أحمد أبو سليم

الميلاد
Dec 14, 1965 (العمر: 58)
نموذج من كتاباتك
هل يمكن للذَّاكرة أَن تصاب بالصَّدأ، وتهترئ؟
هل يمكن أَن تُثقب، فتسيل منها الذِّكريات دون أَن نشعر بذلك، لنجد أَنفسنا فجأَة أَمام بياض أَعمى يُسمَّى النِّسيان، وذاكرة فارغة مثل قوقعة هجرتها سلحفاتها؟ وماذا يعني النِّسيانُ بالضَّبط؟ هل هو لا إراديٌّ أَم إنَّ الذَّاكرة انتقائيَّة تخزِّن أَحداثاً بعينها، تراكمها، لتشكِّل فيما بعد حقيقة هويَّتنا، وتعطينا تلك الملامح الَّتي تجعلنا نشبهنا؟
المجزرة، الدونيَّة والنَّقص، الحزن، الذِّكريات المؤلمة، الفراغ، الجوع، البرد، القمل، الأَسى، طوابير الماء، والمؤن، وقدم أُمِّي الخشبيَّة، كلُّها لم تكن أَشياء يمكن لأُمِّي أَن تعلِّقها على الجدار، أَمام أَعيننا، مثل المفتاح، لكنَّها كانت معلَّقة هناك، على جدران الذَّاكرة لا تبرحها أَبداً، وكان وجودها أَشدَّ وطأَة عليَّ، وارتباطي بها أَقوى من ارتباطي بمفتاح قديم علاه الصَّدأُ، ظلَّ معلَّقاً وحده في نهاية المطاف على الجدار في صدر غرفة الجلوس بعد أَن تحرَّرتُ من كلِّ شيء في البيت، ومن نفسي، قبل أَن أُلقي به أَخيراً من فوق السُّور إلى الشَّارع.
أَنا تحرَّرتُ من نفسي، وما تبقَّى الآن، ربَّما، أَن تتحرَّر نفسي منِّي.
ولدتُ قبل المجزرة بثمانية أَيَّام، في الأَوَّل من نيسان، عام 1948، لذا ربَّما كانت حياتي مجرَّد كذبة متواصلة لا تتوقَّف، كذبة نيسان.
يوماً ما، ثمَّة من سيعيد كتابة التَّاريخ بحروف أُخرى، سيكتب أَنَّهم لو أَعطوا عبد القادر الحسينيَّ السِّلاح لما سقطت القسطل، ولو لم تسقط القسطل ما سقطت دير ياسين، ولو لم تسقط دير ياسين، لما سقطت فلسطين بذلك الشَّكل المذلِّ المهين.
عاد عبد القادر الحسينيُّ من دمشق خاوي الوفاض، قال لهم إنَّ التَّاريخ لا يرحم الخونة، وإنَّهم سيكونون مسؤولين أَمام التَّاريخ عن ضياع فلسطين.
استُشهد في القسطل، وفي اليوم التَّالي، التَّاسع من نيسان، عام 1948، يوم الجمعة، وقبل أَن يُدفن، كان اليهود يتدفَّقون إلى دير ياسين.
أعلى