أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح. يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام أحد المتصفحات البديلة.
صلاح البشير
الميلاد
Dec 11, 1959
(العمر: 64)
نموذج من كتاباتك
شِنْ جَدَّه فِي المَخَدَّه لا تَنْجِيْد ولا كِيْس جَدِيْد
لمْ يكن الأمر مفاجئاً لِي – فأنا أعرفها منذ كنا طالبين شابين نتسكع فِي مدرجات كلية الطب بجامعة الخرطوم – ستتزوج أخيراً مِنْ رجلٍ ما أو قلْ خطفها واحدٌ مِنْ أبناء آدم الذين لا تثق بهم مطلقاً. كنت أراهنها أنَّ واحداً مِنَّا نحن أبناء آدم سيأسر شغاف قلبها وكانت ترد ساخرةً بعبارتين يحملان نفس المعنى الساخر أولاهما بإنجليزية طلقة تجيدها بلسان أهلها الإنجليز وبرودهم حين تقول: "When hell freezes!" والثانية حين ألح عليها فتزجرني بها عامية طلقة أيضاً "شِنْ جَدَّه فِي المَخَدَّة لَا تَنْجِيْد ولَا كِيْس جَدِيْد" .. وكانت حين تقذفني بأي مِنْهما تبصق فِي الأرض فأنا واحد مِنْ أبناء آدم لا بناته.
.. كان اسمها أسيل، أسيل الياس، وكانت مدججة بكل أسلحة الجمال، لكنها لمْ تكن تألف الرجال ولا تثق بهم، بلْ كانت تمعن فِي إذلالهم والسُخرية مِنْهم، وكان عقلها حاسوباً بشرياً لا يُجارى، لمْ يستطع أفضل زملائنا الذكور تجاوزها فِي أمر يختص بالعلم أو الطب، كنا نسميها Miss Distinction وقد كانت تستحق ذلك، فما رأيت فِي حياتي مَنْ يجمع بين الأنوثة والآدمية والعِلم غيرها قط، لا كطالب تتقاذفه المدرجات ولا كاختصاصي تعلم وتدرب ودرب ودَرَسَ آخرين. ما كان يعيبها إلا تلك الكراهية للرجال وعدم الثقةِ بهم. وكنا نبادلها هذه الكراهية دون أنْ ندري لذلك سبباً، ربما هي الغيرة كونها أحد أفضل طلاب كلية الطب، وربما لجمالها المستفذ الذي يضعها فِي الصدر دائماً دون العجز، وربما لسخريتها مِنَّا وعدم ثقتها بنا. ورغم ذلك كنت أقرب الطلاب الذكور إليها حين كنا نلوذ بمدرجات الجامعة، وندفن رؤوسنا بين كتب التشريح والفسيولوجيا والأمراض، ونوبات المستشفى، ثم تفرقت بنا السبل وذهب كل مِنا إلى سبيل لمْ يختره ولمْ يقدر عليه، إلى أنْ وصلتني رقاع دعوة زواجها الخميس القادم إنْ شاء الله.
.. جلست خلف طاولة مكتب عيادتي الخاصة ذلك المساء، أطالع بطاقة دعوة الدكتورة أسيل الياس اختصاصية أمراض النساء والولادة ذائعة الصيت بتأنٍ ورفق، وهمست متمتماً: "حتى فِي تخصصها بعدت عنْ الرجال قليلاً"، لاحظت لأول مرة أنَّ اسم العريس لا يتقدمه لقب دكتور أو مهندس أو أي مِنْ ألقاب أصحاب السعادة القوى الحديثة، كتب حافياً مِنْ أي لقب "أحمد ناصر"، بينما زَيَّنَ لقب دكتورة اسم أسيل، فابتسمت بخبث فأسيل ما زالت أسيل أو هكذا ما زلت أسيء الظن فِي تعاملها مع أبناء آدم. حاولت أنْ أحشر رقعة الدعوة فِي غِمدها الجميل المزين بأشكالٍ عالية الذوق حادة الجمال، فلمْ يدخل غمده، شيءٌ ما يمنعه، نظرت بداخله فإذا بورقة صغيرة مربعة الشكل ومطوية بعناية تسكن بداخله، أخرجتها وفردتها فإذا هي رسالة مِنْ أسيل تقول فيها: "حتماً ستأتي أيها الوغد .. لقد صدق حدسك .. وسباني أحد إخوانك أبناء آدم .. لا بُدَ أنَّك آتٍ لمباركة الزواج وإشباع ذاتك بالسخرية مِنِّي .. ولكني أقولها لك وحدك When hell freezes!.. أو شِنْ جَدَّة فِي المَخَدَّة لا تّنْجِيْد ولا كِيْس جّدِيَد .. هلْ ما زلت تذكر هاتين العبارتين؟ .. وعند حضورك الميمون – بإذن الله – ستعلم لِماذا! ربما ستندم بعدها ندماً لا شفيع لك بعده عندي .. أسيل".
.. طويت الرسالة مرة أخرى وأعدتها مكانها وقد أصابني ما أصابني مِنْ الدهشة والذهول .. ما زالت أسيل هي أسيل .. حتى صفة الوغد التي كانت تناديني بها لمْ تنسها .. والعبارتان اللتان لا تفتأ تذكرهما لمْ تنسهما .. لكنْ! .. كيف يمكن لها أنْ تعني ما فهمت وقد وزعت رقاع الدعوة ولمْ يتبق سوى أيامٍ قلائل ستزف بعدها إلى زوجها أحمد .. ولِمَ تعتقد بأنني فِي حاجة للسخرية مِنَّها؟ .. إنَّ ما قلناه أيام الصبا لمْ يكن سوى ممازحات بين غصونٍ غضة لمْ تر مِنْ الحياة إلا وجهها الجميل. سألت نفسي: "ما هو الأمر الذي سأعلمه إنْ حضرت وسأندم بعده ندماً لا شفيع لي بعده عندها؟" ..
.. كانت ساعة الوقت تمشي بتأنٍ شديد نحو الخميس، أثارت أسيل فضولي لحضور حفل زفافها إلى أحمد، ربما بسبب الرسالة الغامضة التي حشرتها فِي غِمد بطاقة الدعوة، وربما بسبب تحدٍ قديم بين أبناء آدم وبناته، وربما بسبب أسيل نفسها كونها أنثى جميلة وعلامة فارقة مِنْ علامات الطب فِي السودان. تذكرت فجأة دفاتري القديمة وألبومات الصور التي أحتفظ بها منذ أيام الجامعة. قلبت أحد الدفاتر بعد أنْ نفضت عنه غبار سنين كثيرة، قرأت فِي أولى صفحاته بعض ما كتبت: "اليوم وبدون مقدمات غابت أسيل عنْ محاضرة التشريح . لست أدري سبباً واحداً لغيابها .. هي عادةً لا تغيب .. لكنها اليوم غابت دون أنْ تذكر لي ذلك .. كان يجب عليها أنْ تخطرني بغيابها مسبقاً .. لكنها أسيل .. وكما تقول "شِنْ جَدَّه فِي المخدة" إلى آخر هذه التراهات .. والغريب أنني أفتقدها وأفتقد وصفها لي بالوغد .." .. سألت نفسي لِمَ تخطرني مسبقا؟ .. وكيف كنت أفتقد وصفها لي بالوغد إذ ذاك .. فلمْ أجد إجابةً لهذا السؤال .. ولمْ أتذكر موقفاً واحداً يجعلني أعتقد أنَّ هذا واجبٌ كان يجب عليها عدم التخلي عنْه أو تجاوزه .. أو سبباً يجعلني أفتقد شخصاً يصفني بالوغد .. ثم قلبت بعض ألبومات الصور ولاحظت أنني لا أحتفظ بصورةٍ واحدة تضمني وإياها مع زملائنا سواء زملاء الدفعة أو زملاء الطب، كنت دائماً وحيداً مع المجموعة .. وكانت دائماً وحيدة معي. عجبت مِنْ نفسي وأقعدتني الدهشة، كيف لمْ ألحظ هذا كل هذه السنوات الطوال.
.. ما زال الخميس ينظرني بوجهٍ كئيب، دون رضوخٍ لاستعطافاتي الراجية، لا يريد أنْ يأتي إليَّ أو يريدني أنْ أسافر إليه. ما كانت لديه نيةً أنْ يستجيب. ولكن! فِي غمرة انتشائه بنفاد صبري واضطرابي، أشرقت الشمس بنور ربها وساقته إليَّ عنوة مكسور الخاطر. وتدفق الإدرينالين فِي دمائي وزاد اضطرابي وقلقي، وتذكرت بابتسامة فاترة حالنا ونحن نجلس أمام أساتذتنا فِي امتحانات المشافهة فِي علم الأمراض أو الأقربازين أو الأمراض الباطنة أو غيرها مِنْ العلوم الطبية، وتذكرت أسيل وهي رابطة الجأش تجيب على أسئلتهم كأنَّها تقرأ إحدى قصائد الغزل العربي، وتذكرت إعجابهم بها فما كان لأحدنا القدرة على التفوق عليها. أخيراً جاء عامل مغسلة الغسيل الجاف يحمل سترتي الزرقاء الكاملة وقميصي الأبيض وربطة العنق القرمزية. لكن! لِمَ اخترت هذه السترة الزرقاء دون غيرها؟ ما زلت أذكر حبها للون الأزرق، ربما هو شيء مدفون فِي اللا وعي.
.. ارتديت سترتي الزرقاء، أحسست بأنَّ أناقتي قد فاقت القصد. أدرت سيارتي وانطلقت إلى صالة العُرس. وصلتها قلقاً متلهفاً، ودخلت إلى صالة الاحتفال مترنحاً متردداً كمن أصابه سُكرٌ أو كمن أصابه مس مِنْ جنون. ورأيتها لأول مرةٍ منذ زمنٍ بعيدٍ. كانت كملكات الجمال فِي ثوب زفافها. تجلس على عرشٍ ستمكث فِيْه طويلاً، ربما إلى نهاية الحياة. بحثت فِي ذاكرتي عنْ شبيه لها فلمْ أجد. ثم كرت مسبحة الذكريات، فرأيتها فِي بنطالها كما رأيتها أول مرةٍ بكلية الطب، ثم توالت الذكريات حتى ساعات التخرج، ثم تسكعنا قليلاً فِي ردهات حوادث مستشفى الخرطوم، ثم افترقنا دون وعدٍ باللقاء. تقدمت ناحيتها، ورأتني، ثم افترت شفتاها قائلة: "لقد حضرت كما توقعت أيها الوغد" .. وابتسمت لها .. ومددت يدي مباركاً .. وضعت يدها على يدي .. لكنها ليست اليد التي اعتدت مصافحتها منذ زمنٍ بعيد .. نظرت إليها .. فإذا نظراتها غير تلك النظرات القديمة .. كأنَّها امرأة أخرى أكثر نضجاً وأنوثة .. وبذكائها المعتاد أدركت سر دهشتي فهمست فِي أذني: "لقد أحببتك دائماً أيها الوغد .. ألمْ تدرك ذلك أبداً؟".. سحبت يدي سريعاً وخرجت وقد أصابني هلع ودوار أشبه بدوار البحر.
أم درمان – السودان (فبراير 2005م).