عباس سليمان

الميلاد
Jul 11, 1970 (العمر: 53)
نموذج من كتاباتك
الرّجل الذي آواه البيطريّ
عبّاس سليمان / تونس


لم تكن نشرة الأخبار تلك اللّيلة عادية أبدا ولم يخرج معجمها عن عبارات الذّبح والقتل وإطلاق الرّصاص والملاحقة والحرق والتّعذيب واليتم والتّيتيم والتّفجير وسقوط الضّحايا.
قالت زينب لزوجها بعد أن تأفّفت طويلا ونفد صبرها:
- أرجوك، دعنا من هذه الأنباء التي نغّصت علينا الّليل والنّهار وابحث لنا عن أيّ شيء آخر... تجوّل بين قنوات الأفلام والأطفال والحيوان والطّبيعة واختر لنا ما نقصّر به الوقت قليلا إلى أن نهمد وننام.
أمسك" سي حامد" جهاز التّحكم عن بعد هامّا بالبحث عن قناة لا تقدّم أخبارا ولا صور قتل ولا مداهمات أمن ولا كمائن ولا ذبح ولا إرهاب غير أنّ صوتا عنيفا كصوت ارتطام أو كصوت جسم هبط من أعلى التقطته أذناه قادما من محيط الدّار اضطرّه لترك التّلفزة والنّهوض استعدادا للخروج.
وقفت زوجته وسارت وراءه... أشعلا كلّ الأضواء وتوجّها نحو الباب الخارجيّ... ببطء أدارا القفل وأطلاّ فألفيا عند العتبة جسما بشريّا يئنّ في خفوت.
أشار "سي حامد" على زوجته بالدّخول إشفاقا عليها ولكنّها ظلّت واقفة وراءه... أنفاسها لاهثة وركبتاها ترتعشان وقلبها ينطّ بعنف.
نزع الزّوج عن الجسم غطاء الرّأس الأسود الطّويل فطالعه وجه رجل ثلاثينيّ شاربه محلوق ولحيته كثّة وأثارُ الضّنك بادية عليه...ربّت على وجنتيه بلطف فلم يبد عليه أنّه استفاق أو استجاب... شرع في تفحّص الجسم مبتدئا بالقدمين فألفى في السّاق اليسرى جرحا ينزف .
- إنّه ينزف، قالت زوجته.
- سأدخله وأسعفه .
- لا تدخله ولا تسعفه، أبلغ عنه رجال الأمن حالّا وليفعلوا به أو معه ما يشاؤون.
تردّد البيطريّ بين الجرح النّازف ونصيحة زوجته ثمّ وضع حدّا لتردّده وقال:
- سأسعفه وأعلمهم.
على مضض ساعدت الزّوجة زوجها في إدخال الرّجل ذي السّاق النّازفة إلى داخل الدّار وعلى مضض أحضرت حقيبة زوجها ووقفت إلى جانبه تساعده.
عرّى البيطريّ السّاق ونظّف الجرح جيّدا ثمّ خاطه وغطّاه بضمادة معقّمة ثمّ حقن مريضه بمضادّ حيوي ومسكّن للألم.
تتبّعته زوجته إلى أن أنهى غسل يديه ثمّ مدّت إليه هاتفها قائلة كالآمرة:
- الآن تفعل.
نظر إليها ...
إلى السّاعة الحائطيّة المعلّقة على الجدار المقابل...
إلى المريض الغارق في نوم كنوم الرّضّع ...
إلى اللّيل الجاثم على القرية ...
ثمّ قال يستلّ الكلمات استلالا :
- لا أرى الوقت مناسبا يا زينب... لن يكون جميلا أن يطوّق دارنا في هذا الوقت رجال مدجّجون بالعصيّ وبالسّلاح وسيّارات الأمن والجيش... لن يكون مناسبا أن استدعي قوّة هائلة لجريح غارق في نوم كالموت.
عادا إلى حيث كانا متمدّدين أمام الشّاشة قبل ارتطام الجسم بالباب فألفيا فيها حوارا يدور بين ثلّة من رجال السّياسة... تتبّعاه قليلا قبل أن يُقطع ببلاغ عاجل يحلّ محلّه :
- أيّها المواطنون،
أيّتها المواطنات ،
جدّ منذ ساعات قليلة تبادل لإطلاق النّار بين مجموعة من رجال جيشنا وأمننا الوطنيّين ومجموعة من الإرهابيّين حاولت الهجوم على مركز للحرس الوطني وقد أسفرت المواجهات عن وفاة واحد من رجال الحرس وجرح آخر وأسر كلّ أفراد المجموعة الإرهابية باستثناء واحد تحصّن بالفرار.
ثمّ سكت الصّوت وظهرت على الشّاشة صورة الإرهابيّ الفارّ.
التفت البيطريّ إلى زوجته الشّابّة فألفى وجهها مسودّا لا أثر فيه لنقطة دم واحدة ثمّ انتبه إلى عينيها تنطفئان وإلى جسدها يرتخي.
أسرع يبلّل وجهها بالماء ويحاول أن يعيدها إلى الوعي.
كان يسعفها وهو يلهث لهثا ،
ويداه ترتعشان،
وأفكاره ترتعش،
وقلبه يخفق دون هوادة ولا انتظام،
وركبتاه تصطكّان،
ورائحة حريق تنبعث من تلافيف روحه وتملأ خياشيمه .
- سنتصرّف... لا تخافي ولا تخيفيني أرجوك.
اااااااااااااااه لو كان بحوزته سلاح.
لو كان يملك اللّحظة مسدّسا لجرّ الجريح إلى خارج الدّار وأطلق عليه النّار وأراح منه الخلق وعاد إلى بيته مطمئنّا.
يذكر أنّه طالب إدارته مرارا وسلطات القرية بتمكينه من سلاح يحميه وزوجته، هو الذي أقدم دون غيره على الالتحاق بهذه القرية طبيبا بيطريّا يداوي أمراض قطعان الغنم والماعز والبقر والدّجاج والأرانب التي يعيش منها هؤلاء الرّيفيون .
قالوا له :
- أنت طبيب... لن يمسّك أحد بسوء ولن تكون في حاجة إلى أيّ سلاح.
فتحت زوجته عينيها ببطء وسألته :
- ماذا فعلت ؟
- ها نحن نقترب من الفجر... سويعات وينتهي كلّ شيء .
حاولا أن يناما... أن يطردا من ذهنيهما صورة الإرهابيّ التي بثّتها التّلفزة ودعت إلى التّبليغ عنه فيما هو راقد تحت رعايتهما وعلى مرمى ريشة منهما.
حاولا أن يتناسيا أنّ هذا الملتحي الممدّد في بيتهما كان منذ ساعة يهاجم مجموعة من رجال الحرس والجيش وقد يكون هو نفسه من قتل منهم من قتل وجرح من جرح.

أخذتهما قبل انبعاث صياح الدّيكة إغفاءة أفاقا منها عندما حطّت أشعّة الضّوء الأولى على شبّاك غرفتهما.
وقفا مذعورين.
اتّجها إلى غرفة الرّجل الجريح.
فوجئا بالشّابّ واقفا يتأهّب للخروج.
وفوجئا بأنّ لحيته اختفت وأن شاربا كثيفا يتوسّط وجهه.
- لا تغادر الآن... لا يمكنك بعدُ استعمال ساقك... أخاف عليك.
أنا بخير... لا تخش شيئا ولا تقلق بشأني.
ثمّ توجّه نحو الباب.
عندما وطئت قدماه العتبة الخارجيّة، التفت إلى البيطريّ وزوجته اللّذين كانا ينتظران ابتعاده ليهاتفا منطقة الأمــن الوطنيّ ... أدخل يده في جيبه وأخرج مسدّسا صوّب منه إلى رأسيهما رصاصتين صامتتين.. ومشى مطمئنّا يداري عرجه ويداعب شاربه الجديد ويتلمس متأسّفا مكان لحيته.
البلد
تونس
أعلى