزى جروتوفسكى (*) Jerzi Grotowski ، ونلاحظ ذلك فى خطابات جروتوفسكى إلى صديقه أوجنو باربا Euqion Barba والذى يقول فيها "لقد كانت رجعة رائعة وغير عادية. كلكتا هى مقرى الآن. لقد ذهبت إلى راما شكريشانا Ramakrishna ولقد التقيت بالسيد بأول (اليوقا عبر الغناء والرقص) الذى سخر لنا زمنه فى عمل الترشيح المناسب للمثل الذى كنت أرغب فيه. كما هو مدهش أن نرى بعض الأفكار عن الحرفة موضوعية وموجودة حقيقة"(2). وثورة جروتفسكى مثل ثورة آرتو على الثقافة الغربية. فكل منهما بحث عن تكنيك خاص للعرض المسرحى للخروج من نظرية أرسطوطاليس.
لم يكتنف نتونين آرتو بصياغة نظرية (القسوة) بل ذهب إلى درجة البحث عن الشكل والإخراج المناسب منطلقا من الرؤية التالية فى قوله "نريد أن نجعل من المسرح واقعاً يمكن ان نؤمن به، ويشتمل على تلك العضة المحسوسة التى يشتمل عليها كل إحساس حقيقى، من أجل القلب والحواس. كما تؤثر أحلامنا فينا، ويؤثر الواقع فى أحلامنا، نعتقد أنه يمكن تشبيه صور الفكر بحلم يصبح فعالا بالقدر الذى يلقى به بالعنف اللازم. ولسوف يؤمن الجمهور باحلام المسرح. بشرط أن يأخذها على انها احلام حقا، لا نقل للواقع، بشرط أن تمكنه من أن يحرر نفسه، حرية الحلم السحرية التى لايستطيع أن يتعرف إليها إلا إذا انطبع فيها الارهاب والقسوة، من ثم، كان استدعاء القسوة والرعب لكن على نطاق واسع"(1)
من ذلك نكتشف إلى أى مدى بلغ آرتو مداه الشاسع فى الدعوة إلى ضرورة عرض الرعب والقسوة والأحلام على المتفرج حتى يمكنه من الإحساس بالحياة فهو يقول (العضة المحسوسة). وينتقد آرتو كل أساليب الإخراج المسرحى السابقة فيدعو إلى إخراج آخر فيقول " لا مجرد درجة انعكاس النص على المسرح، بل نقطة انطلاق لخلق مسرحى، اللغة المسرحية النموذجية، ويذيب استخدام هذه اللغة وتداولها الازدواج القديم بين المؤلف والمخرج، الذين يستبدلان بخالق واحد، تقع على عاتقه مسئولية مزدوجة " العرض والاحداث"(2).
ولكى يطبق هذه الرؤية عمل انتونين آرتو على استبدال صالة العرض بمكان للتمثيل (Acting Area) يساعده فى إقحام المشاهدين فى العرض والمشاركة فيه قسرا فيقول " سلغى خشبة المسرح والصالة، ونستبدلهما بمكان واحد، بلا حواجز من أى نوع، يصبح مسرح الأحداث ذاته، ونعيد الاتصال المباشر بين المتفرج والعرض، والممثل والمتفرج، نظرا لأن المتفرج الذى وضع وسط الأحداث محاط ومتأثر أيضاً بها. ووضع المتفرج هذا ناتج عن شكل البهو (والصالة) ذاته"(1). كان انتونين آرتو يسعى إلى مزيد من الدهشة ومزيد من التأثير على المشاهدين حتى وإن قاد كل ذلك إلى إجبار المشاهد على المشاركة فىالعرض قسراً.
لعل آرتو كان يرغب فى خلق أجواء السحر، وخلق أماكن لعروضه تفوح منها رائحة الاساطير والرعب والخوف، المشوبة بالتقديس، أى أنه بحث عن نوع آخر من أنواع التطهير " سنهجر صالات العرض الموجودة حالياً، وننتقل إلى مخزن أو حظيرة (جراج) نعيد بنائهما وفقا للأساليب التى ادت إلى إنشاء بعض الكنائس، والاماكن المقدس، ومعابد التبت العليا"(2).
بحث آرتو كثيرا عن شئ يخلصه من الخواء الروحى، بحث عن دين يعيده للتماسك ويعطيه الأمان فى عالم ملئ بالعنف، فتأثر بالطقوس والاحتفالات الدينية الشرقية. ويمكننا القول أزمة آرتو هى أزمة إنسان القارة الأوروبية منذ مطلع القرن العشرين، لقد كان آرتو صريحا على الرغم من حالته النفسية المريضة، فكان كل مرة يقضى أوقات طوال فى المصحات النفسية.
لقد بدى أنتونين آرتو تبرما بالمسرح الكلاسيكى ويرى أن القسوة التى تتم فى مسرحية (أوديب ملكا) لم تعد تتناسب مع جمهور اليوم، فيقول "روائع الماضى تصلح للماضى، لكنها لا تصلح لنا. وحقنا أن نقول ما قيل وحتى مالم يقال بطريقة خاصة بنا، طريقة مباشرة، تتفق مع طرق الإحساس الحالية، تلك التى يمكن أن يفهمها الجميع ومن الحماقة أن نعيب على الجماهير عدم إحساسها بالسمو، عندما نخلط بين السمو وأحد مظاهر الشكلية، وهى ميتة دائما. وعلى سبيل المثال، اذا كانت الجماهير الحالية لاتفهم (أوديب ملكا) فأنا أقول إن الذنب ذنب تلك المسرحية لا ذنب الجمهور"(1).
قول آرتو (السمو) يعنى به (التطهير) وهذه هى نقطة الالتقاء بين انتونين آرتو وأرسطوطاليس، فهو يرى إن مث لهذه الروائع لم تعد تتناسب مع هذا العصر، لم تعد تعبر عن إنسان القرن العشرين، وفى هذا القول تطابق مع قول جون ألين John Allen فى كتابة تاريخ المسرح فى أوروبا A History of Theatre in Europe ، حينما تحدث عن فشل مسرحية الأورستياء ومشهد قتل اجاممنون بواسطة زوجته فى الموسم المسرحى عام 1981 بلندن (2) لن يستحوذ على إعجاب المشاهدين لدرجة أنهم رددوا عن عادية المشهد.
وأخيراً يواجه آرتو المشكلة بوضوح حينما يتحدث عن البنية النفسية للجمهور الذى يستهدفه بمسرح القسوة، فهو جمهور القرن العشرين الذى تعود على الكوارث والمذابح فلا يمكن أن يتجاوب إلا مع ما يناسب هذه الاحداث " يستطيع الجمهور الذى ترتعد فرائضه عندما يسمع عن كوارث السكك الحديدة، ويعرف الهزات الأرضية، والطاعون، والثورة، والحرب ويحس بآلم العشق المطربة"(3).
إلى هنا يمكن أن نختتم حديثنا حول مسرح كل من أرسطوطاليس وآرتو، اللذين بحثا على مدى ثلاثة وعشرين قرن عن مسرح يؤثر على الجمهور ويحيله إلى جمهور (متسامى) أو (متطهر) من ارتكاب الفظائع فبينما بحث الاول فى (التطهير)، اقترح الثانى (القسوة) والعنف.
ويكشف لنا بحثنا فى هاتين الرؤيتين (التطهير) و (القسوة) نقطة جوهرية وأساسية تشكل محور بحثنا وهى ضرورة البحث عن دراما أخرى، مسرح بديل للتغيير والتحول، دون اللجوء إلى العنف فى شكل القسوة أو التطهير، وهذه النقطة الفارقة هى أن كل تيارات المسرح الغربى كانت تفصل بين الإنسان وثقافته، لقد نشأت الدراما الغربية بهذا الخطأ المنشئ حين " قام فى القرن الخامس ق.م. تيسبس This bis بالخروج عن كورس الكهنة الذين يقومون بآداء الشعائر الدينية لإله الإغريق دينيسوس، ليكون أول ممثل Actor ويصبح هناك مشاهد Spect/Actor ، هذا الفصل بين الإنسان وموضوعه، بين الذات والمضمون هو ما لم يكتشفه المسرح الغربى. وهذا الانفصال بين الانسان كموضوع وبين أحاسيسه كمضمون ، والذى يظهر فى نظرية التطهير التى ترمى إلى (محاكاة) الأحاسيس بواسطة ممثلين، لقد خلق دينامية أخرى، وسلطة أخرى للمحاكاة وهى أن الناس بدؤوا يحسون بلذة أقوى وأشد حينما يرون هذه الأحاسيس الفظيعة تؤدى على الخشبة، ثم تطور هذا الإحساس بتطور وسائل المحاكاة نفسها مثل (السينما) و(التفاز) فأصبحت الدراما تقود إلى العنف، بل أصبح عنصر العنف والحروب عناصر أساسية فى الدراما الحديثة، مما يجعلنا ننظر إليها كحالة من حالات ثقافة الحرب. وهنا يمكن القول إن نظرية المحاكاة والمسرح التمثيلى التى بدأت بأرسطوطاليس وبلغت ذروتها على يد انتونين آرتو هى نظرية قادت إلى عكس فحواها، وهدفها ، فبدلا من أن تصبح أداة ردع وتخويف من العنف أصبحت أداة لنشر العنف، وهو ما يمكن مشاهدته فى الدراما التلفازية، وما تحتويه من عنف.
نموذج برتولد(*) برخت وابرفت لبسكاتور(*):
تصميم أيديولوجى / ماركسى:
كان أول من طور المسرح التحريضى هو الألمانى والمخرج الماركسى إبرفت بيسكاتور وهو الذى اقترح المفردة والمصطلح (Agitrprop) وهى لفظة مكونة من كلمتين (Agitation) وتعنى تحريض و (Propaganda) وتعنى دعاية ومن اشهر مؤلفات بيسكاتور كتابة (المسرح السياسى) الذى ترجم إلى عدد من اللغات العالمية بما فى ذلك اللغة العربية. وكان هدف بيسكاتور هو إشباع الاشكال الدرامية القائمة سواء (الطبيعية)(*) أو (التعبيرية)(*) بوضوح جديد وهكذا يقدم للمسرح هدفا اخلاقيا واجتماعيا محددا وفوق كل هذا كان على الخشبة – خشبة المسرح – أن تكون أداة سياسية بأوسع المعانى يجب أن تكون مخرا علميا يتعامل مع الحقائق، ويعالجها موضوعيا(1) لعب نموذج بيسكاتور دورا كبيرا فى جعل المسرح وسيلة لنقل الافكار والايدلوجيا خاصة وسط قطاعات العمال والمجموعات المستهدفة بالخطاب السياسى ويعتبر الشاعر الالمانى برتولد برخت أحد تلاميذ بيسكاتور فهو الذى طور هذا النوع من المسرح والدراما. وإضافات برتولد برخت فيها اعتراف كامل بأهمية بيسكاتور ومسرحه فهو يقول أنه " دون شك واحد من اكثر رجال المسرح أهمية فى كل الأزمنة"(2).
قام برتولد برخت بإحداث تطور على مستوى نظرية الدراما، وشكل العرض. وكان هدفه خلق مسرح غير (درامى)، مسرح (ملحمى) أى لايتبع قوانين الدراما التى قال بها أرسطوطاليس. بل هو مسرح يعتمد على (الملحمية) – من ملحمة – ولقد استفاد فى ذلك من التعبير الماركى "الاغتراب Alienation " لكن بعد زيارته لموسكو فى عام 1935 ومشاهدته: عرض فرقة فى – لان – فانغ الصينية صاغ علميا كلمة "Vertremduna" والتى تعنى التغريب لتعطى السمة التى حددها بوضوح أكبر. فقد رأى برخت أن المسرح الرمزى الصينى لم يتظاهر أبدا بأنه لا وجود للجمهور، ولقد لفت هذا الامر نظره إلى ضرورة خلق نوع من المسرح يشرك فيه الجمهور. كان الممثل الصينى ينقل العاطفة دون أن يكون هو ذاته عاطفيا وكان دائما فى حالة انضباط كما فى اى عرض طقسى قول برخت عن المسرح الصينى (ينقل العاطفة دون أن يكون هو ذاته عاطفيا) به نقد للرحمة والخوف أصل التطهير فى نظرية أرسطوطاليس فكونه (غير عاطفى) هذا يعنى أنه لايكرس لبطل محدد، أما (ينقل العاطفة) أى انه يؤثر على الجمهور. وهذا هو الاساس الفكرى للمسرح الملحمى، مسرح يعتمد على تطوير الأفكار وسط الجمهور دون التكريس إلى بطل بعينه، أى البحث عن بطل (ملحمى وسط الجمهور) أى لايتبع قوانين الدراما التى قال بها أرسطوطاليس بل مسرح عن المفهوم الدرامى، منطق الدراما يعتمد على الملحمية والاحتفال دون ان يكون هو ذاته عاطفيا، وكان دائما فى حالة انضباط كما فى أى عرض طقسى وهكذا سعى برتولد برخت إلى خلق مسرح موضوعى ليبتعهد عن الإيهام وهنا أورد الأسس التى اشترطها برخت.
1- الممثل: طالب الممثل بأن (يعرض) لا أن يكون محاكيا "وقد دافع برخت عن عدد من الحيل فى التدريب لتشجيع ذلك الممثل أن يتكلم بلغة الغائب، أو بصفة الماضى أو حتى ينطق الارشادات المسرحية مثل نهض، ولم يكن لديه شئ يأكله قال غاضبا ؟ وعلى الإيماءة أن تشير عن وعى إلى مشاعره الداخلية، وكأن الممثل يراقب بشكل مرئى حركاته هو. ويجب أن يكون الخطاب موجها مباشرة للجمهور وبشكل كامل ، خلافا للهمس الجانبى التقليدى الذى يقال بسرعة.
2- مصمم الديكور: على طريقة بيسكاتور يجب أن يستغنى عن الوهم والرمزية، وينشئ الديكور حسب حاجيات الممثل. ولايجوز أن يكون هناك جدار رابع (*) باستثناء بعض الأدوات ويجب ان تكون الخشبة عارية، أى مجرد فراغ متفوح تحكى فيه قصة. ويجب أن يجرى تغيير الديكور على مرأى من المشاهدين، وإذا كان هناك ستارة، يكتفى بربطها بخيط عبر الخشبية. وبهذه الطريقة، يتم وصل الجمهور بالخشبة، لا فصلهما، وبذلك يشجع توجيه الكلام مباشرة إلى الصالة.
3- المؤلف المسرحى: يجب أن يبنى مسرحيته على سلسلة من الأحداث، ويضع كل مشهد عنوانا مكتوبا يبقى فى مكانه إلى أن يستبدل بآخر وأن يقدم وصفا تاريخيا لحدث المشهد. ولقد كان التأريخ مفهوما آخر من مفاهيم التعبيد (التغريب) وهو تعزيز الوعى بأن الحدث يجرى وكأنه فى الماضى ويجعل الحاضر يبدو غريباً.
4- المخرج: يجب عليه تجميع أو صف الممثلين على الخشبة، لا لمجرد تحقيق شكلية من الترتيب الجيد، وإنما جوهريا لتوضيح بنية العلاقات الإنسانية فى مسرحيته.
5- مصمم الإضاءة : عليه أن يتخلى عن فكرة إخفاء مصادر الضوء لتحقيق تأثير خفى ليشد الجمهور إلى الحدث، وبدلا عن ذلك ، يجب أن يكون جهاز الإضاءة مرئيا بشكل كامل بحيث يكون المشاهد واعيا لوجوده فى المسرح. يجب أن تكون الخشبة مضاءة بضوء أبيض بسيط حيث يبدو الممثل فى عالم المشاهد ذاته.
6- مؤلف الموسيقى: عليه أن يعبر عن فكرته عن موضوع المسرحية بشكل مستقل وبذلك يؤمن تعليقا منفصلا عن الحدث الذى ينبغى أن يكون دائما فى صراع مع سلوك الشخصيات.
تحليل ونقد نموذج بسكاتور برخت:
من الواضح إن تصميم برتولد برخت فى المسرح الملحمى يقوم على نقيض تصميم أرسطوطاليس فهو يسعى إلى اشراك الجمهور فى استقبال الرسالة دون إيهام، ذلك يحيله (التغريب) ويمكن النظر إلى هذا النموذج بوصفه تصميم مسرحى (فلسفى) يحتوى على إمكانية ارحب إلى تضييق شقة التفريق (Separation) بين المشاهد والممثل. وهو أكثر واقعية وأقرب إلى طبيعة المسرح الذى يهدف إلى رسالة محددة.
هذا النموذج ينطوى على عيب أساسى وجوهرى، فهم يهتم بالمشاهد كمتلقى للرسالة دون إشراك المشاهد فى صنع الرسالة. وهذا العيب يكمن فى الأصول الفكرية الماركسية لهذا النوع من المسرح لأنه اعتمد نمط (Agitprop) لبيسكاتور فى المسرح السياسى فهو مسرح يهتم بتوصيل الرسالة للجمهور ويذهب إلى خلق نوع من أنواع الاحتفال بالفكرة المحددة لكن هذه الرسالة تأتى من مصدر واحد لا يشرك فيه الجمهور، مثل هذا النموذج يقلل من الرسالة إذا كانت تهدف إلى التحول الاجتماعى الذى ينطلق من مفاهيم المجتمع نفسه خاصة المجموعات البسيطة والقواعد (Grassroots) فهو لايذهب إلى تفجير مثل هذه المفاهيم من الـ (Grassroots) ثم محاولة تطويرها إلى أشكال درامية كما سنلاحظ لاحقا فى المسرح التنموى. يكتفى بإيصال الرسالة، ويمكننا القول فى ختام هذا النموذج إنه أشرك الجمهور ووضع له حسابا واعتبارا بالاضافة إلى محاولة التخفيف من عملية الإبهامكما هو لدى المسرح الارسطى. لكنه لازال يحتفظ بثنائية الفصل بين (المشاهد) كموضوع و (الممثل) كفعل هى الثنائية التى كرست لمفهوم التطهير أو التسامى وهى ذات الثنائية التى تحمل بين طياتها مفهوم العنف المتفشى. لا زالت هناك رسالة ذات مصدر واحد، هذا المصدر هو السلطة، الرسالة لازالت فوقية
نقد نموذج جيرزى جرتروفسكى(1) واجينوبربا(*)
نموذج التجريب وأنثروبولوجيا المسرح تصميم فلسفى معملى:
فى عام 1959 م أسس المخرج البولندى جيرزى جرتروفسكى مختبر المسرح فى مدينة أوبول الواقعة فى الجنوب من بولندا والتى يبلغ عدد سكانها (60.00 نسمة)(2) ويكشف الاسم نفسه عن طبيعة هذا المسرح، والذى هو ليس مسرحا بالمعنى المعروف بل هو معهد للبحث فى الدراسات المسرحية وفن التمثيل المسرحى. ولقد استفاد جيرزى جرتروفسكى من تجربة برتولد برخت وآرتو، كما نقد مسرح استاسلافسكى(*) فى التقمص الذى يعتمد على نظرية أرسطوطاليس فهو يقول فى رده على أحد النقاد " من الضرورى كما أظن التمييز بين الأساليب وعلوم الجمال مثلا شرح برخت الكثير من الاحتمالات الممتعة جداً عن طريق التمثيل تقضى بأن يتحكم الممثل تحكما منطقيا بفعالياته، التغريب. ولكن لم تكن هذه فى الحقيقة طريقة. إنما بالأحرى يطلب إلى الممثل القيام بواجب جمالى. ولأن برخت لم يسأل نفسه السؤال التالى:" كيف يمكن تحقيق هذا" ؟ ولو أنه قدما شروحا معينة ولكنها عامة وبكل تأكيد درس برخت تقنية الممثل بكل تفاصيلها ولكن دائما من وجهة نظر المخرج وهو يراقب الممثل.وحديث جيرزى جرتروفسكى يكشف عن الاتجاه العلمى والتجريبى الذى اعتمد عليه فى مختبره. لعل ما يميز جيرزى جرتروفسكى فى تبيان منهجه ذلك الإطار الفلسفى الذى مثل رؤيته الفكرية وجاء بعنوان (بيان المبادئ). ونجد فى هذا البيان محاولة أخرى إلى اكتشاف تمارين لطرد التوتر النفسى وجعل المسرح وسيلة لتحدى الحياة المعاصرة فهو يقول " يتميز وقع الحياة فى المدينة المعاصرة بالسرعة والتور والشعور بالفشل المحتم والرغبة فى التستر على دوافعنا الشخصية وانتحال ادوار متنوعة وأقنعة مختلفة فى الحياة. تختلف فى الأسر عنها فى العمل بين الأصدقاء أو فى المجتمع(1)" فيتضح إن جيرزى جرتروفسكى خرج من عباءة آرثو ذلك لما كيشفه حديثه عن نغمة على الحياة المدنية – أى الحضارة الأوربية – فقوله (إنتحال أدوار متنوعة) يشبه حديث آرتو عن المثقف الزائف ، والثقافة الزائفة كما ورد فى هذا البحث سابقا. ويمكن القول إن تجارب جيرزى جرتروفسكى هى الأخرى بحثت عن تطهير وتسامى ذلك عندما يحدث عن فلسفة الفن فيقول " لم التضحية بكل هذه الطاقة من أجل الفن ؟ لا لكى نعلم الاخرين بل لنتعلم معهم ما يمكن تعلمه من حياتنا وكياننا الحى ومن تجربتنا الشخصية التى لاتتكرر، نتعلم تحطيم الحواجز المحيطة بنا من العوائق التى تحد منا ونتحرر من الكذب على انفسنا، هذا الكذب الذى نلفقه يوميا لأنفسنا وللآخرين ونحطم القيود التى يفرضها جهلنا والحبن فينا باختصار لنملأ ما عندنا من فراغ. لنحقق ما تصبوا إليه أنفسنا. وليس الفن حالة روحية (بمعنى أنها لحظة الهام خارقة غير قابلة للتنبؤ) ولا حالة لإنسان (بمعنى إنها حرفه أو وظيفة اجتماعية). الفن نضج وتطور وسمو يساعدنا على الخروج من الظلمات إلى وهج النور"(1). ويمكننا أن نكشف عناصر التطهير والقسوة فى قوله (تطور وسمو) وتمثل تجربة جيرزى جرتروفسكى الذى توفى عام 1999م مدخلا لتلميذه أجينوبربا (Eugenio Barta) (2) والذى أعد عنه مؤلفه الشهير (أرض الماس والرماد) (The Land of Ashes and Diamond) وهو مؤلف شمل ستة وعشرين رسالة كتبها جيرزى جرتروفسكى له فى الفترة 1964 – 1966م ويمكن القول أن أهم إضافات أوجيبنيو بربا إلى مسرح المختبر هو ما أطلق عليه أنثروبولوجيا المسرح (Theatre Anthropology) .
أنثروبولوجيا المسرح:
يمكن القول إن تجربة أنثروبولوجيا المسرح تمثل مدخلا علمياً جديداً للعروض (Performance) الشعبية وأشكال الفنون التقليدية واستقلالها كمدخل لدراسة افكار وقيم الشعوب المختلفة. ويعرف أوجينو ربا مؤسس هذا التيار بقوله " فى العادة ينظر إلى أنثروبولوجيا المسرح بوصفه دراسة سلوك الإنسان ليس فقط على المستوى السيسيولوجى والثقافى (Socio-cultural) أيضا على المستوى الفسيولوجى. أنثروبولوجيا المسرح هى دراسة السلوك البشرى السييولوجى والثقافى فى حالة تجربة العرض"(3)، هذه التجربة تتحيح المحال لدراسة الأصول الفكرية والثقافية للمجتمعات البشرية البسيطة على مستواها الشعبى والقاعدة (Grassroots) مما يجعلنا أقرب إلى معرفة فنونها وما تنطوى عليه من معانى وقيم يمكن تنميتها وتوجيهها إلى ما نهدف إليه من رسالة: وهكذا تبدو تجربة أنثروبولوجيا المسرح أحد الأصول الفكرية والثقافية للمسرح التنموى من أجل السلام كما سنرى لاحقا.
لقد أتبع أوجينو بربا أسلوبا دقيقا وعلميا يعتمد على الملاحظة والتشريح والمعيشة مصححا كل أفكار استاذه جيرزى جبرتروفسكى وهى تجربة ترد المسرح إلى حقيقة كونه ممارسة اجتماعية يمكن النظر إليها برؤية محددة، والبحث عن الأفكار والقيم داخل هذه الممارسة الاجتماعية " المسرح فن راسخ الجذور وهو أكثر الفنون التزاما باللحمة الحية للتجربة الجمعية وأكثرها حساسية للاختلاجات التى تمزق الحياة الاجتماعية الدائمة الثورة، واللحظات الصعبة لتلك الحرية التى تمضى احيانا شبه مختنقة بالضغوط والعقبات التى لايمكن تخطيها، وتنفجر أحيانا على صورة التفاوضات غير متوقعة. وهكذا فإن المسرح واحد من التجليات الاجتماعية"(1) ، فالمسرح والدراما فى كل أشكاله يبدو مقنعا فكريا وسيوسيولوجيا إذا ما اكتشفنا ما بداخل المشاهد من أفكار وقيم تجعله قابلا للفعل المطلوب والتعبير المنشود فنحن لا نستقطب الناس إلا بمعرفة أصولهم الأنثروبولوجية والسيسيولوجيا واكتشاف المعنى الحقيقى لمفردة (ثقافة) التى تكمن فى ممارساتهم وأشكالهم الفنية الشعبية " فنحن لا نستقطب الناس إلا إذا مثلنا أمامهم دراما فعلهم ولا ننقذهم من الخمول، إلا إذا قدمنا لهم المشهد المسرحى الدينميكى فهنا تظهر بقوة خاصة تلك الصفة اللامكتملة الملايئة بالمكايد وبكل ماهو غير متوقع لكل حقيقة انسانية، كما تظهر جهود الانسان للتغلب على الضغوط التى تستبقيه فى الجمود، وتظهر الحقيقة الخلاقة الى أبعد مدى، لكل مجتمع أى هذا المجتمع الذى تقذف به حركة ثورية دائمة خفية أحياناً وبارزة جداً أحياناً أخرى لتجعله غير ماكان عليه. أو ليس المجتمع بمسرحى ؟ أولا ينكشف الوجود لنفسه وهو يتضاعف لكى يتصور نفسه"(1).

نقد النموذج:
من الواضح أن نموذج (جرتروفسكى – بربا) هو أقرب النماذج الى المسرح التنموى الذى تم اختياره كبديل لنشر ثقافة السلام. لكن ما يعيب هذا النموذج على الرغم من لمسه لعديد من الاطر هو الانغلاق فى إطار التجربة والمختبر فالاهتمام بالممثل وتطوير إمكانياته الفكرية والمعرفية يتيح قدرا للدرامى لدراسة المجتمع المعنى، لكنه لايقوم على استصحاب التجربة المجتمعية فى إطارها الشعبى والقاعدى نحو رسالة تحتاج إلى البعد الشعبى مثل رسالة ثقافة السلام. لكن رغم ذلك إن هذه التجربة ستصبح أحد المرتكزات الفكرية ومدخلا اساسيا لنموذج المسرح التنموى.
والمسرح التنموى هو الاخر يمثل تطورا فى تاريخ الحركة المسرحية العالمية فما أن بدأ العقد الأخير للقرن العشرين فى الأفول حتى التفت واتجه المسرح الغربى إلى البحث فى العروض (Performance) الشعبية واستقلالها كوسيلة للتحول الاجتماعى المطلوب. فكان هناك احتفاء بالاسلاليب الاحتفالية للدراما غير الأوروبية، ذلك لطابعها الجماهيرى، وأصبح المسرح مدخلا لدراسة نمط حياة الشعوب وقيمها وأشهر هذه التيارات المعاصرة تيار أنثروبولوجيا المسرح (Theatre Anthropology)
وتيار المسرح من أجل القضايا الإنسانية مثل التنمية والسلام هو أحد هذه التيارات التى تعمل على رؤية واضحة، وهى إحداث تصميمات درامية بوعى فلسفى وثقافى من أجل التغيير الإجتماعى الثقافى (Dramatic Design for socio-Cultural Transformation) وهو نوع من أنواع الدراما لا تلجأ إلى المسرح التمثيلى، بل تغوص داخل المجموعة المستهدفة، لاكتشاف اشكالها الفنية الاصلية ثم توظيفها فى التحول وبث الرسالة المطلوبة. هذا التيار الذى أطلق عليه رواده المسرح التنموى (Developmental Dram / Theatre) هو البديل الذى اختاره الباحث لنشر ثقافة السلام (Peace Culture) ذلك لطابعه الاحتفالى الذى يتعامل مع المجموعة البشرية بوعى اجتماعى كامل دون اللجوء إلى التمثيل والايهام. كما أنه – المسرح التنموى – يعتمد على عناصر ثقافة السلام فى أسسه وبنائه ذلك بعد اكتشاف هذه العناصر بتحليل أشكالها الفنية والإبداعية الشعبية والتقليدية. وهذا ما نقوم به فى المبحث الثانى من هذا الفصل إن شاء الله.







الجزء الثانى : نظرية التحمل:
تعريف التحمل لغة :" تحمَّلَ يتحمَّل ، تحمُّلاً ، فهو مُتحمِّل ، والمفعول مُتحمَّل للمتعدِّي/ تَحمَّلَ فلانٌ : تجلَّد وصَبر/ تَحَمَّلَ الرَّجُلُ مَا لاَ طَاقَةَ لَهُ بِهِ : اِحْتَمَلَ مَشَاقّاً ، تَجَلَّدَ بِالصَّبْرِ" . أما الحمل اصطلاحاً هو القدرة على السيطرة على النفس وادرة الازمة أو الصراع والبحث عن طريقة للتعون لحل الصراع. فالتحمل لهذا المعنى عكس التطهير الذى يقوم على الصراع مع الآخر. نظرية التحمل فى الدراما تقوم على طرد مفهوم الصراع والعنف . ولا تعتمد الارهاب كما ف التطهير انكا تعتمد التعاون . وبهذا المعنى تأتى المعادلة تعاون +حوار = تحمل بدلاً عن خوف +شفقة = تطهير. وبهذا المعنى يمكن النظر الى نموذج المسرح التنموى من اجل ثقافة السلام بوصفه احد نماذج مسرح التحمل .
نموذج المسرح التنموى من أجل ثقافة السلام :
يحتاج المسرح (التنموي من أجل ثقافة السلام Developmental Drama /Theatre for Peace Culture ) لخيال إبداعي ثر بالإضافة إلى معرفة دقيقة بطبيعة أفكار وقيم الشعوب والمجموعات البشرية المختلفة والمستهدفة ببرنامج ثقافة السلام.لابد أن يكون كل ذلك مصحوبا بموهبة درامية عالية ومقدرة كبيرة على التحليل الثقافي وتفكيك رموز ومعاني تلك القيم والعادات والممارسات الشعبية التي تحتوى على مفهوم ثقافة السلام،لأن المسرح التنموي يتعامل مع المكونات الثقافية والقيم المتعددة للمجموعات البشرية المختلفة.لذلك تسعى هذه الورقة الى عملية مسرحه Theatricality لعناصر ثقافة السلام الموجودة أصلا فى ثقافة وقيم المجموعات المستهدفة ببرنامج ثقافة السلام. وهذه العملية التي تجعل من عناصر ثقافة السلام أصولا فكرية وأدبية للعرض الدرامي هي ما نسميه الدراما من أجل ثقافة السلام).لكن قبل كل ذلك سوف أتناول بالتفصيل تعريف كل من المسرح التنموي وثقافة السلام على حدة.
تعريف المسرح التنموى:
يعرف الدكتور أوبيو موما، أستاذ الدراما بجامعة نيروبي بكينيا المسرح التنموي قائلاً "فالدراما أو المسرح التنموي Developmental Drama /Theatre في العادة هو توظيف لأشكال الفنون الشعبية بخيال واسع وحذر شديد لأن برنامج المسرح التنموي يهدف إلى بث الوعي التنموى والتحول لدى المجوعات المستهدفة بغية التطور والتنمية البشرية Human Growth ".
يجد مجال المسرح التنموي اليوم رواجاً كبيراً في كافة أنحاء العالم وخاصة فى قارة افريقيا ، هذا بالإضافة للجدل الأكاديمي الذي وفره تيار المسرح التنموي بين الدراميين الأفارقة والذين يرون أن دور الدرامي الإفريقي يختلف عن مثيله الأوربي "لا يمكن للكاتب الإفريقي أن يلج عمق التاريخ ما لم يع دوره الحاضر ولكي يتم ذلك يجب أن يكون الدرامي الإفريقي فناناً قبل كل شئ وليس دعائيا ًPropagandist، فيلسوفاً وليس صانع محاكياً ". هذا بلا شك أمر يضع العاملين في مجال الدراما التنموية في محك التجربة الفعلية والمعرفة العلمية والحرفية التامة والوعي بتوظيف هذه الأجناس الإبداعية دون تغريبها - من غربة - لكي لا تفقد أثرها الاجتماعى والقيمي.لعل المسرح التنموي بهذا المعنى الشامل معروف لدى كافة الشعوب والمجموعات البشرية المتعددة فى العالم كافة والسودان على وجه الخصوص. لكل ذلك يمكننا القول توجد عناصر المسرح التنموى في انماط الثقافات التقليدية والمجموعات القبلية والمجتمعات المتعددة والمنتشرة في كافة بقاع القارة الإفريقية. ومن التعاريف المفهومية والعملية للمسرح التنموي التعريف التالي"المسرح التنموي Theatre For Development TFDهو تيار أشبه بالمسرح الجماهيري والشعبي Popular Theatreالعروض. يوجد المسرح من أجل التنمية حيثما يتوفر عدد من المسرحيين الذين يعملون مع المجموعات المتنوعة والمتعددة في مجال التنمية أو مع المنظمات المختلفة التي تعمل في هذا المجال الحيوي، يساعدون في خلق نوع من المسرح ذو رسالات إنسانية وحيوية في مجالات متعددة مثل التغذية، محو الأمية وصحة البيئة، والزراعة حول أماكن السكن(الجباريك). هذا النوع من المسرح يتراوح بين الدراما والأغاني والرقص، وفي الغالب ما تكون الأغاني بسيطة تحمل ألحان ذات رسائل واضحة في الحقل المحدد. ويكون العاملون في مجال المسرح التنموي في شكل مجموعات أو منظمات أو Animators منشطين".
ظل نموذج المسرح التنموي موجوداً منذ زمن بعيد تمارسه المجموعات البشرية السودانية كنشاط اجتماعي واقتصادي بأشكال وأساليب عديدة يعبر عن قيمتها ومفاهيمها التقليدية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية. كما ظلت الممارسات الشعبية والأشكال الثقافية المتعددة تحمل في طياتها أساليب ومناهج تقليدية لبعض القضايا الإنسانية الحساسة مثل قيم السلام وفض النزاعات وثقافة السلام. مثل (النفير) على سبيل المثال أحد أشكال المسرح التنموي الذي يكاد يكون موجوداً في كافة بقاع السودان ذلك لما يحتويه من معاني وقيم كلها تصب في خانة التماسك solidarity والتشاطر والعطاء وهي جميعها قيم تصب في خانة ثقافة السلام كعملية تنمية بشرية.
والمسرح التنموي بهذا الشكل والمضمون يعتبر نشاط أصيل في الثقافة والحضارة السودانية والتي ترتكز على مفهوم الأسرة الممتدة Extended Family والتي تقوم على التماسك، والشاطر والعطاء، والكرم، وإغاثة الملهوف والتحمل والصبر وهي جميعها عناصر لتنمية البشرية وفقاً لإجماع المختصين ومنظمات الأمم.
يمكن القول أن تيار المسرح التنموي بهذا الشكل الدقيق الذي نحن بصدده اليوم هو تيار مسرحي جديد وتعتبر تجربة (مركز السودان لأبحاث المسرح ) في مجال التعاون مع المجموعات المسرحية الكينية مثل (مجموعة أماني للمسرح الجماهيري Amani People Theatre) 1998م و(الرابطة الكينية للدراما والتربية KDEA) 1997م هي البدايات الأولى لهذه التجربة.
هناك بلا شك عدد من الأسباب التي يمكن اعتبارها دافعاً وسبباً في بذوق تيار المسرح التنموي بالسودان في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين. من تلك الأسباب:
1. ازدياد الوعي وسط المجموعات المسرحية والدرامية وإحساسها الكبير بضرورة تحريك هامش التجريب والانفتاح على الفضاء الثقافي السوداني ومنظومات عالمية مثل ثقافة السلام، قضايا المرأة والطفل.
2. الامتعاض والتذمر المستمر وسط المسرحيين من عراقيل المؤسسة المسرحية الرسمية في السودان التي لا زالت تعمل على تكريس ثقافة المركز ولم تعد تتسع لاطروحات وتجارب الهامش المسرحي.تلك التجارب التي تأخذ من قضاياي الهامش موضوعات لها
3. التأثر الكبير بالقضايا المعاصرة مثل قضايا الفقر، الحرب، السلم وقضايا البيئة، صحة الطفل وقضايا المرأة، والتنمية بأنواعها المختلفة.
4. الوعي والمشاركة في المؤتمرات العالمية للحركة المسرحية والخروج من الفضاء العربي إلى الفضاء الأفريقي والأوروبي، وازدياد الإحساس بالعالم وقضايا العولمة والنزوع نحو كسر أغلال المحلية والإنطلاق في فضاء عالمي يمتاح من دراسات الأداء Performance Studies كمنهج ومدخل جديد في عالم متغير
تعريف ثقافة السلام :
من التعريفات التى أوردتها منظمة اليونسكو لثقافة السلام التعريف التالي "تتكون ثقافة السلام من القيم والمواقف، وطبيعة السلوك الانسانى التي ترتكز على عناصر عدم العنف وتحترم الحقوق الأساسية للإنسان وحريات الآخرين.ولقد تم تحديد هذه الحقوق في ميثاق حقوق الإنسان ".من الملاحظ يدل التعبير ( تتكون من . . . ) الذى ورد فى التعريف على وجود عدد من العناصر والتى بتوفرها موضوعيا وديناميكيا يمكن توفير ثقافة السلام. أى ثقافة السلام ليست مسألة نمطية ذات قالب بل هى مجموعة من العناصر والقيم الفاعلة اتى تعمل على كنس طرد ثقافة العنف من ضغائن واحن. هذا العناصر تعتمد على المنهج الذى يمكنها من الديناميكية الاجتماعية الفاعلة. لذلك فالمسرح التنموي يمكن أن يصبح أهم المناهج الأنثربولجية والسيسيولوجية لاكتشاف هذه العناصر التي تعمل على تنشيط عناصر ثقافة السلام.هذه العملية التى يتم فيها اختزال عناصر ثقافة السلام وتجسيدها بواسطة الثقافة نفسها فى شكلها الفاعل الحركي هي العملية التي نطلق عليها ( المسرح التنموي من أجل ثقافة السلام …
عناصر ثقافة السلام و المسرح التنموي:
يسعى المسرح التنموي إلى تفجير عناصر ثقافة السلام الموجودة أصلا فى ثقافة المجموعات المستهدفة وهذه العناصر قد أجمعت عليها الأمم المتحدة وهى : و التي وردت في بيان الأمم المتحدة UN ومنظماتها المتعددة مثل اليونيسيف UNICEF واليونسكوUNESCO ويمكن أجمال تلك العناصر في النقاط التالية:
1. نبذ العنف: رفض العنف بكل أشكاله الجسدي، النفسي، الاقتصادي، الاجتماعي.
2. احترام الحياة بكل أنواعها: أن احترام حياة وكرامة كل كائن بشري بلا تمييز.
3. الإصغاء سبيل التفاهم:أدافع عن حرية التعبير والتنوع الثقافي مؤثر الإصغاء والحوار دائماً ولا أنساق إلى التعصب.
4. التحمل والتشاطر والعطاء: بذل الكرم والسخاء نوضع حد للنبذ والطغيان السياسي والاقتصادي.
5. صون كوكبنا: أدعو إلى سلوك استهلاكي مسئول وإلى نمط إنمائي يراعيان أهمية الحياة بكل أنواعها ويصونان توازن الموارد الطبيعية للكوكب.
6- احترام الآخر
نموذج المسرح التنموي من أجل ثقافة السلام :
نموذج المسرح التنموي من أجل ثقافة السلام نموذج تجريبي بالمعنى المسرحى للمفردة، ولا يقوم إلا عند نشوء الحاجة لثقافة السلام ومكافحة ثقافة العنف .
فالتعريفات وحدها لا تكف لجعل التجربة المتخيلة تجربة عملية وواقعية لذلك يمثل الحقل الذي يتم فيه تجريب هذا النموذج دوراً كبيراً وأساسياً لجعل التجربة تجربة واقعية. ذلك يقودنا إلى البحث عن المنهج والطريقة التي يتبعها العاملون في مجال المسرح التنموي من أجل ثقافة السلام .
هنا سأقوم بهذا التصميم نموذج Module للمسرح التنموي من أجل ثقافة السلام وهو النموذج الذي أرى يمكن اتباعه لتوصيل مفهوم ثقافة السلام وبناء سلام لقواعد Grassroots Peace Building كقضايا تنموية للفئات المستهدفة بمثل هذا المسرح.
ينبثق مفهوم المسرح التنموي ونموذج الذي ظل موجوداً في القارة الأفريقية من مفهومين أساسيين اتسمت بهما الظاهرة الدرامية/ المسرحية طيلة تطورها عبر التاريخ وهما:
أولاً: الاعتماد على أساليب المسرح عامة في توصيل الرسائل والمفاهيم المستهدفة. فالمسرح في شكله التقليدي الغربي Western Theatre يقوم على توظيف خشبة المسرح Stage التي توجد داخل مبنى المسرح Play house بغية توصيل رسالة بعينها للمتلقي داخل قاعة المبنى. وهذه هي العملية المسرحية Theatrical Process التي سادت العالم كمنظومة اتصال ثقافية. لأن المسرح بهذا هو فن غربي-أوروبي تمتد جذوره إلى الحضارة الإغريقية القديمة، يمثل المسرح الإغريقي القديم Ancient Greece Theatre ذو الأصول الأرسطوطاليسية الأصول الكلاسيكية والفكرية لهذا الفن. أما تجربة المسرح التنموي لا تقوم على أصول فكرية أرسطية، فالجمهور هو الممثل و المشارك، والمشاركة تعني تجنب شكل الحوار الدرامي المعروف. أى الحوار الذى يقود الى تصاعد العملية التى الدرامية التى تسعى ذروة الصراع.
ثانياً:
المعرفة العميقة بمكنيزمات الثقافة لدى المجموعات البشرية المستهدفة ببرنامج ثقافة السلام والقدرة على تحليل تلك الثقافات وإرجاعها إلى عناصرها الأولية لأن المسرح التنموي يوظف تلك العناصر سيسيولجيا وأنثربولوجيا فى توصيل مفهوم ثقافة السلام. فهو يكشف العناصر الحقيقية لعمليات التحولات الاجتماعية Social Transformations التي تركز على المفاهيم الثقافية والاجتماعية.
نخلص من كل ذلك إلى ضرورة توفر خمسة عناصر أساسية يستهدفها (المنشط الدرامي) Drama Animator الذى يعمل فى مجال المسرح من أجل ثقافة السلام نصب أعينه وهي:
1. اللغة: ما اللغة المناسبة التي يمكن استعمالها في الحقل؟
2. البيئة: ما هي البيئة التي تناسب مع هذا الموضوع؟ بمعنى ما هو المكان المناسب لطرح الموضوع والمشروع.
3. المشاركون: من يفعل وما الذي يجب فعله؟ وهذه مسألة أساسية بالنسبة لمنسق مشروع المسرح من أجل ثقافة السلام.
4. الثقافة: ونعني المعنى الكامن للثقافة Latent Culture والذي قد لا يبدو ظاهراً للعيان في حالة التعامل بعجلة واهتبال مع المجتمع. وهنا يمكن تضمن تتبنى الأشكال الفنية المحلية التى تتضمن قيم التسامح والتشاطر ونبذ العنف.
5. الزمن: ما الزمن المناسب للعمل وسط المجتمع المستهدف وتنفيذ المشروع؟
ملحوظة: ينبغي أن يضع المنشط في اعتباره وهو يقوم بعمله الدقيق ذلك أن التحول الاجتماعي Social Transformation مسألة مؤلمة ومعقدة وتمرين بطيء فإذا ما اكتشف المنشط أو المبادر ليس لديه من الزمن الكافي فمن الأفضل له أن يتمهل حتى يتوفق في توفير الزمن الكافي لهذه العملية التى يجب أن لا تقل من ستة أشهر في الحقل.
أيضاً على المنشط الدرامي الذى يعمل فى مجال المسرح من أجل ثقافة السلام التمتع بخصائص اكتساب صداقة وثقة المجموعة المستهدفة بهذا البرنامج، وأن يضع نصب أعينه ضرورة تعاون كافة أفراد المجتمع معه لتوفير المعلومات الهامة. بالمعنى الآخر إن ما نطلق عليه المعنى الخفي للثقافة Latent Culture هي مجموعة قيم عميقة.. وهي ذات القيم التي يقوم المنشط الدرامي بتبنيها وتنشيطها وتفعيلها فى عملية نشر ثقافة السلام، وهي مسألة تحتاج للزمن الكافي وعدم التسرع. لأن ما يقوم به عملية متداخلة تبدأ من داخل المجتمع Within Community، لأن المنشط أو الموصل Communicator أحياناً يلعب دور الموجه, فهو أشبه بحادي الرحلة الذي يقرر المواصلة أو عدم المواصلة في السير. ومن المعروف كي تقود مجتمع ما ذلك أمر يحتاج لكسب ثقة ذلك المجتمع. ولكي يكسب شخص ما ثقة المجتمع يحتاج للزمان الكافي. إن الموصل المسرحي Theatre Communicator الذي يسعى إلى بث رسالة تتنموية محددة وسط مجتمع محدد مثل (ثقافة السلام) أو (تنظيم الأسرة)، أو (الخفاض الفرعوني)، أو (رفض الحرب مع العدو الذي يعيش معه في أرض واحدة).. الخ يستوجب عليه إذا ما علم أن موضوعه قابل للنزاع أو ربما رفض بعنف أو اعتبره البعض وعدا كاذبا عليه أن لا يبدأ فيه أصلا، لذلك يجب أن يتحرى الدقة وأن يكون ذكياً وقادراً على التحليل البنيوي لموضوعه وفقاً للمعطيات الثقافية لتلك الجماعة وواقعها الاجتماعي والاقتصادي.
كل هذا يدل على أن نموذج المسرح التنموي من أجل ثقافة السلام هو نموذج للتدخل Intervention والاتصال. حيث يتم التدخل فى ثقافة المجموعة المستهدفة بواسطة لغتها الخاصة وثقافتهم المحلية. قالشعوب تتحدث بلهجات وتعبر عن قضاياها الخاصة والإنسانية الحساسة بنظمها ودلالتها المحلية. وبهذا يمكن مخاطبتهم بواسطة أناس يعرفونهم. كما يجب تصميم رسالة المسرح التنموى من أجل ثقافة السلام في قالب لا يحتوي على أي نوع من الغرابة والمفاجأة والفوقية، أي أن يكون قالباً به نوع من الألفة والسهولة والإنسياب.
فمثلاً إن كنت غريباً Outsider على هذا المجتمع عليك على سبيل المثال أن تتعلم وتستعمل بعض المفردات، والأمثال، التي تخصهم أثناء حديثك فأمر من هذا القبيل يجعلك قريباً منهم. فالذي يعمل وسط مجتمع (المسيرية) أو وسط قبائل البجا ينبغي أن يضع في اعتباره أنه يتعامل مع مجتمع تقليدي عشائري، وبدوي في أكثره، ويتحدث الأفراد فيه كثيراً بصيغة الأمثال، وهو مجتمع حذر وبه جدية يتمتع ببنية فوقية قوية ، وتمثل الإدارة الأهلية سلطة قوية، ونموذج البطولة لدى ذلك المجتمع هو الشخص الجاد المتماسك.
المهرجانات الدرامية من أجل ثقافة السلام:
ظلت المهرجانات والاحتفالات منذ وقت بعيد معروفة لدى كافة السودانيين ، يمارسونها فى الاعياد والاحتفالات التقليدية . فالمهرجانات تمثل تظاهرات ثقافية فاعلة خاصة في المجتمعات التقليدية والمدن على حد سواء
عناصر المهرجان الدرامي من أجل ثقافة السلام:
أولا :التمكن من عناصر الدراما:
ونعني هنا أن يكون معد المهرجان من الذين تلقوا كورساً، أو دراسة لا تقل عن شهر فى مفهوم ثقافة السلام والمسرح التنموى أو المسرح الشعبى، وأن يكون قد تعرف على أسس المسرح، تاريخه، ونشأة عناصره وأصوله الثقافية كما لم بعناصر ثقافة السلام التى تم ذكرها سابقا يمكنه تطوير بحثه الدرامي في إطار عناصر الثقافة المحلية والدرامات محلية، والممارسات الثقافية ذات خصائص احتفالية درامية تفضى الى ثقافة السلام. على سبيل المثال يمكن لمعد المهرجان الذي يعمل بمدارس الأساس بولايات شرق السودان، أن يبحث في الممارسات الثقافية التقليدية لقبائل تلك المنطقة التى ظلت تعيش في هذه المنطقة بسلام وتتمتع بعلاقات تاريخية أزلية متميزة. فممارسات (النفير)، و(جلسات البرامكة) والرقصات الفولكلورية والأغاني السائدة يمكن توظيفها في المهرجان ليؤديها المشاركون بعد أن يتم التركيز على عناصر ثقافة السلام. مثل تصوير أعيان القبائل وزعماء العشائر الكرماء الذين يقومون على أمر الكيان القبلي والعلاقات التي تربطهم ببعض، وما يمتازون به من حكم وقيم أدت إلى تماسك الأسر فى الماضي. أيضا يمكن البحث في أدبهم الشفاهى من شعر وأمثال وتوظيف كل ذلك فى دراما نشر ثقافة السلام ومكافحة ثقافة الحرب، أيضاً مناقشة قضايا التنمية البشرية التى تمثل نمط التحول الجمعى لثقافة السلام.
ثانيا: كيف تعد مسرحية ثقافة السلام:
مقدمة: قبل الذهاب إلى الحفل لا بد من إقامة بروفة لفترة 30 دقيقة لمسرحية قصيرة من أجل الاستمتاع والضحك, ذلك لجلب الناس للمشاهدة بواقع الفضول.
المكان: سوق, قاعة عامة, أو فسحة في أي مكان جماهيري, يوم عطلة أو احتفال, يوم قومي. يمكن أن نستفيد من أعيان القرية أو أشخاص محليين لتوضيح المعنى الأساسي للمسرحية, مثل موضوع (موضوع ثقافة السلام )يمكن دعوة المواطنين للمشاركة في العمل.
الأسبوع الأول: عمل مسرحية مرتجلة جماهيرية عن ثقافة السلام يشترك فيها القرويين أو المواطنين من المدينة. لأن ذلك مفيد في خلق نوع من الإشاعة عن ماذا تم عمله. بتأسيس صداقة وعلاقات إعلامية. لا بد من خلق علاقة بين هؤلاء المشاركين ذلك لبناء الثقة بينهم.
الأسبوع الثاني: بعد خلق ثقة وعلاقة كافية, مع أفراد هذه المجموعة, بالإمكان أن تبدأ المسرحية بصورة مشذبة واشراك المواطنين المحليين في العرض وجعل بعضهم وفقا للسيناريو قادة فكر أو صناع قرار. مع منحهم تفسير وتوصيل هذه الرسالة.
الأسبوع الثالث: بعد الطلب من السلطات المحلية وموافقتها، بالامكان إقامة عرض موسع لكن لا بد من المحافظة على طبيعة المتعة والتشويق في الرسالة. يجب عدم جعل النقاش والسؤال عن مدى فهم الناس للرسالة هو الهدف في أثناء العرض لكن ذلك يأتي عند النهاية في إطار التقويم بعد كل عرض.
ملاحظة: هناك دائما متسع في هذا المنهج. واستيعاب أفكار جديدة من واقع المنطقة. أيضا لا بد من وضع اعتبار خاص للأحداث والأشياء غير المتوقعة. هذا المنهج هو المنهج المتبع من قبل مجموعة السيقوتي Sigoti Theater Group والرابطة الكينية للدراما والتعليم KDEA وبه الكثير من العناصر المسرحية, واتجاه تطوير العملية المسرحية إلى عرض مسرحي وهو نموذج يمكن التعديل فيه بغية تقليص عناصره المسرحية ليتناسب مع بعض الادائيات الدرامية الاحتفالية لدى بعض المجتمعات المتأثرة بالحرب.

انتهت
.
البلد
السودان
أعلى