رجب سعد السيد

الميلاد
May 8, 1948 (العمر: 76)
نموذج من كتاباتك
بكتـيــريـــا
قصة
رجب سعد السيد



أستاذي، يجلس في مقعده الوثير، بالاستراحة التي أشاركه سكناها، يضع ساقا على ساق، وأصابع يده اليمنى تعبث بأصابع قدمه اليسرى. حين اقتربت منه لأعطيه سماعة التليفون، التقطت أنفي رائحة عفن. أمسك السماعة بذات اليد اليمنى. التفت حولها أصابعه التي كانت تفرك ما بين أصابع القدم اليسرى. كان يتحدث كثيرا عن الطبيبة الصغيرة التي قابلته في عيادة الجامعة وعاينت تطورات مستوى السكر في دمه، وأكدت عليه أن يهتم بحماية قدميه، وإلا هاجمهما المرض.

***
شيخٌ مسـترخٍ في بهو النادي، مستسلماً لبقعة شمس شتوية تغمره، وقد سقطت رأسه باتجاه كتفه الأيسر، والذباب يحوم فوق عينيه المغمضتين؛ وهو في سبات عميق. حين اقتربت منه متوجساً، رأيت صدره يتحرك مع تنفسه، وكانت الإفرازات البيضاء تتجمع في ركني العينين الداخليين، والذباب يتزايد.

***
في السادسة والنصف صباحاً، والشارع خال تماماً، وأنا ذاهب إلى محطة القطار، وسمكة كبيرة مبقورة البطن، مفقوأة العين، ملقاة بجانب الرصيف. أنا أقيم بالقرب من سوق الأسماك، ولا تفارقني رائحة التحلل التي تنتشر في الموقع الذي يحتله، معظم ساعات اليوم، باعة جائلون يحتالون على عديمي الخبرة والفقراء ليشتروا منهم بضاعتهم غير الطازجة، التي يجيدون إخفاء فسادها.

***
بيانات إحصائية :
أجرت منظمة حماية المستهلك الكورية اختبارات على ستة أشياء يستخدمها عامة الشعب، لمعرفة حجم البكتيريا العالقة بها؛ وجاءت بالترتيب التالي :
= مقابض عربات التسوُّق، وُجدت بكل عشرة سنتيمترات مربعة منها 1100 مستعمرة من البكتيريا.
= فأرة الكمبيوتر في مقاهي الانترنت، وكان بها 690 مستعمرة.
= علاّقات الأيدي في الحافلات وبها 380 مستعمرة من البكتيريا .
= مقابض المراحيض وبها 340 مستعمرة.
= أزرار الطوابق في المصاعد، ووجد عليها 130 مستعمرة بكتيريا.
= علاّقات الأيدي في قطارات الأنفاق، و بها 86 مستعمرة .

***
زوجان يدخلان الفراش. الذكر مقبل، والأنثى مولية ظهرها. فشلت مناورات الاستمالة، فارتفع صوته متبرماً ساخطاً. تقلبت لتواجهه صارخة : "لا أطيق رائحة فمك". بهت. هو لا يشم رائحة تنبعث من فمه. وهو يستخدم معجون الأسنان بعد الوجبات، وقبل أن يدسّ جسمه في الفراش. إنه لا يعرف أن معاجين الأسنان المحتوية على مادة «الصوديوم لورايل سـلفيت» تزيد من تراكم وتكاثر البكتيريا اللاهوائية على السطح الخلفي الخشن للسان. إنها بكتيريا لا تستحبُّ العيشَ في الهواء، وإنما تتغلغل في الزوائد الصغيرة الموجودة على سطح اللسان، ويصعب الوصول إليها.

***
في طريق عودتنا من جولة العمل الحقلية الشهرية، على امتداد ساحل البحر الأحمر، أعطاني ورقة وطلب تعليقي عليها. كانت نتائج تحليل عينات مياه البحر من مواقع مختلفة. كانت السالمونيللا تفوق كل الحدود المسموح بها في مواقع لقرى سياحية راقية، وتقل مستوياتها كثيراً في مواقع شواطئ عامة متواضعة. تعجبت. قال : نتائج متكررة مؤكدة. قلت : تفسيرك. ردَّ : السياح الأجانب. طأطأت رأسي قليلاً، أفكر. لم يتركني أطيل التفكير، قال: إنه الفارق بين استخدامهم الورق للتنظيف، واستخدام رشاش الماء !.

***
يحرص رئيس القسم على أن تفتح جميع نوافذ حجرته، حتى في الشتاء، وبما في ذلك النافذتان المطلتان على البحر. وكنا جميعاً نشترك في معرفة السبب، وفي تكتمه.وتكررت، على مدى سنوات طويلة من علاقة العمل، مرات انتشار روائح طعام متخمر في حجرة رئيس القسم، تفاجئنا ونحن داخلين إليه، قبل أن ينجحَ هواءُ البحر في تخفيفها وتبديدها. تأففت زميلة فاجأتها غازات رئيسنا، فراح يضاحكها، وقال إنها أمرٌ طبيعي، وقد تكون مؤشراً جيداً، وأن أغلب البالغين يقومون بإطلاق هذه الغازات المعوية من عشر إلى عشرين مرة في اليوم الواحد.

***
خالفت القاعدة، واستقللت باصاً ليس به مقعد شاغر. وقفت، كعادتي في المواصلات العامة، عازلاً نفسي عن كل ما يحيط بي. لم تفلح حياديتي هذه المرة، إذ بدأت التفت إلى جانبي وأهتم، بمراقبة فتاة تجلس في أقرب مقعد إليَّ، يكاد يلتصق بكتفها رجل يقف بيني وبينها. كان تململها واضحاً، فأخذت أراقب احتمالات أن يحاول الرجل الالتصاق بها. لم يفعل. وكانت هي غير مستقرة في جلستها، وكانت تبعد رأسها باتجاه نافذة الباص، وتحرك كفها أمام أنفها؛ وأخيراً، أسرعت تخرج منديلا ورقياً من حقيبة يدها، لم يسعفها في وقف اندفاع قيئها.

***
غادرت مركز التدريب الأولي إلى الوحدة الميدانية التي سأقضي بها بقية مدة خدمتى العسكرية. حين وصلت، استقبلني القائد، وقال لي : أنت صاحب مؤهل عال .. ستنضم إلى "دشمة" زميل في مستواك. شكرته. وفي طريقي إلى "الدشمة"، مال عليّ مرافقي، وقال : خذ بالك .. صحيح أنه مؤهلات عليا، مثلك، لكنه يكره النظافة، وعنده (تينيا) !. ولم يكن بيدي أن أغيِّـرَ شيئاً. وبعد أسبوع، كنت أراجع طبيب الأمراض الجلدية.

***
فاحت الرائحة. تبينها كل السكان وهم يغادرون البناية ذات صباح. قال البواب : فأر ميت. طلبنا منه أن يبحث عنه ويتخلص منه. قال إنه حاول، ولم يعثر على الفأر المتعفن. قال أيضاً إن الفأر أكل سماً وضعه بعض السكان، ومات في شق، ولا سبيل إليه. كان مالك البناية يماطل في تجهيز المدخل، والشقوق منتشرة في كل مكان. تجمع فريق من السكان، وحاولوا الوصول إلى الفأر. خاب سعيهم. وكان علينا أن نحاول تخفيف الرائحة بالكيماويات، وأن نسد أنوفنا عند الدخول أو الخروج؛ حتى زالت العفونة بعد أسبوعين أو أكثر.

***
الأرض كلها تراب؛ وعلينا أن ندوسه.
البلد
مصر
أعلى