د. نادر عبدالخالق

الميلاد
Feb 1, 1966 (العمر: 58)
نموذج من كتاباتك
صلاة .. المعلم .. عبده
قصة قصيرة
د. نادرعبدالخالق
يطوف البلاد بحثا عن الرزق ويجوب الأسواق بتجارته ومواشيه الهزيلة وأغنامه القليلة دون ملل أو تعب، الأولاد كثيرة والنفقات بعيدة وليس لديه مهنة أخرى يتكسب منها غير التجارة فى الأسواق وأحيانا الجزارة إن تطلب الأمر، لا تقتصر تجارته على الصحيح من البهائم وإنما تمتد لتشمل " النافق" منها و" الوقيع" فيعرف كيف يصرفها عن طريق " المرسال" وسماسرة اللحم، ويستقطع له جزءً كبيراً من الربح فى كل بيعة يتمها، أحيانا يصل الربح إلى مائة بالمائة من السعر الأصلى .
سأله فلاح ذات مرة : يامعلم عبده البهايم الميتة بتروح فين..؟
قال : الجلود نبيعها للمدابغ .. !!
واللحم لمزارع السمك ..!!
والعضم لمصانع العلف ..!!
والوقيع يا معلم : بتروح لمين ؟؟
الوقيع : بتسافر للفرم فى المطاعم .. !!
ومتعهدى التوريد للمصانع .. وجزارين الفقرا ..!!
كان يمتطى حماره السريع جوابا فى البلاد يطوف الأماكن البعيدة والنائية ويقطع المصارف والترع الكبيرة مرة أو مرتين فى الأسبوع .. يحمل معه عدة الجزارة كاملة وفى جيبه مبالغ مالية تسمح له بالشراء والتعاقد والسفر لأماكن خارج نطاقه .
يعقد الاتفاقات مع التجار وفى كل مرة يختتم فيها الاتفاق يضطر لقراءة الفاتحة، فيحرك شفتيه ويردد بعض الكلمات التى يسمعها دون وعى أو معرفة بها، إنه لا يستطيع القراءة أو الكتابة ولا يحفظ شيئا من القرآن الكريم حتى الفاتحة لا يجيد قراءتها من تلقاء نفسه، لكنه دقيق فى حساباته يفند كل شىء بمهارة بالغة، ويقف على ميزان اللحم وطبلية العجول كأكبر " قبانى" متمرس يعرف قوانين الرياضة والحساب .
يذهب إلى الجامع ليؤدى الصلاة قياما وقعودا وحركة كما يفعل الناس دون تلاوة أو ذكر وأحيانا يقف عاجزا ناسيا الخطوات والأركان فيتوارى خجلا دون أن يؤدى الفريضة .. !!
سأله شيخ الجامع : كم عدد ركعات صلاة الظهر ؟؟
أجاب : لا أعرف ..!!
وسأله : هل تحفظ التشهد ..؟
قال : لا أحفظه ولا أعرفه ..!!
حاول شيخ الجامع تلقينه بعض آيات القرآن، وتدريبه على أداء الصلوات، وحركاتها وكيفية الأداء، لكنه سرعان ما كان ينسى ولا تعى ذاكرته شيئا مما تعلمه .
وكان يردد قائلا : أنا أحضر حلقات الذكر وأزور الأوليه .
كان يذهب فى ليالى الجمعة عادة إلى المضيفة التى تقام فيها جلسات الإنشاد والذكر ويحضر فيها المشايخ ورجال الطريقة الصوفية ويشهد طقوس " الحضرة ".، وكان يحضر حلقة الذكر التى تعقد فى منزل العارف بالله الشيخ " جميل " القريب من داره ، يؤدى ما يؤدونه الناس هناك ، ويذكر ما يذكرونه فى أورادهم ، ويتجاوب معهم فرحا باشا بهذه الطقوس .
وكان الشيخ العارف يبش فى وجهه ويبادله الود والحظوة ، كان يعود من هذه الجلسات سعيدا نشيطا ولا يعرف السبب وراء ذلك غير أن المكان " طاهر والناس بتعرف ربنا " .
فلا يوجد هنا كذب ولا نفاق ولا أكل للحقوق كما يحدث فى السوق .! وليس هنا خلافات ولا شجار أو معارك يموت فيها الناس أو يصابون بعاهات مستديمة .! الوجوه هنا طيبة تبتسم والعارف بالله يفتح بيته ويمد يد العون للجميع .. ولا يوجد هنا مطالبات بحقوق أو ديون أو مساوامات الناس هنا طيبون ..!
كان الحضور إلى حلقات الذكر سببا فى عدم شعوره بالتقصير فى الصلاة وأداء الفروض الواجبة ، ظل هكذا يشبع غريزته ويمنى النفس بلحظة رضا أو لقاء فى رحاب الشيخ أو فى كنف " الحضرة " مع الصوفيين .
فى إحدى جولاته وسرحانه بحثا عن الرزق والسعى تأخر حتى دخل عليه الليل الحالك فضل الطريق وتعثر حماره فى الظلام وفقد نشاطه وحيويته وكان فى صحبته رأس ماشية عرجاء هزيلة لا تقو على السير السريع ..!!
أطبق صدره خوفا واضطرب قلبه هلعا ..!!
ليس على نفسه وإنما على حماره وما معه من رزق ، الطريق مقطوع ونباح الكلاب وعواء الذئاب يقتحم سمعه فيشتد خوفه، حاول قراءة الفاتحة وبعض ما يعرفه من القرآن ..!!
تلعثم وتوقف لسانه .. فكان ينظر لأعلى مناجيا فى صمت .. ومتوسلا راجيا يطلب الأمان والطمأنينة ..!!
قاده حماره إلى طريق فرعى بين المزارع سار فيه مكبلا بخوفه وماشيته .. ظل ماشيا إلى أن أبصر شعاعا من نور خفيف حثيث يطل من بعيد ..!! هدأت ثورته واطمئن بعد فزع .. وتعقب هذا البصيص حتى وصل عنده .
وجد مقاما لضريح مهجور فى قمته شعلة مضاءة من " الجاز" يعبث بضوئها الهواء ولا أحد فى المكان .. استأنس بها وبمقام العارف بالله صاحب الضريح .. وجلس مهدودا مكدودا بين الغفلة واليقظة تقتحم خلوته أصوات الريح والنباح والعواء ظل خائفا منبطحا بجوار الضريح حتى أطل نور الصباح .
سأل نفسه عدة أسئلة من الذى يضىء هذه الشعلة ؟؟
ومن الذى يضع لها الجاز..؟؟
وما الفائدة من ذلك.. ؟؟
المكان موحش والعتمة تحيط به ولايوجد أحد حتى يستأنس به ..!!
ولماذا دفن هذا الرجل هنا ..؟ ومن هو..؟؟
ولماذا أقاموا له ضريحا مثل الأولياء ..؟
ظلت الأسئلة تعصف بعقله ولأول مرة يشعر بالخوف والوحشة، لم يكن يعرف هذه المشاعر ولم يكن لديه إحساس الوحشة قبل ذلك، تزداد يوما بعد يوم هذه الأسئلة فى عقله وفى ضميره .. وتزداد حيرته وتأملاته .. ولا يعرف أن يستخرج ما فى داخله .. يقف عاجزا أمام هذه الأشياء التى لا تفسير لها فى منطقه وفى عقله ...!!
قرر أن يعود إلى الضريح نهارا ليرى من يزوره ويرى من الذى يضىء الشعلة ويهيؤها طوال الليل .. ذهب وعاد ولم ير شيئا مما يبحث عنه .. وجد المكان مهجورا لا أحد هناك .. ووجد الشعلة خالية من الجاز وفى الليل لم يأت أحد لإضائتها .. زادت دهشته .. وتواصلت حيرته ولم يستقر له حال .
عاد مرة أخرى بصحبة الحمار ومعه عبوة كبيرة من الجاز وعدد من الشعلات واللمبات التى تعمل بهذه الطريقة وعندما جاء الليل أشعل عشرة منها وأضاء المكان وأحال ظلمته نورا ووحشته أُنسا .. وجلس هادئا .. ظل هكذا أياما وشهورا يأتى فى مواعيد محددة يضىء الأنوار ويعتنى بالمكان ويظل قائما به حتى الصباح .
لم يعد يذهب إلى المضيفة حتى نسى " الحضرة " وهجر الشيخ " جميل " العارف بالله .. وفارق المسجد وقل نشاطه التجارى، أصبح يركز على أوقات البيع والشراء فى أول الصباح على أبواب الأسواق فقط ..!! وكان مروره بالأماكن التى اعتادها قليلا.. كان شغله الشاغل خدمة الضريح وإنارته ليلا فى أوقات محددة .
سأله شيخ الجامع : رحت فين يا معلم عبده ..؟
وسأله رواد الحضرة : هجرتنا ليه يا معلم ؟؟
وسأله أتباع الشيخ جميل العارف بالله : أنت فين يامعلم ؟؟
أجابهم جميعا :
يكفينى أروح أنور الضريح كل يوم وأسهر عنده .. !!
صلاتي هناك .. !!
وذكري هناك ..!!
وشيخي هناك ..!!
د. نادر عبدالخالق
من مجموعة شيء عن الخروج
البلد
مصر
أعلى