صديقة علي

الميلاد
Nov 15, 1965 (العمر: 59)
نموذج من كتاباتك
أمّي تكذب
أشدّ ما يؤلمني، تلك النظرة المحمّلة بالأسى والخيبة في عيني والدي، وإطراقة رأسه الذليلة التي يعود فيها لليوم الثالث على التوالي، حاملاً (غالونات) بلاستيكية فارغة كان قد خرج فيها منذ الصباح، وكلّه أمل أنّ اليوم سيكون مختلفا عمّا سبقه، صوت أمّي المواسي له مدية تنغرز في قلبي،
- لا حاجة لنا للمازوت فهذا الشتاء دافئ وقليل من البطانيات يكفينا، في حين كنت أراقبها عند انتهائها من اعداد الطعام وتنظيف الأواني، وهي توحوح من شدة البرد تقترب من المدفأة الباردة، ثم تعدل من وضع بطانيتي تدثرني جيدا وتهمس: أتشعر بالبرد ياقلبي؟ ، تسخن الماء وتضعه في قارورة محكمة، تلفها بقماش قطني؛ لتضعه تحت قدميّ وهي تؤكد أنها لاتشعر بالبرد؛ ولا يهمها المازوت الشحيح ، وما أن يرن هاتفها حتى تدعو وهي تهرول اليه:
-يارب بشراك بأن يكون هو ويخبرني أنه قد حصل على المازوت، وكانت تنهي المكاملة بهدوء وتهمس: صحتك بالدنيا لا تنتظر فالجو بارد ...تعال عشر ساعات بالعراء ستنهي صحتك... يلعن أبو المازوت وحاجته.
أتساءل في سري من أين لأمي كل هذه القدرة على الكذب، إذ كانت تصرّ بأن المجدرة أطيب وألذّ بزيت دوار الشمس، وما زيت الزيتون إلا رفاهية و(فزلكة )لا طعم لها، كانت تحمل المقلاة الحامية من المطبخ، وتشهرها بوجهي لأشمها
- بالله عليك شم ما أطيب رائحته ..قال زيت زيتون قال .
كنت أكذب أيضا وأبدي كل علامات الرضى، وأؤكد كلامها مما يشعرها بالانتصار، وشيئا فشيئا صارت أمي تصرّ أن البصل لا ضرورة له فغلاء ثمنه، لا يستحق أن نضيّع طعم المجدرة فيه، وكان أبي يخالفها ويصلان لحد الشجار وهو يصيح بعنف:
- المجدرة بلا بصل وبلا زيت زيتون تشبه حياتنا بلا طعم ولا قيمة،
- استغناء أمي المتصاعد سيصل بنا إلى أن نسلق الحصى ان توقفت المعونات، وكانت تضحك لتندري عليها، و كل ما يهمها ألا أضبطها متلبسة بتلك الدمعة المكابرة التي تمسحها عن خدها.
اليوم وجهها مشرق، فالأخبار أتت بأن الازدحام قد خف، وطوابير الأمل قد قصر طولها، ووالدي سيعود غانما، تغطي ساقيّ بحرام صوفي، وآخر لكتفي وأنا جالس على أريكتي المعتادة، وتهمس لي:
- لا عليك حدسي يقول أننا اليوم سنقبر البرد.
سنقبر البرد ..صداها أضرم نارا حارقة لقلبي، ما قالته أحالني لتلك اللهفة التي كانت تستقبلني فيها، تسألني كيف كان امتحانك؟ ماان تصبح مهندسا حتى تحل كل مشاكلنا وسنقبر الفقر.
جاء اتصال أبي موافقا لحدسها، ولشدة فرحتها كادت أن تزغرد وتحولت خطواتها التي كانت متثاقلة قبل قليل إلى ما يشبه الرقص بحيوية ونشاط ...ورمقتني بعينيها الجميلتين، وهي تغمز لي ألم أقل لك حدسي لا يخطئ .. كانت تروح وتجيء إلى باب الدار، تفتحه، تلقي نظرة على الشارع، ثم تعود:
- يجب أن انتبه كي أساعده بتنزيل الأوعية فهو يا عيني أصبح كبيرا بالسن و(الديسك) قد هلكه.
ثم تبتسم اذ تكتشف انها كانت تفكر بصوت عال،
-إياك أن تخبره .. ترمق المدفأة بفرحة، تنحني لتقبل رأسي وتقول: ألم أقل لك سنقبر البرد.
وأنا أتابع فرحتها اللامحدودة، كانت الدموع تسري صقيعية في أعماقي.
اختلط صراخ أبي مع قرقعة الأوعية الفارغة التي كانت تركلها بقدمها
يلعن أبو المازوت ..كفانا أولوياتك
-يا امرأة أولويات أقول لك أولويات. ثم يتجه بنظره الي طالبا نجدتي باخماد ثورتها النادرة الحدوث:
- بعت المازوت بسعر مضاعف واشتريت زيت زيتون، بالله يا بني قل لأمك أليس هذا أفضل؟ فالدنيا فيها أولويات
تقطع عليّ تحضير المرافعة المؤازرة لأبي بصوتها العالي الممزوج بالخذلان:
- لا تقل لي أولويات ..وأي أولوية أهم من هذا المشلول ..مسكين سيموت لشدة البرد
صمت مطبق، حلّ لدقائق، تجّمد أبي في مكانه، وغمرني بكل ما أوتي به من شفقة،شهقت فاغرة فاها، وكأنها ارتكبت إثما لا يغتفر، ثم أمطرتني بوابل من دموعها وقبلاتها.
مشلول؟ الغريب أنني ولعامين من اختراق تلك الطلقة الطائشة لظهري، لم أسمع هذه الكلمة منها أبدا.
حاولت جاهدا استجماع كل عزيمتي بضحكة مجلجلة لتكسر الحرج، والشفقة المخيمة على الفضاء كله:
-لا عليك يا حنونة. ها أنت بدأت تصدقين القول.
كطفلة غفر ذنبها، ارتجفت شفتاها بابتسامة غير مصدّقة.
وراحت تتمتم، وهي تربت على وعاء الزيت بحنو:
- وقع الفأس بالرأس ماذا نفعل! يلعن أبو المازوت ..واتجهت صوب أبي الذي كان مايزال متسمرا في مكانه حادجا وجهها بنظرة لائمة ، وبحسم أمرته :
حقيقة، المجدرة أطيب بالبصل المقلي بزيت الزيتون ...إذهب واحضر لنا البصل. ضحكة أبي الخجولة، عدلت مذاق الألم بداخلي إذ قال لي:
أنت محق ... ها هي بدأت تصدق.
تمت
*المجدرة: طبخة سورية برغل وعدس وبصل محمر بزيت الزيتون
صديقة علي
البلد
سوريا

المتابِعون

أعلى