منســــــــي
لا أحد يعرف من يطعمه، فلم نره ينزل من عليائه ليأكل مما يأكل منه أهل الأرض، ولا كان معروف النسب أو التاريخ، كأنه نبت بقدرة قادر في الجميزة التي تتلوى أغصانها وتتشابك في السماء، وتبسط عمرها المجهول فوق مقام الشيخ رمضان.
قيل أنه أحد مجاذيب الشيخ رمضان، وقيل أن حدأة خطفته صغيرًا وألقته هنا. وكنا، ونحن صغار نناديه باسمه الذي اخترعناه، فنقول: أرم يا منسي.
فيرمي الثمرات ويهلل معنا بصوته المخنث الممطوط فيثير ضحكنا، ويثير اشمئزازنا جسمه المجدور، والشقوق العميقة فيه، الغامقة ضفافها بسواد لزج، بينما تلوح في عمق اللحم بحمار دام، كأنه ثمرة في الجميزة تعفنت، وتاقت للسقوط.
لما كان آخر أتوبيس (مقار) أمام سينما النزهة، كنا نقطع الطريق المترب الملتوي بين مدى المستنقعات والحلفاء التي يغوص فيها قطار وجه بحري، فلا نري إلا دخانه الأسود الغطيس، ونرى الجميزة من أول الطريق، نهتدي بها، فلا نرفع عيوننا عنها حتى نصير تحتها، ونرى منسي فوقها بوجهه الملطخ بشعر ملبد بعرق قديم، ونسمع صوته المخنث يحادث أطيافا لا يراها غيره، فنقول : إنه يكلم الطير بلسانها.
أمي تؤمن بصلة قربي بينه وبين الشيخ رمضان، لكن الأسطى ونيس يقسم بالمسيح الحي، وهو يحك نعلا مبلولا بشفرة زجاج مشطوفة، أنه رأي بعينية اللتين سيأكلهما الدود، منسي وهو يحلق في الفجر بين كوكبة من الطير، وحين سأله: إلى أين يا منسي؟.. قال: القدس.
ويومها ضحك عبده المكوجي، وزر عينيه المنتفختين، وقال بصوته الأجش:
ـ كفاك شرب منقوع الصُرم يا بن ماريكا القرعة.
دائمًا تأتي صباحات الربيع بكل أنواع الطير، وتتألق الجميزة بصداح خلاق لفرح كوني، وتزدان بقناديل خضر مختلفة أحجامها، فينشط منسي لختانها، فتتفتح شفراتها وتتورد بتمام استدارة كنهود البنات.. من علمه كل هذا!!
واحد من تلك الصباحات، ذلك الذي طقطق فيه الفرع الكبير المثقل هذا، فتهاوى على تراب الطريق، ومس ضلعا من المقام، فتهاوت حجارته فوق رأس الشيخ.
قال عم أمين الصول: الجميزة تخوخت وتآكلت من داخلها.
بعدما استبدلت الحكومة أتوبيس مقار القديم بأتوبيس نصر، جاء إلى الشجرة سيارات كاميون كبيرة، ومناشير وبلدوزر، وآلات تلمع تحت الشمس لا نعرف لها أسماء. ولكننا عرفنا بامتداد خط الأتوبيس ليدور حول المقام، وفرحنا بالدبش الأبيض الذي فردوه في الطريق فدارى التراب. ووقفنا في صباح يوم لا أنساه، نشهد المهندس الشاب وهو يعطي الأمر، فيتسلق ثلاثة من عماله الجميزة كقرود كبيرة، بين صرخات منسي الممطوطة وقفزاته العشوائية بين الأغصان.
كبّلوه بسلبة كبيرة وأنزلوه عنوة، فرأيناه لأول مرة على الأرض. كان غير قادر على الوقوف، وكان يزوم كحيوان مريض، يدور بعينيه الصغيرتين جدًا على الوجوه بذعر، وثمة خرقة في لون الطين تستر عورته.
وطوال هذا النهار، ظلت البُلط والمناشير تحز في لحم الجميزة، فتتساقط أطرافها، وتتقافز طيورها في دوامات مفزّعة حول المكان، وفي المساء، رأينا منسي يزحف على ركبتيه، ويجمع الأعشاش التي تناثرت وتفجر بيضها على الدبش الأبيض، لكننا في الصباح، لم نعثر له على أثر.
الإتصال
Facebook
sayed.elwakil.3
هذا الموقع يعتمد على ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماته، الاستمرار في تصفح الموقع يعني موافقتك على استخدام هذه الملفات.