حسن غريب أحمد

الإقامة
العريش مصر
نموذج من كتاباتك
قصة قصيرة:
احتضار. !

بقلم: حسن غريب أحمد
للمرة الأولى نجلس معاً، غريبان ضمهما الوجود.. السنون التي مضت قيدتها الأحزان بالسلاسل.. لم يكن هناك ما نتحدث فيه.. الصمت هو الذي احتل الوقت بيننا واحتل المكان، لم يبق مجال للبكاء.. عيناها المشعتان بضياء قديم انطفأتا حين أهطلت أمطار الروح، للمرة الأولى نجلس معاً في كوخ يبتعد في المسافة أميالاً عن الهمس وعن الكلام المفخخ، الكوخ في الغابة، والغابة واسعة كآفاق المستحيل نمت بالنسيان وبالحلم التائب على نار تشتعل في قفص أخضر فتحرق كل شئ، إلا القضبان.. الكوخ لجدي وجدي ليس لأحد..
للمرة الأولى وعلى إنفراد نجلس معاً، تموت فينا الشهوة التي اشتعلت منذ طفولتنا.. الطفولة الضائعة في رمل التعاسة.. كنا نهرب ونلتقي في وادى النخيل أو في الكوخ القديم، وما أن نجلس حتى تداهمنا وجوه عرفناها وكرهناها.. فنقاد معاً أُجَلد أنا وتبكي هي.. غالباً ما كانت تمد يدها خلسة تلمس يدي وتبتسم وبعدها تبكي طويلاً.. كانت تبكي.. الوادي الذي جمعنا استطاع أن يقتلنا بكل فرح مسموم.. استطاعت أن تلقي علينا رداءها الأسود وتعلن الظلام الحب، الشهوة وأشياء في الماضي كنت أحسها ولكنى أجهلها.
سألت نفسي كثيراً لماذا هذه هناك الكثير لماذا هي؟ حاولت التخلص من عبء الوهم ولكن الجرح كان يكبر ولا يلتئم.
الجامعة إشراق في غروب يتناهى إلى الأرض والبحر والأشياء المنفصلة عن الشمس.. الجامعة سرقتني منها في طرق المدن مشيت.. الغربة أنا والعزل أنا.. وكل أحلامي.. كانت تعود إلى الماضي فتروي عطشاً ذاقته سنيناً من المر ومازالت.
لماذا هي؟ في الجامعة آلاف الوجوه تقترب مني تحادثني تعبث بأشيائي الصغيرة ولا شئ يتغير.. تبتعد الوجوه ينفر وأنا هنا ولست هنا.. الوطن الذي ابتدأ في صدري كبيراً أموت أنا ويعيش الوطن.. لماذا الموت لي في وطن يحيا في.. الفتاة التي أحببتها هي بجانبي الآن.. وحيدان التقينا ولا شئ إلا الصمت يجمعنا..
العيون تسأل وتذهب بعيداً في السؤال.. انظر إلى العينين الشمس تشع من ظلمة تفوح منهما رائحة الحزن والإحتراق والنار تلتهم أخشاب الروح.
كل ما قالته كان مكتوباً عليها ألا تعيش حتى أوهام الفرح باتت دماً تُنزف من جرح القلب.. سنوات مرت وأنا في الجامعة تزوجتْ هي من رجل مريض متعب أكلته السنون وعاثت به خراباً.. رأيته مرة واحدة.. بوجهه الأصفر.. بعينيه الجاحظتين، وعنقه الطويل المرتخي.. كان يعلم بحبي لها.. ابتسم بامتعاض قاتل.. رأيته مرة واحدة ولكن بعد أن قتلني ما كنت لأفعل شيئاً كان برفقتها.. بكت عيناها بصمت وانفجر الحزن في صدري..
الحزن القديم كالأزل.. عندما لا يجد المرء ما يفعله يفكر في أي شيء كان يشغله عن الفراغ ولو قليلاً.. زوجها مات ووادي النخيل الرث إنتحر على ضفتي بحر المدن.. الأمواج المذهلة والمثقلة بخطيئة الوقت غيرت وجه الأجداد وغسلت أنامل الجسد.. وبقى القلب متسخاً.. أعادني الحلم للبيادر وللشجر الحزين أبداً.. يخطو إلى سارية الثمار وأنا أي ثمار أمشي اليها.. لم تغادرني الطفولة.. الليل يسكن في دمي، والتناقض يعيشني.. بلهاء هي الثواني وتحتجزني.. هنا بيتها ينتصب في وجهي.. بعيداً عن التفكير.. أطرق نافذتها.. طفلة في حدائق اللاشىء تشع علىَّ بعينيها الصغيرتين الدافئتين..تهمس عبر الزجاج الفاصل بين العدم والعودة..
الزجاج ينكسر في لغة الدهشة واقتلاعى من مرامى.. أمضى بغير صمت وبكل إنكسارى.. ألتفت إلى الزجاج.. عينين من الماضى بحزن يكتمن في كل شىء تلاحقني.
اعود.. تفتح النافذة.. تهمس.. إنها طفلتى.. وأنت.. أنت ماذا؟ أما زلت طفلتي؟ لا أعلم أريدك.. الآن تنهض من رمادك.. لا تباً للزمن الذي "نحن الزمن" إذاً تباً لنا.. ولكن المهم.. المهم أن يعد.. متأخراً جداً.
أنا لكِ..لنحتضر معاً غداً في آخر شاطئ وادي النخيل أنتظرك. لا شىء يقيدنا الآن.. لا شيء.. وتغلق شباكها وأنسل في الليل.. جسدى بارد يقتلنى.. هذا الزمان ليس لى.. وحيداً أمضيت حياتى وحيداً أصارع موتى.. وأنتظر في آخر الوادى أنكسار النعش البشرى.. وصعود الكدر اى الحُسن المكفن بالخوف.. ألمح جسدها يقبل بتساقط أعضائه.. عضواً عضواً.. حتى القلب ارتمى امام القدمين.. فداسته بلا خشية.. تقترب.. أمسك يديها.. تفلتها.. لماذا في الماضى لم يكن ليلنا أسود.. أمشى هى بجانبى صماء.. بكماء.. لاتنظر لشىء.. غريبة جاءت من زمن، وماتت في زمنه.. تسأل إلى أين؟ إلى كوخ جدى في الغابة (الكوخ. الغابة. جدك) نعم الماضي. هل أنت بخير؟ (الخير.. الشر.. أنا أنت الماضى).
وفي الكوخ نجلس معاً وحيدين.. الجسدان خُرقٌ بالية، والعيون المسمرة في الجمر.. كل شيء يشتعل.. إلا نحن باردين كنا.. صامتين.. مهزومين * حسن غريب أحمد
عضو اتحاد كتاب مصر، عضو بمجلس ادارة نادى القصة بالقاهرة، عضو جمعية دار الأدباء بالقاهرة، وعضو نادى القلم الدولي بالقاهرة
البلد
مصر

الإتصال

Yahoo! Messenger
hass
Skype
hassan_ghrib
Facebook
hassanghrib63
Twitter
hassanghrib
أعلى