مصطفى البشير فودة

الميلاد
Dec 28, 1955 (العمر: 68)
نموذج من كتاباتك
قراءة فى قصة بيت من لحم للكاتب الكبير يوسف إدريس
(قصة الصمت والتواطؤ)
قراءة مصطفى فودة
الفن العظيم هو الذى إذا قرأته بعد عشرات السنين تجده غضا طريا يعطيك دلالات ما كنت تحلم بها ، ومن هذا الفن العظيم تلك القصة القصيرة بيت من لحم للقاص الكبير يوسف ادريس وهى القصة الاولى ضمن مجموعة قصصية تحمل نفس الاسم .
لاشك أن عنوان القصة يسترعى انتباه القارئ من الوهلة الأولى ولاشك أيضا أن للعنوان إيحاءات جنسية واجتماعية تستولى على لب القارئ ويتساءل عما يكون هذا البيت وعما يكون هذا اللحم وعما حدث له وبذلك فقد توافر من بداية العنوان عنصر الجذب والتشويق للقارئ .
"الخاتم بجوار المصباح . الصمت يحل فتعمى الآذان . فى الصمت يتسلل الاصبع . يضم الخاتم . والظلام يعم .
فى الظلام أيضا تعمى العيون . الأرملة وبناتها الثلاث . والبيت حجرة . والبداية صمت" .
تحتوى الفقرة الأفتتاحية من القصة على كلمات الخاتم والمصباح والصمت والظلام والارملة وبناتها الثلاثة والبيت وقد تكررت كلمة الصمت ثلاث مرات والخاتم تكرر مرتين فى هذه الفقرة القصيرة وهى الكلمات التى تم بناء القصة عليها والتى تدور أحداثها على أرملة شابة فى الخامسة والثلاثين ولها بنات شابات ثلاثة يصفهن الكاتب فقيرات قبيحات ، تعيش الأم وبناتها فى حجرة ضيقة يأتى مقرئ كفيف كل جمعة يقرأ القرآن على روح والدهم المتوفى ثم تطرح البنات فكرة زواج المقرئ من أمهم الأرملة ويتم الزواج وبطريق الصمت والتواطؤ بين الأم وبناتها تترك خاتم الزواج إلى بناتها الثلاثة تلبسه كل واحدة منهن بالدور و بالصمت والتواطؤ يمارس الزوج الأعمى الجنس مع الام ليلا ومع بناتها الثلاثة نهارا أثناء عمل الام ببيوت الأغنياء ، ويتم ذلك إشفاقا من الأم على حرمان بناتها من عشرة الرجال (البنات جائعات، الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم ) .
كانت مفردة الصمت هى اكثر الكلمات دورانا بالقصة فقد وردت ثمانية وثلاثون مرة يليها الخاتم والضمير الذى يعود على الخاتم ورد إثنى عشرة مرة فى القصة التى تبلغ ثمان صفحات ، ( وألح مهما ألح تحولت الغصة إلى صمت ، الأم صمتت ومن لحظتها لم يغادرها الصمت ، وعلى الافطار كانت ..الوسطى صامتة وعلى الدوام صامتة .) ص8 وهكذا لم تخلُ عبارة أو جملة إلا ووردت بها مفردة الصمت وأحيانا يأتى بديل لها ولكن فى معناها وهى السكوت ، وكانت الفتاة يصيبها الصمت عندما تحدث العلاقة الجنسية بينها وبين الزوج .
كان الزوج الكفيف فى أول الأمر يفسر إختلاف من يتصل بهن جنسيا بأنها طبيعة المراة التى تأبى البقاء على حالة واحدة " كان أول الأمر يقول لنفسه أنها طبيعة المرأة التى تأبى البقاء على حالة واحدة ، فى طازجة صابحة كقطر الندى مرة ، ومنهمكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى ، ناعمة كملمس ورق الورد مرة . خشنة كنبات الصبار مرة أخرى " ولكنه فى واقع الحال يعرف الحقيقة ولكنه ينكرها والام وبناتها ينكرونها كذلك والكل فى صمت لا يتكلم وهو صمت إرادى " ومن لحظتها لاذ بالصمت تماما وأبى أن يغادره .. الصمت الارادى هذه المرة .... إنما هو أعمق أنواع الصمت ، فهو الصمت المتفق عليه أقوى أنواع الاتفاق ، ذلك الذى يتم بلا أى اتفاق " ص10
بناءالقصة يقوم على الصمت والتواطؤ بين الأم وبناتها وبين الزوج الكفيف ويقوم الخاتم بدور المبرر والمحلل للعلاقة غير الشرعية بينهم واستطاب الزوج هذا الوضع الشائه ويبرره لنفسه تارة بأنها طبيعة المرأة وتارة أخرى بأنه أعمى وليس على الأعمى حرج ولاشك بأنه نوع من التبرير فى الوقوع فى الخطيئة وهروب من المسؤلية .
تشير القصة إلى المسكوت عنه فى الطبقات الفقيرة جدا وخاصة على المرأة المسحوقة والمهمشة وهى أضعف العناصر فى المجتمع المصرى فالأم مات زوجها ولديها ثلاث بنات فائرات وهن فى فقر مدقع ولا عائل لهن فلم يحصلن على تعليم ولا يعملن وهن مقيمات فى البيت فكان بيت من لحم أغرى الذئاب على مهاجمتهن وإفتراسهن وهى صورة بشعة لإستغلال فقر المرأة وضعفها ، صورتها القصة باقتدار وبطريقة فنية دون مباشرة أو صراخ أو إفتعال أو حلول ولكنه ركز على الصورة بوضع الزوم .
ربما تومئ القصة الى دلالة أخرى سياسية فى نقد نظام عبد الناصرالشمولى والذى سبق أن انتقده يوسف إدريس فى مسرحية المخططين والتى منعت من العرض عام 1969 فقد سرى فى المجتمع المصرى صمت رهيب فى عصر عبد الناصر حتى أنه شاع شعار أنا لا أرى لا أسمع لا أتكلم وكان يلصق هذا الشعار فى المواصلات العامة فى ذلك الوقت حتى حلت كارثة 67 ، والفن العظيم هو الذى يكون له أكثر من دلالة وليس إحادى الدلالة .
كانت لغة القصة مكثفة ومكتنزة بالمعانى وذات جمل قصيرة متتابعة تكاد تخلو من أدوات العطف " الأرملة طويلة بيضاء ممشوقة ، فى الخامسة والثلاثين . بناتها أيضا طويلات فائرات " كان وصف المرأة فى بعض فقرات القصة أقرب إلى الشعر " فهى طازجة صابحة كقطر الندى مرة ، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى ، ناعمة كملمس ورق الورد . خشنة كنبات الصبار مرة أخرى " وكان الحوار قصيرا يجمع بين العامية والفصحى
- تزوجيه أنت يا أماه ..تزوجيه
- أنا ؟ ياعيب الشوم ..والناس؟
- يقولون ما يقولون ... قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال .
- أتزوج قبلكن ؟ مستحيل .
ويبدو أن يوسف أدريس كان فى تلك المرحلة حائرا يبن الفصحى والعامية فى الحوار وإن كنت أرى أن يكون عاميا ليكون معبرا عن الشخصية وفى مستوى وعيها إذ لا يتصور أن تقول إمرأة لبناتها (أتزوج قبلكن؟) بنون النسوة وكان من الأفضل إسقاط نون النسوة من الحوار ، وهى على أية حال مشكلة لازالت تواجه كتاب الرواية والقصة حتى الآن ، قصة بيت من لحم من روائع قصص يوسف ادريس التى تقرأ مرات عديدة وتجد فيها دلالات عديدة ولغة جميلة وصافية .
قراءة مصطفى فودة
البلد
مصر

متابع

المتابِعون

أعلى