المستقبل زمن يدوم طويلاً
لا أحد، في الحقيقة، يعلم على وجه الدقة من اخترع المجاز الذي يقول أنه كلما زادت الأمور سوءً كلما لاح الحل.
مشهد1)
كان يتعجلها أن ترتدي ثيابها بسرعة.
استغرقها الأمر 3 فناجين قهوة و أربع سجائر وحين خرجت متأنقة كانت تضع ثوباً جميلاً، جميلاً حقاً. تباً كيف لم ينتبه له من قبل؟ زمّ شفتيه ولم يقل شيئاً. وهناك حين وصلا، بدأت عيناها تمسحان المكان بعصبية كأنها تجهد أن يرى الجميع فستانها الجميل.
تقدم نحوهما بهدوء، فتهلل وجهها وبدى عليها التوتر، نظر إلى فستانها وهو يبتسم بحذر كلما اقترب منهما، ثم نظر نحوه وقال لها أهلاً. أهلاً بكل شيء، تابعَ المشهد بصمت و هو يستذكر ما قاله ألبرتو مورافيا في [ الجنون ] :" لبست ثيابي على عجل، كان زوجي غير الواقعي في انتظاري ليصحبني للعشاء عند أصدقاء غير واقعيين. آه، نعم. يلزم القليل لتحويل الواقع إلى حلم ولكن يلزم الكثير لتحويل الحلم إلى واقع ".
مشهد2)
كان " كارول** " البولندي المقيم في فرنسا على وشك أن يحوّل الحلم إلى واقع حين اصطدم بطلب الطلاق من زوجته " دومينيك " بسبب ضعفه الجنسي. فيحاول الدفاع عن نفسه ولكن يأبى القاضي سماعه بزعم أنه لا يجيد البولونية, ليس لدى كارول تفسيراً منطقياً ويظهر كأنه لايتمتع بحد أدنى من وعي و" قدرة " على ربط الأمور ببعضها البعض، إذ لا يبدو له أن ثمة أهمية أو فائدة في أن يكون هناك تناقض ما بين تلك الأشياء المترابطة، فهو لا يرى وجود تناقض في الحياة, أو الحقائق، فالولادة و الحرب و البحر والمطر و تعاقب الفصول والخوف و الموت والخيانة و الإبداع... إلخ، جميعها حقائق، لكنها مسطحة غير ذات عمق، بل و " عارية ". ومخرجات مأزق كارول, ستكون عبر تواطىء نفسي لخلق توازن داخلي مع الذات، و توازن خارجي مع البيئة - أي دومينيك - . لكنه يفشل, بالأحرى, لا يستطيع تعريف دومينك على أنها " آخر ", فيتساءل- شاكياً للقاضي - أين العدل في هذا؟ أين المساواة؟ [ و المساواة ركن من ثالوث الثورة الفرنسية ].
تتابع الحكاية فتقول أن دومينيك تحب زوجها وهي لا تنكر و لا تخفي هذا, ولكن كل ما في الأمر أنها ترغب أكثر بـ " قوته" و تعلن عن رغبتها هذه دون تحفظ أو اعتدال أو حتى خجل, لذا تنظر له بنوع من التبجح بالذات كونها فرنسية و بنوع من الاستعلاء ( وهذا لا يمنع أنها تحبه، مثلما عبّر جورج بوش الإبن وتوني بلير عن حبهما للشعب العراقي ), و التعالي هنا شرط أساسي لعدم المساواة بينهما, ولعل هذا أحد أسباب عدم قدرة كارول على التواصل الجنسي معها طالما ينتابه شعور عدم المساواة. الملفت في الأمر أنه بعد حكم الطلاق " يتسلل " كارول إلى سرير دومنيك ويحاول معها فتستجيب له, لكنه - للأسف - يفشل من جديد، فتقوم بحرق المنزل و تتهمه بالحادث, فلا يكون أمامه سوى الهرب و العودة إلى بلده ( عند لحظة الهروب هذه يختفي اللون الأبيض من المشهد ). يهرب كارول لعدم قدرته على الوقوف و الصمود و المحاولة و المواجهة و التقدم, فهو لا يرى معنى لمقولة لينين " خطوة للأمام , خطوتان للوراء ", إذ ليس هناك من يضمن أن تتبع بالضرورة أي" خطوتان للوراء " خطوة للأمام , بل ربما تتبعها خطوات أكثر وأكثر للوراء, ثم حتى لو كان افتراض لينين صحيحاً - وهو بالمناسبة كذلك في المحصلة النهائية -, فمن سيضمن أن الحلىسيكون في تلك الخطوة " للأمام" هذه بعد خطوتان الوراء؟ هل باستطاعة أولئك الذين يرون التاريخ يسير دائماً للأمام أن يضمنوا لكارول عودة دومينيك له لو تقدم خطوة للأمام من مكانه؟
مشهد3)
أثناء وجود كارول في بولندة، تتوالى سلسلة من الصدف و الاحتمالات الغريبة (هنا يبدأ اللون الأبيض بالعودة تدريجيا للمشهد, ضعيفا في البداية ) فيصبح صاحب ثروة عظيمة ويتحول إلى رجل أعمال ثري, عندها يشعر بـ" قدرته " و تساويه مع دومينيك. وضمن هذا السياق النفسي و المادي يعود إلى فرنسا و يحاول أن يستدرج دومينيك إليه, الأمر الذي ينجح فيه, فيعرض عليها أن يمارسا الجنس, فلاتمانع, و يا للهول, ينجح هذه المرة و يظهر لها " قدرته " و مضاهاته (هنا يشع المشهد باللون الأبيض الباهت, وكلما صرخت دومينيك من شدة الإثارة كلما يزداد لمعان و إشعاع الأبيض, إلى أن يصبح مثل لون البرق مع صرختها الأخيرة من فرط اللذة ), عندها..عندها فقط يشعر بالمساواة الكاملة معها, فرتابة عُريْ دومينيك تفتح أمامه بوابة الواقع البارد على مصراعيها في دعوته للمساوة.
كارول الذي لم يذق اللذة من قبل مع دومينيك، و الذي لم يعرف كيف يمكن له أن يكون " صديقا لامرأة " كما يزعم هنري ميللر , يزداد ضغط اللحظة عليه فيبدو أنانياً و ذكورياً حين يفتح الجسد الأنثوي المتهالك أمام عينيه من شدة اللذة فرضة تحرس ذكوريته و" انتمائه المكاني" ولكن يبقى الزمن غير واضح تماما, فالزفاف في بداية المشهد لا يقدم أي معلومة أو إيحاء يتيح لنا الجزم بأن هذا الزفاف حصل قبل لقاءهما من جديد أم بعده. عموما لم ينجح كارول في ذلك إلا بعد شعوره بالمساوة مع دومينيك, و من المنطقي القول أن المساواة - حتى كعلاقة رياضية مجردة- لايمكن أن تكون بين قيميتين غير متكافئتين بمعنى لايمكن أن تكون بين قوي و ضعيف, وحين يشعر أحد طرفي المساواة بتساويه مع الطرف الآخر فإن هذا لا يتحقق إلا بامتلاكه للعناصر الأولية اللازمة لتحقيق علاقة المساوة تلك وهذا لاينطبق على العلاقات الرياضية فحسب بل نراه مبثوثاُ في مجمل العلاقات الإنسانية المجتمعية التي جوهرها الحرية الفردية المهددة من أنانيتنا الجمعية, ومن سطوة " الدولة " كمؤسسة نتجت لضرورات التعايش الإنساني, فإذا كان شرط هذا التعايش يرتكز على اتفاق بين الأفراد بصيغة " عقد اجتماعي" يقوم، كما يرى جان جاك روسو، على شكل محدد يصون الفرد من المشترك الجمعي و يحمي فرديته و يحافظ على حريته, فإن من الأجدى لهذا الفرد عدم الانصياع بالمطلق لقوانين الجماعة, وهذا ربما ما قصده بيير جوزيف برودون حين كتب إلى كارل ماركس" فلنتجنّب أن نكون زعماء دين جديد؛ حتى ولو كان هذا الدين دين المنطق, دين العقل".
.........
*عنوان كتاب لوي ألتوسير. نُشر بعد عامين من وفاته تقريباً، يضم فيه مذكراته التي كتبها أثناء نزوله في مصحة عقلية قضى فيها عشر سنوات بعد إدانته بخنق زوجته إيلين ريتمان في لحظة جنون و فقدان للوعي، ويقول التوسير عن تلك الحادثة:" قمت بخنق زوجتي التي جسدت لديّ كل العالم، إبان أزمة عصبية طارئة، في نوفمبر 1980 نتيجة خبل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت، متى عجزت عن تحقيق ذلك. بلا شك، وفي لحظة جنوني تلك وبممارسة لا واعية، قدمت لها، هذه الخدمة، وماتت جتى دون أن تدافع عن نفسها "... ويقال أن الرئيس فرانسوا ميتران عقّب بعد انتهاء محاكمة ألتوسير وتحويله إلى مصحة نفسية بدل سجنه " ليس على فرنسا أن تسجن فلاسفتها ".
**الجزء الثاني من فيلم «Three Colors»: بعنوان "أبيض" للمخرج كريستوف كيشلوفسكي.
services and to analyse traffic. Your IP address and user agent are shared with Google, together with performance and security metrics, to
البلد
دولة غير عربية
هذا الموقع يعتمد على ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماته، الاستمرار في تصفح الموقع يعني موافقتك على استخدام هذه الملفات.